الأناركيون الجدد


احمد زكى
2004 / 2 / 3 - 06:38     

مقدمة
من الصعب تخيل زمن آخر غير هذا الزمان، الذى توجد فيه مثل هذه الهوة الواسعة بين المثقفين والمناضلين، بين المنظرين للثورة والمجاهدين من اجلها.   يبدوا أن الكتاب، الذين ظلوا ينشرون أعمالا تأخذ شكل الأوراق السياسية لمواقف قطاعات واسعة من الجماهير الغير موجودة فى الواقع،  قد تلبستهم حالة من التشويش أو أسوأ من ذلك.  وهى حالة من التعالى الذليل، رغم بزوغ أشكال جديدة من الحركات الجماهيرية فرادى هنا وهناك تنتشر فى كل مكان.   وأنها لفضيحة، فى جانب محدد من جوانب ما بات يسمى حتى الآن بالحركة المناهضة للعولمة - دون وجود سبب معقول لمثل هذه التسمية.   تلك الحركة التى دفعت، خلال مجرد سنتين أو ثلاث فقط من عمرها، إلى تحول فى الوجدان الجمعى للملايين عبر الكوكب، شعورا منهم بالإمكانيات التاريخية المتاحة.   قد ترجع هذه التسمية إلى مجرد جهل فاضح، أو بسبب إننا نلتقط فقط بواقى ما تزرعه لنا المصادر المعادية: مثل صحيفة "النيويورك تايمز".      
ومرة أخرى، يبدو أن معظم ما يكتب حتى فى الدوريات التقدمية لا يصيب الهدف لحد بعيد، أو على الأقل نادرا ما ينصب اهتمام هذه الدوريات على ما يعتقده المشاركون الحقيقيون فى الحركة انه الأهم بالنسبة لها.   
كخبير انثروبولوجى ومشارك نشط - بشكل خاص فى الطرف الأكثر راديكالية، من العمل المباشر فى الحركة - قد أكون قادرا على إيضاح بعض نقاط سوء الفهم الشائعة؛ ولكن ما سوف أنبئكم به قد لا يلاقى قبولا حسنا.      وما أخشاه، أن كثير من التردد يكمن فى تلكؤ بعض هؤلاء الذين توهموا فى أنفسهم ردحا طويلا من الزمن أنهم راديكاليون أن يصلوا إلى الاقتناع بطريقة من الطرق إلى أنهم فى الحقيقة ليبراليون: يهتمون بتوسيع الحريات الفردية، ويسعون إلى العدالة الاجتماعية، ولكن بوسائل لا تتحدى بقاء المؤسسات الحاكمة كالرأسمال أو الدولة.     ولكن كثير من هؤلاء الذين يرغبون فى رؤية تغييرات ثورية قد يشعرون بالقلق وهم يقررون حقيقة أن معظم الطاقة الخلاقة للسياسات الراديكالية تنبع الآن من الأفكار الأناركية - هذا التيار الذى يستمرون فى نبذه حتى اليوم  - وان وضع مثل هذا التيار فى الاعتبار سوف يستلزم أن يندرجوا فى العمل معه بالاحترام اللازم.   
أنا اكتب كأناركى؛ ولكن بمعني ما، أضع في حسباني كم من الناس المنخرطون في الحركة فعلا يطلقون على أنفسهم "أناركيون"، وفي أي سياق، إلا أن هذا ليس بيت القصيد لحد ما.       جوهر فكرة العمل المباشر، برفضها للسياسات التي تتوجه للحكومات تتوسل إليها حتى تعدل من مسلكها، والتي تقف في صف التدخل الجسدي ضد سلطة الدولة بالشكل الذي يفترض مسبقا انه البديل - كل ذلك انبعث مباشرة من التقاليد الأناركية.      الأناركية هي وجدان الحركة، هي روحها؛ هي مصدر كل ما هو جديد ومبشر بالأمل فيها.      وهكذا فيما سيلي، سأحاول توضيح ما يبدو انه ثلاثة قضايا تخص الحركة يشيع فيهم اللبس - ما يفترض انه معارضتنا للشئ الذي يسمي العولمة، وما يفترض انه العنف الذي نتبناه، وما يفترض أننا فى حاجة إلى أيديولوجيا متماسكة - ثم بعد ذلك سوف اقترح كيف يمكن للمثقفين الراديكاليين أن يطرحوا تصوراتهم لإعادة صياغة ممارساتهم النظرية في ضوء كل ذلك...
حركة العولمة؟
عبارة "الحركة المناهضة للعولمة" هي وجه العملة الآخر الذي سكه الإعلام الأمريكي، وللحق لم يشعر مناضلى الشارع براحة أبدا تجاه هذا المسمي.      وللحد الذي تكون فيه هذه الحركة مناهضة لشئ، فهي مناهضة الليبرالية الجديدة، التي يمكن تعريفها بأنها نوع من أصولية السوق - أو، إذا أردنا التعبير بشكل أفضل، ستالينية السوق - التي تعتنق انه ليس هناك إلا اتجاه واحد للتطور التاريخي للإنسانية.   
هذه الخريطة تمسك بها نخبة من الاقتصاديين، وشرائح من الكيانات الاقتصادية الضخمة، هؤلاء الذين ينبغى قطع أى سلطة عن أيديهم فور قيام مؤسسات تتصف بأى قدر من القابلية للمسائلة الديموقراطية؛ فمن الآن وصاعدا سوف تتبلور هذه النخبة من خلال المنظمات غير المنتخبة التى تخلقها المعاهدات مثل صندوق النقد الدولى، ومنـظمة التجارة العالمية، والنافتا NAFTA.   
