الاقتصاد السياسي للتحول الرأسمالي في الصين: مقدمة


مجدي الجزولي
2008 / 7 / 5 - 10:33     

تنحصر الورقة في عرض قضيتين: (1) النمو الاقتصادي الصيني والتحول نحو اقتصاد "السوق الحر"؛ (2) أثر هذا النمو الاقتصادي على الطبقة العاملة الصينية.

القفزة الرأسمالية
يشغل الاقتصاد الصيني اليوم الموقع الثاني في هيكل الاقتصاد العالمي من حيث الحجم (الناتج القومي الإجمالي 10,2 تريليون دولار، 2006)، بعد الولايات المتحدة الأميركية، والموقع الرابع من حيث القدرة الشرائية المقارنة، ذلك بعد الولايات المتحدة واليابان وألمانيا. بحساب معدلات النمو يعتبر الاقتصاد الصيني الأسرع نموا على مستوى العالم خلال ربع القرن الماضي بمتوسط سنوي يبلغ 10%، ومتوسط معدل نمو في دخل الفرد (الدخل القومي الإجمالي/عدد السكان) بلغ 8% خلال الثلاثة عقود الماضية. رغم ذلك ما زال متوسط دخل الفرد الصيني متدنيا بالمقارنة مع البلدان الرأسمالية المتقدمة إذ لم يتجاوز في مطلقه 2000 دولار للفرد (الترتيب 107 من 179 اقتصاد قومي في الإحصاء العالمي للتنمية البشرية)، وباعتبار القدرة الشرائية المقارنة 7800 دولار للفرد (82 من 179 اقتصاد قومي)، ذلك بحسب احصاءات العام 2006.
من حيث تركيب الاقتصاد تشكل الصناعة 48,9%، والزراعة 11,7% والخدمات بما في ذلك الإنشاءات 39,9% من الناتج القومي الإجمالي الصيني (2006)، هذا وتعتبر الصناعة القطاع الأسرع نموا في الصين حيث بلغت نسبة نمو الإنتاج الصناعي عام 2006 نسبة 22,9%. من حيث الصرف تدخر الصين 40,9% من الناتج القومي للاستثمارات الثابتة بينما يستهلك الصرف على جهاز الدولة 13,7%، والاستهلاك الخاص 36,4% (2006). من حيث توزيع الثروة القومية يستهلك أفقر 10% من السكان 1,6% من الناتج القومي، وأغنى 10% من السكان 34,9%. يبلغ حجم القوى العاملة في الصين 795,3 مليون فرد موزعين بين الزراعة (45%) والصناعة (24%) والخدمات (31%)، هذا وتبلغ نسبة البطالة بحسب الإحصاءات الرسمية الصينية 4,3%، وبحسب تقديرات مستقلة 13%.
تمثل الاستثمارات الأجنبية 3,1% من الناتج القومي الإجمالي، بينما تستثمر الصين رأسمال ثابت قدره 699,5 مليار دولار في الداخل مقارنة مع 67,4 مليار دولار خارج الحدود الصينية. في العام 2007 بلغ ميزان التجارة الخارجية الصينية 262,2 مليار دولار (الأعلى على مستوى العالم)، ما يعادل 9% من الناتج القومي الإجمالي، حيث بلغ حجم الصادرات الصينية 1,216 مليار دولار مقارنة مع حجم الواردات 953,9 مليار دولار. دول الصادر الصيني الرئيسة هي الولايات المتحدة (21%)، هونغ كونغ (16%)، اليابان (9,5%)، كوريا الجنوبية (4,6%)، ألمانيا (4,2)، هولندا (3,2%)، المملكة المتحدة (2,5%)، وسنغافوره (2,4%)، أما دول الوارد: اليابان (14,6%)، كوريا الجنوبية (11,6%)، تايوان (10,9%)، الولايات المتحدة (7,5%)، المانيا (4,8%)، ماليزيا (3%)، استراليا (2,4%)، وتايلاند (2,3%). يبلغ الدين الخارجي الصيني 315 مليار دولار (2006)، والمدخر من العملة الصعبة 1,474 تريليون دولار (2007). أما أرباح الاقتصاد الصيني فبلغت في العام 2006 482,2 مليار دولار، ذلك مع عجز في الموازنة قدره 7%.
