الازمة الجورجية الروسية ..الدلالة والآفاق


ثائر سالم
2008 / 9 / 10 - 09:33     

سيزول ما كنا نقول مشرق ومغرب
ستكون رابطة الشعوب مبغض ومحبب
الجواهري

كما يحصل مع اي امة، فان لسطوة الجغرافيا وارث التاريخ في روسيا بعصريها الاستعماري والاشتراكي ، دور خاص في استقراء حاضرها او استشراف مستقبلها والمحتمل من توجهاتها. ففي انتصاراتها وهزائمها.. في حروبها الامبريالية.. وفي مأثرتها الوطنية والتاريخية الكبرى ضد الفاشية ، مثلما هي في نجاحاتها ، في مجالات الفضاء وصناعة السلاح،.... برهانا على تفرد مسار، واباء شعب عصي على الكسر والترويض والانصياع. ادخلت روسيا البشرية تاريخين في مرتين، مرة في 1917 وهي تتمرد على الاستعمار، وتسقط روسيا القيصرية، وفاضحة معاهدات الاستعمارالاسترقاقية للشعوب، مدشنة بداية عهدا الانعتاق والتحرر الوطني امام شعوب الارض. اما المرة الثانية فكانت في العقد الاخير من القرن الماضي ، وهي تنكفأ على ذاتها ، مضطرة للتخلي عن ذاك الارث ، ومتوهمة بانه لم ينفعها او يحميها من المآل الذي آلت اليه امورها...والمفارقة في التاريخين ..ان في كلا الحاتين ، اختارت روسيا تهديم بنيان بيتها بذاتها، لتقيم على انقاظه بنيانا جديدا.
حصل ذلك وهي تهدم روسيا القيصرية ، وحصل وهي تهدم روسيا السوفيتية ايضا. في الحالتين ورثت روسيا افضال وآثام ماضيها ،الاستعماري والثوري. وجنت في كل مرة ثمار ذلك ودفعت مستحقاته للغرب الامبريالي، ولكن دون ان تركع. ولم تتردد وهي تفكك ما كرهت في دولتها او وهي تهدم نظامها في موقف غير منتظر من الغرب والعالم . لا لشيء الا لانها اعتقدت انها في طريق مسدود، وفي مسار ميئوس من اصلاحه. وعلى اعتاب عاصمتها موسكو، مرغت في الارض روسيا غطرسة الفاشية ، وداست باقدام جندها على تلك الرؤس العفنة والنفوس المجرمة، التي لم تتوقف عن مطاردة فلوها حتى دارها، ولتفرض على الارض ، رغم عدم رغبة الحلفاء كلمة روسيا.
نتذكر هذا لا استحضارا لذكرى او تعبيرا عن عاطفة . ولا قراءة تاويلية لتاريخ ، كما يمكن ان يبدو للوهلة الاولى. اتذكر هذا لان روسيا الحالية، لازالت مناوئة لسياسة واهداف الاستعمارالقذرة، التي لم يعد يتردد في الاعلان عنها..ولسياسات الذل والتبعية، التي يسوقها اتباعه ، دولا ومنظمات دولية وكيانات سياسية ورموز فكرية وسياسية. فرغم اخطاء اوخطايا بعض مواقفها وسياساتها، في العالم ومع بعض الشعوب التي ارتبطت معها في الاتحاد السابق، والتي تدفع ثمنها اليوم بوصول المشروع الامريكي على ابوابها، لا يمكن لي ان اقصد الدفاع عن تلك الاخطاء او تبريرها .