يمكنك أن تقول علانية، فى بلاد كالأرجنتين واستونيا وتايوان: "إننا حركة ضد النيوليبرالية".        ولكن بلدا كالولايات المتحدة، دائما ما تتبدى فيه اللغة كمشكلة.       فكيانات الإعلام الضخمة هنا هى واحدة من أكثر أجهزة الإعلام السياسى الموجه شرا على الكوكب قاطبة: النيوليبرالية هى كل ما تراه فى الصورة أينما تولى وجهك - ونتيجة لذلك تبقى الحقيقة التى تقبع فى خلفية الصورة هى انك لا تستطيع استخدام مفردة اللفظ نفسه.   
 أمام المسائل المثارة يمكنك استخدام مصطلحات دعائية فى خطابك من نوع "قضايا التجارة الحرة" أو "السوق الحر".        وهكذا يجد المناضلون الأمريكيون أنفسهم فى وضع محير: فلو اقترح واحدا منهم وضع كلمة "N" (كما تسمى الأشياء هنا عادة) فى نشرة أو كتيب صغير للدعاية، سوف تنطلق صفارات الإنذار علي الفور: ضبط احدهم يمارس الانعزالية، ويخاطب النخبة المثقفة فقط.      لقد ظهرت كل أنواع المحاولات لتضع إطارا للتعبيرات والمصطلحات البديلة - إننا "حركة العدالة الكوكبية"، إننا حركة "ضد عولمة الشركات الضخمة".        ولم يجد تعبير من هذه التعبيرات قبولا مناسبا ولم يلق الرواج، وكنتيجة لذلك، فمن الشائع فى الاجتماعات الجماهيرية والندوات المختلفة أن تسمع المتحدثين يستعملون مصطلح "حركة العولمة" ومصطلح "حركة مناهضة العولمة" فى نفس المواضع من الكلام بقصد ذات المعنى.   
 بالرغم من أن عبارة "حركة العولمة" فعلا فى غير محلها بالكامل.   
فلو أخذنا العولمة باعتبارها محو الحدود وحرية انتقال الناس والممتلكات والأفكار، عندئذ فمن الواضح بشكل جلى أن الحركة نفسها ليست فقط نتاجا من نواتج العولمة، ولكن يعني ذلك أيضا أن الغالب الأعم من الجماعات المنخرطة فيها - وخصوصا الأكثرهم راديكالية - هم أكثر من يدعم العولمة عموما بشكل يفوق صندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية.      ولهذا على سبيل المثال - فقد كانت شبكة العمل الدولية المسماة حركة الشعوب العولمية - هى التى أول من وضع نداءات عالمية لتخصيص يوم من الحركة على مستوى العالم من اجل قضية معينة، مثل يوم 18 يناير ويوم 30 نوفمبر - الأخير كان النداء الأصلى للاحتجاج ضد لقاءات منظمة التجارة العالمية فى سياتل عام 1999.       وترجع أصول منظمة حركة الشعوب العولمية بدورها إلى الملتقى الدولى الشهير "من اجل الإنسانية والمناهض للنيوليبرالية" الذى انعقد فى موسم الأمطار الموحلة بأحراش "تشياباس" فى المكسيك، فى شهر أغسطس 1996، وكان الملتقى نفسه، كما قال مساعد القائد ماركوس، مبادرة من كل المتمردين من كل أنحاء العالم.   
  أتى الناس من أكثر من خمسين بلدا أفواجا، يدخلون فى قرية "لا ريالداد" التى حررتها حركة "الزاباتيستا".      وقد وضعت رؤية "شبكة عمل عبر القارات للمقاومة" فى إعلان "ريالداد" الثانى: "نعلن إننا سوف ننشئ شبكة عمل متعاونة للمقاومة ضد الليبرالية الجديدة، للمقاومة من اجل الإنسانية": فلتكن شبكة من الأصوات التى تقاوم سلطان الحرب المشرعة عليهم.      شبكة عمل للأصوات التى لا تتكلم وفقط، ولكنها تناضل وتقاوم أيضا ضد النيوليبرالية ومن اجل الإنسانية.   
شبكة عمل تغطي القارات الخمس وتدعم المقاومة ضد الموت الذى تبشرنا به السلطة.   
وكما قالها الإعلان جلية واضحة "هذه الشبكة ليست بناءا تنظيميا، فليس لديها رأس مركزى ولا صناع قرار، ليس لديها قيادة مركزية ولا مستويات تنظيمية.     إننا كلنا الشبكة، أنها كل المقاومين."