يعرف الحزب الشيوعي الصيني اقتصاد بلاده منذ العام 1979 بعبارة "الاشتراكية بسمات صينية" أو "بناء الاشتراكية بوسائل رأسمالية"، والمقصود الانتقال الذي دشنه دينغ شاو بينغ من اقتصاد مركزي تتحكم فيه الدولة على النمط السوفييتي إلى اقتصاد "حر" متشابك والاقتصاد الرأسمالي العالمي، ثم أتت مصدقة عليه سياسات الانفتاح ومناطق التجارة الحرة التي أقرها المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1997. في الوقت الحالي لا تسيطر الدولة الصينية بصورة رسمية سوى على 30% من رقعة الاقتصاد بينما يتحكم القطاع الخاص في 70% منه. خلال السبعينات والثمانينات نفذت الدولة الصينية سلسلة من السياسات في اتجاه تفكيك الاقتصاد المركزي وبناء اقتصاد رأسمالي منها: تفكيك المزارع الجماعية وتنظيم الإنتاج الزراعي وفق مبدأ مسؤولية الأسرة الفردية؛ تحرير الأسعار؛ تفكيك مركزية الإدارة المالية؛ زيادة استقلالية وحدات الإنتاج الحكومية وتحويل المسؤولية عنها إلى الإدارات المحلية؛ تطوير الأسواق المالية؛ فتح الباب للاستثمارات الخاصة في مجالي الصناعات الخفيفة والخدمات؛ تنشيط التجارة الخارجية وفتح الباب للاستثمارات الأجنبية، ثم طرح نسبة من أسهم البنوك الحكومية الصينية للاستثمار الأجنبي، ومؤخرا القرار القاضي بالسماح للشركات متعددة الجنسيات استخدام الصين كقاعدة للتصدير.
بازاء ما سبق تعاني الصين معضلات قطاعية تحد من قدرة الاقتصاد الصيني على الانطلاق الرأسمالي التام منها نقص الطاقة حيث تواجه الصين عجزا يحول دون الاستغلال الكامل لقدراتها الصناعية، وعجز قطاعي النقل والاتصالات عن تغطية احتياجات الإنتاج والتوزيع. من حيث الإتزان بين قطاعات الإنتاج تقدمت الصناعة خطوات كبرى من حيث الإنتاجية والقدرة التكنولوجية ودخل الفرد، بينما تخلفت الزراعة. ينجم عن هذا التفاوت التناقض الأساس في الاقتصاد السياسي الصيني بين المدينة من جهة والريف من أخرى، تناقض أصبح سمة للمجتمع الصيني المعاصر اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وبالضرورة سياسيا. بحسب تقديرات رسمية يبلغ متوسط دخل الفرد الحضري 13,786 يوان، مقارنة مع متوسط دخل الفرد في الريف الذي لا يتجاوز 4,140 يوان (2007)، هذا مع معدل نمو في حجم الناتج القومي الإجمالي بلغ في العام 2006 11,1% وفي العام 2007 11,4%. التقديرات المدرسية لمعدلات الفقر في الصين تقول أن عدد الذين يعيشون دون خط الفقر المعتمد دوليا يبلغون 10% من السكان، أي ما يعادل 130 مليون شخص. هؤلاء إما من العمال الموسميين الذين يتنقلون بين الريف والمدينة بصورة دورية، حوالي 150 مليون، أو من الذين فقدوا وظائفهم بسبب إعادة هيكلة الاقتصاد وخصخصة قطاع الدولة.
