اشكالات.. ومغالطات في العملية السياسية:


ثائر سالم
2008 / 8 / 12 - 10:48     

ونبُثُّ رُعباً في الصفوفِ بما ندُسُّ ونكذِب
ندعو إلى المستعمرينَ لسوِطهم نَتَحبَّب
نهوى تقربهم وفيه حتفنا يتقرب
متخاذلين كما يشاء تعنت وتعصب
ان العراق بما نحشد ضده ونؤلب
بيت على يد اهله مما جنوا يتخرب
الجواهري العظيم من قصيدة " امم تجد ونلعب"

اذا تجاهلنا مجازا قضية الاحتلال ولاسيما الامريكي منه ، بوصفه ، التحدي الاكبر الذي تواجهه العملية السياسية ، من وجهة نظر ستراتيجية ، فان تصاعد التوتر في المناخ السياسي، الذي تولد ، جراء قضية كركوك والمواقف الكردية منها، قد ترك اثره على مجمل العملية السياسية، ووضع الاسس التي قامت عليها ، محط تساؤل حول جديتها ، مصداقيتها ..عدالتها ..موضوعيتها ...وقدرتها على توفير الشروط اللازمة ، لتقدم البلد الى الامام وفرض الامن والاستقرار فيه ، بمنطق العدل والحرية التي يفترض ان تكون مكفولة للجميع ، افرادا او اقواما ..مذاهب او اديان، وليس بمنطق القوة والابتزاز والتهديد.
منطق القوة هذا ، يفترض ان العملية السياسية ، جاءت من اجل " اجتثاثه " من الحياة والثقافة السياسية، للبلد ومن النظام السياسي ومن العلاقة بين قواه الاساسية ، ومع وبين اقوامه واديانه ومواطنيه. ترى هل حقا تريد هذه القوى استئصال هذا المنطق ، من لغة السياسة والفكر، ومن العلاقة بين المكونات السياسية والثقافية للمجتمع ولهذه العملية ؟ وهل بمستطاع هذه القوى ، تحقيق ذلك ؟
وهل هناك طريق آخر ، يتجاوز هذه الثقافة والمنطق، ويساهم في تقديم ، قراءة اكثر عدالة ؟ ...
وقبل هذا وذاك هل ان قوى العملية السياسية ، مؤهلة ومستعدة ، لتحقيق مراجعة جدية ، نقدية ، للمسار ، قد تقتضي او تفضي الى تغيير هذه الاسس التي قامت عليها .. ومن ثم ،الاعتراف بان اسس هذه العملية ، لايمكنها ان تجلب الديموقراطية ، ما دامت هذه الديموقراطية توافقية ، طائفية . ولا عادلة ما دامت المحاصصة ..تحرم البلد من كفاءات لا يمكن توظيفها في ميادينها.
هذه الاسس لايمكنها ان تحمي ، بنيان والدولة وتشد من عضدها..لان هيئات وولاءات هويات وافراد ، لابد لها ان تكون فوق الدولة نفوذا، وخارج دائرة التساؤل القانوني ، او سلطة القانون. دولة تريد ان تمثل ، رعايا لا مواطنين ..اتباع مذهب او قومية او عقيدة او دين ..لا مواطنين احرار يتساوون امام القانون. وزعامات دينية ، قومية ، عائلية ..زعامات تاريخية ...تبقى اكبر من القانون والدولة ..فكيف ستقيم هذه الاسس ، والثقافة ..دولة للقانون والمؤسسات ..دولة العراق الديموقراطي؟

كيف يمكن لهذه الدولة ان تقوم ، واسس حل التنازعات بين قواها الحاكمة ، لازالت تجنح للتوافق السياسي لا الى الحلول القانونية ..المستندة الى قواعد قانونية ، تحترم وتفترض المساواة في الحقوق والواجبات.
ان مشكلة كركوك بامكانها اليوم ان تكون فرصة حقيقية ليس لاختبار النوايا والاجندات الحقيقية لهذه القوى ، وانما وهو الاهم :
1ـ اختبارمدى قدرة هذه الاسس ، والتاكد من عجزها على تحقيق الاهداف والاجندات المعلنة . وعلى توفير قاعدة للعدل وللموضوعية في الحكم في المنازعات والانصاف في الموقف.
2ـ اختبار مدى استعداد ، هذه القوى على تصحيح المسار وتغيير الاسس التي ، يثبت عجزها عن القيام بالدور المطلوب منها او تحقيق المهام المنتظرة .
ترى هل يمكن لمشكلة كركوك، ان تكون الاختبار الاول، لهذه القوى، ...مصداقيتها ..التزامها بوعودها ومسؤلياتها بالانتصار للعمل من اجل تثبيت دولة القانون والمواطنة. لا دولة فيها ارادة زعماء ورجالات الملل والطوائف والقبائل والجماعات ..وحتى القوميات ، فوق ارادتها .
فلتكن مشكلة كركوك اليوم، مناسبة هامة ، لبدء عملية اعادة نظر شاملة بالاسس التي قامت عليها هذه العملية السياسية ، التي لم تفضي حتى الان، سوى الى عراق غنائمي ، تحاصصي ، تحكمه عصبيات غير عصبية الوطن والمواطنة.