فى العام الذى تلا ذلك، نظمت جماعات أنصار "الزاباتيستا" الأوروبيون المسماة "ياباستا!" المؤتمر الثانى فى أسبانيا، حيث تطورت فكرة عمل الشبكات خطوات إلى الأمام: ولدت منظمة حركة الشعوب العولمية فى اجتماع عقد فى جنيف فى فبراير.      من البداية لم تتشكل المنظمة فقط من جماعات الأناركيين والنقابات الراديكالية فى أسبانيا، وألمانيا، وبريطانيا، ولكنها تضمنت أيضا عصبة الفلاحين الاشتراكية الغاندية فى الهند (the KRRS) وجمعيات الصيادين الإندونيسيين والسيريلانكيين، واتحاد المعلمين الارجنتينى، ومجموعات السكان الأصليين كجماعة "الماورى" فى نيوزيلندا و"الكونا" فى الإكوادور وحركة العمال الزراعيين بلا ارض البرازيلية، وشبكة تتكون من المجتمعات المحلية التى أسسها العبيد الهاربون من الرق فى أمريكا الجنوبية والوسطى – و أى أعداد من الآخرين.      ولزمن طويل نادرا ما كان هناك تمثيل لأمريكا الشمالية، اللهم إلا اتحاد عمال البريد الكندى - الذى عمل بدور مركز اتصالات منظمة حركة الشعوب الكوكبية، حتى ظهرت الإنترنت لتحل محلها بشكل واسع منذ عام 1988 - وجماعة أناركية أخرى مقرها مونتريال تسمى  CLAC
وإذا ما كانت أصول الحركة أصول أممية، فمطالبها أيضا مطالب أممية.      على سبيل المثال، برنامج جماعة "ياباستا!" الثلاثى الأقسام فى ايطاليا يدعو لحد أدنى أساسى للدخل مكفول عالميا، ويدعو إلى المواطنة العالمية، لضمان حرية انتقال الشعوب عبر الحدود، ويدعو لإتاحة السبل للوصول بحرية إلى معلومات التكنولوجيا الجديدة - وهو ما يعنى عمليا التقليص الحاد لحقوق براءات الاختراع (التى هى فعلا شكل خبيث ملتوى من أشكال الحماية).  نظمت شبكة "لا حدود" - وشعارها "لا احد مهاجر غير شرعى" - أسبوع من المعسكرات والمعامل من اجل المقاومة الخلاقة، على الحدود البولندية الألمانية والأوكرانية، وفى صقلية وفى "تاريفا" فى أسبانيا.      ارتدى النشطاء زى حرس الحدود، وشيدوا كبارى من القوارب عبر نهر "الأودر" ووقفوا على هيئة اوركسترا كاملة العدد لقطع طريق مطار فرانكفورت للاحتجاج على ترحيل المهاجرين (هؤلاء الذين اختنق منهم العديد فى مخزن عفش طائرات لوفتهانزا وشركة كيه ال ام KLM).      سيقام معسكر هذا العام فى ستراسبورج، موطن استخبارات ونظم معلومات دول "الشنجن - Shengen" - الاتحاد الأوروبى - حيث توجد قواعد بيانات البحث والمتابعة التى تمتد بنهايات طرفية بالآلاف عبر أوروبا، مستهدفة حركة المهاجرين والمناضلين و أى احد آخر يرغبونه.      ولقد حاول النشطاء، مرارا وتكرارا، جذب الانتباه إلى حقيقة أن الرؤية النيوليبرالية "للعولمة" مقصورة بشكل واضح ومحدد جدا على حركة الرأسمال والسلع، وتقيم فعلا الحواجز والموانع أمام انتقال البشر، والمعلومات، والأفكار - تضاعف حجم حرس الحدود الأمريكية ثلاثة مرات منذ توقيع اتفاقية "النافتا" NAFTA.      ومن الصعب الدهشة: فلو كان من غير الممكن سجن الغالبية من البشر فى العالم داخل أقبية فقيرة، فلن يكون هناك أى حافز لدى "نايك" NIKE و"جاب" GAP لنقل إنتاجهم إلى هناك ليشرعوا فى استثماراتهم.      فإذا ما توافر شرط حرية انتقال البشر، سوف ينهار المشروع النيوليبرالى من أساسه.     
وهناك عامل آخر يجب التفكير فيه عندما يناقش الناس مسألة انهيار السيادة فى عالمنا المعاصر: كان الإنجاز الرئيس للدولة-الأمة فى القرن الماضى هو نجاحها فى تأسيس شبكة نمطية من الحدود المصطنعة ذات حراسة مشددة عبر العالم كله.      وذلك ما يعنيه بالضبط النظام الدولى الذى نحاربه، باسم عولمتنا الخاصة.   
 هذه العلاقات - والصلات الأوسع بين السياسات النيوليبرالية وآليات القهر التى تملكها الدولة (الشرطة، والسجون، والعسكرة) - قد لعبت دورا يبرز أكثر فأكثر داخل تحليلاتنا، حيث قد تعرضنا نحن أنفسنا إلى مواجهة قمع الدولة بمستوياته المتصاعدة.      ولقد أصبحت مسألة الحدود قضية رئيسية من قضايا لقاءات صندوق النقد الدولى فى "براغ"، والاجتماعات التالية للاتحاد الأوروبى فى "نيس".      فى اجتماع قمة النافتا فى مدينة "كيبيك" فى الصيف الماضى، تحولت فيما بين ليلة وضحاها تلك الخطوط التى كانت غير مرئية والتى كانت تعتبر سابقا كأنها غير موجودة إلى تحصينات وقلاع منيعة ضد حركة المواطنين الذين سيشكلون مستقبلا "المواطن العالمى"، المطالبين بحق تقديم عرائض ضد حكامهم.      أصبح الحائط الممتد لمسافة ثلاثة كيلومترات الذى بنوه داخل مركز مدينة "كويبك" ليحمى رؤساء الدول وهم يهرعون خفية إلى داخل قاعة المؤتمر خوفا من جمهور المحتجين، أصبح رمزا دقيقا لما تعنيه فعلا النيوليبرالية فى العرف الانسانى.      مشهد "البلاك بلوك Black Bloc" وهم مسلحون بمقصات السلك الشائك والخطاطيف، ملتحقا بهم كل هذا الحشد من "عمال الصلب" إلى محاربى "الماهوك" لتحطيم السور الأمنى، أصبح - لنفس السبب - واحدا من أقوى المشاهد فى تاريخ الحركة.   
 إلا أن هناك تمايزا مدهشا بين هذا المشهد ومشاهد الأمميات السابقة، حيث انتهت الأخيرة بتصدير أنماط تنظيمية غربية إلى كل العالم؛ ولكن فى حالتنا هذه، إذا ما كان هناك شيئا ما من قبيل التصدير، فاتجاه التيار يتدفق عكسيا بالكامل.     فالعديد من وسائل وأدوات الحركة الرئيسية، أن لم يكن معظمها، استحدث وتم تطويره فى الجنوب أولا.      وعلى المدى البعيد، سوف يبرهن ذلك على طابع الحركة الوحيد الأكثر راديكالية.   