المؤشرات الاجتماعية في الصين تكامل صورة النمو المدوي أو ما سماه عدد من الاقتصاديين "حمى النمو الاقتصادي": عدد سكان البلاد بحسب تقديرات 2004 يفوق 1,305 مليون مع متوسط أعمار يبلغ 72 عام. يكمل 98% من التلاميذ في سن الدراسة المدرسة الأولية دون فارق يذكر بين الجنسين. 8% من الأطفال الصينين يعانون سوء التغذية، ويبلغ معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة 27 من كل ألف. نسبة الحصول على الماء الصالح للشرب تبلغ 77%.
هنالك قدر من الاتفاق أن شرح النمو الصيني المتسارع خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أي منذ العام 1979، يعود في قدر منه إلى زيادة الإنتاجية بالتكامل مع الاستثمار في رأس المال البشري والنمو في نوعية العمالة، مقارنة مع الفترة من 1952 إلى 1980 حيث غلب على الاقتصاد الصيني منهج التراكم الرأسمالي البسيط. من جهة أخرى ساهمت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في دفع الاقتصاد الصيني إلى الاندماج في هيكل الاقتصاد العالمي، فالصين حتى إبان الأزمة الآسيوية عام 1997 جذبت 45,3 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية، في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. بحسب نظرية "التبعية" تمكن الاستثمارات الأجنبية المباشرة البلدان المتلقية من تحقيق معدلات نمو معتبرة وزيادة في معدلات الاستهلاك على المدى القصير لكنها تهدد مع استقرار رؤوس الأموال الأجنبية داخل هذه البلدان بتدني مستويات النمو، وذلك بالدرجة الأولى نظرا للتفاوت في مستويات التكنولوجيا والمعرفة العلمية، بالإضافة إلى التفاوت بين قطاعات الاقتصاد، عوامل استطاعت الصين بدرجة أو أخرى أن تجابهها بتعزيز آليات الحصول على التكنولوجيا: الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ اتفاقيات الترخيص الدولية؛ التجارة الدولية، وبطبيعة الحال "قرصنة التكنولوجيا". إذ يعتمد نجاح الاستثمارات الأجنبية في دفع عجلة الاقتصاد المتلقي على عاملين أوليين: نقل التكنولوجيا ومهارات الإدارة مما يدفع بالاقتصاد المتلقي من ناحية الفعالية والقدرة التنافسية؛ ووجود مستوى أساس من رأس المال البشري في البلد المتلقي. هذا وقد تتسبب هيمنة الاستثمارات الأجنبية في كساد الاستثمارات المحلية بسبب التفوق التنافسي. كما أن فعالية الاستثمارات الأجنبية تختلف بحسب القطاع، فالاستثمارات في مجال التعدين على سبيل المثال قليلة الأثر الإيجابي على هيكل الاقتصاد المتلقي بحكم أنها قليلة الترابط مع آليات الاقتصاد المحلي وتخلق قطاعا ريعيا ضعيف الأثر على الهيكل الكلي للإنتاج المحلي.
من حيث التركيب الجغرافي يمكن تقسيم رقعة الاقتصاد الصيني إلى ثلاث مناطق: الساحل والوسط والغرب، تختلف من ناحية البنى التحتية والاستعداد الإنتاجي وتركيب القوى العاملة. الملاحظ أن جل الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عقدي الثمانينات والتسعينات تركزت في المناطق الساحلية (91% خلال الثمانينات، و87% خلال التسعينات). تلقى اقليم غوانغدونغ الأقرب إلى هونغ كونغ على سبيل المثال أكثر من ثلث الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الفترة من 1979 إلى 1997، ما يبلغ مجموعه التراكمي أكثر من 63,2 مليار دولار، بينما تلقى الوسط بين 4% في الثمانينات إلى 9% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في التسعينات، أما حصة الغرب الصيني فقد انخفضت من 4,9% إلى 3,3% خلال الفترة ذاتها. تفسير ذلك بدرجة أولى أن سياسة "الباب المفتوح" تركزت منذ تدشينها في 1979 في الساحل فالدولة الصينية أنشأت في هذه المنطقة عددا من الأقاليم الاقتصادية الخاصة (غوانغدونغ، فوجان، هيانان، وأكثر من 14 مدينة ساحلية) اعتمدت فيها السياسات التالية: الاعفاء الضريبي للاستثمارات الأجنبية المباشرة (أكثر من 50% خلال الثلاثة أعوام الأولى) واستقلال أكبر فيما يخص التجارة الخارجية؛ مع هيكلة الإنتاج والخدمات لجذب واستغلال الاستثمارات الأجنبية، السماح للاستثمارات الأجنبية المباشرة خالصة أو في شراكة من أطراف صينية خاصة، الإنتاج بغرض التصدير، وفك القيود عن آليات السوق. في نهايات الثمانينات مددت الدولة الصينية الأقاليم الاقتصادية الخاصة لتشمل دلتا نهر اللؤلؤ ودلتا نهر مينان ودلتا اليانغتسي.
