سؤال الهوية بين المثاقفة والعولمة


محمد باسل سليمان
2008 / 6 / 2 - 11:12     

تطرح الاندفاعات الهائلة التي أخذت تبدو عليها العولمة في العقود الثلاثة الأخيرة، التباسات مفاهيم في ثقافة الناس لا معطى لها إلا الخوف من اليوم التالي وما يليه، وحالة من الإرباك والتشوش متأتية من كوامن التناقضات في حالة العولمة نفسها بين الوعد الإنساني الذي تحمله وبين شكل تمظهرها الذي تبدو عليه، على الأقل في الوضع الراهن. وإلا كيف يمكن تفسير التساؤلات التي تزداد يوماً إثر يوم وتتزاحم حول أولويتها التراتبية في مثولية جوانب الحياة المختلفة؛ وما يترتب على ذلك من تعقيدات في بنية مكونات الحضارة البشرية وفي درجة الإرتباط الشكلي لهذه المكونات وديناميات تفاعلها وما ينتج عنه من قابليات الإلحاح على الاتصال أو الإفتراق نحو هدف "العالم الواحد"؛ وما تتمتع به هذه القابليات من مضامين لمفاهيم جديدة، وما يكتنفها من دلالات مختلفة وأحياناً غير معقولة أيضاً.
وفي حالة كهذه من التعقيد ومن القدرة على تجاوز استحقاقاته عبر قوة التقدم الإندفاعي الهائلة لتجسيدات العولمة، تصبح ثقة المجتمعات بأهليات قابليتها للتساوق مع طغيان الحدث العولمي غير مقنعة، وفي أحسن أحوالها هشة. ولا يستغرب أن يحل بديلاً للثقة المزعومة كوابيس التشكيك في صدقية وحقيقة الأشكال والمظاهر والتمتعات التي يبشرون بها، سمة للعولمة. ومن جانب آخر لا يجوز الإندهاش من بروز كثرة الأسئلة والمساءلات حول جوانب مختلفة من كل ما يتصل بواقع العولمة ونظريات أيديولوجيتها وحقيقة أهدافها. ويكون منطقياً اعتبار سؤال الهويات (الوطنية، السياسية، الإقتصادية، الإجتماعية، الثقافية، ...الخ) أحد أهم ما يبرز منها، وذلك لأن العولمة وثقافتها ومثقافة عصرها لم تقدم أي جواب عن الهويات الكيانية سوى ما تشتمل عليه الأطروحات الفوكويامية (نسبة إلى فرانسيس فوكوياما منظر العولمة ووالدها الروحي. ويمكن أن تسمى أيضاً الأطروحات العولمية) وتجلياتها في مدلولات "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وتعريفه للكيانات والوطنيات والقوميات والأعراق والإثنيات وإمكانية إنطباقها على "إنسان الوعد التاريخي" أو "مواطن المجتمع الليبرالي" في "العالم الواحد" الذي نذهب إليه بأرجلنا وبإرادتنا الإنصياعية للحتمية التاريخية؛ باعتبارها قدراً لا رادّ له(!!).
مفهوم الهويات
برز مفهوم الهوية تاريخياً كعامل موحد للجماعة يتسم بالغموض ومتشعب وشديد التعقيد. ويتأهل كأبرز محرك للتحرر، باعتباره العنصر الرئيس لتمايز الجماعة، وبعدها أو قربها عن الآخر، بغض النظر عن إمكانية القوة التي هي الجماعة التي تتحدد في ضوئها واقعية أو افتراضية قرب أو بعد الجماعات عن بعضها.
واختلفت على المدى التاريخي تعريفات مفهوم الهوية وفقاً لاختلاف الإقتناعات من حقيقة كون الهوية عاملاً معيقاً أم ميسراً لديناميات التحول في تاريخ الأقوام والشعوب، باعتبار الهوية الناظم الأساسي لإعادة بناء العلاقات بينها، وأهمية الحقيقة التاريخية من عدمها على هذا الصعيد، برغم ضرورة البعد الرمزي والأسطوري لكل هوية تاريخية في معظم الأحيان.
ويكاد مفهوم الهوية يحمل في أغلب استعمالاته في مختلف العصور دلالة السكون والوحدة برغم تمتعه بقابلية تمكنه من أن ينجز توصيفات مغلقة ومطلقة ليمارس من خلالها تفكيراً يتجه لرسم الحدود والتخندقات، والتسميات المنجزة. ولهذا يصعب إدراك دلالات المفاهيم الرائجة في تداولات التعريف العام المنبعث من الرغبة في إشاعة دوافع الإفتخار أو الإعتزاز الهوياتي. ويصعب هذا الأمر، إضافة إلى عدم صدقيته الدلالاتية، العثور على عناصر محددة أو الإتفاق عليها للمساعدة في بلوغ آلية لحوار منتج بين الأطراف بما فيها تلك التي تنتجها. وبالاعتماد على مثل هذا الفهم نستطيع معرفة الأسباب التي تقف غالباً وراء الصدام المتسبب الذي يكون في معظم الأحيان مطابقاً للكثير من صور السجال السياسي الدائر في العالم.
وظلت قضايا التمييز والهويات مثار اهتمام وجدال واجتهاد وتبصر حقق استقطابية عند الشعوب والأمم، تمظهرت بين الانتماء الإقتخاري والانتساب التقديسي.
وتشير المعطيات التاريخية إلى مكانة أهمية حفلت بها الهوية في الفلسفة والعلوم الإجتماعية في التاريخ القديم. فقد كتب هير قليطس Heracklites في القرن السادس قبل الميلاد عن "نفي مفهوم سكون الأشياء، ودحض الإيمان بالجواهر الخالدة". وبعد ذلك بقرن تقريباً نتج عن تبلور الخلاف في الفلسفة اليوانية عن التمييز والهوية، "اتجاه الأساسيين" ويقوم تصوره للهوية وتعريفه لها بالاعتماد على ما يسميه بارمنيدس Parmenidhes "القدرة على البقاء فوق حواجز الأمان وترّهات المكان"، وذلك لأن "الكينونة خالدة وما سواها ليس كذلك". وجوهر سرمدي حاضر باستمرار أو كائن خالص. وأن الهوية للكائنات الإختبارية هي ما تبقى كما هو رغم المتغيرات.
واتخذت الشعوب والأمم صيغاً وتشكيلات (ثقافية) تعبيرية عن مميزاتها عن بعضها البعض والتأشير بها على هويتها. وقد ترّقت أو تدنت هذه التأشيرات الثقافية الهوياتية على مر عصور التاريخ، وفق المستويات التي بلغتها العلاقات الإنتاجية للشعوب والأمم، ومدى اتساع أو تضييق أفق مفهومها الإتصالي مع تاريخا، ومع المنجزات الحضارية للشعوب والأمم الأخرى.
وفي هذا السياق يمكننا فهم الدور الهام الذي لعبته "السيامات" و "الأشكال التمييزية" و "الأوشام" كإشارات هوية، ثم "الشعائر" كتعبيرات عن التمايز الثقافي للجماعات منذ بدايات التاريخ حين استخدم الإنسان أسلوب (التحويط) على مساحات الأرض لإعلانها حيازة مملوكة، وبكيفية إقامة أو تركيب (الحائط) وربما نوع مواد بناءه أيضاً للتعريف بهوية المالك والجماعة التي ينتسب إليها. وعندما تطور الإنسان في المرحلة اللاحقة أخذت الشعائر مضامين ودلالات هوية مختلفة، حين اشتهرت الآلهة المكانية المشرقية وازدهرت أنواع عبادات تلك الآلهة كتجليات نسب، فأخذت تختلف القبائل وتتمايز المدن والممالك عن بعضها البعض بالاستناد إلى الإله أو إلى أحد سلالاته. وإلى هذه الطريقة في تعريف الهويات اكتسبت حضارات وثقافات الشرق (بما فيها الشرق أوسطية) هوياتها التي نعرفها بها اليوم. كما اعتبر بعض المؤرخين ظهور الديانات المكانية وترسخها التدريجي، بداية التأسيس لتعريف الهويات وتعيين منظومة الإنتسابات.
وبعد أن عرفت الديانة السماوية عند ظهور الديانة الموسوية وعقيدة التوحيد، احتفظت "الشعائر" بوظيفتها التعبيرية كمدلول هوية، وكأسلوب تمييز للموسويين (اليهود لاحقاً) عن المصريين القدماء وغيرهم من الأقوام الأخرى، بما في ذلك الكنعانيين والفلسطينيين الذين تجاوروا وتحاربوا معهم بعد أن وصلوا إلى بلاد كنعان واستقروا بها.
وكما كانت "عبارة رب موسى الأوحد" تعبير هويتهم اليهودية التي يجب أن لا يتشارك معهم فيها أحد حفاظاً على بيوريتانيتها (نقاء دمها) كسمة رئيس "لشعب الله المختار"، فقد كان النسب إلى "الأم" هو الضمانة الوحيدة لسمة (النقاء) الذي رآه أتباع الهوية أنه قد أكسبها الصفة الإصطفائية، وتحققت تدريجياً إنسانية اليهودية (بمفهوم الولادة).
والديانة الموسوية، برغم توحيديتها، ولأسباب تتصل بمفاهيم الصفووية في المعتقدات اليهودية، لم تبعث أي روح تغيير في أساسيات الديانات المكانية، أو تضيف أي إسهامات جديدة لتطوير مفهوم الهوية. وتعذر انتساب أي أحد إليها بغير طريقة التكاثر النتائج عن التوالد الطبيعي؛ فتأسست مواصفات هوية لهذه الديانة حالت دون أن ينتسب إليها أخيراً أي أحد من شعوب التجاور، لموانع ديسبلينية صارمة في نصوص التعاليم الموسوية نفسها، جوهرها إستعلائي غيتوي. وتكرست هذه المفاهيم كمواصفات هوية لأتباع هذه الديانة، تقليدية انغلاقية وتحمل تجليات افتخارية وتمايزية استعلائية (شعب الله المختار...الخ). فكسرت الفوارق بين الدين والوطنية أو القومية، ولكن لحساب مفهوم الهوية الديني. فظهرت منذ أغوار القدم "يهودية الدولة" التي تطل برأسها اليوم في عصر العولمة وفي استحقاقات الثقافة العولمية. حيث يرى دعاة هذا الطرح أنه لا يتعارض مع المفاهيم المتعارف عليها للمثاقفة، باعتبارها أحذ أوجه التبادل الثقافي ذي النزعة التكاملية التي تناسب التعبير عن خاصية "الأخذ والعطاء" بين الثقافات البشرية "المتعددة".والتعدد لا يمكن أن يعني بأي حال من الأحوال التطابقية، وحتى عندما لا يعني "الخصوصية". أي بمعنى أن وجود فرص للقبول بمفهوم إجازة الإباحة، لا يمكن أن تشمل إدماج الهويات كلها في واحدة، هي "يهودية الدولة" كتعبير عن الهوية الكيانية والهوية الثقافية والهوية القومية والوطنية، والهوية الدينية...الخ؛ لأن ذلك يعني إلغائية أشكال المثاقفة جميعها ما دامت غير يهودية، وهي ليست كذلك، ولن تكون أبداً؛ وخصوصاً في عصر العولمة حيث التبشير بـ "نهاية التاريخ، و "الإنسان الأخير"، و "قيام المجتمع الليبرالي"؛ إلا إذا كان منظّروا "يهودية الدولة" يحلمون بأن الموسوية ستكون ديانة "المجتمع الليبرالي" الموعود.
وبعد أن ظهرت المسيحية في "بني إسرائيل" كديانة توحيدية، إضطلعت بما يمكن تسميته "حركة إصلاحية للديانة اليهودية"، رفضتها التجمعات اليهودية وحاربتها وأتباعها أيضاً، فنقلها الرسول بولس "كنصرانية بولسية" لجميع الأمم وليس كنصرانية مسيحية "لبني إسرائيل" وقد شكل انتشارها تراجعاً في الشعائر الشرقية عندما تداخلت مع الوثنية الأوروبية، وهي تؤسس لعالمية الدين وفكرة التقدم( ). فقد ارتبطت إنسانية الإنسان فيها بـ "العمادة" وليس (بالولادة). وهذا يعني أن الرغبة في الشعيرة رافقت السيرورة الدائمة لأنماط الاختلاف الطوعي أو الإكراهي الذي جعل من كل لقاء عرقي أو قبلي أو إثني مجرد أسطورة يرويها الآباء للأبناء.
والديانة النصرانية في مرحلتيها المسيحية المحلية والبولسية الأممية لم تدع إلى إقامة نظم سياسية دستورها المسيحية. ولكنها انتشرت وازدهرت عندما اعتنق الإمبراطور قسطنطين هذه الديانة، وفرضها ديناً للإمبراطورية. كما أن معطيات التاريخ تشير إلى دور رجال الدين المسيحيين في التحريض على الحروب، أو مباركتها. وكذلك فرض العقائد والقيم الدينية كأنماط حياة لمجتمعات الدول الأوروبية. ودور المسيحيين في العصور الوسطى يشير إلى العذابات والمآسي التي تعرضت لها الشعوب في العصور الوسطى على يد الكنيسة ورجال الدين المسيحيين التي لم تتخلص منها إلا بعد الثورة الصناعية في أوروبا.
والديانة المحمدية (أو الإسلام) جاءت ومعها تعريفات هوية لا تلامس المضامين المفاهيمية العامة للانتسابات والتمييزات التي ترى في المسيحية، لأنها قفزت عنها متجاوزة إياها إلى الوراء لتقتبس من الموسوية نزعات إلغاء التمييزات غير الدينية، وتحديد توصيفات مختلفة لمفهوم الهوية يقوم على الإدماج، بحيث نرى مؤشراً على نسيج الشخصية وحدود سماتها، وتعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافة وأسلوب حياة(!). وكذلك هي المصطلح الوسائلي لتقديم الإنسان تعريفاً لنفسه وتمييزاً عن غيره، وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع ثم للأمة أيضاً. فيكون وفق ذلك أنه كلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع تعمق إحساسه بالإنتماء لهذا المجتمع واعتزازه به وانتصاره له. وأما إذا تصادمتا فهنا تكون أزمة الإغتراب.