بليونيرات ومهرجون
استدعت وسائل الإعلام التابعة للشركات العملاقة كلمة "عنيف" كنوع من أنواع الأشباح الشريرة التى تتلبث الأشياء من وقت لآخر وبأشكال متعددة، تبثها عند وقوع حدث جماهيرى واسع: احتجاجات عنيفة، صدامات عنيفة، البوليس يشن غارة على مركز عمليات المحتجين العنيفين.      حتى ذكرت كلمة شغب عنيف! (هل توجد أنواع أخرى من الشغب غير عنيفة؟).  هذه التعبيرات تستخدم بشكل نمطى.   حين نصف ما يحدث بلغة بسيطة مستقيمة سيكون الوصف كالتالى (يلقى الناس بقنابل البوية، يكسرون زجاج فاترينات المحلات الخالية، يمسكون بأيدى بعضهم البعض لعرقلة سير المرور فى التقاطعات، بينما يضربهم البوليس بالعصا)، فالصورة تعنى أن البوليس هو الطرف العنيف.   قد يكون إعلام الولايات المتحدة هو الطرف الأكثر عدوانية، وهذا بالرغم من حقيقة انه بعد أكثر من عامين من العمل المباشر المتصاعد، من المستحيل أن تخرج بمثل واحد على عنف يكون قد مارسه احد النشطاء الأمريكيين تسبب فى إيذاء بدنى لأحد من الأشخاص.  بل إننى أرى أن ما يزعج السلطات المعنية ليس هو عنف الحركة ولكن بالضبط افتقارها إلى ذلك العنف؛ فالحكومة ببساطة لا تدرى كيف تتصرف مع حركة واضحة الثورية ترفض أن تسقط فى حبائل النماذج النمطية للمقاومة المسلحة. 
إننا نكاد نلمس الجهود الحالية لتدمير الأطر القائمة للحركة. 
حينما لاح أن الأساليب الأخرى بديلا عن المسيرات التى تحمل شعاراتها، إما أسلوب العصيان المدنى السلمى على شاكلة عصيان غاندى، وإما الانتفاضة المسلحة الصريحة، لهذا السبب تحاول جماعات مثل شبكة العمل المباشر، وتحرير الشوارع، والكتل السوداء، وذوى الأوفرول الأبيض، كل بطريقته أن يجدوا منطقة بين الوسيلتين.  إنهم يحاولون ابتكار ما يسميه العديد "لغة جديدة" للعصيان المدنى، جامعين ما بين عناصر من مسرح الشارع، وعناصر الاحتفالات الشعبية، وما يمكن أن يطلق عليه تكتيكات الحرب غير العنيفة؛ على سبيل المثال بالمعنى، الذى يعتمده أناركيو منظمة "الكتل السوداء"، حين يتحاشون أى إيذاء بدنى لمخلوق.
تشتهر "يا باستا!" على سبيل المثال بتكتيكات ذوى "الأوفرول الأبيض "tute bianche: رجال ونساء يرتدون حشية كاملة، تتراوح بين دروع الفوم إلى الأنابيب الاسطوانية إلى الحلقات المطاطية المرنة، والخوذات وملابس رياضية بيضاء مضادة للكيماويات، (أبناء عمومتهم البريطانيون معروفون باسم الـ Wombles).  وبينما يشق هذا الجيش الكرتونى طريقه من بين حواجز الشرطة، يحمى كل منهم الآخر من خطر الأذى أو الاعتقال، يبدو أن هذه المنظومة المضحكة تختزل كل البشر الموجودين إلى شخصيات كرتونية ممسوخة خرقاء وبلهاء ولكن لا يمكن تدميرها.  ويزداد المفعول فقط عندما تهاجم صفوف الشخصيات ذات الملابس الخاصة هذه، رجال الشرطة بالبالونات والمسدسات المائية، أو كما فعلت "الكتلة الوردية - Pink Bloc" فى "براغ" وفى كل مكان آخر، فإنها ترتدى ملابس الجنيات والعفاريت، وتدغدغ وجوه رجال الأمن بمنافض الريش المنزلية التى نمسح بها الغبار. 
فى مؤتمر الحزب الامريكى، يلبسون ملابس السهرة الخاصة بالبليونيرات من أنصار بوش (أو جور) ويحاولون حشو جيوب رجال الأمن برزم الورق التى تشبه النقود كبقشيش لهم على قمعهم للمنشقين.  حتى لم يخدش احد، بل ربما أن رجال البوليس قد تلقوا بذلك جرعة علاج نفسى تجعلهم يبغضون ضرب أى احد فى ملابس سهرات العشاء.  "كتلة المهرجون Clown Bloc" الأناركية الثورية، بعجلات السيرك العالية، وأجنحة قوس قزح، وصفاراتهم التى تصرخ عاليا، يسببون تشوش البوليس عندما يتعاركون مع بعضهم البعض (أو مع البليونيرات).  لديهم أفضل الأناشيد: الديموقراطية؟ ها ها ها، البيتزا المتحدون لا يقهرون، هى هو، هى هو، ها ها، هى هى!!  بالإضافة إلى الهتافات الحماسية مثل: اهتف! رد!   اهتف! رد!   والهتاف الأثير لدى كل فرد – اهتف بثلاث كلمات! اهتف بثلاث كلمات!