الطريف أن الدولة الصينية كأنما تعمل على إعادة إنتاج التناقض التاريخي بين الساحل الصيني المتقدم والداخل المتخلف، والذي كان علة بنيوية للثورة الصينية في 1948، حيث تتركز البنى التحتية والقدرات الإنتاجية ورؤوس الأموال في الساحل بما لا يقارن مع الداخل الصيني، وتساهم سياسات الباب المفتوح ذات التوجه الساحلي في ترسيخ هذا التناقض في شروط النمو الاقتصادي والاجتماعي وزيادة حدته. بعد حصيلة عقد من سياسة الأقاليم الاقتصادية الخاصة قررت الصين مد هذه المناطق أول التسعينات لتشمل دلتا اليانغتسي الأكثر تطور عبر التاريخ الصيني، حيث أنشأت الدولة الصينية مجمع بودونغ الصناعي ملحقا بمدينة شانغهاي وبذا الاقليم الاقتصادي الخاص في دلتا اليانغتسي الذي اعتبرته محرك الاقتصاد الصيني في المستقبل كونه مثال الترقي التكنولوجي والصناعي والتكامل مع الاقتصاد العالمي والمسعى الملموس لبناء "اقتصاد سوق حر معاصر". في الفترة 1991 – 1995 استثمرت الصين حوالي 5 مليار دولار لتشييد البنى التحتية الملائمة في بودونغ ثم 20 مليار دولار في الفترة 1991 – 2000 لبناء مطار جديد وشبكتي أنفاق واتصالات حديثتين، حتى أصبح الصينيون يعتبرون بودونغ "اقليم اقتصادي خاص" أخص من الاقاليم الأخرى، فهو منطقة "حرة" تتراكم فيها فروع المؤسسات المالية الدولية. أما توزيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة في الأقاليم الاقتصادية الخاصة فكان بحسب احصاءات العام 2000 كالآتي: 36,5% جنوب الصين (الساحل)، 25,2% دلتا اليانغتسي، 23,1 بوهاي/البحر الأصفر، 6,7% شمال شرق الصين.