والديانة المحمدية ترى أن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية. وأن أهم مقومات الهوية هي العقيدة الإسلامية... ولذا فإن الهوية الإسلامية هي الانتماء إلى الله وإلى رسوله وإلى دين الإسلام وعقيدة التوحيد. وتجمع هذه الهوية تحت لواءها جميع المنتمين إلى هذه العقيدة فيحيون لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله وتعبيد العباد لربهم وتحريرهم من عبودية غيره.
واحتفلت العقيدة بمقومات العنصر الوحيد الأوحد لتوصيف الهوية. حيث العقيدة هي معيار الولاء والبراء والحب والبغض. وهي المنظار الذي يرى من خلاله القيم والأفكار والمبادئ، ويحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم.
وبالإعتماد على هذه المفاهيم كان من الأهداف الرئيسية للغزو الإسلامي، الإطاحة بهويات الأمم والشعوب المهزومة وإدماجها بالهوية الإسلامية القائمة على إلغاء القيم الحضارية والثقافية لهذه الشعوب ودمجها في هوية دينية حوربوا لفرضها عليهم ولضمهم إلى دولة الأمة التي وصفها الإسلام بأنها "خير أمة أخرجت للناس".
وهكذا نرى أن المحمدية كرست الشعائرية كمقومات تمييز بعد أن حدّدتها في إطار إنتمائي تعبدي وتلقيني لا يحترم العقل فيحرم السؤال والنقاش والحوار إلا في إطار القبول بالتسليم والرضوخ لمبدأ الإقتناع بحقائق "النقل" لا بمنطق "العقل".
وهكذا عمل الإسلام وهو يؤسس لعالمية الدين وفكرة الدولة الدينية، على ربط إنسانية الإنسان فيها "بالشهادة" لا "بالعمادة" وليس "بالولادة".
إن مفهوم الهوية الإسلامية إلغائي لهويات غير المسلمين وإجازي لها فقط عندما تتماهى مع مفهوم الهوية التعبدي الغيباني الذي تدعو له المحمدية. وهو تدميري لهويات الأمم والشعوب الإسلامية ذات التمتعات بهوياتها القومية والثقافية والحضارية التي تتسم بقابليات إستيعاب معاصرة تجعل من ثقافة التعبد وقيم التدين الإسلامية أحد مكونات هذه الهويات وليس نقيضها. وأن الأولى بدعاة هذه الهوية أن يتذكروا أن الإسلام (ولست أنا) من قال "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" أي هويات لا هوية واحدة تتثاقف (لا تسحق أو تلغى) فيما بينها وفق استحقاقات المثاقفة في كل عصر ودهر. فتبقى للشعوب هوياتها الوطنية والقومية، الثقافية والحضارية، وكذلك وجودها الكينوني سواء توحدت أم تعددت عقائد تعبّد شعوبها.
لقد بنى العرب والمسلمون دولة بلا حدود معينة مسبقاً وتتسع مساحتها لكل الأقطار التي أخضعت لحكمها عن طريق الغزو، والتي يمكن ضمها بعد اتباع سكانها العقيدة الإسلامية، أي دولة "لا نهائية الحدود" متعددة القوميات والإثنيات، لكن الحكم فيها (الخلفي أولاً ثم الملكي منذ بداية العصر الأموي) للعرب تحديداً (وحصراً من قريش وأنسابها)، وعلى القوميات من الأعراق الأخرى أن تولي السمع والطاعة للحكام العرب، وأن تنصهر قومياتهم في دولة العرب والمسلمين. واللغة العربية هي اللغة الرسمية والإقتصادية والثقافية للدولة. والقرآن دستورها والإسلام دينها بغض النظر عن مستوى مكانة التحقق الثقافية للغات غير العربية والأديان غير المحمدية. وهذا يعني بالمفهوم الأنتروبولوجي الإجتماعي أن الدولة العربية ـ الإسلامية كانت ذات نظام توتاليتاري، ولا تؤمن بالتنوع الثقافي، لأن ثقافتها هي ثقافة العقيدة التي لا تكون إلا شمولية. وأما مفهوم الاتصال العلاقاتي الثقافي فيجب أن يكون تبعياً في البداية، ثم استلابياً بعد ذلك حتى الإنسحاق وبلوغ التمثل. أي أن المثاقفة في مفهوم التثاقف الإسلامي إزاحية وإلغائية للثقافات غير الإسلامية. وهذا الأمر هو بمثابة إنعكاس تجلياتي للنظرية الإسلامية في تعريف الهويات وكيفية بيان التميزات بين الجماعات الإنسانية، تقوم على مفهوم التعريف للهوية نسبة إلى انتسابها الديني، والذي لا تكون دلالاته إلاّ غيبية مجازية، وإشارات تعبيراتها طقوسية لا تؤدّى إلا بشكل إشاري وفي أوقات وأماكن محددة.
وهي بمعنى آخر هوية تتمتع بالمواصفات التي تتأهل للدلالة على "العالم الإسلامي الواحد" الذي تشابه في بداية القرن العشرين مع المواصفات التعريفية للهوية الأممية الواحدة التي كانت تنشدها نظرية الماركسية. وهي نفسها التي تدعو إليها وتبشر بها النظرية الفوكوياميه أي العولمة وهوية "العالم الواحد". أنها وحدة تعريف الهويات عند نظريات شمولية متناقضة الأيديولوجيا، ولكنها متشابهة النزعات التسلطية والقمعية والإلغائية التي تتوخى بآلياتها الخاصة بلوغ وحدانية التوصيف، وفق نصوص كل منها النظرية.
وفي ضوء ما تقدم نرى في المعطيات التاريخية القديمة والمعاصرة أمثلة دالة في باب التنميط الهوياتي، كانت لكل منها سماتها وأزماتها في حالتي الصراع والسلم التي عاشتها المجتمعات البشرية.
ونرى من جانب آخر أن الأيديولوجيا العقائدية الثيوقراطية والإنتيثيوقراطية (العلمانية الإلحادية) والمادية المدنية (مجتمعات فصل الدين عن الدولة، بما في ذلك الدولة العولمية والمجتمع الليبرالي الموعود) قد تواصلت من عصور التاريخ القديمة إلى التاريخ المعاصر وهي تتأهل بوظيفة ودور العنصر الحاسم في الإحاطة بتعيين الهويات ومفاهيمها ودلالاتها التعبيرية. وحيث أثبتت المعطيات أن المحتوى العام لكل واحد من هذه الأيديولوجيات، تسلطي واستلابي وتمثلي المثاقفة، حتى عندما يتأسس على دوافع مختلفة لا بل ومتناقضة بين كل واحدة من هذه الأيديولوجيات والأخرى؛ فإن آلية التأشير والدلالة على الهوية يمكن اعتبارها حتى ولو مجازاً لغة "الهوية المغلقة". وتعود الإجازة أو الموافقة على هذا التعريف إلى أن الحديث يمثل هذه اللغة عند كل أيديولوجية "يعتبر في العمق آلية من آليات التجييش الحربي، حيث تمثل كل هوية فضاء مغلقاً في مواجهة فضاءات أخرى مغلقة بدورها؛ وهو الأمر الذي يعني انتفاء التواصل والحوار. بل أن لغة الحرب وأزمنتها تتجه أحياناً لإنجاز تنميطات تحصر فيها ثقافة معينة أو مجتمعاً معيناً في قالب محدد، مغفلة ومتجنبة النظر إلى تحولاته الفعلية، ومخاضاته القاتمة، وتواتراته المشيرة إلى تغيرات حاصلة أو مرتقبة الحصول، وهو الأمر الذي يترتب عليه، أن الظرف المعني بالصورة النمطية يتجه بدوره لرسم صورة مناقضة للصورة النمطية التي أنشئت له. فتبدأ حرب الصور المفترضة، الصور النمطية المؤسسة لخطابات لا علاقة بينها وبين الوقائع في تعددها وتوترها، وفي فقرها وغناها. وهذا في نظرنا يتجاوز الصور النمطية والمغلقة( )".
ووفق ما يستدل من تجارب الشعوب في عصور التاريخ المختلفة فإن التنميطات التي تبدو عليها، أو تتقولب إليها، تظل دائماً تجلياً تلقائياً لمدلول الثقافة باعتبارها مجموعة من المفاهيم والقيم والرؤى وفنون ومعتقدات تحكى وجود الأفراد ضمن تاريخ الشعوب والمجتمعات. وفي هذا السياق يغدو لا علاقة لمفهوم الهوية كموضوع دلالاتي، في مجال تناول هويات الأفراد والجماعات والثقافات، لأن التسمية لها دلالة المعطى المتكامل، في حين نجد أن الثقافات في التاريخ كانت دائماً مفتوحة على مرجعيات لا حصر لها بما فيها الأزمات؛ وظلت غير مغلقة على فضاءات. وهذا يعني أن مفهوم الهويات يضعنا أما مزيج يصعب فصل مكوناته فصلاً تفصيلياً ودقيقاً، كما يصعب فرز معطياته بعد أن تم لحمها بكيمياء المثاقفة التي تؤدي إلى تلاقح وإخصاب تكوينات هي عبارة عن معطيات جديدة، وتحويلها، عبر منحها خصائص لا حصر لها تكسب المفردات دلالات تعبيرها الهوياتي الذي يتمتع بقابليات تنوع تؤهله للعيش والديمومة في فضاءات التلاقي والتفاعل والإستيعابات التبادلية.
العولمة وإزاحة الهويات
تناولت الأخبار التاريخية مواعيد ووقائع مختلفة عن ولادة وتطور العولمة، كمفهوم ومعطى. وأعاد بعضها العولمة إلى عصور التاريخ القديمة قبل الميلاد، وذكر أنه قام بها مجموع الشرق مرة في الصين والهند وفارس وما بين النهرين وكنعان ومصر القديمة. وقام بذلك مرة أخرى مجموع الغرب (اليونان والرومان...الخ). وفي مرة ثالثة الدولة العربية ـ الإسلامية، ثم حضارة الغرب الحديث مرة رابعة بدءاً من الاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر الميلادي.
ويرى بعض المؤرخين أن أول الناس العولميين في تاريخ البشرية هم المصلحون (رجال إصلاح، فلاسفة، علماء، رسل، أنبياء) الذين تجاوزا الإختلافات والفروقات بين الشعوب والأمم، ورأوا أن "فكرة علوية" أو "فكرة سامية" هي التي يجب أن توحد البشرية حول الأخوة والمساواة والعدالة، وليس حول الإنتماء لعرق أو لشعب أو لدولة ما، أي الدعوة لفكر عالمي أممي يتجاوز كل الحدود، وبرسم خارطة للبشرية لا تستند إلى قواعد اختلافية وإنما تقوم على السلام والعدل والمساواة والإزدهار؛ وتحقيق الحضارة الإنسانية لجميع شعوب وأمم البشرية، وليس حكومة عالمية تحكم العالم.
وإن المفهوم العام للعولمة الذي يجري تبادله منذ ثلاثة عقود مضت وحتى اليوم، تشير عناصره الأساسية إلى أنه مفهوم قديم( )، برغم أن هناك من يرى أن فكرة العولمة المعاصرة قد بلغت ذروتها إبان المد الإستعماري في القرن التاسع عشر، ولكنها بدأت في الإنحسار في الربع الأول من القرن العشرين ومرحلة ما بين الحربين العالميتين، ثم في مرحلة التحرير الوطني بعد ذلك. وعندما بدأت (ثورة) التحرير الوطني نتحول إلى (دولة) عاد الاستعمار، ثم الإمبريالية السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية من جديد إلى دول حركة التحرير الوطني وخصوصاً في بلدان الشرق العربي، بصورة العولمة وعبر مؤسساتها (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية...الخ). وهذا يجيز لنا القول أن العولمة ظاهرة تاريخية مستمرة تعبّر عن رغبة مجموعة من الدول في السيطرة على العالم، وهي ذات مظاهر سياسية إقتصادية ثقافية إجتماعية معلوماتية وتكنولوجية.
ومع أن الإنسيابات والتلاقيات والإستيعابات التي بلغ بعضها التماهي، وكذلك تنويعات الإستلاب التي بدت عليها المكونات الكيانية للأمم والشعوب بفعل تفاعلات المثاقفة في عصور عمر العولمة فيما قبل الإكتشافات الجغرافية، قد وسمها ببعض مظاهر التشويش خصوصاً في مجال الأيلولات الهوياتية، فإن المظاهر التي أخذت تبدو عليها العولمة بدءً من القرن الخامس عشر الميلادي قد دشن ما يؤكد تاريخيتها عند ظهور الدولة القومية كنقطة بداية فاصلة في تاريخ المجتمعات المعاصرة. وقد تحددت منها مكونات العولمة وديناميات سيرورتها وكيفيات تطورها الفكري، بما في ذلك أنواع استلهاماته من أفكار الإشتراكيين ما فوق الوطنية، وحتى بلوغها المرحلة الأخيرة من تطورها وما اتسمت به من أهليات وقابليات استمراريتها مع مؤشراتها (المجتمع المدني، المواطنة، العالمية، نظام الإعلام الكوني، حقوق الإنسان، البيئة الكونية،...الخ).