فى مدينة "كويبك"، تم بناء منجنيق عملاق على نسق العصور الوسطى (بمساعدة من المؤتمر اليسارى لجمعية مصممى الملابس والمناظر التاريخية) حيث كان يقذف بدمى ذات حشوات لينة على مقر مؤتمر الـ FTAA.   وقد تم دراسة تكنيكات حروب العصور الغابرة للخروج بأشكال قتالية جدا ولكن غير عنيفة تصلح لإتباعها إثناء المواجهات: تم تصميم محاربين على شاكلة محاربى جزيرة "برنس ادوارد" ومحاربى "مونتريال" القدماء وتستمر البحوث فى اتجاه الأسوار المدرعة على نسق الطراز الرومانى القديم.   المتاريس أصبحت فنا فى حد ذاته: فلو صنعت شبكة عنكبوتية ضخمة من لفائف القماش تمتد عبر تقاطع الطرق، فسيكون من المستحيل فعلا أن تعبرها، سيقع رجال الشرطة من راكبى الموتوسيكلات فى حبائلها كالحشرات.  دمية الحرية بأذرعها الممتدة إلى أقصاها نستطيع أن نعرقل بها طريقا سريعا به أربع حارات مرورية، بينما تستطيع دمية الثعبان الراقص أن تمنع حركة السيارات المارة.  فى عيد أول مايو السابق فى لندن، جعل الثوار من شارع "أوكسفورد" رقعة كبيرة للعبة "المونوبلى" ببنائهم نماذج كرتونية لفنادق "الماى فير" للمشردين، و "اوكازيون" القرن، والحدائق المزروعة برجال حرب العصابات، ولم يتم فضها إلا بالتدخل الكثيف من رجال الشرطة ونتيجة هطول الأمطار الغزيرة.  ولكن حتى أكثر القتاليين قتالية، مثل جبهة تحرير الأرض، يتجنبون بحذر بالغ الإقدام على فعل أى شيء قد ينتج عنه إيذاء بدنى لأى مخلوق (إنسان أو حيوان لهذه الدرجة).  انه تجميع وتركيب لأنواع الأفعال التقليدية التى تطيح بقوات حفظ النظام وتجعلهم يائسين من عودة الأمور إلى سيرها المعتاد (العنف البسيط): حتى عند الدرجة التى تجعلهم، كما فعلوا فى "جنوة"، يشجعون بلطجية الفاشيست على إحداث شغبا يبرر لهم استخدام القوة الغاشمة ضد كل الموجودين بلا تمييز.   
ويستطيع المرء أن يقتفى اثر تاريخ أشكال الحركة هذه بالعودة إلى أشكال المقاومة البارعة لجماعات "الهيبيز" أو جماعة "الهنود الحمر المتروبوليتانية" فى ايطاليا أثناء الستينات، ومعارك احتلال الشقق الخالية بوضع اليد فى ألمانيا وايطاليا أثناء السبعينات والثمانينات، حتى مقاومة الفلاحين لتوسيع مطار "طوكيو".   ولكن، فيما يبدو لى، أيضا، الجذور الحاسمة فعلا تعود "للزاباتيستا" والحركات الأخرى فى جنوب العالم.  فمن عدة أوجه، شكل جيش "الزاباتيستا للتحرر الوطنى" محاولة من أناس لطالما تم إجحاف حقهم فى المقاومة السلمية والمدنية ومصادرتها؛ حتى نستدعى خداع النيوليبرالية وادعاءها الديموقراطية وتسليمها السلطة للمجتمع المدنى.  فهو، كما يقول قادته، جيشا يطمح فى ألا يكون جيشا بعد الآن (انه نوع من السر المفضوح الذى، منذ السنوات الخمس الأخيرة على الأقل، لا يحمل بنادق حقيقية).  وكما يشرح "ماركوس" هذا التحول من التكتيكات التقليدية المعتادة لحرب العصابات: "كنا نعتقد أن الناس إما لن يهتموا بنا، وإما سوف ينضمون إلينا لنقاتل معا.  ولكنهم لم يسلكوا معنا أى من الطريقتين.  وأتضح أن كل هؤلاء الناس، الذين كانوا بالآلاف، أو بعشرات الآلاف، أو مئات الآلاف، بل وربما بالملايين، كانوا لا يرغبون فى الانتفاض معنا، ولكن... كانوا أيضا لا يرغبون فى أن يقضى علينا.  كانوا يرغبون فى أن نتحاور من اجلهم.  قضت هذه الحقيقة بالكامل على مخططاتنا وأنهت التعريف القائم "للزاباتيستية"، (نشرة الزاباتيستية الجديدة، رقم 4)
الآن جيش الزاباتيستا للتحرر الوطنى هو نوع من الجيوش التى تنظم "غزوات" على القواعد العسكرية المكسيكية، يكتسح فيها مئات الثوار، بدون أى نوع من السلاح على الإطلاق، هذه المعسكرات صارخين فى وجوه جندها موبخين لهم.  وعلى نفس المنوال اكتسبت الحركات الجماهيرية الواسعة لمنظمة الفلاحين بلا ارض نفوذا معنويا كبيرا فى البرازيل نتيجة إعادة احتلال الأراضى الزراعية المهجورة وتماما بلا عنف.   فى كلا الحالتين، يظهر بشكل جلى أن نفس الناس إذا ما حاولوا الإقدام على فعل نفس الأشياء منذ عشرون عاما مضت، كانوا ببساطة سيلقون مصرعهم بطلقات الرصاص.
الأناركية والسلم
إلا انك كلما حاولت أن تقتفى اثر أصول هذه الحركات، فإنها تتفق تماما مع الإلهام العام الأناركى للحركة، التى تولى أهمية اقل للاستيلاء على السلطة من الأهمية التى تعطيها لتعرية ونزع شرعية، وتفكيك آليات الحكم؛ وفى الأثناء التى تكتسب فيها مساحات تتسع أكثر فأكثر من الإدارة الذاتية لشئون الناس، عنوة من هذه الآليات.  على أن الأمر الحاسم فى ذلك كله، هو أن كل ذلك لن يتحقق إلا فى مناخ سلمى عام.  فى الواقع، يبدو لى أن هذه هى المغانم العليا للكفاح فى هذه اللحظة: الكفاح الذى يحدد بقدر عال الاتجاه الكلى فى القرن الواحد وعشرين. 