في خلفية هذه التطورات عملية مستمرة منذ العام 1979 عنوانها نقل الملكية من الدولة إلى القطاع الخاص، من أهم محطاتها انشاء سوق شانغهاي للأوراق المالية في العام 1990 وسوق شنغزين عام 1991. في العام 1990 كان عدد الشركات الخاصة المسجلة في برنامج "خصخصة قطاع الدولة" 10 شركات أصبحت بنهاية العام 2001 1,160 شركة، راكمت فيما بينها خلال هذه الفترة 95 مليار دولار، بدرجة أولى من ملكية الدولة. بحسب السياسة الصينية المعلنة تهدف عمليات خصخصة "الوحدات الإنتاجية المملوكة للدولة" إلى: حشد رأس المال اللازم، تقليص الدعم الحكومي لقطاع الدولة، زيادة الكفاءة الإنتاجية، تحسين البنى الصناعية، وإيضاح علاقات الملكية. من جهة أخرى تعتبر عمليات الخصخصة ذات طابع سياسي غالب، فالدولة الصينية ما تزال اسميا "اشتراكية"، وتخضع عمليات الخصخصة للشد والجذب بين مجموعات الكادر الحزبي في المركز والاقاليم أكثر من اعتماد الاختيار للخصخصة على الاعتبارات الاقتصادية الرأسمالية الخالصة. بحسب سياسة الخصخصة على النمط الصيني تتوزع أسهم الملكية بين الدولة، الأشخاص الاعتباريون (الشركات)، الملكية الأجنبية، الملكية المحلية، الموظفون، والأفراد. الثلاثة أنواع الأخيرة قليلة جدا بحيث أنها غير مؤثرة وتتركز في معظمها في يد كبار الإداريين (0,015% من مجموع الأسهم). بالمقارنة، تبلغ حصة الموظفين في المتوسط 1,75%، غير قابلة للبيع لمدة عام في المتوسط. الحصص الأكبر تتحكم فيها الدولة أو الشركات وصناديق الاستثمار الخاصة، بالإضافة إلى الملاك الأجانب غالبا من ماكاو وتايوان وهونغ كونغ، حيث تبلغ الملكية الأجنبية في المتوسط 28,2% من مجموع الأسهم.
وقود القفزة الرأسمالية
كما هو متوقع ترافق التحول الرأسمالي في الصين مع تحولات عميقة في التركيب الاجتماعي والقطاعي للطبقة العاملة الصينية سمته الأساسية تهديد شرعية سلطة الحزب الشيوعي الصيني بالنسبة للجزء الأكبر من البروليتاريا الحضرية، فهؤلاء الضحية الأولى للسياسات الهادفة إلى زيادة الكفاءة وإعادة هيكلة الاقتصاد. بحسب تقديرات أكاديمية يبلغ عدد الذين فقدوا وظائفهم خلال القفزة الرأسمالية 60 مليون عامل، يضاف إليهم عدد العاطلين الذين ينتظرون وظائف ولا يدرجون في احصاءات البطالة ليبلغ المجموع 100 مليون عامل. تثبت الإحصاءات الرسمية الصينية أن 31% من عمال القطاع المملوك للدولة فقدوا وظائفهم في الفترة 1991 – 1997، هؤلاء في غالبهم عمال غير مهرة في متوسط العمر انضموا إلى القطاع الهامشي المتضخم. بحسب دراسة نقابية تقدر نسبة الذين انحدروا إلى القطاع الهامشي من العمال المسرحين 48,7%، ومن المتبقين الذين تم إعادة تشغيلهم 59% حصلوا على وظائف مؤقتة، دون أي ضمانات اجتماعية. من حيث الدخل تقدر الإحصاءات الرسمية أن 73% من سكان الحضر يحصلون على رواتب أدنى من المتوسط القومي و27% فقط يحصلون على دخل أعلى من هذا المتوسط. في دراسة أجريت في اقليم هوبيي عام 1997 بين 3000 من العمال المسرحين 26% لا عمل لهم منذ ثلاثة أعوام و29% لا عمل لهم منذ أقل من عام. أما تقديرات الفقر فتشير إلى أن 10,3% من سكان المدن الدائمين، و15,2% من المهاجرين غير الشرعيين يعيشون تحت خط الفقر. بينما تراوحت نسب النمو في التشغيل في قطاع الإنتاج البضاعي في الفترة 1992 – 2003 بين حد أدنى قدره سالب 13,5% في 1998، وأعلى قدره 3,9% في 1992، أما في الإنتاج الصناعي فتراوح بين 5,3% في 1992 وسالب 3,1% في العام 2003.