وجاء العولميون المحدثون في المرحلة الأخيرة وهم يحملون منظومة أفكار جديدة حول الاقتصاد الأممي وفكرة حكومة عالمية واحدة. وكان أولئك العولميون يتأهلون برغبة جامحة إلى رفع وتغيير الغطاء الأيديولوجي للإصلاحات الجارية، لتكتسب المواصفات الملائمة لمكونات واتجاهات وآليات ومفاهيم مجتمع العولمة وعالمها الواحد. وأن نظرة متبصرة في آليات تغيير الإصلاحات والإتجاهات التي تدفع نحوها ترينا أن جوهر هذه المجريات يتشابه مع ما قبله ولا يتجاوز كونه السيطرة ما فوق حكومية وما فوق وطنية، الكاملة للأقلية على شعب بلد معين، ثم على شعوب كل العالم. والهدف من ذلك دائماً السيطرة الإقتصادية الشاملة على العالم. وإن اللحظة التاريخية فقط هي التي تفرض من حين لآخر التوجهات السياسية اللازمة لتحقيق ذات الهدف أولاً وأخيراً. فمن أجل الإستيلاء على بلد ما، يتوجب بداية تأسيس وصياغة الغطاء الأيديولوجي اللازم ثم زرع هذا الغطاء لمثل هذه العملية. ولهذا يتم اليوم الإستيلاء على الصحف وقنوات التلفزة الأرضية والفضائية، كما كانوا سابقاً يسعون للسيطرة على وسائل الاتصال والقطارات ومحطات ومراكز البريد والهاتف، عبر أي وسيلة بما في ذلك القتال الحربي. وغالباً ما ادعى العولميون أنهم يقومون بذلك، وبهذه الأساليب القاسية أحياناً من أجل تحسين مستوى معيشة الأغلبية من السكان، في حين أن الحقيقة تثبت على أرض الواقع ما هو عكس ذلك تماماً. فالعولمة تسبب فرزاً فظيعاً في المجتمع يتأسس على مستوى درجة التملك، ورأس المال الوطني يتحول إلى رأس مال عابر للحدود فيفقد مزايا وطنيته. كما أن الشركات القومية عندئذ تنضم إلى المتعددة الجنسيات (الفوق قومية) بعد أن نتحرر من انتمائها لأي دولة، فتبنى مصانعها ومؤسساتها أينما تجد أيد عاملة رخيصة، ومواد خام متوفرة، فيفقد عمالها من ذوي الأجور العالية وحتى المتدنية أيضاً عملهم. كما أنه سيقوم "المواطن العولمي" الذي ينتمي إلى أين يريد، فينتفي مفهوم "الخيانة الوطنية" طالما أن الوطن بحدوده المعروفة وفق المفاهيم غير العولمية لم يعد قائماً بالنسبة للمواطن العولمي. وينشأ بديلاً له بشكل تدريجي مفهوم "البيت" الذي يشتريه أو يبنيه حيث يرغب في السكن أو الإقامة. وتصبح مواطنيته (عولمية) جديدة، تؤثر تدريجياً ومع توالي الأيام على مفهوم القرابة القديم عنده ليتوائم مع مفهوم قربى العولمة الجديد.
ووفقاً لهذه الدلالات والمفاهيم في مظاهر العولمة المختلفة، وتأثيرها المباشر في تعيين مصطلحات جديدة (لهويات) العولمة يغدو من المنطقي تصديق الإنذارات التدميرية التي تتهدد الهويات الوطنية والقومية والدينية والثقافية (وربما الجنسية البيولوجية في قادم الأيام) وفق ما تبشر به الأيديولوجيا العولمية.
ويعود عدم استبعاد وقوع دمار الهويات التقليدية بسبب العولمة إلى حقيقة أن العولمة حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي غير متكافئ. أي بمعنى أن العولمة هي تسليع كل شيء بصورة أو بأخرى وفي كل مكان، بما في ذلك أشكال الإنتاج غير الرأسمالية، وأشكال الإنتاج قبل الرأسمالية، وتلك التي كانت محايدة وموازية للأشكال الرأسمالية. إنها عالمية رأس المال على الأصعدة كلها وعلى المستويات كافة. أي الإنتصار في مكان ما تقريباً لنمط معين من أنماط الملكية، ولنمط معين من وسائل الإنتاج، ولنمط معين من التحكم بقوى الإنتاج وعلاقاته وتبادليته وتوزيعه، وجعل هذا النمط المعين يشمل العالم كله.
ويبدو سؤال الهويات محقاً عندما يكون مفهوم العولمة وفق هذا التحديد، وبدون أي التباسات، نقيض متوحش للدولة المستقلة الوطنية وللدولة المستقلة القومية. وهو كذلك نقيض للدولة الدينية حتى عندما يتقاطع مع بعض سماتها الهيمنية والتوسعية والإستلابية الإكراهية.
وتأتي أسئلة الهوية أيضاً من كون مرتكزات أيديولوجية العولمة تقوم على مبدأ شل الدولة الوطنية وتفتيت العالم لتتمكن الشبكات الرأسمالية الجديدة والشركات متعددة الجنسيات العملاقة من الهيمنة على العالم، وتوظيف الإعلام ووسائل الإتصال التكنولوجية الحديثة في عملية الإختراق الثقافي واستعمار العقول. وتقوم من جهة على التعامل اللاإنساني مع إنسان العالم في كل مكان وفق مبدأ "البقاء للأصلح"، وهو ما يؤكد على أن نزوع العولمة نحو الهيمنة، إمبراطوري الحواس والسمات حتى عندما تبدو معها وكأنها خرافية وتناسب عالماً بلا أوهام.
وهي بمعنى آخر "إلى جانب أنها تعكس مظهراً أساسياً من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضاً أيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته... (عن طريق) استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية، وفي نظمها وبرامجها الخاصة بالحياة الإجتماعية... وإعطاء كل الأهمية والأولوية للإعلام لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيدين المحلي والعالمي، باعتبار أن الجيوبوليتيك ... وبالتالي الهيمنة العالمية أصبحت تعني اليوم مراقبة السلطة اللامادية، سلطة تقانة "تكنولوجية" الإعلام التي ترسم اليوم حدود في "الفضاء السيبرنيتي": حدود المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمها وسائل الإتصال الألكترونية المتطورة. وهكذا فبدلاً من الحدود الثقافية والوطنية والقومية تطرح أيديولوجيا العولمة حدوداً أخرى غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية بقصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك ( )..."
والهويات وفق أطروحات العولمة في كل إطارات تحديد تعريفها وصورة رؤيتها وآليات دفع مساراتها في الإتجاهات المختلفة، يمكن أن ترى وكأنها إنتقال من بُنى القبيلة والشعب والأمة التي صنعت دولة العصرين الوسيط والحديث وثقافتهما وحضاراتهما، إلى بنية إنسانية جديدة أشمل. ويحمّل الإنتقال معاني ومدلولات السيرورة من المجال الوطني أو القومي إلى المجال الكوني، بما في ذلك مفهوم أهليته الجغرافية لشمول الفضاء العالمي كله كتعيين مكاني له، وكذلك التعيين الزماني أيضاً بحدود حقبة ما بعد الدولة القومية التي أنجبها العصر الحديث إطاراً كيانياً لصناعة أهم وقائع التقدم الاقتصادي والإجتماعي والثقافي. ويسعى لإرساء مداميك ثورة جديدة في التاريخ تكون قوتها المجموعة الإنسانية بدلاً من الجماعة الوطنية والقومية.
إن العولمة والثقافة العولمية تطرح اليوم بجدية فائقة أسئلة عن تأثير فيض النظام الإقتصادي والثقافي والتكنولوجي عن حدود النظام السياسي قبل العولمة (أي نظام الدولة الوطنية أو القومية) و "هي ظاهرة ترقى إلى درجة المفارقة كلما عانينا ظاهرة الإيغال في إحاطة منظومة الدولة القومية في الغرب بكل أسباب الحماية والرسوخ والتجذر! غير أن الأكثر إثارة في ملاحظة عما إذا كان سيأفل نجمها أم لا، فإن حقائق الواقع تثبت يوماً بعد آخر أن العولمة هي لحظة التتويج لإنتصار النظام الرأسمالي العالمي كونياً، حيث أنها خرجت من رحم الدولة الوطنية أو القومية، فإنها ستظل تحمل بعض تأهيلات إعادة إنتاج علاقات الهيمنة والتبعية داخل هذا النظام وخارجه على حد سواء. وهذا يتيح للمفكرين المعتدلين تقديم براهين جديدة على توفير سبل حماية نسبية للهويات في إطار إنخراط الشعوب والأمم في تيار التشارك العولمي وفق مبدأ التنوع الثقافي.
وتجدر الإشارة هنا إلى التنبه بأن الخطر الذي يتهدد الهويات بأي نسبة كان هو متفاوت، وذلك لأن "الهوية الثقافية لا يمكن أن تتطور باتجاه الهوية السياسية إلا في ظل معطيات سياسية وإقتصادية عديدة تسمح بالدمج أو الاندماج. وهذا لا يعني أن الثقافة ليست عنصراً أساسياً في كل هوية مهما بلغت مكانتها" في العلو أو الدنو، وفي التماسك أو التشتت، لكن الشرط الضروري لإشتغالها لا يكمن في العناصر الذاتية المكونة لها، بل في "جملة الشروط الموضوعية للكيان السياسي". ومثل هذا الطرح لا يساعد على كشف عدم اقتدار الثقافة على مواجهة العولمة، وحدها فحسب، وإنما يبين عدم أهلية الهوية الثقافية العربية لفرض الهوية. وتلك الظاهرة تكاد تكون واحدة من السمات المشتركة بين دول الجنوب، وإن بتفاوتات بين دولة وأخرى. ويمكن تفسير ذلك بالإستناد إلى أن المفارقة إياها بين إندفاع آليات الإنتاج المادي والرمزي إلى كسر إطار السوق القومي والدولة الوطنية، واشتداد حركة الحماية للنظام السياسي القومي الموروث في الآن نفسه، تجد حلّها في إطار دول منظومة الجنوب: إذ سرعان ما يتداعى إطار الكيان الوطني أمام إندفاعة الآليات تلك، فينهار تماسكه أمام انهيار حقائقها اليومية.
"...(وإن) الجواب الذي نغامر بسوقه في هذا المعرض هو أن دول الجنوب ـ ومنها دول العالمين العربي والإسلامي ـ هي من جنس الدولة التي لا ينطبق عليها وصف الدولة الوطنية (أو الدولة القومية)، لأنها نشأت وتطورت ـ منذ الإستقلال السياسي لها ـ في سياق إنشداد كامل إلى علاقات التبعية للمتروبول الغربي واقتصاداته، وهي ـ هي ـ التبعية التي تفقدها صفة الدولة الوطنية، وتمنعها من أن تكون كذلك."( )
وأياً تكن المصائر التي تنتظر الهويات الوطنية و/أو القومية والمجتمعات الهوياتية، والثقافات الوطنية أو القومية، وكذلك الأيلولات التي ستئول إليها المجتمعات الوطنية والقومية والدولة الوطنية والقومية بغض النظر عن السياسة العربية أيضاً، فإن أدائية العولمة تربيطية، وحيث الثقافة ليست وحدة الجماعة السياسية ـ حتى الآن على الأقل ـ بل هي وحدة الجماعة الإجتماعية التي تطمح لأن تتحول إلى وحدة الجماعة السياسية عندما تسمح الممارسات السياسية بذلك، فإن الإنتماء السياسي مختلف عن الإنتماء الثقافي، وكذلك لأنه فعل إرادة مبني على الأخذ والعطاء، أما الإنتماء الثقافي فهو أكثر إلتصاقاً بالأفراد والجماعات. ولذا لن يكون بالإمكان حماية الثقافي إلا بفصله عن السياسي. وهنا يجوز طرح السؤال حول كيفيات وأليات تشكل ثقافة الوطن، ثم التساؤل عن أية ثقافة؟! وعن أي وطن؟! وأية هوية ثقافية أخاف عليها من أن تجرفها العولمة أو تسحقها الهيمنة والتبعية؟!.
إن الهوية الثقافية التي أتشرف بالإنتماء إليها، والتي أريدها لنفسي بنفسي، وبذات المستوى للجماعات التي أنتمي إليها بما في ذلك الشعب أو العالم، هي الهوية العلمانية الديمقراطية الإنسانية. وأي هوية / قوة أو سلطة...الخ ترفض مثل هذه الهوية وتمنع المواطن من اختيارها هوية وطنية، وتكره المواطن والوطن على الرضوخ لمفاهيم وقواعد هوية ظلامية وغيبية وتسلطية متخلفة بديلاً لها، فلن تكون بالمطلق هويتي الوطنية الثقافية، ولن تكون هوية الوطن أبداً، وهي لن تختلف في شيء عن أية هوية سحق أو هيمنة أجنبية. وهنا لن يضرني، ولا بأس أبداً من أن يطحنها أي أحد حتى لو كان أجنبياً، برغم يقيننا بأن أذى كبيراً سيلحق بالمواطن، وذلك لأنه لا فرق من حيث الجوهر بين هوية ثقافية مستبدة محلية كانت أم خارجية؛ لا بل ربما تكون الخارجية أرحم عندما لا تكون غيبية وظلامية متخلفة. والمؤسف أن هويات الدولة الوطنية والقومية العربية، ذات طبيعة إستبدادية بكيفيات وتسميات مختلفة. وقد ظل سكان كل كيان وطني فيها، تابعيات أو رعايا فهي لم تكن أوطاناً بالمعنى المعروف، لأنه لا مواطنة فيها. والحر فيها شخص واحد هو الحاكم بكل المسميات، وأما الشخص الثاني والشخص الأخير فلا فرق بينهما أبداً، لأنهم عبيد ومستخدمون عند الشخص رقم واحد. وبشكل ميكانيكي لا تكون الهوية الكيانية إلا توتاليتارية إستبدادية وثقافاتها من نفس نوعها، ولذلك لا يجوز التمسك بهويات من هذا الصنف ولا حتى القبول بها، لأنها لن تكون ديمقراطية أبداً. وستظل وظيفتها التاريخية تهميش جماعات لصالح أخرى، وتستبعد جماعات عن المشاركة السياسية، وتنفي أو تقتل أو تسجن باسم الدفاع عن الثقافة الواحدة، أو بدعوى توحيد الثقافة وعدم الاعتراف بوجود الآخر أو بحق الإختلاف ما دام تكوين أهليتها البنيوية لا يقبل إلا بنظام "خلافي ـ من الخلافة ـ".