اولا: مشكلة كركوك
لا اظن ان احدا من العراقيين او غيرهم ، سوى غير المعنيين بالامر او بالشأن العراقي بمجمله ،يعتقد ان مشكلة الشعب العراقي ، اليوم ، تكمن في اسم الاطار الجغرافي والاداري الذي يجب ان تكون كركوك ضمنه؟!..اهو منطقة اقليم كردستان (العراق)؟! او اقليم آخر، في العراق، ينتظر التشكيل ؟!، او في ضرورة ان تكون كركوك اقليما لوحدها؟، ...اهو مطلوب الان ام في المستقبل؟.
وفقا لهدية التنظيم(التقسيم ..هدفا نهائيا، ..او احتياطيا،.. مؤجلا)الاقليمي للعراق،..بتلك الالية والثقافة والرؤية ، المعبرة عنها بالصورة التي ارادها الامريكان وحلفائهم /اتباعهم من العراقيين ، فان هوية ومستقبل الكيان السياسي للعراق، لازال المجهول فيه اكبر من المعلوم. فقد باتت الهوية العراقية، اقرب للمجاز منها الى الواقع ، مقارنة بمكانة ودور الهوية الطائفية او القومية ، ودورها في الحياة السياسية ، ..التحالفات والتكتلات ، ..المشاريع المعلنة وغير المعلنة . فامكان اقامة/ او الحفاظ على، مثل هذه الهوية ، وبمعطيات وتوجهات جديدة ، (على فرض وجود نوايا ، بهذا الاتجاه ، او ادراك لضروراتها) ، امرا لازال من غير المفهوم.
رغم ان منطق الاشياء وتجارب التاريخ والسياسية، لا يوجد فيها ما يمنع ، ان تكون حتى القوى، التي شرعنت الاحتلال وشاركته المشروع ، المتحقق منه والمنتظر، ....سواء كان ، طمعا في سلطة او في تحررموهوم، داعمة لمشروع هوية وطنية كهذه، اذا ماكان قادرا على ان يضمن لها، الاحتفاظ بالقرار و الامساك بالسلطة واستثمارمزاياها.
اعتبار كركوك " قدس الاقداس" بالنسبة للاكراد ، لا ينطلق بالدرجة الاولى، من اهميتها الاقتصادية الآنية للاقليم، في حالة بقاء اقليم كردستان، ضمن الكيان السياسي العراقي. ان القواعد والقوانين ، التي تنظم علاقة الاقاليم بالدولة الاتحادية ، وحجم العائد المستحصل، او الممكن استحصاله، لا يتوافق في الحالة الكردية، مع اسس وآلية توزيع الثروة، بين المحافظات والاقاليم، التي سبق لقانون ادارة الدولة، والدستور، الذي فخخه الاحتلال والقوى الحليفة له ، بتركيز طابعه التحاصصي ـ الغنائمي ، وفجوات التمييز والعنصرية فيهما.
وستتعاظم اهمية كركوك ، في المشروع الكردي ، بتعاظم الضعف في مشروع الاحتلال للعراق ، وتزايد مخاطر وامكانات فشله ومغادرته العراق. وبمقدار تعاظم احتمالات التدخل والحصار الاقليمي، للمشروع الكردي في العراق وضربه. للاسف ان الحجج الكردية حول اهمية ضم كركوك ، الى الاقليم ، تبقى في جوهرها ، تأويل القومية (الرجعي) ، شأنه شأن التأويل القومي الرجعي (العربي او التركماني) ، سابقا . الا ان الموقف العربي والتركماني الحالي ، من قضية كركوك ، هو على العموم ، اقرب الى قراءة تقدمية وتوازن منطقي للحقوق القومية ، ابعد خطوة عن الشوفينية الكردية ، التي استحوذت على المدينة طيلة هذه الفترة ، وتقود حملة التصعيد ، بآثارها المدمرة على العراق ككل، والتجربة التي تتبجح الشوفينية الكردية بديموقراطيتها .
ماالفرق بين الشوفينية الجديدة او القديمة ، .. كردية او عربية او تركمانية ، او اية شوفينية اخرى .. ايرانية او تركية .... ما اسوأ من ان تعيد الشوفينية الجديدة ، دون اي حرج ، انتاج ذات السياسة والخطاب الشوفيني للنظام السابق، شوفينية بعض القوميين العرب والتركمان(كما ظلت تدعي)، لا في السابق فحسب بل وفي الحاضرايضا. هذه الشوفينية القومية، للقومية السائدة في مدينة ما ،او المتمتعة بظروف قوة وتفوق ما على الاخر، المسأثرة بمزايا وضع انتهازي، طاريء حتى لو كانت مدعومة ، من اكبر قوة في العالم ، والمتمتعة بسلطة وحكم يفوق وزنها السياسي ، ويتجاوز مشروعها الاساسي (الاستقلال والانفصال)، تتناسى تجارب الامس، القريب منه قبل البعيد، حينما تعرضت للظلم من نظم سابقة ودول جوار، وتتناسى او تتجاهل للاسف، بسبب من ضيق افق التعصب القومي ، انها تسيء الى عدالة قضيتها ، بهذه الانتقائية :(مايحق لي لايحق لغيري) ، حتى لو كانت ، هذه العدائية الشوفينية ردا على شوفينية مضادة .