الامر يختلف بهذا الشكل او ذاك، بالتاكيد ، بالنسبة للشعوب والقوميات التي كانت ضمن الاتحاد، وشعرت او تعرضت للظلم او التمييز القومي ، ومن غياب الحرية. ومع ذلك فان من المفيد التذكر ان في ظروف تفكك او انهيار الدول، يتكون بالتاكيد مناخا ملائما لانفلات مختلف النزعات والاحلام المؤجلة ، ...وبالذات لموجات التعصب القومي. يغذيها ان لم يصنعها ويمتطيها، قادة سياسيون انتهازيون، طامعون بالسلطة او الثروة. وبدعم قليل من الخارج، يمكن لهؤلاء النجاح بلوغ مشروعهم. هذا بالضبط مافعله بعض القادة القوميون، في تلك الجمهوريات ، وما فعله الغرب الامبريالي معهم . دعم وتشجيع مساعي ونزعات الانفصال ، والتحريض عليه ، بشكل جلي وواضح .
لم تكن جيورجيا فقط احدى ثمرات هذا الجهد الامبريالي( الانساني النبيل الاهداف والنوايا!!، والمنطلق من تقديسه لحرية الشعوب واستقلالها!!)، بل ويا للمفارقة الاكبر، ان روسيا ذاتها كانت ثمرة ذات النهج والقيادة، التي اوقعت شعبها ضحية، نزعة الانكفاء والانعزال والانانية القومية ، وجعله اسير وهم الرهان على المنافع المنتظرة من الصداقة مع الغرب ومستوى دعمه وجدوى هذا الدعم ومزاياه.
توجه القيادة الروسية للصداقة مع الولايات المتحدة، والرهان عليها كان في الحقيقة قد ابتدا في عصر غورباتشوف، برهانه على ما اسماه " امكان ابعاد الايديولوجية الى مواقع خلفية " الامر الذي ترجمه، فعلا ابتداء من تخليه عن المعسكر الاشتراكي ، وتغيير اسس التعامل مع بلدان التحرر الوطني، تحت تبرير امكان قيام تعاون وصداقة ستراتيجية مع الولايات المتحدة. وقد مهد لذلك بمجموعة من الاتفاقات العسكرية والسياسية والاقتصادية، مع الغرب. رؤية غورباتشوف لحلفاء الامس ولحلفاء المستقبل ، وطرح فكرة التخلي عن تكاليف، وتوجهات المواجهة مع الامريكان، ومساندة حركات التحر الوطني ، قوبلت باستحسان وتشجيع الولايات المتحدة وحلفائها، وبوعود بالمساعدة العلمية والتعاون في مجالات اقتصادية عدة. الامر الذي لم يحصل طبعا. بل عوضا عن ذلك استغلت الولايات المتحدة ، انشغال روسيا باوضاعها وازماتها الداخلية المتعددة ، لتتحرك بحرية نحو توسيع مناطق نفوذها الى البلدان "الاشتراكية السابقة" التي كانت ضمن الدول المرتبطة بروسيا.
تخلي السياسة الروسية الجديدة، عن سياسة مواجهة الولايات المتحدة، رغم اسبابه الموضوعية... كان بالنسبة للدول المتخلفة والشعوب التي لازلت تقاتل من اجل حريتها ، يعني موضوعيا تخليا عنها وتركها تواجه مصيرها دون سند او نصير، وتركها تحت رحمة الابتزاز والنهب والقوة الاستعمارية.. وحتى الاحتلال ...ويعني ايضا في النتيجة، تعزيزا للاحادية القطبية وسياسة الهيمنة والانفراد بالقرار ، بدل مواجهتها اوالعمل على اضعافها .
وعلى مدى قرابة عقدين من الزمن، كانت نتائج وعواقب هذا النهج كافية للتدليل، على المخاطر التي تهدد السلم والامن العالمي ، واستقلال وسيادة حتى دولة بوزن روسيا ، اذا ما جرى الاستمرار بهذا الخيار.
الفراغ الذي تركه اختفاء الاتحاد السوفيتي ، وبالشكل والسرعة التي تم فيها ، لم يكن في حساب اكثر منظري وسياسي راس المال، واقعية او عداء للاشتراكية. اعداء النظام (من داخله)، لعبوا ايضا دورا هاما في المآل الذي آلت اليه الامور. ... فئات، بيروقراطية، وطفيلية، فاسدة، تكونت وكونت اموالا في احشاء النظام السوفيتي. .كما ان المناخات التي اتاحتها بريسترويكا غورباتشوف، كانت فرصة للانقضاض على ما تبقى من النظام الاجتماعي ، الذي تمنوا زواله دوما.