إن الهويات الثقافية الإستبدادية ظلت على الدوام عرضة لتهديد خطر التغيير التدميري في كل مراحل تطور المجتمع. وقد استمدت إرادة التغيير عناصر قوتها دائماً من التعبير عن الرغبة في الدفاع عن تطلعات المجتمع الديمقراطية والتقدمية والليبرالية...الخ، والإنتقال من نظام إقتصادي في طور ما إلى نظام آخر أرقى منه في الطور الإجتماعي الذي يليه. فالإنتقال من العبودية ما كان ممكناً إلا بعد تطور المجتمع وتأهله لإنجاز علاقات إنتاجية مختلفة نقلته من طور الإقطاع؛ مستمدة قدرتها من احتياجاتها الجديدة التي إنخلقت كإستحقاقات نتائجية حيوية تتمتع بقدرات دفع نحو التطور تتناسب وتراكم الإمتلاكات الدينامية المتجددة للمجتمع. وهي نفسها الدوافع والديناميات التي أوصلت المجتمع مرحلة الرأسمالية، وحددت طبيعة دولتها الوطنية أو القومية، ومواصفات علاقتها الإنتاجية، ووظائف الهويات في المجتمع الرأسمالي ومعارفه وثقافته حتى عندما تحمل بعض خصائص الثقافة التي كانت سائدة في مجتمع ما قبل الرأسمالية. ويرى بعض المفكرين أن هذا الأمر في غاية الأهمية، لأن أي جديد لا بد أن يتمتع في بعض صفاته وسماته على ما كان قد ورثه من منطلقه المثيل في المرحلة السابقة. ولذا فإن كل ثقافة قومية تتضمن بالضرورة عناصر وإن غير منظورة، من ثقافة ديمقراطية واشتراكية أيضاً، لأنه يوجد في كل أمة جمهور كادح مستثمر تولد ظروفه بالضرورة أفكاراً ديمقراطية وإشتراكية. ولكنه توجد أيضاً في كل أمة ثقافة برجوازية (غالباً ما تكون إكليركية ومغرقة في الرجعية)، لا تبدو بشكل عناصر وحسب، بل بشكل ثقافة سائدة. ولذا فإن الثقافة القومية بوجه عام هي ثقافة الملاكين العقاريين ورجال الدين والبورجوازية. وهذه هي الحقيقة الأساسية الأولية... (التي يجب الانتقال منها نحو) الثقافة الأممية، ثقافة النزعة الديمقراطية، والحركة العمالية العالمية، وإن ما نستخلص من كل ثقافة قومية عناصرها الديمقراطية...، لمعارضة البرجوازية، ولمعارضة التعصب القومي البورجوازي في كل أمة من الأمم"( ).
وانطلاقاً من هذا الفهم تركزت جهود الماركسية ـ اللينينية على التغيير الاجتماعي والإنتقال إلى مرحلة النظام الإشتراكي ومفهومه العالمي الذي يستمد محفزاته من تراكم مخزونات ما هو ديمقراطي واشتراكي في داخل المجتمع نفسه، ويتكئ على ما يوفره تراكم الدفع الداخلي من شروط إقناع بإمكانية بلوغ حتميات التغيير والمطلقات العلمية كأسس لإشادة المطلقات الإجتماعية، بما يحقق تدريجياً واقع المطلقات باعتباره عصر العالمية. "والحتميات العلمية هي التي أسست لحتميات التغيير الإجتماعي بواسطة الصراع أو الثورة. وكانت الدينامية الذاتية هي الفكرة الأساسية للتغيير في مفهوم ديالكتيك التحول الذي يميز العالمية كظاهرة تفتح على العالم وعلى الثقافات الأخرى والإحتفاظ بالإختلاف الأيديولوجي عبر مواصلة مسيرة الكفاح نحو نظام الإشتراكية الأممية وإنسان النظام الإشتراكي ذو الهوية الأممية.
ولهذا السبب نجد أن الفرق شاسعاً بين العالمية و "العولمة" التي نرى أنها لن تنجز نظام "العالم الواحد" إلا بنفي الآخر وإحلال الإختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي؛ وبالتالي سحق الثقافات. لأن الصراع الأيديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل. أما الإختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع. أي أنه يستهدف العقل والنفس والإدراك أيضاً. باعتباره وسيلتهما في التعامل مع العالم. وتستخدم العولمة في سبيل ذلك، إضافة لأغراض سحق الهويات إنتصاراً للهوية الموعودة (هوية النظام الليبرالي)، الإمكانيات اللامحدودة المتوفرة عندها وفي مقدمتها العلم والتكنولوجيا، وبكل الوسائل بما في ذلك الغزو الإعلامي الثقافي، ليطال اللغات والثقافة وسلوك الناس وتصوراتهم الجمعية، وليكتسح مختلف الحقول المعرفية والخصوصيات الثقافية. بما في ذلك إلغاء الهويات وتعيين تعريفات غير معهودة لها ذات دلالات إنتمائية جديدة يكون مبرر الإفتخار الهوياتي لها يقوم على جوهر مختلف عن مسوغات الإفتخار القومي أو الأثنية.
سؤال الهويات.. لماذا؟!
إن الهويات كيفيات تعبير لتجليات إنتماء حتمت مواصفات تشكله وجوهره مستويات العلاقة الإنتاجية، وما اتسمت به من مظاهر مدنية في وقائع حياة الناس في عصور تطور المجتمعات منذ المشاعية البدائية وحتى الإمبريالية ونقيضها الاشتراكية. وقد أخذت أشكال تعادي أو تصالح في آن واحد في العصر نفسه أو بين عصر وآخر. فحيث كانت منسحقة وتابعة وإستلابية حيناً، فإنها كانت في حين آخر مزدهرة ومتفوقة ومسيطرة وهيمنية. والعولمة كأحد سياقات تطور المجتمع أرادت لعلاقاتها الإنتاجية تعبيراً تفصيلياً عن خصائص ومواصفات "العالم الواحد" الذي نريده نظاماً للبشرية جمعاء عند وصول العولمة كنظام "شمولي مختلف" في "نهاية التاريخ" وانخلاق "الإنسان الأخير" كمواطن "المجتمع الليبرالي" باعتباره "النظام الموعود"، في إطار الحدود التي تتجاوز الحدود الوطنية وفق ما تطرحه أيديولوجيا العولمة. وتكون جديدة وغير مرئية ترسمها شبكات الهيمنة العالمية مع الاقتصاد والثقافة والأذواق، وتؤكدها كل أنواع الإندماج الأوثق بين الدول والشعوب في العالم، بسبب الإنخفاض الكبير في كلفة النقل والإتصال، وكذلك بسبب إزالة الحواجز أمام انتقال الأموال والخدمات الرأسمالية والرساميل والمعلومات والمعارف والأفكار والأشخاص عبر الحدود. وأرادت أيديولوجيا العولمة لإنجاز عملية خلق نظام المجتمع الموعود، مؤسسات مختلفة، لأن المؤسسات التقليدية الموروثة لا تتأهل باستحقاقات العملية التاريخية. ولذلك فقد صاحبت العولمة إنشاء مؤسسات جديدة اتحدت مع مؤسسات أخرى لأجل التعاون عبر الحدود وفي المجتمع المدني الدولي. فقامت تكتلات وتجمعات جديدة، ومنظمات غير حكومية تهتم بالحقوق المدنية والحريات العامة عبر الحدود. وأنشأت جبهات مشتركة مع منظمات قائمة من أجل خلق بيئة وثقافة عالمية تتجاوز الحدود السياسية للدول، ونتجاوز الهويات والإثنيات والولاءات التحتية للشعوب. واهتمت بنظرة جديدة إلى مؤسسات دولية مشتركة، قائمة بين الحكومات منذ زمن طويل، وعبرت عن استعدادها لمساعدة هذه المؤسسات على مواصلة قيامها بالمهام الدولية المنوطة بها، مثل: منظمة الأمم المتحدة (صياغة السلام العالمي)، ومنظمة العمل الدولية (عمل لائق)، ومنظمة الصحة العالمية (وضع صحي أحسن للعالم). وصوبت من جانب آخر أية إختلالات في أعمال التقاطع بين مؤسسات العولمة والمؤسسات الدولية الأخرى، مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وخصوصاً الإختلالات الناشئة عن تقاطعات آداءاتها الوظيفية مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وبنك الاستثمار الآسيوي، وغيرها.
وفي مناخات "إنسانية" المسؤولية الدولية لدول الشمال عن تطوير دول الجنوب والنهوض بمستويات شعوبها في مجالات الحياة المختلفة، قفزت الولايات المتحدة لمديات أوسع في هذا المجال عندما انتدبت نفسها مسؤولاً عن تعليم وتمرين هذه الشعوب على الديمقراطية كمفهوم معرفي ونظام حياتي سياسي. وأجازت لنفسها التدخل المباشر والسافر أحياناً في الشؤون الداخلية لدول الجنوب وتحديد أنماط تطلعات شعوبها وفق منظومة مفاهيم ومعارف أيديولوجيا العولمة، على الأخص وأنها قد حققت خطوات كبيرة في فرض المفاهيم والمعارف الفوكوياميه عبر العقود الثلاث الماضية. فقد تم إحداث الترابط من الناحية السياسية بين العولمة وتدهور مكانة الدولة الوطنية واتساع وانتشار المنظمات غير الحكومية التي تهتم بحقوق الإنسان. ولذلك فإن أي ضعف في مكانة الحكومات عند المواطنين أخذ يقابله زيادة في فاعليات المنظمات غير الحكومية وثناء بمؤسسات المجتمع المدني، وقد ساعدها ذلك على الإندماج في شبكات المنظمات غير الحكومية N.G.O.S العالمية التي تتجاوز الحدود. فجاء التداخل بين حقوق الإنسان والحريات العامة والعولمة، وبالتالي الإستقرار من عدمه في الدول وخصوصاً بلدان المشرق، وبضمنها فلسطين.
والعولمة من جانب آخر تقوم تدريجياً بإحداث عمليات نسف وتدمير لمعارف تنظيم وتسيير طرائق واستخدامات أفعال وجهود الناس المبذولة في الحراك الإنساني لأنها أصبحت تقادمية وعاجزة عن مدلول الماهية الحقيقية للشغل اليومي للناس. فهي لن تقضي على طبقة الفلاحين ودورها التاريخي في تطور المجتمعات ، وتجعل العالم بلا فلاحين تدريجياً، وإنما ستزول القرى كمستوطنات بشرية إنتاجية عندما تصبح لا ضرورة لتطويرها إلى بلدات أو مدن صغيرة كتجمع سكاني أكبر. ومن جانب آخر سيتحول الفلاحين إلى عمال زراعة في مرحلة الزراعة الصناعية بأدوارها المختلفة. كما أن مفهوم العمل وبالتالي "الطبقة العاملة" سيتغير اكثر مما هو عليه اليوم، لأن الصناعة أصبحت، وستزداد، ذات صفة وظيفية جديدة مختلفة. كما أن قوة العمل المبذولة فيها تتحول تدريجياً من بدنية إلى وعيية تعليمية، حيث الصناعة الثقيلة (الحديد، والصلب، والمناجم...الخ) وميكانيكيتها العملاقة، ستظل صناعة ضخمة ولكنها صناعة المعلومات، وقوة العمل برامج لا عضلات وبنى عملقة. وستؤدي متطلبات النمو الإقتصادي وفق هذه المفاهيم أو ما يماثلها إلى ازدياد المدن في البداية، ثم تكثف عددها الذي ستمليه الاتساعات والترابط ومقتضيات مركزة وترابط البنى التحتية للخدمات والإتصالات والمواصلات...الخ.
وبعد أن تنسف أسس المجتمعات الريفية سيصبح الريف مزارع ضخمة ومنشآت زراعية أو صناعات زراعية...الخ. وهذا سيؤدي بدوره إلى تغيير القيم القائمة بأخرى جديدة، وستنشأ معطيات وعوامل جديدة ستكون تأثيراتها قوية وذات سمات تغييرية على الثقافات وكذلك على الهويات أيضاً. وستكون هذه التغييرات مشحونة بكل قوى تنويعات الدفع العولمي في مجالاته المختلفة التي تُسوّر المجتمع العولمي باعتباره مجتمع "ما بعد الحداثة" ويزداد فعل هذا الأمر تأثيراً على الأيديولوجيات، وخطراً داهماً على الهويات عندما نراه بوضوح يدعم بشكل دائم بالتقدم المذهل الذي تحققه يومياً ثورة الإتصالات والمعلومات، وما يحدثه من أشكال قطع تغييرية لصلة الإنسانية بالمكان بصورة جوهرية. كما أن مفهوم الزمن تعرض لعوامل تحول جذرية إكراهية، فهو لم يعد عالمياً يمحو الحدود الجغرافية ويختصر المسافات فحسب، وإنما أصبح هو نفسه قصيراً جداً. كما أن الخلق والإبداع القائمين على استغلال العلم والمعرفة في الإنتاج لم يعد لأي منهما حدود يتوقع أن يبلغها، فيقف عندها؛ فيبدو وكأننا على مشارف "العالم الواحد" الموعود. وما ينضح به من أشكال السيطرة الإستعمارية الجديدة. فهي إمبراطوريات إقتصادية من نمط خاص برزت في عالم المال والتجارة والإعلام، وصارت تتحرك على نطاق العالم بأسره تحت شعار "كل السلطة للأسواق" ولمصلحة "أسياد السوق" أي "أسياد العالم الجديد"، لا سيما وأنه يستقرئ من ممارساتهم مدلولاً آخر للعولمة ومناقض لما تقدم به باعتبارها "بناء فضاء اقتصادي عالمي يقوم على الاعتماد المتبادل".