فالعداء للعنصرية ومحاربتها ليس ولوج طريق عنصرية مضادة . ومحاربة الاستعمار وادانة الاحتلال ، لا تكون بالاقدام على فعل الاستعمار او الاحتلال المضاد، لبلد او لمدن فيه. وجرائم شوفينية ما ، ومظالم نظام سياسي ما ، لايمكن معالجة آثارها ، بخيار نهج الانتقام ، والتحاصص ، والتمييز. فمثل تلك الافعال ، يمكن ان تجد من يبررها ، في الايام الاولى للانفلات ، وحينما تكون فعلا ، غرائزيا ثأريا . كركوك بحد ذاتها، تكمن اهميتها في مشروع الانفصال والاستقلال التام ، ..ليس من الناحية الاقتصادية فحسب، وفي اهمية اختيار التوقيت السياسيي الصحيح ، والتفهم او الدعم الاقليمي والدولي، ان امكن.
كركوك ستبقى حقا ، اهم مشاكل العملية السياسية ،..مشكلة الاسس التي قامت عليها والآلية التي اريد لها ، ان تسير فيها هذه العملية ؟ ولان تكون قاعدة مشروع التفكك والتقسيم للعراق ، الانفصال والاستقلال " وربما الحرية " للشعب الكردي " بشرطية ما ؟
حتى الان جانب الصراع الغنائمي ، على مناطق النفوذ والثروة ، ...هو الجزء الابرز من مشكلة كركوك ...حتى لو اكتسبت الية التحاصص /التغانم او تحركت ، باسم تكتلات او ائتلافات سياسية ،... طائفية ـ قومية قامت على (عصبيات غير وطنية ) تقدمت على (عصبية الوطن) ، ..لتنتهي اليوم آلية للعملية السياسية ، وارضية لهذا الصراع السياسي ، الذي يدفع ثمنه اليوم مستقبل البلد السياسي ؟
اذن هل من الصحيح الاكتفاء ، بربط توقيت اثارة الموضوع ( بضرورة اقرار قانون الانتخابات، المطلوب الان، بالدرجة الاولى ؟ ...هل هناك علاقة بين هذا التوقيت ، وقضية الفشل في تمرير قانون النفط والغاز، والاتفاقية الامنية ، على البرلمان والفشل في المصادقة عليها.؟
بالنسبة لاغلب العراقيين ، حتى من غير المختصين بالشأن السياسي، لم يعد امر التوقيتات هذه ، لغزا يصعب فك طلاسمه، بالنسبة لهم . وذلك ربما ليس لفطنة خاصة ، وانما لتكرار التجربة وسعة ميادين اختباراتها. فاعداد متزايدة منهم ، ومن الساسة، اللذين راهنوا على المشروع الامريكي، لايختلفون على منطقية الاولوية في ، دوافع " المصلحة الامريكية الوطنية" ، في كل ماجرى ، ويجري وسيجري من احداث واشكالات واختناقات .
فللتصعيد والتوتر الذي تشهده الساحة السياسية في العراق ، اليوم ، وعلى قضية كركوك تحديدا ، اسباب تتجاوز تلك الاختلافات المعلنة، التي جرى تصعيدها، على ما في هذا التصعيد من جانب موضوعي حقا ، تفرضه طبيعة المشروع الكردي ، المعلن منذ البدء ، وتم تكراره على مسامع الجميع، طيلة هذه السنوات التي مضت. فالاكراد لم يخفوا طموحهم ، في الانفصال والاستقلال ، يوما ...... واذا ما أخطئوا يوما، تحت الصغوط الاقليمية والعراقية ، حتى من شركائهم وحلفائهم الاساسيين، في الائتلاف وفي العملية السياسية، واعلنوا تاجيلهم مشروع الانفصال والاستقلال ، ..واضطروا الى تعبيرهم عن رغبة في البقاء ، ضمن الكيان العراقي، فانهم غالبا ماكانوا يرفقون ذلك ، بالافصاح عن بقاء تمسكهم برغبتهم وحقهم في الاستقلال وتقرير المصير ، كأي شعب آخر.

وفي هذا اعتقد ان الظروف لتي اجتازها العراق في سنوات مابعد : التحرير"، كانت الى جانب الاكراد ، لتساعدهم على الافصاح ،بحرية عن حقيقة اهدافهم البعيدة. وفي احيان غير قليلة ، كانت صراحتهم ، تصل حد الوقاحة، في طرح مواقف انانية ، غير معنية بالمستقبل العراقي ، قدر عنايتها بالمستقبل الكردي . هذا الموقف كان سيبقى محترما ، لو انهم اضطروا لمراعاة اضطرارهم، على البقاء في الكيان العراقي ، واستحقاقات ذلك الاضطرار، بالنسبة للمشروع الوطني العراقي.