الرهان على الديموقراطية والنموذج الغربي ، كان لمعظمهم رهانا على العوائد السريعة، من الانفتاح على والاندماج ب الغرب الراسمالي ، كان حلما راود دوما تلك النخبة المغرمة بالنموذج الراسمالي، رغم انها ترعرت في احضان الحزب الشيوعي والدولة. تلك كانت قاعدة الراسمالية الروسية ، التي كانت مشغولة بمصالحها وارباحها وسلطتها السياسية الجديدة.
شكل هؤلاء والقسم الاعظم من الناس قوة كاسحة يصعب الوقوف بوجهها. وتلك كانت ارضية ملائمة لمشروع الغرب في روسيا ، تم فيها تشجيع بعض الساسة ، اللذين تعاونوا مع الغرب، على اتخاذ خطوات اسرع واعمق تعجل في نهاية الدولة والنظام السوفيتي. وهذا ماتم . وذاك منجزلم تكن لتحلم قوى راس المال العالمي، في بلوغه ، لولا الخدمات الجليلة التي قدمتها تلك النخبة الفاسدة والمعادية لمصالح شعبها والغير معنية بحياة الاغلبية الشعبية، التي باتت فريسة فقرمدقع.
فعواقب هذا التحول غير المدروس في مجتمع لم يعرف غير نظام الدولة الاستبدادية المركزية، لم يكن ممكنا ان تقف عند حدود. فراغ السلطة الذي حصل ملاته على الفور مافيات وشركات النصب والسرقة والجريمة والاحتيال. عواقب ذلك على اقتصاد البلد ومستقبله كانت كارثية، وعلى اوضاع الطبقات الشعبية ، والمتقاعدين والمرضى ، واعداد واسعة من العاطلين عن العمل...اللذين كونتهم الظروف السياسية والسياسات الاقتصادية الجديدة...وعلى شعوب ودول العالم المتخلفة والفقيرة التي باتت مكشوفة الظهر، سياسيا وايديولوجيا ،...دون بديل فكري او نصير سياسي.
اما على جبهة الاقتصاد الروسي، فلم يكتفي الغرب بعرقلة انتقال الخبرات والعلوم التي يفتقر اليها الاقتصاد الروسي، وانما مارس التخريب الاقتصادي ، في مختلف الاوقات والاشكال. وغرقت روسيا حينها في نفق الفوضى وسطوة عصابات الجريمة ونهب المال العام، وجرى تصفية مكتسبات الشعب، واشاعة مشاريع وثقافة الاستهلاك الهامشي ، وانفلتت الطفيلية الروسية بنزعة نهب وسرعة لا مثيل لها ، وساد الفساد والرشوة وبيع القطاع العام للدولة باسعار بخسة ، وباتت روسية سوقا لتصريف منتجات هامشية كان الشعب قد حرم منها ايام الحكم السوفيتي.
رهان يلتسين على قوى الراسمالية الجديدة وعلى وجود مصلحة للغرب في دعم تقدم روسيا الصناعي والعلمي ، مستفيدا من الارضية التي كونتها افكار غورباتشوف ، حول ضرورة ومنافع التخفف من اعباء المسؤليات الدولية ، وتكاليف المواجهة مع الولايات المتحدة، وامكان خلق صداقة ستراتيجية مع الولايات المتحدة، من اجل توجيه الموارد نحو اعادة بناء روسيا ، والوقوف عند حدود مصالح الاقتصاد والامن الحيوي لروسيا. وهذه العقيدة بالضبط هي ما تدفع ثمنها اليوم، ليس روسيا وحدها ، بل جيورجيا واي دولة ستواصل السير في ذات الرهان. ومع ذلك وفي كل الاحوال ، من المفيد ان نتذكر ان انكفاء روسيا على ذاتها لبعض الوقت ، لم يكن فقط ثمرة صعوبة الظروف الاقتصادية التي وجدت نفسها فيها حينها ، بل نتيجة التحول الايديولوجي الحاسم الذي طرأ ، في السلطة والعقيدة السياسية والعسكرية والامنية، الروسية حينها. ومع ذلك فان معارضتها لنزعة الولايات المتحدة للهيمنة على العالم والانفراد بادارته ، ظلت مستمرة، ولم تختفي كليا حتى في ايام يلتسين.
