وَه... وليامسون!


مجدي الجزولي
2008 / 8 / 20 - 10:21     

مرة أخرى وليامسون في الخرطوم، لكن ليس لأبيي، وإنما لكل شئ: تطبيق عهود نيفاشا، المحكمة الجنائية الدولية، وحرب دارفور، وهي الثلاث قضايا الأكثر التهابا في خريف الخرطوم المتأخر! وسط هذه الثلاث قضية الانتخابات التي أجيز قانونها "أخنق فطس"، بالتالي فإن مبعوث الرئيس الأميركي بيننا وفي دفاتره المستقبل السياسي المباشر للبلاد، أو بلغة أخرى: ماذا بعد الانقاذ؟ جدير بالذكر أن الرجل استبق رحلته إلى الأقاليم السودانية بزيارة كل من أديس أبابا وانجمينا، العاصمتان الأقرب اقليميا إلى حوداث السياسة السودانية بعد القاهرة.
عبر مبعوثه إلى السودان وجه جورج بوش رسالة مكتوبة إلى الرئيس التشادي إدريس ديبي مضمونها: "أريد حلا لدارفور، وبأسرع ما يكون"، ذات الروح التي صبغت اتفاقية أبوجا بصبغة الفشل. وليامسان ذاته كان قد ذكر في أبريل الماضي أمام مجلس العلاقات الخارجية التابع للكونغرس الأميركي أن واشنطن تضغط على إنجمينا لوقف دعمها لحركة العدل والمساواة، الفصيل الأكثر مغامرة في شأن معارضة الخرطوم (سودان تريبيون، 07/08/08). التصريح الأقوى الذي صدر عن المبعوث الأميركي كان قوله في اجتماع مع النائب الأول لرئيس الجمهورية أن الولايات المتحدة ليست طرفا في تحركات المحكمة الجنائية الدولية ضد قيادة الدولة، وأنها مهتمة بمتابعة نوايا الخرطوم في التوصل لحل لأزمة دارفور تحت عنوان (مبادرة أهل السودان)، وبجهود بسط الأمن والاستقرار بين شمال وجنوب البلاد (كونا، 09/08/08). أما الخلاصة الرسمية للزيارة فهي عزم واشنطن والخرطوم استئناف مفاوضات التطبيع بينهما (سودان تريبيون، 12/08/08)، تلك التي انقطعت في يونيو الماضي بمغادرة وليامسون الخرطوم غاضبا على خلفية فشل التفاهم بين الخرطوم وجوبا حول مسألة أبيي. هذا بينما صمت المبعوث عن نتائج زيارته إلى كل من أبيي ودارفور مفضلا مغادرة الخرطوم أولا. من جهتها أكدت الخرطوم أنها حريصة على مسآلة المبعوث حول موقف بلاده الغامض تجاه اتهامات المحكمة الجنائية الدولية، خاصة وقد أحجم ممثل الولايات المتحدة عن التصويت لصالح قرار يمدد مهمة قوة الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي المشتركة في دارفور، بتفسير جاء على لسان نائب مندوبها لدى الأمم المتحدة حرفه: "إن لغة القرار قد تبعث برسالة خاطئة إلى الرئيس السوداني عمر البشير، وتهدد بالتالي الجهود المبذولة لجلبه وآخرين إلى عدالة المحكمة"؛ موقف تبنته الولايات المتحدة في الساعة الأخيرة قبل إصدار القرار بتأثير نافذ من ريتشارد وليامسون (سودان تريبيون، 13/08/08).
إن التصور القائد لسياسة الولايات المتحدة الحاضرة تجاه حكومة الخرطوم يختصره تصريح وليامسون في يونيو الماضي حين دعى حكومة السودان لاتباع خطى كوريا الشمالية إذا كانت تريد الحصول على تنازلات من جانب واشنطن، حيث شرعت الإدارة الأميركية في تخفيف حصارها على كوريا الشمالية و صرحت بإمكانية سحبها من قائمة الدول الراعية للإرهاب نظير معلومات قدمتها كوريا الشمالية حول برنامجها النووي (رويترز، 27/06/08). بالمقارنة سبق وسربت وسائل الإعلام شروطا أولية للتطبيع بين واشنطن والخرطوم، في مقدمتها ما يتعلق بنشر القوة الافريقية الأممية المشتركة في دارفور (نيويورك تايمز، 17/04/08)؛ القضية التي علق عليها وليامسون في الخرطوم بحديث متفائل قائلا: "لدينا من الأسباب ما يدعونا للأمل في رؤية أعداد أكبر من قوة اليوناميد لمساعدة أهل دارفور في المستقبل القريب"، تصريح نسب فيه وليامسون المسؤولية عن تأخير نشر القوات لكل من حكومة السودان والأمم المتحدة (ا.ف.ب.، 13/08/08)، على غير العادة في توبيخ الخرطوم على عرقلة نشر القوات. تقرأ تصريحات وليامسون "المهادنة" بالتعارض مع ما ذهب إليه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في حوار له مع جريدة الأهرام، حيث أكد على ضرورة السماح لعدالة المحكمة الجنائية الدولية أن تأخذ مجراها، وشدد على استقلالها، فهي بحسب تعبيره مؤسسة مستقلة لا تخضع قواعد عملها وقراراتها لأي جهة. ثم زاد بإثبات إمكانية ترافق العدالة والسلام في دارفور (إعلام الأمم المتحدة، 12/08/08).