وتجد الريبة في العولمة سبباً إضافياً لها يتمثل في الخطر المتوقع من نتيجة سعي استعمار السوق للهيمنة على الثقافة "موظفاً في ذلك أيديولوجيا تزعم موت الأيديولوجيات كي تؤيد وتسوغ هذا الشكل الجديد من السيطرة. وإذ وإذا انطلقت عملية تصنيع هذه الأيديولوجيا من الولايات المتحدة الأمريكية فقد باتت تحملها اليوم نخبة كوكبة متجانسة تسعى إلى تنميط العادات والتقاليد والثقافات وطرائق العيش على نمط واحد، تختزل "الحريات" إلى "حرية التعبير التجاري" و "حقوق المواطن" إلى "حقوق التمتع بسيادة المستهلك"، وتشجع خطاباً يعتبر أن التاريخ قد انتهى، وأن حاجة الإنسان للنضال من أجل التغيير قد انتفت، وما على الإنسان إلا أن "يتكيف" باعتبار أن الوضع القائم هو سقف التطلع الإنساني. وأنه لم يعد هناك من خيار سياسي أو اجتماعي سوى خيار الرأسمالية القائمة... (حيث) التنافس هو القوة الحقيقية المحركة للتاريخ. والسوق هي التي يجب أن تحكم. وما على الحكومة سوى أن تدير...( )
وأمام معطيات هيمنة أسياد سوق العالم على جوانب حياة شعوب ودول العالم المختلفة، ودفعها نحو النمطية الأحادية على الطراز الأمريكي، لم تعد الثقافة في منأى حماية من هذا الخطر؛ لأن هؤلاء الأسياد هم الذين يملكون وسائل الاتصالات المتطورة ويسيطرون على تكنولوجيا المعلومات وبالتالي الإعلام والمعلومات، فقد أصبحت الشعوب اليوم تواجه خطر إقامة فضاء ثقافي عالمي على الطراز الأمريكي يكون في خدمته المتطلبات السلعية؛ ويبشر بأيديولوجيا الفوكويامية، ويدعو للعالم الواحد ولثقافة العولمة بأسلوب المثاقفة العولمية، ويعد بنهاية التاريخ وبالإنسان الأخير الذي سيضع عباءته على العالم الواحد، هوية عولمية لجميع سكان الكوكب الأرضي الذي سيصبحون بلا أيدولوجيات.. بلا قوميات.. بلا ثقافات.. وبلا هويات.. سوى هوية العولمة، وما فيها من قيم ودلالات عولمية عن نزعات الأيديولوجيا والقومية والثقافة.
ولكن كيف استقبلت شعوب العالم "وعد آلهة السوق" الذين يخضعون كل شيء في تنوعات حياة الناس بما في ذلك "الأذواق والسلوك"، إلى القواعد نفسها المعمول بها في "سوق البضائع الذي يتمدد على أرجاء كوكب الأرض؟‍؟.
كانت منجزات الرأسمالية المعاصرة في مجالات الإقتصاد والإتصال والتكنولوجيا، مذهلة في عظمتها وفي تسارعها وفي اتساعها الإحاطي؛ وفي قابليتها للتغيير واقتدارها على التأثير. وكانت تلامساتها مع شعوب الجنوب دفْعوية وأحياناً صافعة للكرامة قبل البدن، وكذلك لعناصر الإفتخار الهوياتي الإثني والعرقي (القومي والوطني أيضاً). وبرغم شساعة البون في موازين القوى بين "المنتج" و "المستهلك" و "الفاعل" و "المفعول به" و "الملقي" و "المتلقي"، فإن وقائع التاريخ المعاصر لم تشر إلى استسلاميات فورية وصارخة لأي من الشعوب المستعمرة أو المسيطر عليها. وأول تعبيرات رفض السيطرة الهيمنية في مرحلتيها: الإستعمارية ثم الإمبريالية بعد ذلك، كان يبتدئ بها في مجالات اللغة والثقافة بشكل عام، لأنه من هناك تنبع المسوغات الهوياتية على إختلاف أهلية ضروراتها كمرجعيات تأشير إنتمائية، وتقدير أهميتها ومبررات الدفاع عنها لاعتبارات تمس الكيانية والوجود وربما عنعنات المزاعمية السرمدية والأبدية بالفضل على الإنسانية‍!!.
وفي هذا السياق يمكننا القول أن استشعار الخوف على اللغة والثقافة لم يقتصر على دول الجنوب (وبضمنها العالمين العربي والإسلامي) فحسب، وإنما تخوفت من خطر العولمة على هذا الصعيد بلدان صناعية كبرى حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، ومتشاركة معها في العولمة، وهي ذات ثقافة راسخة، ولغة تثاقفية هامة وحيوية جداً، فمثلاً أصوات مسؤولة في الحكومة الكندية، وشخصيات شعبية كندية أيضاً رأت "أنه إذا ما واصل الأمريكيون فرض سيطرتهم على الجماعة الثقافية العالمية باستعمال الوسائل التي يملكونها، فعليهم أن يتوقعوا لجوء الآخرين إلى إجراءات إنتقامية عليهم". وفي فرنسا بات هناك إجماع قومي على ضرورة التمسك بالإستثناء الثقافي واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بحماية اللغة الفرنسية والإبداع الثقافي الفرنسي".
وتصاعدت في أرجاء واسعة من العالم بما في ذلك البلدان الأوروبية المطالبة بـ "الإستعباد الثقافي" بما يعني استثناء الثقافة من مجالات السيطرة والإتباع التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية وهي تفرض جوانب العولمة كأسلوب هيمنة في إطار صياغتها للعالم الواحد والمجتمع الليبرالي الذي تعد به سكان الكرة الأرضية.
"ومن جهة أخرى فإن خطر هذه السيطرة على الجماعة الثقافية العالمية الناجم عن استعمار السوق الذي تتمظهر به العولمة أثار ردود فعل عديدة على مستوى العالم بأسره، وشجع على تنامي الأصوليات الدينية والقومية، وعلى تصاعد دعوات الإنكفاء والتقوقع على الذات والإحتماء بالهويات. ولم تقتصر ردود الأفعال هذه على البلدان التي تحتل موقعاً غير متكافئ في إطار النظام الرأسمالي العالمي، بل شملت كذلك البلدان الرأسمالية المتقدمة نفسها...( )"
إن أشكال الإعتراض على المظاهر العولمية بكل دوافعها عند كل شعب وكل أمة في العالم، لم تتمثل عوامل استقطابية توحيدية تستطيع أن تكسر أحادية الإستقطاب على المستوى الدولي، فتواجه تغوّل العولمة بقطب قوة دولي جديد. فبدأت الاعتراضات والإحتجاجات على العولمة كأنشطة وفعاليات فردية دولوية لا تزيد تأثير قوتها عن رجع الصدى للصرخة اليتيمة على أحد حافتي الواد السحيق.
ويبدو مثل هذا الأمر في غاية الأهمية لأسباب تتعلق بمسارعة الشعوب والأمم في الإستجابة لإملاءات شروط العصر، لا سيما وأنه منذ عقود قليلة مضت أصبح هناك "ثمة تطور ملحوظ من القومية الإنفصالية نحو وجهة نظر أكثر إشتمالية ومكانة للمجتمع الإنساني والتحرر الإنساني... (و) لا يحتاج أحد إلى أن ينكر بأن حركات الإحتجاج والمقاومة، والإستقلال عبر العالم الإمبريالي بأسره كانت إبان مرحلة فكفكة الإستعمار قد استمدت وقودها من قومية ما أو أخرى. وإن المناظرات اليوم حول القومية في العالم الثالث تتزايد في الحجم والإهتمام، لأسباب عديدة ليس أقلها أهمية أن عودة القومية بالنسبة لباحثين ومراقبين كثر في الغرب قد بعث إلى الحياة وجهات نظر إستسلامية عديدة؛ ويعتبر إيلي خضوري، مثلاً، القوميات غير الغربية جديرة من الناحية الجوهرية بالشجب، وردة فعل سلبية على دونية ثقافية وإجتماعية مبرهنة، وتقليداً للسلوك السياسي الغربي الذي لم يؤد إلا إلى القليل من الخير؛ ويعتبر آخرون مثل أريك هويسباوم وارنست غلنر، القومية شكلاً من أشكال السلوك السياسي تجاوزته وأبطلته تدريجياً وقائع قومية غير جديدة نابعة من الإقتصادات الحديثة والإتصالات الذررية (الألكترونية) والمسقّطات العسكرية للقوى. وأعتقد أن ثمة شعوراً بعدم الإرتياح واضحاً (بل هو في رأيي لَيّ ـ تاريخي أيضاً) في جميع هذه المواقف بإزاء حصول المجتمعات غير الغربية على الإستقلال القومي الذي يعتبر غريباً على روحية قيمتها الجمعية الخاصة( )".
ونرى وفق هذا المنطق الغربي حتى في عصر ما قبل العولمة أنه لا يأبه كثيراً لأسئلة الأمم والشعوب عن حقوقها الأساسية في إقامة دولها الوطنية أو القومية، وتمتعها بحقوق الهويات خصوصاً الدولوية منها والقومية؛ بغض النظر عن الأقدمية الزمانية لتعرف وبلوغ الشعوب والأمم على فكرة "الدولوية" و "القومية"، خصوصاً عندما يكون ذلك متصلاً بالمجتمعات غير الغربية، أي بلدان المشرق العربي، إضافة إلى دول الجنوب الأخرى. ولما كانت استحقاقات الهيمنة الإستعمارية وبعدها الرأسمالية ثم الإمبريالية قد أوقعت بلدان الجنوب عامة في ظروف تطور متشابهة إلى حد كبير، جعلت شروط استغلالها من جوانبه المختلفة، متقاربة إلى حد كبير، لذا يغدو الحديث عن المشرق العربي ونزعاته الهوياتية يصلح كنموذج للحديث عن بلدان الجنوب كافة.
وتشير معطيات ووقائع تاريخ المنطقة العربية إلى أن شعوبها عرفت الدولة القومية مصطلحاً ومدلولاً نتيجة اتصالها بالغرب وانفتاحها على نظمه السياسية، وذلك منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولكن الدول الغربية المستعمرة منعت هذه الشعوب من تجسيد معارفها عن الكيانية إلى بنية دولوية قومية، بتأثير من الأفكار الغربية المقتبسة والمكتسبة حول ذلك لأسباب تعود بشكل مباشر إلى وجود "الإصرار المتكرر... (في الأحقيات) على الأصل الغربي للفلسفات القومية التي هي لذلك غير ملائمة للعرب، أو الزولو، أو الأندونسيين، أو الإيرلنديين، أو الجمايكيين الذين يحتمل أن يسيئوا استخدامها( )".
ولقد أحدث اتصال المشرق العربي بأوروبه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى استجابات فكرية سريعة وتماثلية أيضاً بسبب استشعارهم بثقل وطأة التخلف الذي يعانونه في جميع المستويات، كنتيجة للسياسة الإستعمارية التركية على امتداد أربعة قرون من الإستبداد. فقد وجد الأدباء والمفكرون العرب أنفسهم أمام قيم ومثل ومدلولات جديدة شاعت على الألسنة والأقلام إبان الثورة الفرنسية، فنطق الناس بها حديثاً عن الوطن والأمة والقومية والحرية والحقوق الطبيعية والمساواة. وشكلت هذه المصطلحات الجديدة منذ ذلك، العِدّة المفهومية للفكر القومي العربي في أولى تجلياته منذ أن تشابكت في إطاره نزعتاه الحديثتان الرئيسيتان: النزعة العلمانية، والنزعة الدستورية الديمقراطية. وإلى هذا التشابك بالتحديد يعود الفضل في تبني المعلم بطرس البستاني لفكرة "الوطنية" والجهود التي بذلها للتعريف بها بما في ذلك إصداره صحيفة "نفير سورية" كرد على المصادمات الطائفية الدموية التي شهدها جبل لبنان في عام 1860م، حيث صار يكتب فيها بتوسع عن "الوطن سورية"، وعن سكانه على إختلاف مذاهبهم وأجناسهم، معتبراً أن حب الوطن من الإيمان. وندد بالذين يستبدلون هذا الحب بالتعصب المذهبي، ورأى أنهم لا يستحقون النسب إليه، وإنهم أعداؤه. وشدد على أهمية تمتع أهل الوطن بالحرية المدنية والأدبية والدينية وغيرها من الحريات الأخرى، ولا سيما حرية الضمير. وطالب بفصل الدين عن الدولة والسياسة وذلك على قاعدة التمييز الذي أقامه بين الأديان(علاقة بين الإنسان وربه) والمدنيات (علاقة بين الإنسان وابن وطنه).( )
ودعا الإمام عبد الرحمن الكواكبي، استناداً إلى هذا التشابك، "لفصل الدين عن الدولة". "ورفض تدخل رجال الدين في السياسة". ورأى أن "الدين هو ما يدين به الفرد لا ما يدين به المجتمع". وأن "النفوذ الديني يجب أن لا يوجد في غير مسائل لإقامة الشعائر الدينية...الخ ( ).
وتطور الفكر القومي العربي بخطى واثقة بعد نجاح الإنقلاب الذي شهدته تركيا في تموز 1908م، حيث انكشف المستور من مضمون الدولة التركية تحت غلالة "الخلافة الإسلامية السنية" وظهرت على حقيقتها "القومية المتعصبة" وذات النزعة الدمجية الطاغية في إطار ما عرف باسم "سياسة التتريك القسري" التي انتهجها الإنقلابيون، وانفضحت خفايا "الطورانية الثقافية". وساعد ذلك الإنكشاف الأدباء والمفكرين العرب المسلمين الذين كانوا يظنون أنفسهم شركاء في دولة الخلافة، على حسم موقفهم من حركة النهضة والإصلاح ثم تأييدهم بعد ذلك الحركة القومية العربية وانضمامهم إليها لتحقيق الأهداف القومية والوطنية الأستقلالية، والثقافية والإقتصادية...الخ، ولكي "تصبح ثورة فكرية تحدث تغييراً تدريجياً في مشاعر الأمة القومية وفي آراءها وعاداتها معتقداتها لتوجد روحاً جديدة وديانة جديدة، كما رأى وبشر بذلك عمر الفاخوري (1895ـ 1940م) في كتابه "كيف ينهض العرب؟" لأنه كان يعتقد أنه "لا قيام لأبناء الضاد إلا بها، وهي الجنسية العربية". وكان بذلك يعبر عن رأي جميع المفكرين العرب من أمثال: عبد الحميد الزهراوي، وعبد الغني العريسي، واسكندر عمون، وأمين الريحاني، وغيرهم. وتعبر أطروحاته عن القومية، حتى عندما تحضن الوطنية مسوغات التلاقيات الفكرية العميقة مع أطروحات أمين الريحاني حول القومية والديمقراطية والعلمانية ومدلولات قابليتها للتوحد الكينوني الذي سهل فيما بعد تطور مفهوم "القومية السورية" إلى "القومية العربية" بسلاسة في القبول وبتمتع في الإحاطة. وقد وجد ذلك تجلياته التعبيرية في الموقف الذي اتخذه المفكرون العرب وجمعياتهم وأطرهم التنظيمية كرد فعل على مواصلة "الإتحاديين" فرض سياسة التتريك القسري وقمع الحركة العربية بصورة عنصرية ووحشية، خصوصاً إعدام بعض قادتها في كلٍ من بيروت ودمشق في عامي 1915 و1916م؛ حين أعلنوا مطالبتهم بالإستقلال والإنقصال عن الدولة التركية، عبر ثورة تحرر قومي انطلقت من الحجاز في 10/6/1916م بقيادة الشريف حسين بن علي، وعرفت باسم "الثورة العربية الكبرى".