بجانب البروليتاريا الحضرية يقع الثقل الأكبر لإعادة هيكلة الاقتصاد على العمالة الريفية، حيث ازدادت نسبة الفقر الحاد بين سكان الأرياف (أقل من 50 سنت في اليوم) من 1,8% في 1996 إلى 2,9% في 2002، أما نسبة سكان الأرياف الذين لا يتجاوز دخلهم في اليوم دولار واحد فقد بلغت في الفترة 1998 – 2002 11%، وبذا أصبحت نسبة سكان الارياف الذين يتراوح دخلهم بين 50 سنت ودولار واحد في اليوم 9,4% في 1999 و8,1% في 2002. بحسب التقديرات الرسمية فإن عدد سكان الأرياف الذين يعيشون تحت خط الفقر 102 مليون شخص (2002). ترافق تفكيك قطاع الدولة مع تقليص نسبة تغطية النظام الصحي من 100% إلى 60% في الوقت الحاضر، وانحدار رتبة الصين من حيث الرعاية الصحية إلى المرتبة 144 من بين 191 دولة، أدنى من بعض الدولة الافريقية الأكثر فقرا. بل يتفادى 60% من سكان الأرياف ارتياد المستشفيات بسبب ارتفاع الكلفة. من الجهة الأخرى أبلغ مثال للكلفة البيئية والبشرية للقفزة الرأسمالية الصينية هو حقيقة أن 70% من مياه الأنهار الصينية التي تمر عبر مناطق حضرية غير صالحة للاستخدام البشري، وتبلغ الخسارة الناجمة عن التدهور والتلوث البيئيين 8 – 12% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد.
تشير تقديرات أكاديمية إلى أن الفرق في الدخل والاستهلاك بين الريف والحضر يتراوح بين 4 – 6 أضعاف، وذلك بادماج الميزات الحضرية من خدمات اجتماعية وتعليم وصحة مدعومة، بذا تعيش الصين أشد تفاوت قطاعي بين الريف والحضر في العالم. تدفع هذه التفاوتات إلى حركة الهجرة الموسمية بين الأرياف والمدن، حيث يقدر حجم العمالة الريفية التي غادرت المجتمعات الريفية للعمل الموسمي في المناطق الصناعية المزدهرة شرقي وجنوبي الصين بما يفوق 130 مليون شخص. تشكل تحويلات هؤلاء العمال المهاجرين أكثر من 50% من دخل الأسر الريفية في الأقاليم الصينية.
مباشرة بعد الثورة في 1949م أصدر قادة الحزب قراراً بإغلاق المدن في وجه المهاجرين من الأرياف بدافع الحفاظ على الأمن وتقييد حركة السكان، وبالدرجة الأولى الحيلولة دون انفجار المدن سكانياً بالنظر إلى ما يصحب ذلك من صعوبات في الإدارة وتوفير الخدمات. في منتصف الخمسينات من القرن الماضي ازداد هذا التقييد صرامة بهدف المحافظة على تقسيم العمل بين المدن والأرياف بحيث يبقى الفلاحون في مزارعهم لضمان الإنتاج الغذائي، ويمكن هندسة سكان المدن في اتجاه التحول الصناعي بتركيز الاستثمارات الحكومية. لذا تضمنت سياسات التصنيع القسري التي أعلنها ماو زيدونغ تحت شعار (القفزة العظيمة إلى الأمام) أوامر بإعادة الفلاحين الذي تسللوا بطريقة أو أخرى داخل المناطق الحضرية إلى قراهم طبقت بحرفية تامة. لاحقاً أخذ هذا النظام طابع "الآبارثايد" وذلك بتدشين جهاز إداري للتسجيل السكني (نظام هوكو) في أول الستينات. تبعاً لهذا النظام فرضت السلطات على سكان الأرياف البقاء في الأقاليم التي ولدوا فيها، بحيث يواجهون بالحرمان من حقوق السكن والتعليم والعمل والمعاش، وكذلك الحصص التموينية، وبالطبع حق التصويت والترشيح، إذا خاطروا بالهجرة إلى المدن. بالطبع ما كان لهذه القبضة الحديدية إلا أن ترتخي في إطار سياسات الرسملة التي إتبعها دينغ شاوبنغ، إذ انهارت (الكومونات) الفلاحية التي كانت عماد نظام (الهوكو)، لكن تبقت الإجراءات الإدارية التي تحاصر حراك السكان فاعلة. لذا فإن كل عامل موسمي يدفع رسماً نظير الحصول على إذن مؤقت للسكن في المدينة يخضع للتجديد الدوري، وليس لأسرته الحق في تعليم مجاني، ولا تحق لها المشاركة السياسية، فهو عملياً مواطن من الدرجة الثانية.