نعم روسيا اليوم ليست دولة اشتراكية. ولكنها ايضا ليست دولة امبريالية. وهي اقرب الى النموذج الفرنسي ، الذي رغم ترابط مصالحه مع الولايات المتحدة الا ان له مصالحه القومية ، وثقافته التي تبقى بمسحة قومية واضحة. ولن يمكن لساركوزي، مهما فعل ان ينتزع نزعة الاستقلال، ولمحة الخصوصية ، من روح وثقافة فرنسا السياسية والشعبية ، التي يلعب فيه ارث فرنسا الحضاري والثوري دورا هاما. واظن ان الامر في روسيا على هذا النحو، وربما بدرجة اشد.
ولكن قبل كل هذا فان نزعة الولايات المتحدة ، للهيمنة والاستفراد بالعالم، لايمكنها ان تكون مقبولة حتى لحلفاءها، في كل المشاكل والظروف والمستويات. لانها ببساطة لابد لها ان تصطدم بالمصالح الوطنية للاخرين ، حلفاء ام اعداء. والدول العظمى والقادرة كروسيا، لن تنتظر ولن تخدع فيما اذا تم ذلك دون ان يلاحظ احد ام لا. ودولة مثل روسيا تعرف متى وكيف تعبرعن اعتراضها ، بطريقة قد لاترضي الكابوي الامريكي. ولكنه لن يملك ازائها سوى مواصلة الضغط ، بعد الكذب والخداع .
روسيا بتجربتها التاريخية والسياسية ، القيصرية والاشتراكية ، وثقافتها الوطنية التي شكلتها تجربة صراعها المرير وسنوات حروبها العالمية، مع القوى الامبريالية، وقناعتها الثابتة بمصير الفشل الذي ينتظر نهج العدوان والحروب والاستعمار، وهو ماعبرت عنه حتى الان...هي روسيا التي ادافع عنها وليبست اية روسيا اخرى. روسيا هذه اعتقد ان الدول التي تريد اليقاء خارج منطقة النفوذ الاستعماري عليها ان تعمل على تقوية ظهرها وظهرها. ومحاصرة او عرقلة مشروع الاستعمار لن يتم بدون روسيا.
وتلك حقيقة يدركها امريكا والغرب، وكل الدول التي تساهم اليوم في المؤامرة على روسيا ، بالضبط كما تدركها روسيا. السياسة التي سار عليها بوتين لا تقوم على رهان ومنهج سلفه يلتسين ، ولاسيما بعد حصول الطفرة النفطية التي منحت روسيا ، فرصة الانصراف الى مشاريعها التنموية، وتحقيق نجاحات هامة ، لاسيما في مجالات الصناعة العسكرية والفضاء التي تمتلك فيها روسيا خبرة معروفة. وتحديث قدرات روسيا الاقتصادية والعسكرية ، بدات تتضح معالمه ، منذ سنوات، ما يؤهلها للاعتماد على نفسها وحماية مصالحها القومية، واستعادة موقعها الدولي ، الذي اهتز في سنوات انهيار الاتحاد .
ولكن الوقاحة الاستعمارية، لا تعرف مكانا للاعراف والقيم والقواعد ، ولا يحرجها ممارسة سياسة التغابي والكذب المفضوح، ليس مع العالم فحسب وانما مع دولة بثقل روسيا، ويشاركهم في تسويق هذا الكذب تلك الدول التي كانت دولا ضمن الحلف الروسي او كيانات ضمن الاتحاد، ولازالت اسيرة تلك الاحلام او الاحقاد ، وقبلت ان تختزل كل مشروع تحرررها القومي ، بان ترتضي دور الاداة في المشروع الاستعماري الامريكي وسنده حلف الاطلسي. جيورجيا من هذه الدول التي اختارت عن توهم او خضوع لارادة الغير، مواقف كشفت تداعيات التصعيد الجيورجي والرد الروسي السريع عليها، ان جورجيا ومن ورائها، يحسن قراءة القدرات الروسية ، ولا قراءة المكان الذي تقع فيه مصالحها. مكانة الولايات المتحدة الدولية، بدأت تهتز وتتارجح جراء رعونة اليمين الحالكم "المحافظون الجدد"، الذي توحل في معارك خاطئة، استنزفت القوى العسكرية والاقتصادية الامريكية ومرغت هيبتها الدولية في التراب.
الجديد بالنسبة لروسيا اقتراب الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية، من منطقة المصالح الحيوية والامن القومي الروسي ،.... وتعاملها بتجاهل تام للمصالح الروسية، ومحاولة قلع مخالب الدب الروسي ، كي لا يعود قادرا على فعل شيء في مواجهه خصومه. دعم اليمين المحافظ في امريكا من بعض حلفائه الاوربيين او الاطلسيين، والمراهنة على قدرتهم على لعب دور في عزل او محاصرة روسيا اقتصاديا او على الاقل سياسيا، ورهانهم على حاجة الاقتصاد الروسي لهم، بضائع واسواق، والاندماج والترابط في المصالح الاقتصادية، الذي تم بين بعض الشركات الروسية والاوربية ، تعزز امالهم ورهانهم على امكان اخضاع روسيا واستسلامها آخر الامر، لزعامة الولايات المتحدة للسياسة الدولية. معتبرين بتجربة عدم رد روسيا سابقا على تواصل سياسة القضم التدريجي (سياسة الخطوة خطوة)، التي مارستها الولايات المتحدة ، ازاء مناطق ظلت تعتبر ضمن مناطق الامن القومي والمصالح الحيوية لروسيا. النجاح حسب رايهم في هذه السياسة هو امر ممكن، لا تمتلك روسيا ازائه ما يمكنها من افشاله.
الا ان استخلاص نتائج او اتجاهات التطورات المحتملة، ليس بسهولة قراءة ماحصل. فتطورات الموقف الروسي ، والامريكي ـ الاوربي ، والتداعيات على مستوى العلاقات والتحالفات الدولية ، قد تقتضي مواجهة ما اخرى غير مباشرة ، سواء من الجانب الامريكي او الروسي ، في ذات المنطقة اوغيرها ، تبقى بقراءة ما للدوافع والمصالح الامريكية والروسية ،احتمالا لا يمكن اسقاطه .
ان ماحصل اليوم في قضية جيورجيا، هو باي منظار ، تطور جدي يمكن ان يغدو نوعيا في السياسة الروسية ، وهو اشارة واضحة الى المدى الذي يمكن ان تبلغه في مواجهتها لمخاطر او محاولات المساس بمصالح الامن القومي الروسي. وقبل هذا وذاك سيبقى مؤشرا جديا ومهما في تفكير القيادة الروسية وخياراتها اللاحقة، ولجدية المخاطر التي تنتظرها، اذا ما واصلت التغاضي عن انفلات نزعة الهيمنة الامريكية، في مناطق اخرى من العالم ، لا فقط في منطقة الامن القومي الروسي . ولا اظن القيادة الروسية ، ستتخلى او تتاخر عن استخدام اوراق ضغط جدية ، لديها في بقاع العالم المختلفة . انها فرصة لمراجعة تلك السياسة قبل فوات الاوان.
ـ فحتى المكاسب الروسة على اهميتها ، ستبقى مؤقتة ، ومستقبلها واهميتها سيبقى مرتبطا بخطوات لاحقة تعززها وترسخ حقائقها. والا فامكانية خسارتها او التراجع عنها ، تبقى قائمة وان كاحتمال اضعف.
ـ ولكن لا الامريكان ولا الروس ، استخدموا كل اوراقهم في هذا النزاع. وعلى الخطوات اللاحقة وطبيعة تلك الخطوات ، تتوقف نتائج وآثار التطور الجيورجي والقوقازي عموما. فاحتمال التصعيد والسير في طريق بناء جبهات او خندق آخر والعودة للحرب الباردة ، قائما مثلما هو قائم ، احتمال احتواء التصعيد والاقدام على تسوية ما ، يدفع ثمنها الصغار من البلدان والشعوب.
ـ الانطلاق من التاريخ الحديث ، ونهاية الاتحاد السوفيتي ، ومسار السياسة الروسية وتوجهاتها المعلنة العامة، يفضي الى الشك بجدية رغبة او قدرة روسيا على التصعيد والمواجهة مع الغرب واميريكا. وهي نتيجة معاكسة للنتيجة المنطلقة من التصعيد والسياسات الجديدة التي تتخذها امريكا من اجل محاصرة روسيا.
. ان مخاطر، نجاح هذا التوجه ، لاتقف عند حدود روسيا. ومن مصلحة كل الشعوب والدول التي لاتريد ، لابنائها ان ينشئوا تحت ، ذل ونهب واستعباد الاستعمار، اتخاذ جانب روسيا ، والعمل على تقوية الروابط الاقتصادية بها ، ومساعدتها على التطور الاقتصادي والعسكري السريع ، من اجل الاحتفاظ باهمية ثقلها العسكري الرادع ، في وجه مشروع الهيمنة واعادة الاستعمار الى العالم.
اان الوطنيين الحقيقيين ، وكل معارضي نظام الهيمنة والاستعمار والاستغلال، عليهم ان يتعاملوا بحذر وبعد نظر مع المشروع الكوني للولايات المتحدة. ولا يجب النظر اليه من منظار، الاعتبارات القومية الضيقة ، او القيم المجردة ، التي يتصدر تسويقها الى العالم وهو اول من يعمل بالضد منها بسعيه للهيمنة ولاعادة الاستعمار.
موقف كهذا يجب ان يتخذ مع اي دولة، حتى لو كانت فرنسا او المانيا واي دولة بامكانها ان تعترض على مشروع الهيمنة الامريكية ، وتتحمل السير في اعباء هذا الطريق. على الاقل حتى من منظار، تعميق تناقضات المعسكر الواحد الثانوية. وضرورة فصل ماهو اساسي عما هو عارض وثانوي.
ان مستقبل الانسان على الكوكب ، الذي لا زال يتشكل كمحصلة لافعال الدول والكيانات وارادات ساستها ، يمكنه ان يدخل اليوم مرحلة جديدة ، اذا ما احسنت روسيا التعامل مع هذه الفرصة، واذا ما اعادت الدول والشعوب المتضررة النظر ، في مسارها واستسلامها القدري للهيمنة الامبريالية ، التي لا تسير بمستقبل الحياة البشرية الا الى مزيد من التمييز والظلم، بين الانسان والشعوب والاعراق .. وتمنح وتغمر ببذخ سفيه لااخلاقي طرفا..وتحرم في الوقت نفسه طرفا آخر...من اساسيات حياتها ومن منجزات العصر وضرورياته ومزاياه ...كل هذا في الوقت الذي ترفع فيه لواء الانسانية والتحرير والديموقراطية وحقوق الانسان..الذي لم نرى ترجمه له على الارض غير الاملاق والجريمة وسرقة ثروة ودوس حقوق الغير، وكرامته.

فهل يجد الاشقاء العراقيون ، شركاء الوطن الواحد ماينفعهم من هذا الدرس، قبل فوات الاوان؟