 يجب أن نتذكر انه أثناء أخريات القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، عندما سارعت اغلب الأحزاب الماركسية لتصبح أحزابا اشتراكية ديموقراطية إصلاحية، كانت الأناركية والانا ركية النقابية بؤرة لليسار الثورى.  الأوضاع تغيرت، فقط، بشكل حقيقى بالحرب العالمية الأولى والثورة الروسية.  لقد كانوا يقصون علينا دائما، أن نجاح البلاشفة هو الذى أدى إلى انحسار الأناركية، بالاستثناء العظيم لأسبانيا، وقذف بالشيوعية عاليا إلى المقدمة.  ولكن فيما يخيل لى أن المرء يستطيع أن يرى ذلك بنظرة مختلفة. 
آمن معظم الناس، فى أواخر القرن التاسع عشر، أن الحرب بين القوى الصناعية العظمى قد هجرت إلى غير رجعة؛ حقا ما زالت المغامرات العسكرية الاستعمارية دائرة، ولكن حربا بين فرنسا وانجلترا، على الأرض الفرنسية أو الأرض الإنجليزية، بدت كما لو كانت أمرا لا يصدقه عقل، كما هو الحال فى يومنا هذا.  بحلول القرن العشرين، كان يعتبر حتى استخدام جوازات السفر فى ذلك الوقت بربرية من العاديات الأثرية. 
ربما كان القرن العشرين، ذلك القرن القصير، على العكس، أكثر القرون عنفا فى التاريخ الانسانى، احتلته بشكل يكاد أن يكون كاملا، إما شن الحروب العالمية أو التحضير لها.  عندئذ، فلا يثير الاستغراب، أن تلحق بالأناركية سريعا وصمة أنها خيالية وغير واقعية، إذا ما كان المقياس الأعلى للفاعلية السياسية هو أنك تستطيع رعاية ماكينات هائلة للقتل.  وهذا هو واحد من الأمور، بالطبيعة، لا يحسن الأناركيون القيام به أبدا.  ولم يكن مدهشا أن الأحزاب الماركسية، التى لا تحذق إلا مثل هذه الأمور، ظهر بشكل فائق أنها ديناميكية وواقعية بالمقارنة.  بالوصول إلى اللحظة التى انتهت فيها الحرب الباردة، وعاد احتمال الحرب بين القوى الصناعية العظمى احتمالا لا يصدقه العقل، عادت الأناركية للظهور، بالضبط فى نفس المكانة التى احتلتها فى أواخر القرن التاسع عشر، كحركة دولية فى عمق مركز اليسار الثورى.
وإذا ما كان ذلك كذلك، فقد أصبح أكثر وضوحا ما هى المكاسب النهائية التى ستجنيها التعبئة الحالية المسماة "بالحرب على الإرهاب".  على المدى القصير، تبدو الأمور مرعبة.  الحكومات التى تستميت لسلق تلفيقات بصورة أو أخرى لتقنع الجمهور بأننا إرهابيون حتى قبل أحداث 11 سبتمبر، تشعر الآن أنهم قد حصلوا على توقيع "على بياض"؛ هناك قليل من الشك أن كثير من الناس الطيبين سوف يعانون من القمع الرهيب.  ولكن على المدى البعيد، سوف يكون من المستحيل العودة ببساطة إلى مستويات عنف القرن العشرين.  كانت هجمات 11سبتمير بمثابة ضربة من ضربات الحظ التى لا تتكرر (أول مخطط ارهابى واسع المدى فى التاريخ الذى يتحقق فعلا)؛ انتشار الأسلحة النووية يضمن أن أجزاء أوسع فأوسع من الكوكب سوف تصبح لأسباب عملية خارج نطاق الحروب التقليدية.  ولو كانت الحروب هى الغذاء الذى تتوقف عليه سلامة الدولة الصحية، فمن المتوقع تحسن فرص التنظيم على النسق الأناركى.
ممارسة الديموقراطية المباشرة
تشكو الصحافة التقدمية شكوى دائمة فيما يخص حركة العولمة من أنها، رغم بريقها الأخاذ تكتيكيا، تفتقد إلى قضية مركزية أو أيديولوجيا مترابطة.  (وهذا ما يبدو انه المعادل اليسارى لادعاء صحافة الشركات الضخمة من إننا حفنة من الصبيان الذين يعبثون بحفنة من القضايا الغير مترابطة تماما: اسقطوا الديون، وحافظوا على الغابات القديمة.)   وهناك خط آخر من التهجم على الحركة يأتى من ناحية أن الحركة منكوبة بالمعارضة العمياء لكل أشكال المؤسسات أو التنظيم.  فمن المحزن، بعد مرور عامان على سياتل، يتوجب على أن اكتب هذا، ولكن من الواضح أن احدنا يجب أن يناقش هذا الأمر: هناك فى أمريكا الشمالية على وجه الخصوص حركة تدور حول إعادة اختراع الديموقراطية.  إنها لا تعارض التنظيم.  إنها تدور حول خلق أشكال جديدة من التنظيم.  انه ليس نقص فى الايدولوجيا. 