وبانتهاء الحرب الكونية الأولى تفككت الدولة التركية، وتراجعت "فكرة الجامعة الإسلامية"، وأقيمت أول حكومة قومية عربية في دمشق شارك فيها قوميون من سوريه الطبيعية والعراق والحجاز، وكان على رأسها الأمير فيصل بن الحسين.
لقد دعمت الدول الغربية أهداف الثورة العربية المتمثلة بالإنفصال عن الدولة التركية، إنطلاقاً من مصالحها المباشرة في تغيير ميزان القوى في الحرب مع تركيا لصالحها. وأما بالنسبة لهدف الإستقلال فقد حددته دول الحلفاء بما يخدم مخططهم الإستراتيجي للمنطقة باعتبارها منطقة نفوذ لسيطرتها وفق تقسيمات اتفقت فيما بينها عليها ودون علم الشريف حسين قائد الثورة العربية عن ذلك، في المعاهدة البريطانية ـ الفرنسية التي عرفت باسم "إتفاقية سايكس ـ بيكو لسنة 1916". وكان يمكن لهذه الاتفاقية أن تبقى سرية لولا انتصار ثورة أكتوبر الإشتراكية سنة 1917م، وفضح قائد الثورة فلاديمير لينين لهذه الاتفاقية. وعرف نتيجة أنه ليس هناك إمكانية لقيام دولة قومية عربية. وإن أقصى ما يمكن تحقيقه قيام دول قطرية في مصر والعراق وشرق الأردن تحت النفوذ البريطاني، وفي لبنان وسوريه تحت النفوذ الفرنسي. وأما فلسطين فتكون تحت الإنتداب البريطاني حتى يتأهل الوضع في المنطقة أيضاً لإقامة وطن قومي لليهود. وأما الجزيرة العربية واليمن والخليج العربي فقد أخضعت لنفوذ السيطرة البريطانية بين انتداب على بعضها واستعمار مباشر لبعضها الآخر. وبسبب ذلك قامت الدول الاستعمارية بالقضاء على الدولة العربية القومية في دمشق لتفسح تدريجياً في إقامة دول قطرية مرتبطة بالإستعمارين البريطاني والفرنسي؛ ولم تمانع الدولة الإستعمارية من أن تظل كل واحدة من الدول الإقليمية تفتخر بهويتها العربية وتعلن أن "تحقيق الوحدة العربية هدفاً أسمى لها".
وتدشنت بداية العقد الثالث من القرن الماضي بولادة الأنظمة القطرية العربية الملكية والجمهورية، وإعلان الإنتداب البريطاني على فلسطين سنة 1922، وإقامة نظم حكم أخرى (مشيخات، إمارات، محميات...الخ) في جنوب اليمن والخليج جميعها كانت مرتبطة بالتاج البريطاني؛ وقد ظلت بعدها كذلك حتى أواسط ستينيات القرن العشرين.
وبقيام الكيانات العربية القطرية شهد الفكر القومي العربي إنطلاقة جديدة تمثلت بتحديد مساره في وجهتين رئيسيتين، إحداهما " لا أيديولوجية" منفتحة، تمثلت المفاهيم والأفكار القومية العربية الأولى ونزعتيها العلمانية والدستورية الديمقراطية. والأخرى "أيديولوجية" أسرت الفكر القومي العربي في منظومة متغلقة على نفسها، وحولت علاقة هذا الفكر مع نزعتي العلمانية والدستورية الديمقراطية إلى علاقة إشكالية. وأنعش الخلاف بين هاتين الوجهتين جدلاً فكرياً واسعاً حول القومية والعلمانية والديمقراطية، وصراع الأعراق والإثنيات، والوحدة العربية، ووحدة البروليتاريا، والصراع الطبقي، والدولة الوطنية، والدولة القومية...الخ. وكان هذا الجدل مؤهلاً للتواصل الحيوي، خصوصاً وأن التغيرات التي شهدتها مدلولات القومية العربية ترافقت بتطويرات أرقى لصيغ البنى التنظيمية من جمعيات خيرية ومنظمات أهلية إلى أحزاب سياسية أيضاً، وكذلك تنامي الأفكار اليسارية وإقامة تنظيماتها الحزبية الشيوعية في بلدان المشرق العربي، إنطلاقاً من فلسطين، حين تأسس الحزب الشيوعي الفلسطيني سنة 1920م، واضطلاع قادته، ربنا بتعليمات من قيادة الحركة الشيوعية العالمية "الكومنتيرن" بمسؤولية تأسيس أحزاب شيوعية في مصر وسورية ولبنان( ).
وأثمر اتساع النقاشات الفكرية وجدل القضايا المصيرية العربية، بشكل تدريجي، توافقات فكرية لتعريف عناوين هذه القضايا وتحديد مدلولاتها في أفق ما تتصل به من وقائع حياة الشعوب العربية السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية...الخ. وقد تتوجت تلك النقاشات التي شهدتها العقود الماضية بتعريف توافقي للقومية بين تياراتها المختلفة، يقوم على أن عناصر تكوينها الأساسية هي وحدة اللغة ووحدة التاريخ وما ينتج عن ذلك من مشاركة في المشاعر والمنازع وفي الآلام والآمال. وإن جميع الناطقين بالضاد (أي العربية) وفق ذلك يكونون أمة واحدة. وما القومية العربية إلا الشعور والإيمان بوحدة هذه الأمة. وهي تحتم العمل بكل نشاط لإزالة الحواجز القائمة بين أجزاءها العديدة.
وبهذا التوافق على معنى ومدلول القومية العربية (حتى لو كان اصطلاحاً) تعززت المشاعر القومية كثيراً عند سكان الكيانات العربية، وتأهلت لأن تكون أحد الشعارات الرئيسية في معركة النضال من أجل نيل الإستقلال الوطني. باعتباره الخطوة الأولى في طريق إنجاز "الوحدة العربية" و "دولة الوحدة العربية". ولكن هذا التوافق أجج من جانب أخر نيران الخلاف مع تيارات "الجماعة الإسلامية" التي تنادي بالوحدة الإسلامية ويقيام "دولة الخلافة الإسلامية"!! في عصر الإمبريالية وربما العولمة أيضاً؟!
وعمق هذا التوافق على صعيد آخر قضايا الإختلاف مع التيارات الإشتراكية اليسارية وخصوصاً الأحزاب الشيوعية العربية التي تدعو للنضال والتحرر من الإستعمار الأجنبي وإقامة الأنظمة "الوطنية" الإشتركية والديمقراطية، وترتبط مع الحركة اليسارية العالمية بوثاق الرابطة الأممية.
ومع أن النضالات التي خاضتها الشعوب وكذلك باقي شعوب الجنوب من أجل الإستقلال والتحرر الوطني أو القومي سواء في مرحلة الإستعمار أو الرأسمالية، كانت طويلة وضارية ومؤلمة، ولكنها كانت على أشد ما تكون عليه القسوة لأنها اخفقت دائماً في معظم البلدان في تحقيق أهداف الإستقلال وإقامة الدولة الوطنية أو القومية. وحتى دول "حركة التحرر الوطني أو القومي" التي أقيمت في بعضها كانت أعجز من أن تقيم الدولة الوطنية أو القومية بالمفهوم العلمي المتعارف عليه. وهي في أحسن أحوالها جعلت من بلدانها كيانات فقيرة ومتخلفة ومعتمدة في كل احتياجاتها على استيراداتها من دول الشمال، وأنظمة الحكم فيها إستبدادية ديكتانورية، وتوتاليرية في بعضها أيضاً.
وبرغم كثرة التفسيرات وأشكال التبرير التي يمكن أن تقدم لذلك، إلا أن السبب الحقيقي الي يقف وراء عجز كيانات التحرر الوطني أو القومي من أن تصبح دولة "وطنية" أو "قومية" بالمعنى الفعلي وليس الإصطلاحي لذلك هو "أن دول الجنوب ومنها دول العالمين العربي والإسلامي هي من جنس الدول التي لا ينطبق عليها وصف الدولة الوطنية (أو الدولة القومية)، لأنها نشأت وتطورت منذ الإستقلال السياسي لها، في سياق إنشداد كامل إلى علاقات التبعية للمتروبول وإقتصاداته، وهي ـ هي ـ التبعية التي تفقدها صفة الدولة الوطنية، وتمنعها من أن تكون كذلك"( ).
ووفق هذا المنطق أيضاً يمكننا فهم الأسباب الحقيقية التي وقفت وراء عجز (دول الجنوب) عن التشاوق والصمود أمام ظاهرة الإيغال في إحاطة منظومة الدول القومية في الغرب بكل أسباب الحماية والرسوخ والتجذر، واندفاع آليات الإنتاج المادي والرمزي فيها إلى كسر إطار السوق القومي والدولة الوطنية، واشتداد حركة الحماية للنظام السياسي القومي الموروث في الآن نفسه. وكانت النتيجة المباشرة لذلك تداعي الكيانات الوطنية العامة لدول الجنوب وانهيارها أمام تلك الإندفاعات وحقائقها الملموسة فتنهدر سيادتها على نحو كامل في المجالات الإقتصادية والتكنولوجية والثقافية. وفي مثل هذه الحالة، وبرغم بقاء كل التمتعات السياسية، فأي هوية تظل في هذه الكيانات؟ وإلى إي زمن تتأهل للإستمرار، حيث تطورت الرأسمالية إلى درجة العولمة كمرحلة ما بعد الرأسمالية وكتعبير لتتويج إنتصار النظام الرأسمالي كونياً بعد أن خرج من رحم الدولة الوطنية وهي ما برحت تعيد إنتاجه داخل حدودها وخارجها على السواء!.
إن هذا التفسير النظري الذي يبدو وكأنه ينفي بصفة قطعية وجود أية مظاهر للهويات الوطنية والقومية في دول الجنوب بما فيها البلدان العربية "يجافي الحقيقة العملانية" بشكل أو بآخر، لأن سكان هذه البلدان أوجدوا لأنفسهم صيغة (قومية) و (وطنية)، ولو وفق معايير مجازية لتشكل القوميات لا تتلاقى عند أي نقطة مع المكونات العلمية للقومية.
صحيح أن مفهوم القوميات في بلدان أوروبه ولد من رحم الثورة الصناعية كتعبير عن تشكل النهضة الأوروبية. وإن هذا الممفهوم الجديد للقوميات بنى سلام أوروبه كضمان لإستمرارية النهضة الأوروبية، على أنقاض المفهوم الأوروبي القديم للقوميات، الذي ظل على الدوام بمثابة صاعق تفجير للحروب الدامية بين بلدانها، واستمرت آثاره لمرحلة متقدمة من القرن الماضي. وإن هذا المفهوم الجديد للقوميات الأوروبية يضطلع اليوم بوظيفة يؤمل منها النجاح في جعل (الأوربه) هوية وطنية لكل القوميات الأوروبية على غرار ما أصبحت عليه (الأمركة) كهوية لجميع الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان الإقتصاد هو العنصر الحاسم في تكوين القومية، فهو سينجح في أوروبه كما نجح في أمريكا.
وصحيح كذلك أن تبدل الإنتماءات الهوياتية ليس بالأمر اليسير لأنه يحتاج إلى جهد كبير وإلى وقت طويل بعد توفير عناصر تكوين القومية الحديثة والظروف والمناخات الضرورية لخلق علاقة اللحمة بينهما. وهي إذا كانت قد نجحت في الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب تتصل بجديدية الكينونة الوطنية لها، واعتماد الأسلوب التدميري الإبادي ضد القوميات الأصلية فيها، بعد الإستعمار الأوروبي لأمريكا وفق ما اصطلح على تسميته بالإكتشافات الجغرافية بدءاً من عام 1452م؛ فإن الأمر في أوروبه متخلف، حيث القوميات في كل بلد منها متجذرة، والإنتماء الهوياتي عميق. ولذلك لجأت الحكومات الأوروبية إلى الأسلوب التراكمي التدريجي والبطيء لتحقيق وحدتها، حيث استغرق ما أنجز منها حتى الآن نصف قرن وأكثر من الزمن، ولا يعرف بالضبط كم تحتاج من الوقت لتصبح الهوية الأوروبية مواطنة أوروبية. والتساؤل على هذا الصعيد محقق، لأن الدول الأوروبية برغم ما أنجزته من صيغ توحد أوروبية لا زالت الأوساط الشعبية في بعضها تتحفظ على الدستور الأوروبي، فترفض التصويت عليه أو تصوت عليه فتسقطه. وكذلك لا زالت المستويات القيادية فيها تتخوف على ثقافتها ولغتها القومية الخاصة من تجليات العولمة على شكل أمركة. وفي هذا السياق يمكننا أن نستذكر احتفاليات معارضة العولمة في العديد من البلدان الأوروبية بالمظاهرات الحاشدة ضد العولمة، أو ضد المؤتمرات واللقاءات الدولية المتصلة بها. ولعل فيما أشارت إليه وسائل الإعلام الدولية منذ أواخر القرن الماضي حول وجود "إجماع قومي فرنسي على ضرورة التمسك بضمان "حماية اللغة الفرنسية، والإبداع الثقافي الفرنسي"( ) ما يدل عليها.
وفي السياق نفسه جاء الاحتجاج الفرنسي الواسع والشديد على مشاركة فرنسا بأغنية فرنسية "باللغة الإنجليزية في مهرجان الأغنية الأوروبية “Euro Vision" في أيار (مايو) 2008م( ).