إذن، ما الذي حدث في أروقة الخرطوم؟ الثابت أن الولايات المتحدة جعلت من قضية العدالة في دارفور، تقرأ الاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية، ورقة ضغط سياسية على طاولة مفاوضات التطبيع مع حكومة السودان. واشنطن تعارض بالأساس فكرة المحكمة الجنائية الدولية، وليس من مصلحتها أن ينفتح الباب بسابقة الرئيس عمر البشير لتوجيه تهم جنائية لرجال الدولة في افريقيا وهم على سدة الحكم، خاصة من هم في حلفها، لكنها لا تستنكف "تخريب" مهمة المحكمة الجنائية الدولية كما قررها عهد روما، وتحويلها بدرجة أو أخرى إلى فزاعة سياسية غير ذات ناب عدلي. العدل الذي أخذه مدعي عام المحكمة لويس مورينو أوكامبو بجده، دون اعتبار لسيل الحجج السياسية المضادة لمذكرة "البشير"، والي تدفقت من دوائر الأكاديميا المقربة من الإدارة الأميركية. على سبيل المثال، احتج المبعوث الأميركي السابق إلى السودان، آندرو ناتسيوس، احتجاجا شديد اللهجة على خطوة أوكامبو اتهام الرئيس البشير، وتوقع انحدارا سريعا للسودان في اتجاه مصائر الصومال والكونغو الديموقراطية ورواندا ما قبل الإبادة (مدونة مجلس البحوث الاجتماعية، 12/07/08). أما الهجمة الأشرس على أوكامبو فجاءت من آلكس دو فال، محرر اتفاقية أبوجا "البائدة"، الذي وصف تحركات أوكامبو بالعمل المسرحي، وبخس أساس الاتهام بجزمه أن البشير لا يسيطر تمام السيطرة على جهاز الدولة، وأن أوكامبو أخذ عليه التهمة الوحيدة التي هو برئ منها! ثم أضاف في تحليل دائري أن سوء التقدير الذي وقع فيه أوكامبو إنما خدم البشير بتوحيد الصف السياسي السوداني حوله، وعسر على الباحثين عن العدالة مهمتهم بالإثارة المجانية (مدونة مجلس البحوث الاجتماعية، 29/07/08). يتخوف دو فال من مواجهة الخرطوم بصراحة "العدالة"، لذا أشاد بتحركات المحكمة ضد هارون وكوشيب كونها لم تستهدف رجال الصف الأول، ذلك على عكس موقف آنتونيو كاسيسي، رئيس لجنة التحقيق الدولية في دارفور، الذي عاب على المحكمة نقص الشجاعة وحفزها على المضي أعلى فأعلى حتى "البشير". عندها احتفى دو فال بحنكة أوكامبو السياسية واعتبر أن الرجل، بتأنيه الحذر، حريص ألا يدفع حكومة السودان نحو العزلة الذاتية ورفض التعاون مع المجتمع الدولي، وحريص أكثر على علاقة المحكمة بالدول الغربية، بخاصة الفاعلة في سلام دارفور، والتي قد ترى في اتهامات يوجهها المدعي العام لقيادات حكومة السودان عراقيل "عدلية" في غير مواقيتها (محاكمة الصراع: العدالة والسلام والمحكمة الجنائية الدولية في افريقيا، الجمعية الملكية الافريقية، ص 31-32، مارس 2008).
في الواقع، حكومة الخرطوم تكاد "تتشلهت" بحثا عن التطبيع مع الولايات المتحدة، وليس في عزمها القطيعة التامة مع الدول "الغربية"، لكنها تريد برسائل مزدوجة أن تثبت أن القيادة السياسية الحالية حجر أساس في سودان "ما بعد الانقاذ"، وإلا فالفوضى وسوء المصير. في هذا السياق يمكن فهم جانب من الصراع الدائر داخل المؤتمر الوطني، خاصة بين المتطلعين لوراثة كرسي البشير والمتمسكين بقيادته. الولايات المتحدة، من جانبها، تبدو أقرب إلى تشجيع استمرار الكتلة الحاكمة الآن، ربما برأس مختلف، شريطة التوصل إلى تسوية (ما) في دارفور والشروع في تنفيذ شكليات ديموقراطية لا تهدد توازن القوى القائم الآن، إلا في حدود تطويع "خوارج" المؤتمر الوطني. بذا فإن "خد وهات" المؤتمر الوطني والإدارة الأميركية هي طريق الأول للبقاء في السطة وفصل في سياسة الثاني الاقليمية، قد يكون ضمنه البحث عن موطئ قدم للقيادة العسكرية الأميركية في افريقيا (آفريكوم)!