هذه الأشكال الجديدة من التنظيم هى أيديولوجيتها.  إنها تدور حول خلق وتفعيل شبكات عمل أفقية بديلا عن الهياكل الرأسية التى تدار من أعلى لأسفل مثل الدولة والأحزاب والشركات الهائلة الحجم، شبكات عمل مؤسسة على مبادئ ضد المركزية، وغير تراتبية، وديموقراطية البحث عن تكوين إجماع.  كغاية عليا، إنها تطمح لان تكون أكثر من ذلك، لأنها تطمح كغاية عليا أن تعيد ابتكار الحياة اليومية بأكملها.  ولكن على غير منوال كثير من أشكال الراديكالية، فقد نظمت نفسها أولا فى المجال السياسى؛ لأنها بشكل أساسى كانت المنطقة التى هجرتها بشكل واسع القوى التى كانت ذات النفوذ (الذين وجهوا كل مدفعيتهم الثقيلة نحو الاقتصاد).
طوال العقد المنصرم، المناضلون الحركيون فى أميركا الشمالية وضعوا طاقة خلاقة هائلة فى إعادة ابتكار الآليات الداخلية للعمل فى مجموعاتهم، ولخلق نماذج قابلة للحياة لما يمكن أن تبدو عليه الديموقراطية المباشرة وهى فاعلة فعلا.فى هذا المجال، كنا قد خططنا للعمل على أمثلة، كما نبهت سابقا، من خارج التقاليد الغربية، والتى تكاد بنسب متفاوتة تعتمد على بعض الإجراءات التى تمهد لقيام إجماع، بدلا من أصوات الأغلبية.  أصبحت النتيجة درع غنى وينمو باستمرار من الأدوات التنظيمية: مجالس محاور الارتكاز spokescouncils، مجموعات الاقربون affinity groups، أدوات التسهيل والتيسير facilitation tools، كسر الطوق breakouts، وعاء السمك fishbowls، الاهتمام المصادر blocking concerns، حلقات مشاهدى النقاش vibe-watchers، وهكذا دواليك: تستهدف هذه الأدوات جميعها خلق أشكال من العملية الديموقراطية التى تسمح بأشكال المبادرة من أسفل، والتى تسمح ببلوغ أقصى درجات التضامن الفعال، دون إهدار الأصوات المخالفة، وبدون خلق أوضاع زعامية، أو إرغام أى منا القيام بفعل أى شيء لا يوافق عليه بإرادته الحرة.
الفكرة الأساسية من عملية خلق الإجماع هى، بدلا من التصويت، فانك تحاول أن تصل بالاقتراحات إلى أن تكون مقبولة من كل فرد، أو على الأقل، لا تلقى اعتراضا شديدا من أى احد: أولا ضع الاقتراح، ثم ابحث عن "من له مصلحة أو اهتمام"، ثم حاول مخاطبتهم.  عند هذه النقطة، سيحاول الناس فى المجموعة اقتراح "ملحقات ودية للاقتراح" لإضافتها على الاقتراح الأصلى، أو من ناحية أخرى، قد يعدلونه، وبهذا تضمن انك قد حصلت منهم على "الاهتمام" وخلقت "المصلحة" الذين خاطبتهم فيها.  أخيرا، عندما تدعو إلى الإجماع، فانك تسأل إذا كان احدهم يرغب فى "اعتراض سير الأمور block" أو أن "يتنحى جانبا".
التنحى جانبا هو فقط أن تقول، "أنا لا ارغب شخصيا فى أن يكون لى دور فى هذا الفعل، ولكننى لن أوقف أى احد آخر من القيام به".  إما اعتراض سير الأمور block فهو طريقة تقول بها "أنا اعتقد إن ذلك ينتهك المبادئ أو الأهداف الأصيلة لكوننا أعضاء فى مجموعة".   وظيفة "البلوك" تشبه الفيتو "حق الاعتراض": فأى شخص فرد يمكنه قتل الاقتراح بالكامل عن طريق البلوك؛ على الرغم من أن هناك وسائل لاختبار مبدأية استخدامه فى الحالات الخاصة. 
هناك أنواع مختلفة من الجماعات.  مجالس "محاور الارتكاز Spokescouncils"، على سبيل المثال، هى جمعيات واسعة تنسق حركة "مجموعات ذوى الميل المشترك affinity groups " الأصغر.  فى الغالب الأعم تنعقد هذه المجالس قبل، وأثناء، العمل المباشر واسع المدى كما حدث فى "سياتل" وفى "كويبك".  فكل مجموعة من مجموعات ذوى الميل المشترك (تتكون من 4 إلى 20 فرد) تختار "محور ارتكاز" لها، تعطى له السلطة ليتحدث عنها فى المجموعة الأكبر.   محور الارتكاز فقط هو الذى يستطيع أن يشارك فى عملية البحث عن الإجماع فعليا فى المجلس، ولكنهم قبل اتخاذ القرارات العامة الكبيرة فإنهم يتفرقون ثانية إلى مجموعاتهم ذوى الميل المشترك وتتفق كل منها (المجموعات) على إجماع على الموقف الذى تريد "محور ارتكازها" أن يتخذه (بشكل غير مسلوق كما قد يظن البعض).  كسر الطوق Break-outs، على الجانب الآخر، تظهر الحاجة لها حينما ينقسم الاجتماع الكبير إلى اجتماعات اصغر ينصب اهتمامها على صنع قرارات أو توليد اقتراحات، يمكن بعدئذ تقديمها لكامل المجموعة من اجل اعتمادها عند انعقادها مرة ثانية.  أدوات التيسير تستخدم لحل المشكلات التى تثار أو لدفع الحركة للامام إذا ما بدا أنها كما لو أنها غرزت فى الرمال الناعمة.  تستطيع أن تدعو إلى جلسة للعصف الذهنى، يسمح للناس فيها فقط باستعراض الأفكار فقط وليس نقد أفكار بعضهم البعض؛ أو أن تدعو إلى اقتراع غير ملزم على سبيل الاستكشاف لمواقف الإطراف المختلفة، أكثر من كونه فى سبيل اتخاذ قرار.  "وعاء السمك الزجاجى" قد يستخدم فقط إذا ما وقع خلاف كبير وعميق فى الرأى: يمثل كل طرف بشخصين – احدهم رجل والآخر امرأة – ويجلس الأشخاص المختارون فى وسط الحلبة، ويحي المجتمعون بهم فى صمت تام، لينظروا إذا كان يمكن للأشخاص المختارين معا أن يصنعوا أرضية ما أو اتفاقا مرضيا، يصلح كاقتراح يعرض على الفريق بأكمله.
السياسة المجازية
العمل، الذى لا يزال فى طور التطوير، وطور خلق ثقافة للديموقراطية بين الناس قليلى الخبرة بمثل هذه الأشياء، هو بالضرورة عملية مؤلمة وغير منتظمة الإيقاع، مليئة بكل أنواع الاحباطات والقواعد الغير حقيقية، ولكن، كما يستطيع تقريبا أى قائد شرطة من الذين يواجهوننا فى الشوارع أن يشهد على أن، الديموقراطية المباشرة من هذا النوع تستطيع أن تكون على درجة مذهلة من الفاعلية.  ومن الصعب أن تعثر على أى فرد شارك بالكامل فى مثل هذه النضالات لم تتأثر حاسته بالإمكانيات البشرية الكامنة تأثرا عميقا.  وبقى أمر أخير لنقوله، "عالم مختلف أمر قابل للتحقق".   فهو شيء مختلف أن تعيشه، حتى لو كان لحظيا.
ربما أفضل طريقة لتبدأ فى التعرف على هذه المنظمات، شبكة العمل المباشر على سبيل المثال، هو أن تراهم على طرف النقيض من الجماعات الماركسية المغلقة؛ أو، فى نفس السياق، الجماعات الأناركية المنغلقة.  حيث ينصب تركيز الأحزاب المركزية الديموقراطية على بلورة تحليل نظرى صحيح وكامل، وتطلب توحد ايديولوجى وتميل إلى استكمال صورة رؤيتهم للمستقبل الذى تتحقق فيه المساواة المطلقة، بأشكال سلطوية متطرفة لمنظماتهم فى الوقت الحاضر.  بينما المنظمات التى نتحدث عنها تبحث عن التعددية بشكل مفتوح.  الجدل يركز دائما حول جولات بعينها من الحركة؛ فمن المسلم به انه لن بحول أى احد أبدا أحدا أخر إلى وجهة نظره بالكامل.  قد يكون الشعار، "لو أنت على استعداد للتصرف كأناركى فى هذه اللحظة، فرؤيتك طويلة المدى هى شأنك الخاص تماما".  وهذا فقط يبدو معقولا: فلا احد منا يعرف إلى أى مدى سوف تأخذنا هذه المبادئ فعلا، ولا أى تركيب مجتمعى مبنى على أساس منها سوف تبدو صورته النهائية.  تتأصل أيديولوجيتهم، من ثم، فى المبادئ المعادية للحاكمية التى تحدد ممارساتهم، فواحد من أوضح مبادئهم هو أن هذا الأمر يجب أن يبقى على ذلك المنوال.
ختاما، أود أن استنفر بعض من الأسئلة التى تثيرها شبكات العمل المباشر حول الاغتراب، وتوابعه الأوسع فى مجال الممارسة السياسية.  على سبيل المثال: لماذا يحدث، حتى عندما ينتج هذا تاليا لغياب جمهور آخر للسياسة الثورية فى مجتمع رأسمالى، أن يكون الفريق الأكثر تعاطفا مع المشروع الثورى بتشكل من الفنانين، والكتاب، والموسيقيين، وأولئك المنخرطين فى بعض أشكال العملية الإنتاجية الغير مغتربة؟  من المؤكد أن هناك صلة ما بين الخبرة الواقعية للأشياء التى نتخيلها فى بادئ الأمر، ثم ولادتها فى الواقع، فرادى أو جماعة، وبين القدرة على وضع تصورات لبدائل اجتماعية، وعلى نحو خاص، إمكانية المجتمع نفسه المبنية على افتراض إشكال من الإبداع الأقل اغترابا؟
وحتى قد بطرح المرء، أن التحالفات الثورية تميل دائما للارتكان إلى نوع من الأحلاف بين عناصر المجتمع الأقل اغترابا والعناصر الأكثر تعرضا للاضطهاد؛ نستطيع القول، أن الثورات الفعلية مالت للحدوث عندما تداخلت هاتين الشريحتان الاجتماعيتان مع بعضهما البعض بشكل واسع.
وقد يساعدنا هذا، على الأقل، فى تفسير لماذا تقريبا يبدو دائما أن الفلاحين والحرفيين, وحتى لدرجة اكبر، العمال الصناعيين الذين كانوا فلاحين وحرفيين لوقت قريب، - هم الذين أطاحوا فعلا بالأنظمة الرأسمالية؛ وليس أولئك الذين تمرسوا كأجيال من العمل المأجور.  ولسوف يساعدنا هذا أيضا فى تفسير الأهمية فوق العادة لكفاح السكان الأصليين فى الحركة الجديدة: يميل هؤلاء البشر بشكل تلقائى إلى أن يكونوا الأقل اغترابا والأكثر عرضة للاضطهاد فوق البسيطة.  الآن حين تجعل تكنولوجيا الاتصالات الجديدة ضم هؤلاء فى التحالفات الثورية الكوكبية أمرا ممكنا، إلى جانب أشكال المقاومة والتمردات المحلية، يصبح من المحتم تقريبا أنهم سوف يلعبون دورا ملهما بقوة.

 

ديفيد جريبر       
نيو لفت ريفيو، فبراير 2002
ترجمة : احمد زكى