إن الوضع القانوني لهذه الفئة من العمالة يجعلها عرضة لأقسى أشكال الاستغلال الرأسمالي، فهؤلاء العمال إما غير قانونيين أو يتكسبون في لحظة غفلة قانونية متعمدة. بجانب الحرمان من حقوق السكن والمعاش والرعاية الصحية غالباً ما يتم توظيفهم دون عقود ملزمة. وتتراوح أجورهم على أفضل حال ما بين 60 و125 دولار في الشهر لساعات عمل تبلغ 12 ساعة في اليوم وعلى مدار 6 أو 7 أيام في الاسبوع. وفي حالات أخرى لا تزيد أجورهم على دولار لليوم الواحد يدفعون جلها لتغطية تكاليف السكن والإعاشة وأذونات السكن والعمل. كما يرزحون تحت ظروف سكن تماثل الاعتقال أو تكاد، عادة ما يتشاطرون سقف مجمع مغلق موزعين عشرين أو يزيد على عنابر بمساحة 20 متر مربع. لا يسمح لهم بمغادرة مجمعات السكن هذه إلا بإذن مكتوب. بحكم أن هؤلاء العمال لا يمكنهم قانوناً الانتظام في نقابة تمثلهم فلا سبيل لديهم للاحتجاج إلا اللجوء إلى محاكم تثقل كاهلهم بالرسوم، أو العنف. إذا تجاهل المرء هذه الأوضاع فإن مظلمتهم البارزة هي عزوف مخدميهم عن دفع أجورهم لشهور تمتد إلى عام كامل. في العادة يتلقى العمال من هذه الفئة جزءاً فقط من أجرهم السنوي مرة في العام، وذلك في موسم (مهرجان الربيع) عندما يعودون إلى قراهم للاحتفال بالأعياد. تقدر مسوحات رسمية أن 70% من العمال المهاجرين في الصين، أغلبهم في قطاع البناء، لديهم مستحقات أجور متأخرة على مخدميهم تبلغ في مجموعها الكلي 15 مليار دولار. علاقة عمل كهذه لا تعريف لها سوى (العبودية)، فهؤلاء العمال يكدحون ويكدون نظير سقف يأويهم ووجبات تسد رمقهم لا غير. بهذا المعنى فإن اقتصاد الازدهار الصيني يقوم في جانب عظيم منه على أكتاف 10 ملايين من (الرقيق) بحسب تقدير متواضع.
بذا نشأت طبقة مسحوقة جديدة في الصين تتكون من ثلاث فئات رئيسة: العمال العاطلين عن العمل والذين تم الاستغناء عنهم؛ والعمال المهاجرين من الأرياف إلى المدينة؛ وفقراء المدن. ثلاثتها كانت إما غير موجودة على الإطلاق أو تضاعف حجمها بمعدلات مهولة منذ الانقلاب الرأسمالي في 1978م. هذه الفئات ليست كماً ساكناً وإنما هي كتلة سياسية يخشى الحزب الحاكم في الصين أن تخرج عن الطوق. مثال ذلك ما سجلته الإحصاءات الصينية الرسمية عام 2003م من حوادث احتجاج وتظاهر علني بلغت 58 ألف وشارك فيها ما يزيد على ثلاثة ملايين من العاطلين والمفصولين والفلاحين. تتسق هذه الإحصاءات تمام الاتساق مع السياسة الرسمية التي ابتدرها دينغ شاوبنغ عام 1992م في جولته جنوبي الصين ثم أثبتها المؤتمر الخامس عشر (1997م) بإعلانه الجهير أن 35 مليون من العمال لا ضرورة لهم في الحقيقة، ويجب التخلص منهم في الحال غرض تعميق الإصلاحات الاقتصادية.
مارس 2008