وإذا كان الإقتصاد هو العنصر الحاسم في تكوين الهوية الوطنية فإن مثل هذا الأمر تصعب استمرارية الرهان عليه دائماً، لأن الهوية الوطنية المستمدة من حيوية العنصر الاقتصادي، حققت في ظروف خاصة ربما من غير الممكن تكرارها مرة أخرى، وإن العامل الإقتصادي كان العنصر الحاسم في توحيد أوروبه إقتصادياً ويراهن على أن يتمتع بنفس درجة قوة الأهلية لإنجاز الهويات الأوروبية الأخرى، الثقافية والوطنية، فإن افتقار دول الجنوب بشكل عام، والدول العربية على وجه الخصوص لهذا العنصر الحاسم يؤشر إلى أنه ربما لن تقوم لها قائمة على مستوى الهويات، في حين أن الواقع (على الأقل الماضوي) يشير إلى عكس ذلك، لأن في نعظم بعضها عوامل كينونة تخصها، حققتها على المدى التاريخي كخاصية تراكمية، ولم يتمتع بمثلها في أي مرحلة تاريخية أي شعب أو أمة من الشعوب والأمم الأوروبية، التي لو قيض لها إمكانية التمتع بمثل هذه الخصوصية لكانت حققت هويتها القومية ودولتها القومية قبل الثورة الصناعية بكثير.
وإذا كانت هذه "الخاصيات" لا تتمتع بأهلية تكوين "الهوية القومية العربية" في جميع البلدان العربية، فإنها تحتوي على عناصر تكوين هوياتية في كل بلد بمفرده، تمتعه بأحقية إشهار انتماءه الوطني، وبالتالي إنشاء "الدولة الوطنية" التي تتقارب مع دولة وطنية أخرى في سمات وتشابهات كثيرة تصلح كعوامل مساعدة مستقبلية لإقامة نمط أو تشكيل وحداتي وربما وحدوي أيضاً عندما تنخلق ظروف تقتضي مثل ذلك.
وبغض النظر عن الإختلافات البينية في عناصر تكوين الهويات في الدول الغربية وفي دول الجنوب بما فيها البلدان العربية، فإنه كما منحت العناصر التكوينية للقومية: الهوية الوطنية (المجتمع المدني والدولة الوطنية)، وكذلك الهوية الثقافية الوطنية والقومية لبلدان الشمال، فإن بلدان الجنوب وبضمنها البلدان العربية حققت هوياتها الإنتمائية بمواصفات خاصياتها الهوياتية التي تأهلت تدريجياً لدرجة: الهوية الوطنية، والهوية الثقافية الوطنية (حتى عندما تسمى القومية في البلدان العربية) في بنائي المجتمع الوطني والدولة الوطنية في كل واحدة من هذه البلدان؛ وكذلك نسجت شبكة آلية العلاقة بين البنائين التحتي والفوقي في كل واحدة من مجتمعاتها.
وفي عصر العولمة التي هي لحظة انتصار متجل للنظام الرأسمالي العالمي كونياً، خرج من رحم الدولة الوطنية وتعيد وتعاود إنتاجه داخلياً وخارجياً على حد سواء، لم يحمل منطق العولمة في زحفه الهيمني إنذارات تهديد بتحلل النظام السياسي في الدول الكبرى، ولم يهدد ما دونها بالويل والبثور وعظائم الأمور من بلدان الشمال الأخرى، وبإلغاء هوياتها: الوطنية والقومية، والثقافية، بينما هو يطيح بحدود دول الجنوب ويهدد سيادتها على نحو تفصيلي وكامل، فلماذا؟!. وهل توفر درجة تماسك وشائح العلاقة بين مجتمعات دول الجنوب الوطنية (ودولها الوطنية أيضاً) والثقافة الوطنية والقومية لكل منها، ما يمكن من حماية هذه العلاقة ويحول دون إلغائها تحت شدة ضربات معول العولمة؟!.
إن الإجابة على هذين السؤالين وما يمكن أن يتصل بكل منهما من تساؤلات ذات علاقة محددة أو تلامسية بالهويات وأسئلتها وتأثير حقائق واستحقاقات العولمة في كل منها؛ ليس بالأمر السهل، لا سيما وأن فحص واقع الهويات "العربية" بشكل مستقل أو في إطار "جنوبيتها" يؤشر إلى النتائج الإفتراضية عليها ليست كذلك حتى الآن وربما لأمد ليس بقصير. فالثقافة الوطنية لا زالت تنهل أسباب وجودها من منهلها الوطني والقومي. كما أن مقومات تماسك شخصيتها وتبلورها المضطرد لا يستمد من مصادر فوق وطنية، أو مصادر كونية إنسانية مثلاً. كما أن علاقة الثقافت الوطنية بالمجال الكوني الجديد سواء اكتمل تشكله حتى الآن أم لا، ليست خاضعة للآليات الحاكمة له وفيه، أي أنها ام تصبح جزءاً من الثقافة الكونية الجديدة على نحو ما يشاع على نطاق واسع، وأنها لا زالت حتى عندما تبدو وكأنها "إنغلاقية"، تتمتع ببعض خصائص تميزها الوطني أو القومي؛ برغم أنه لا يراهن لأمد طويل على استمرار احتفاظها بمثل هذه المظاهر التمييزية؛ لأن قدرة بلدانها الوطنية على الصعيد الإقتصادي يتناقض صمودها الحيادي إزاء الكونية المتصاعدة لللإقتصادي، وتهدد تنميطاتها المألوفة معطيات تدخلية لن يتوقف فعلها قبل أن تتحول تلك النمطيات إلى أشكال نمطية تكييفية مع العوامل الكونية الجديدة الجارية. وتصل اخيراً إلى بعد لا مندوحة في نهاية الأمر إزاءه إلا خيار أحد السؤالين: هل نحن إزاء ثقافة كونية أم إزاء ثقافة كونية أم إزاء ثقافة قومية؟. وهذا يعني بمعنى آخر قرع بوابة الإنتماء الإشكالي (أو الملتبس في أحسن الأحوال، إذا أجيز اعتباره كذلك)، أي السؤال عن العلاقة بين الكونية والخصوصية في مجال إنتاج القيم الرمزية.
وإن مظاهر الجدلية التي تمتع بها هذا السؤال، ومدى ما تستطيع قواها دفعه، والتي تتجاوز في مداها الأقصى النقطة القلقلة بين الحدين الكوني والقومي، سيجعل مجال تمتعه فردانياً في خصوصيته الثقافية، ولا تكتنفها أهليات جدل الإقتصاد والسياسة معاً. وإن التفكير في هذه الجدلية ثقافياً لن يأخذ في الإعتبار حركة العولمة في اتجاه توكيد حقائقها اليومية بقوة تناسب قوة الدفع الإقتصادي والعلمي والتكنولوجي التي أطلقتها. وهذا ما أغلق الباب بشكل موارب أمام إمكانية حسم الموضوع بشكل افتراضي حول مسألة الإستقلالية النسبية للمجال الثقافي وهويات الثقافة. وأكثر من ذلك فإن إمكانية الحسم ربما سيكون في مقدورها تعزيز هذه النسبية بعناصر إدامة لأنواع الهويات الوطنية القومية أو الثقافية، وإلى مدى يصعب حتى اليوم التكهن بموعد نهايته، بسبب إقتدارات العولمة الغير منتظمة لخلق المعطيات التكوينية للعالم. وكذلك فشل العولمة حتى الآن في ترتيب وضع أولوية الهويات في عملية الدفع الإندماجية العولمية، وهل الوطني والقومي منها أولاً أم الثقافي؟‍ وكذلك لأن تنويعات الدمج العولمي تتجلى تأثيرات عمقها التحويلية في مجالات الإقتصاد والسياسة. وأكثر من ذلك أنه لا يخشى من أن تسلك حيثيات التشكل مسارات نشوء وتبلور السيادة الثقافية في سياق تكون الدولة الوطنية وسيادتها نفسها وفي إطار الوعاء الجغرافي ـ السياسي نفسه برغم هياج عواصف تحولات العولمة.
ويقوم هذا الإفتراض إنظلاقاً من أنه لا توجد موانع من أن لا تقوم الدولة الوطنية دائماً بخلق الثقافة الوطنية، لكنها دائماً تساعد على ذلك متى أمكنها أن تحيط الحياة الثقافية والنظام الثقافي بأسباب الحماية والتحقق الطبيعي والتجدد.
وحيث أن الثقافة تنهل من مصادر مرجعية إجتماعية متجددة المخزون، فإن قوتها التعبيرية الهوياتية لا يضيرها أن تبدو إنعكاسية أجتماعية وفيها بعض الملامح والإشارات التمييزية المستمدة من ذلك المصدر المرجعي، وغالباً ما يكون الأمر كذلك، لأن دور الكيان الدولوي الوطني وأهميته تتمثل في توحيد التعبير الثقافي وتوسيعه على قدر رحابة الوطن من خلال: المؤسسات، والتشريعات، والخطط والبرامج...الخ؛ وتجديد زخم المصادر الإجتماعية و/أو الإثنية. وفي واقعنا العربي يكون ضرورياً دائماً استذكار الموروث ودوره في "بناء سيادة للحقل الثقافي الوطني لفترة طويلة في امتداد توطيد دولة الإستقلال وسيادتها على رعاياها وعلى مجالها الترابي. وقد ظلت الثقافة الوطنية تلك تنهل أسباب سيادتها وتجددها من مصدرين رئيسيين تقليديين، أي إجتماعي ودولتي. واستمرت (الأسرة والمدرسة)، الوسائط الوطنية التي أنجزت عملية إعادة إنتاج الثقافة الوطنية وسيادتها هي ذاتها في سائر الظروف"( )
وإذا كان مثل هذا التوصيف لا يقتصر على دولة من بلدان الجنوب دون الأخرى، فأنه ولأسباب موروثانية نجده في البلدان العربية و "الإسلامية" أيضاً يكتسب خصائص إضافية تمنحها بعض الأحقية في الإنتساب لهويات دولوية من أوابد الماضي، برغم أنه قد اندثرت إلى الأبد (الدولة العربية ـ الإسلامية ومتفرعات تسمياتها الدينية الأخرى)، أو لهويات متمناه من المستقبل (الدولة القومية العربية، ودولة الخلافة الإسلامية، أو حكم الوالي الفقيه...الخ)، بغض النظر عن التطورات الكونية وتبدل الأهليات وحتى معاملات التفكير أحياناً، حيث تجهد الشعوب وهي تمني نفسها على الإقتدار بتوفير بعض استحقاقات وشروط العيش في العصر الحاضر، فكيف بذلك قبل 15 أو 20 قرناً من الزمان!.
وربما بسبب من هذا نلمس تعقيدات ملامح صورة الوضع الهوياتي في البلدان العربية، حيث تتداخل الحدود الهوياتية بين المحلية والذاتية والوطنية والقومية والعرقية والإثنية، وأحياناً إلى ما هو أكثر من ذلك نظراً لكثرة التكوينات الفسيفسائية في كيانية إختلاط الهويات. فرغم إفتخار الإنتماء للهوية الدولوية الترابية (الكيانية الوطنية)، نجد أن الشرق أوسطيون من بلدان المشرق يدعمونه بنسب ديني (إسلامي دائماً تقريباً برغم أن الدين الإسلامي آخر وأحدث المعتقدات الدينية في المنطقة). ويدعمونه إضافة إلى ذلك بنسب إلى العربية كإنتماء قومي (برغم أن القومية العربية وفق المفهوم العلمي اتعريف القومية، هي مجازية ورغباتية جمعية لعدد كبير ممن جعلوا اللغة العربية، هي اللغة الرسمية الوحيدة في أنظمتهم السياسية). وهنا يبدو طبيعياً ما نشاهده من مظاهر إسترجاعية في المضامين العامة للإشارات الشعبية عن الهوية، حيث يهرب من "الإعتقاد بعدم التكافؤ مع الآخر" إلى إنتماءات تاريخية تقوم على أنها جذر قوي لساق هوياتية (معاصرة) ضعيفة وغير منافسة؛ حيث الثقافات في التاريخ مفتوحة على أزمنة ومرجعيات وفضاءات لا يمكن إغلاقها بشكل كلي، فيجعلها أمام مزيج يصعب فرز معطياته أو عزل مكوناته عزلاً تفصيلياً بعد أن تم لحمها بكيمياء الثقافة المؤدية إلى إخصاب المعطيات وتحويلها، بعد منحها صوراً وخصائص عديدة. فإنسان بلدان المشرق الإسلامي عندما يقدم صفة الهوية الإسلامية كبديل عن هويته الوطنية أو كمدعم إفتخاري لها فهو يقدمها كذلك باعتبارها هوية للمشروع الثقافي لهذه البلدان في عصورنا الحاضرة، وهو يراها أهلاً لذلك، لأنها قد جربت وتألقت في العصور الوسطى. وبذلك نجد هؤلاء الناس قد وضعوها من دون اقتدار أمام مركب تختزله كلمات التعريف دون أن تحيط بأبعاده ومكنوناته. فهذا المركب يشتمل على عناصر كثيرة ومعقدة التداخل تؤطر الفكر العربي الإسلامي وتغنيه بموجودات فكرية منتجة ومتبلورة، تتأهل للرجوع إليها كبرهان قوي على عمليات في المثاقفة والتحول شهدها الفكر العربي الإسلامي في مرحلتي نموه وتطوره. ويلاحظ أن هذه العمليات تشدها قواسم فكرية منهجية مشتركة، وتستند إلى مقدمات عقائدية محددة، لكنها تظل قبل وبعد ذلك، تشير إلى عملية تاريخية مركبة أكثر مما تقدم صورة نمطية مغلقة. وذلك لأنه ما كان بمقدورها أن تصل إلى ما بلغته لولا تدينمها (من دينامية) بالمثاقفة، التي يقلص الفعل فيها أهمية النمطية باعتبارها مجرد حصر لا يلتفت لآلية التفاعل الجدلية المولدة لمعطيات، والنافية لأخرى.
وبمعنى آخر فإن الهوية الإنتمائية العربية ـ الإسلامية التاريخية هي هوية فكرية اكتسبت مواصفاتها وسماتها من عملية التثاقف التي حدثت مع ثقافات الأمم والشعوب الأخرى في حينه، وتقتصر سماتها البيوريتانية على ما حملته من مظاهر دينية (إسلامية) ومن مظاهر قبلية قرشية (عربية)، فلماذا تجب الدعوة إلى العودة لهوية تأسست من التثاقف قبل خمسة عشر قرناً، في حين أن الأجدر هو الإستجابة والتفاعل مع إستحقاقات ومتطلبات عصرنا الراهن.
إن حديث دعاة العوده إلى "نقاء الهوية الإسلامية" أو نقاء الهوية العربية – الإسلامية "انطلاقاً من الحرص على الدفاع عن الهوية الوطنية والهوية القومية، هو حديث هرطقة ليس إلا؛ لأن الحديث عن نقاء الهوية يفترض أنه كانت هناك هوية نقيه؛ إضافة إلى أن افتراض الهوية النقية ولغتها النقية هو افتراض غير منطقي لان هناك استحالة في وجود هويات نقيه.فقد استطاعت الثقافة العربية ومنذ منتصف القرن التاسع عشر ان تمارس عمليات مثاقفة مع المرجعيات الثقافية الغربية رفضاً وقبولاً، ونسخاً وإبداعاً. وقد أثمرت هذه العمليات كيفيات محدده في إستيعاب عناصر فكرية جديدة مستمدة من المشروع الثقافي الغربي. وأضافت المعطيات الناتجة عن ذلك جملة من المرجعيات الجديدة لمكونات الهوية الثقافية العربية، شكلت مانعاً للنظر إلى الثقافة الغربية، والي الغرب عموماً على اعتباره خارجاً مطلقاً بالنسبة للذات العربية التاريخية. كما أصبح الغرب في أبعاده الثقافية المتنوعة منذ قرنيين وأكثر احد مكونات ثقافتنا المتحولة في الزمان. بما يعني اتساع دائرة خلق وإعادة تشكل الذوات والثقافات والمجتمعات في التاريخ.وبهذا المعنى يصبح مفهوم الهوية وسيلة حصر، تجعل من رفضنا لإدراك ما يجرى في أحوالنا وذواتنا نوعاً من قبول التوصيفات التي تصورنا ذواتاً معزولة عن دنياميات التغيير التي اتخذت وتتخذ صوراً تظهر وكأنها حتمية بفعل آليات التنميط القسري التي أضحت تهمين على النظام الثقافي في العالم منذ خضوع منطقة الشرقي الأوسط لحكم الإستعمار واختراقه لمنظومات السلوك والقيم والثقافة في مجتمعاتنا.
ونلاحظ مثل هذا الأمر بمثولية كاملة اليوم حيث نشاهد احتياجات العولمة، وهي تعمل في كل الاتجاهات وفق شروط تغيير وقائع التاريخ المعاصر، بآلية بنيات فاعلة في صناعة التاريخ دون عناية بالأفراد والجماعات وبطموحاتها المختلفة، وفرض حتميات تاريخية جديدة قد يتمثلها البعض، ويقبلها بعض، ويرفضها لا بل ويقاومها بعض أخر.
ولكن ذلك لن يغير شيئاً من حقيقة كونها ظاهرة موضوعية ذات آلية فعل مهماتي للتغيير، دائمة العمل بفعل مقوماتها الخاصة، وكذلك بفعل ما تستطيع إضافته من عناصر تقوية من كل الحركات حولها؛ بما في ذلك المعارضة والمقاومة( ) لها. من هنا نرى كم هو طوباوي الحديث عن بيوريتانية الهوية، وكذلك عن الهوية التحصينية المتأسسة علي عناصر قوة ثقافية ماضوية كالهوية "الإسلامية" مثلاً. وذلك لأنه من الخطل الشديد أن نتحدث في التاريخ بلغة الهوية الحافظة لذوات منغلقة علي ذواتها المعزولة، وذلك لأن مفهوم الهوية لا يعبر عن التطابق إلا بمقدار تعبيره عن الانفلات والتجاوز. وعندما نقبل أن تكون الهوية انفلاتاً، فإنه يترتب علي ذلك ان لا يكون "الأخر" عدواً مفترضاً في المجال الثقافي والحضاري، وهو لن يصبح كذلك بصورة مطلقة؛ حيث التواصل القائم والمنجز بيننا وبينه ساعد على خلق مفاعل تشاركي متبادل، مكننا ومكنه من المساهمة في تحويله إلى جزء من ذاتنا، وفى تحويلنا إلى جزء من ذاته، في إطار ضرورة فعل لذاتنا وذاته في التاريخ. وهذا سيساعد بكل تأكيد على بلورة التصورات المساعدة على فهم وتجاوز الإشكاليات التي يطرحها الصراع السياسي والأيديولوجي الذي يعيشه العالم اليوم.
لقد بدأ الناس في مختلف أنحاء العالم يحددون هوياتهم من خلال الانضواء في مجموعات إثنيه أو طوائف دينيه أو مجموعات لغوية أو تاريخية.وان العوامل الإثنية واللغوية والدينية والتاريخية والمؤسسية تحل محل الأيديولوجيات السياسية كعناصر أساسية في هويات الشعوب والدول في مختلف أنحاء العالم.وفي القرون الخمسة الأخيرة أخذت السياسة المحلية تتحول إلى سياسة الإثنيات، في حين تحولت السياسة العالمية إلى سياسة الحضارات، التي هي أوسع بنيات أو مجموعات ثقافية يتماهى الناس معها.وفى الواقع العربي فإن القبيلة والإثنية والدولة والدين هي جميعها عوامل فبركة وإنتاج لهويات امتلكت قوة التواجد علي اختلافات الإمتداد في الزمان والمكان. ولا يمكن الحديث عنها بإعتبارها أنماط صافيه للجماعات البشرية، وذلك لأنها أيضاً سيروره، وبالتالي أزمات وليس العكس، برغم أن أساسها المفهومي يقوم علي الثبات مع كل ما يمكن أن يعمله من مظاهر تغير دائم، سريع أو بطيء. وهذا ما يجعل عمق أي شعور بالهوية قضية نسبية في المطلق.وان فكرة الجمود فيها هي ابنة أحكام مسبقة وثنائيات تحتضر، ولم يكن ولم يعد لها من معنى سوى تفسير واقع أيديولوجي نمطي صنعه ذوي الشأن في الثقافة والسياسة علي مدى العصور المتعاقبة.
ويزداد مفهوم الهوية تعقيداً في الواقع العربي عندما تتمسك إحاطات شرحها والتعريف بها بأهداب السيبيات التي تأسست عليها دعوى مزاعمية الهوية الدينية في الشرق، لتثبت بها ذرائع لأطروحة هوية القومية العربية، علي اعتبار أنها السلاح الأفعل لحماية البيوريتانية القومية للهوية العربية، برغم أن الهوية القومية في العالم العربي كانت وليدة ظروف أزمة ظهرت على أثر محاولة القطيعة بين العرب والإنموذج العثماني منذ بداية مرحلة النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد جرى في تلك المحاولة ترجيح المفهوم الغربي بديلاً للتركي المنقطع عنه، بدل أن يجرى تشجيع استنباط مفهوم محلي ينجم عن فك الاستعصاء التاريخي. وقد قطعت مجتمعات الولايات العربية العلاقة مع الأتراك من فوق، في العديد من الهياكل التاريخية دون مراعاة وجود كوادر عربية مؤهلة من عدمه. ونتج عن هذا الأمر وجود فجوة عميقة بين المؤسسة الحديثة والمجتمع العربي، إضافة إلى ظهور اختلالات في صور المفاهيم واختلافات حول مدلولاتها المباشرة وغير المباشرة، والقريبة والبعيدة، وفوضى في الهوية والمؤسسات، وفي كيفيات الانتقال بين حقبتين ونمطي إنتاج مختلفين؛ خلقت فراغاً هائلاً في وعي الناس السياسي.
وعندما أمكن تجاوز ذلك بعد بناء دولة الإستقلال القطرية، طل سؤال كيفية بلورة هوية سياسية وثقافية ضمن حدود معينة قائماً إلي أن تمكن الشعور الجماعي للمجتمع السياسي الجديد من الإنتماء إلى قضية كبرى واحدة، حققت التماسك الضروري لإنجاز الإستقلال الأول، أو التخلص من نفس القيود وتجاوز الإشكالية الاستعمارية نفسها ومنذ ذلك تسجل للهوية الوطنية السياسية انطلاقتها ثم إطلالها على العالم والعيش بالبعد الكوني أو الإنساني.
وحيث تأسست الدولة الوطنية وفق التقسيمات الحدودية (التجزئة) التي وضعتها القوى الاستعمارية، وبرعايتها، فقد جاءت الدولة تدخلية وفي مواجهة مفتوحة مع المجتمع، وبالتالي في موقع معاد للعروبة كمفهوم كياني وليس فكري أو ثقافي .وعندما لم يكن بالإمكان تحقيق الشرعية السياسية من تحت، صار بإستطاعة التجمعات الحاكمة الجديدة الذهاب بعيداً في فرض تصورها للوصول إلى السلطة، وبما يسمح لها بإعادة فبركة الهوية السياسية للناس على أنموذجها الخاص.
منذ ذلك الحين وحتى نهاية عقود النصف الأول من القرون العشرين والهوية السياسية في البلدان العربية تبحث عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية، ليس باعتبارها المعبر عن مصالح الجماعة، وإنما لأنها أصبحت في الصراع غير المتكافئ علي السيطرة والهيمنة في العالم، الوسيلة الأكثر اختصاراً لبلورة برنامج متميز للجماعة يختصر كل مسافات الابتكار السياسي، والتجزئة، والخطأ، والطرق المجهولة المآل.
وكانت جماعات السلطة تجد للقومية العربية الصياغة البرنامجية التي تتمسك بها هدفاً أسمى للشعب "وللأمة" وأمانة للرسالة "القومية" "المورثة من عهد يعرب بن قحطان وحتى اليوم، وبدونها لن تقوم دولة "الوحدة" أو دولة "القومية العربية" والتي بدونها لن يتأهل "العالم العربي "لمجاراة تقدم العالم ومسايرة تطور ركب الحضارة، ولن تستعيد "الأمة العربية" مكانتها السامية بين الأمم، وتسترد دورها التاريخي الذي فقدته بسبب ما حدث للدولة العربية ـ الإسلامية من حالات الشقاق السياسي وقيام الدويلات المتناحرة في القرن الرابع الهجري، وما تلاه حتى قيام وازدهار الدولة التركية كامتداد وراثي للدولة العربية ـ الإسلامية. وقد انمحت العروبة في دولة الوراثة العثمانية، كما تمثلت "العربية" حالة تناقض ملتبس بين دولة الوراثة لدوافع "قومية" والقبول لدوافع "إسلامية" أصبح في ضوءها سكان الولايات العربية من "التابعية" العثمانية هوياتياً.
واستجدت منذ وقت مبكر، وفي إطار السعي السلطوي العربي للاحتفاظ بالحكم وفق برنامجه ورؤاه الخاصة في كل دولة عربية، اختلافات وخلافات وحروب، وانقسامات وتالفات وتحالفات ووحدات أخفت الأسباب الحقيقية لقيامها وزاعمة بأن الموجب الأوحد لذلك هو "القضاء علي المغتصب الصهيوني وتحرير فلسطين" وتحقيق "الوحدة العربية" وإقامة "دولة القومية العربية". وأسست أحزاب وجيهات وفصائل وحركات للاضطلاع بهذه المهام التاريخية ولتحقيق أهداف الوحدة والحرية والاشتراكية. وشهدت بعض الأقطار العربية انقلابات وتحاربات وانشقاقات حزبية حول أولوية كل منهما في ترتيب جدول المهام الكفاحية القومية. وتواصلت في الوقت نفسه أطروحات الإسلام السياسي الفكرية والدولوية من قبل أحزاب وتكتلات وجماعات كانت قائمة وأخرى جديدة تأسست لهذه الغاية، واندمجت في الصراع على السلطة وفي فرض برنامجها السياسي والأيديولوجي .وتبارزت مع الاتجاهات القومية على تعددها حول الصوابية البرنامجية والوسائلية الكفاحية من أجل تحقيق ذلك. ومع أن مراحل الصراع المختلفة قد استوعبت كل آليات الحراك السياسي والاجتماعي والفكري، وأوصلت بعض القوي والأحزاب القومية واليسارية والإسلامية إلى الحكم في بلد عربي وأكثر، وتمكنت من الاستمرار فيه لعقود من الزمن، فأن أياً منها لم يحقق "الأهداف المجيدة".
وأكثر من ذلك أنه أمعن كثيراَ في طرح مسوغات ذرائعية حول أهمية تغليب الأولويات الكفاحية القومية والتحرير على مطالب الديمقراطية والحريات والحقوق وقد استخدمتها أنظمة حركة التحرر الوطنى العربية مبررات تقهر الجماهير وقمعها وحرمانها من خوض الكفاحات المطلبية، لأن مثل ذلك يحرف جهود الحكومات الإقليمية عن خط مواجهة ومقاومة وممانعة "العدوين:الصهيوني والإمبريالي".وبرغم أن حكومات الإستقلال القطرية عجزت عن تحقيق أي من هذه الأهداف إلا أنها ظلت تتمسك بهذه الشعارات، كما أنها ولفت شعاراتياً عوامل تعزيز لمفهوم الهوية القومية، حتى وان لم يكن هذا المفهوم واقعياً، وغير ممكن التحقيق بصورة انتسابه لـ "دولة القومية العربية".
ولقد عاش المواطن في بلدان الإستقلال القطرية كل العقود الماضية في انتظار تحقيق حلم "الهوية القومية " كمفهوم غير محدد وفضفاض، أصاب تغليبه على مفهوم الهويات الأخرى فكرة المواطنة بالوهن ومفهوم "الهوية الوطنية" بالإهتراء. فبدا أولئك المواطنون وكأنهم أسرى تنازع هويات اغلبها طوباوي، وأقصى ما يمكن بلوغه على سبيلها افتراضي؛ لا سيما وأنه لم يحقق طيلة العقود الماضية أية منجزات أمل بذلك، فكيف بمثل حدوث هذا في عصر العولمة التي تