الماركسية والايكولوجيا ماركس-فيورباخ 2


ثامر الصفار
2008 / 6 / 7 - 11:15     

أدى اهتمام ماركس بالمذهب الطبيعي لفيورباخ الى تعميق اهتمامه المتزايد بالاقتصاد السياسي، بعد ان ادرك، في اعقاب كتابته حول سرقة عيدان الخشب، بان الاقتصاد السياسي يحمل مفاتيح فك اسرار موضوعة الاستحواذ الانساني – المادي على الطبيعة.

لم يكن انجذاب ماركس الى مادية فيورباخ بسبب رفضها للفلسفة التأملية الهيغيلية فقط، بل ايضا، بسبب طابعها الحسي، وتشديدها على المذهب الطبيعي. فعبر معارضته لهيغل، وفر فيورباخ مقدمة، وان كانت في خطوط عامة، لنظرة مادية تتغلب على الفجوة بين النقد الفلسفي والعلوم الطبيعية. فيكتب (( يجب ان ترتبط جميع العلوم بالطبيعة. فالنظرية ستظل مجرد فرضية اذا لم تجد اساسها وقاعدتها الطبيعية. وهذا ينطبق تماما على موضوعة الحرية )) . وحسب رأيه فان هذا الاساس الطبيعي يمكن ايجاده في المادة نفسها (( المادة هي موضوع اساسي للتفكير، لو لم تكن هناك مادة، لم يكن للعقل اي محفز، او موضوع للتفكير، وبالتالي، لم يكن للعقل اي معنى. لايمكن للمرء ان يتخلى عن المادة دون التخلي عن العقل، ولا يمكن الاقرار بالمادة دون الاقرار بالعقل، ان الماديين عقلانيون )) [17] وبرأيه ان العالم الحقيقي، المتناهي، لا يحل نفسه في الروح الكونية، بل الاصح، ان المتناهي يغدو لا متناهيا، ابديا.

استجاب ماركس بحماسة كبيرة لهذا البناء الجديد للمادية الانسانية الذي يمد جذوره الى نظرية المعرفة الحسية، خصوصا وهو المتأثر بمادية ابيقور التي امتازت بتشديدها علىحقيقة الاحاسيس.[18] فقد ادرك ماركس ان مادية فيورباخ، وهي تشدد على الجانب الحسي، لايمكن ان تكون مادية ميكانيكية. بل هي مادية وصفها ماركس فيما بعد، في العائلة المقدسة، بانها فرعا ينمو من خلال التجربة الحسية ترجع باصلها الى ابيقور. كما ان فيورباخ وماديته الانثروبولوجية، من حيث الجوهر، اي انها تشدد على حسية الانسان، لم تلغ باقي الطبيعة. فنقرأ لفيورباخ في " مبادئ فلسفة المستقبل" (( ان الفلسفة الجديدة تجعل من الانسان، سوية مع الطبيعة باعتبارها اساسا للانسان، الموضوع الارقى والاشمل والاعم للفلسفة. انها تجعل من الانثروبولوجيا والفسيولوجيا العلم الشامل)) [19].

في عام 1843 كتب ماركس الى صديقه ارنولد روج من الهيغيليين الشباب بان (( احكام فيورباخ ( وهي اشارة الى اطروحات حول اصلاح الفلسفة) تبدو خاطئة في جانب واحد فقط، وهو اشارته الى الطبيعة بصورة اكبر من اشارته الى السياسة..... ولكن يبدو الحال كما في القرن السادس عشر، عندما انضم الكثيرون من المتحمسين للدولة الى المتحمسين للطبيعة)) [20]. وبعد استقالته من الجريدة الرينانية سارع ماركس الى كتابة مؤلفه " نقد فلسفة الحق عند هيغل" حيث سعى فيه الى تطبيق المنهج التحويلي الفيورباخي على ميدان السياسة.

إغتراب الطبيعة والانسانية

لم يتمكن ماركس من اتمام نقده للفلسفة الهيغيلية حول الدولة، وظلت مجرد بدايات لمشاريع وضعت لبناتها الاولى في مؤلفاته المبكرة " نقد فلسفة الدولة عند هيغل" و "نقد فلسفة الحق عند هيغل" وايضا تحليلاته في " الايديولوجيا الالمانية" [21]. ففي خريف عام 1843، وكان قد تزوج حديثا من جيني فون ويستفالين، اضطر الى الرحيل الى باريس بهدف اصدار مطبوع جديد " الحوليات الالمانية- الفرنسية" يتم طبعه في فرنسا للخلاص من الرقيب البروسي ثم يرسل الى المانيا ليتم توزيعه هناك. لكن عمر المطبوع كان قصيرا جدا فلم يصدر منه الى عدد مزدوج عام 1844 حيث تم مصادرته لحظة دخوله الى المانيا وصدرت احكاما بالقاء القبض على ماركس وغيره من المحررين. كما ان المطبوع لم يلفت انتباه الفرنسيين له.

وفي باريس، حيث المناخ السياسي الملتهب، انغمر ماركس بدراسة جدية للاقتصاد السياسي الانجليزي وللاشتراكية الفرنسية، وتمكن من كتابة " المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844". وقد اشتهر هذا المؤلف كونه قد طور مفهوم اغتراب العمل. لكن اغتراب العامل عن (1) موضوع العمل، (2) عملية العمل، (3) نوعه ككائن – انسان، اي النشاط الابداعي التحويلي الذي يميز جنس الانسان عن غيره من الاجناس، (4) واخيرا عن العمال الاخرين، كان اغترابا لا ينفصل عن اغتراب البشر عن الطبيعة، سواء كانت طبيعتهم الداخلية او الخارجية.

(( ان شمولية الانسان تظهر نفسها في الممارسة، بشمولية تجعل من كل الطبيعة جسده اللاعضوي. (1) كوسائل مباشرة للحياة، و (2) كمادة، موضوع واداة نشاطه. ان الطبيعة هي الجسد اللاعضوي للانسان، بمعنى، الطبيعة باعتبارها ليست جسد الانسان. ان الانسان يعيش من الطبيعة، اي، ان الطبيعة هي جسده، وعليه ان يحافظ على حوار متواصل معها اذا لم يكن يريد الموت. ان القول بان الحياة العضلية والذهنية للانسان مرتبطة بالطبيعة يعني ببساطة ان الطبيعة ترتبط بنفسها، لان الانسان هو جزء من الطبيعة)) [22].


لقد تعامل ماركس مع الطبيعة، منذ كتابته للمخطوطات عام 1844 والى يوم وفاته، طالما انها تدخل بشكل مباشر في تاربخ الانسان عبر الانتاج، باعتبارها امتدادا لجسم الانسان، اي، الجسد اللاعضوي للانسانية. ووفق هذا التصور، فان علاقة الانسان مع الطبيعة لم يتوسطها الانتاج فقط، بل ايضا ادوات الانتاج - التي هي نفسها نتاجا لتحويل الانسان للطبيعة من خلال الانتاج - التي مكنت الانسانية من تحويل الطبيعة بصورة شاملة. انها علاقة عضوية، وفقا لماركس، جرى تجاوزها جسديا، لكنها امتداد من الناحية العملية للاعضاء الحقيقية للانسان، ومن هنا سماها ماركس بالجسد اللاعضوي للانسان.

ان البشر، وفقا لهذا المفهوم، ينتجون علاقاتهم التاريخية مع الطبيعة، من خلال انتاجهم لوسائل بقائهم. وبالتالي فان الطبيعة ترتدي معنى عملي للانسانية كنتيجة لنشاط الحياة، انتاج وسائل العيش. (( ان الانسان يعيد انتاج كامل الطبيعة)) . لكن النشاط العملي الذي يتمكن البشر بواسطته تحقيق ذلك هو ليس مجرد انتاج بالمعنى الاقتصادي الضيق (( فالانسان ينتج بالانسجام مع قوانين الجمال ايضا)) .

ينتج من هذا ان الاغتراب هو في ذات الوقت اغترابا للانسانية عن نشاطها العملي، وعن دورها الفعال في تحويل الطبيعة. فوفقا لماركس ان مثل هذا الاغتراب (( يبعد الانسان عن جسده، عن الطبيعة كما هي شاخصة خارجه، عن جوهره الروحي، عن جوهره الانساني)). كما انه اغتراب اجتماعي ايضا: (( كل اغتراب ذاتي للانسان عن نفسه وعن الطبيعة يجسد نفسه في العلاقة التي يصوغها بين الناس وبين نفسه وبين الطبيعة)) [23].

وحسب ماركس فان هيغل هو اول من طور تصور عن اغتراب العمل الانساني، لكنه قام بذلك بطريقة مثالية، لان (( العمل الوحيد الذي يعرفه هيغل ويقر به، هو العمل الذهني المجرد)) [24]. وبالتالي لم يتمكن هيغل من فهم الاغتراب الذاتي للنشاط العملي للانسان باعتباره اساسا لاغتراب الناس لا عن انفسهم فقط، بل ايضا، عن وجودهم الحقيقي، الحسي: علاقتهم مع الطبيعة. [25].

لم يكن التصور الماركسي عن إغتراب الطبيعة، الذي كان يراه يبزغ من الحياة العملية للانسان، اكثر تجريدا، من حيث المحتوى، من تصوره عن إغتراب العمل. فكلاهما مرتبط بفهمه لقوة واندفاعة الاقتصاد السياسي للمجتمع الرأسمالي. لقد كان إغتراب العمل انعكاسا لحقيقة ان العمل (القدرة) قد انحط وضعه ليصبح مجرد سلعة، محكومة بقوانين العرض والطلب. لكن بلترة العمل هذه كانت تعتمد، كما يؤكد ممثلو الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، سمث، مالثوس، ريكاردو، و جيمس ميل، على تحول علاقة الانسان بالارض. فيكتب ماركس (( من خلال العمل فقط، من خلال الزراعة، تغدو الارض موجودة بالنسبة للانسان)). لكن علاقة الانسان بالارض قد تحولت، بصورة سريعة، عبر ما يسميه آدم سمث بـ " التراكم البدائي" الذي يضم انحسار مساحة الاراضي المشاع، ظهور الاقطاعات الكبيرة، وازاحة الريف.

وتتخذ موضوعة هيمنة الارض، عند ماركس، شكلا ديالكتيكيا مركبا، فهي تعني هيمنة الارض من خلال اولئك الذين يحتكرونها ويالتالي فهم يحتكرون قوى الطبيعة، وتعني ايضا هيمنة الارض وملاكها على الاغلبية الساحقة للبشر. وعليه فان اغتراب الارض، وبالتالي هيمنتها على القسم الاعظم من الانسانية، بفعل اغترابها لصالح قلة منهم، كان عنصرا اساسيا وجوهريا للملكية الخاصة، وكان موجودا في مرحلة الملكية الاقطاعية التي مثلت (( جذر الملكية الخاصة )) قبل ظهور الراسمالية. فيقول ماركس (( لقد وجدنا في مرحلة الملكية الاقطاعية هيمنة الارض بانها قوة غريبة فوق الانسان)) . فالارض (( تبدو كجسد لاعضوي لمالكها )) الذي هو سيدها والذي يستخدمها للهيمنة على الفلاحين. لكن المجتمع البرجوازي هو الذي اوصل هيمنة الارض هذه، ومن ثم الهيمنة على الانسانية، الى حالة التمام والكمال. فيكتب ماركس (( ان ملكية مساحات شاسعة من الارض في انكلترا، قد دفع الغالبية العظمى من السكان الى احضان الصناعة التي جعلتهم يعيشون في بؤس متقع)) [26]
لقد كان دور الحيازات الكبيرة في احتكار الارض، ومن ثم اغتراب الارض، مشابها، حسب ماركس، لهيمنة رأس المال على النقود، التي تعتبر (( مادة ميتة)). اذ ان التعبير القائل بان (( التقود لا تعرف سيدا لها )) كان ببساطة (( تعبيرا عن الهيمنة الكاملة للمادة الميتة على الانسان )). وكان افضل تعبير عن حقيقة (( ان الارض كما الانسان )) قد انحطت الى (( مستوى موضوع خسيس ))[27] فيكتب في عام 1843 (( ان النظرة التي يكونها الانسان عن الطبيعة، تحت سيطرة الملكية الخاصة والمال، انما هي الازدراء الحقيقي والانحطاط الفعلي للطبيعة..... بهذا المعنى يعلن توماس مونتسر بانه لا يطاق ان ( تتحول كل المخلوقات الى ملكية، السمك في الماء، والطيور في الهواء، والنبات على الارض – كل المخلوقات الحية يجب ان تكون حرة ايضا )))[28]

لقد عبر ماركس عن حالة الاغتراب عن الطبيعة من خلال صنمية النقود التي اصبحت (( جوهرا مغربا )) : (( المال هو القيمة العامة التي تكون في حد ذاتها جميع الاشياء. لهذا السبب جرد العالم باسره، عالم البشر وعالم الطبيعة، من قيمه الخاصة )) [29]

وللموضوع بقية.....
[17] مقتبس عن مارك ورتوفسكي، فيورباخ، نيويورك، جامعة كمبردج،1977، ص 172، 198.
[18] انظر مقالتنا عن ماركس – دارون – ابيقور الحلقة الرابعة، طريق الشعب، العدد 154، 3 نيسان 2008، ص 6. او موقع الحوار المتمدن، العدد 2235.
[19] مقتبس عن مارك ورتوفسكي، مصدر سابق، ص 243-245.
[20] رسالة ماركس الى ارنولد روج، 13 آذار 1843. يمكن الاطلاع عليه عبر الرابط التالي:
www.marxists.org/archive/marx/works/1843/letters/43_03_13.htm
[21] انظر فالح عبد الجبار، ماركس والدولة، النظرية الناقصة؟، مابعد الماركسية، اصدارات المدى، 1998، ص 193.
[22] كارل ماركس ، كتابات مبكرة، فنتج بوكس، نيويورك، 1975، ص 328. او المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844، انترناشونال بوبليشر، نيويورك، 1964، ص 112.
[23] كتابات مبكرة ، مصدر السابق، ص 329،331،
[24] المصدر السابق، ص 386. وايضا منطق ماركس، ترجمة ثامر الصفار، مصدر سابق ،ص 186.
[25] المصدر السابق، ص 386.
[26] المصدر السابق، ص 343، 318-321.
[27] المصدر السابق، ص 319.
[28] ماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة حمزة برقاوي، دار الاهالي، دمشق 1989، ص 56-57. مع الانتباه الى اختلاف الصياغة اللغوية.
[29] المصدر السابق، ص 56.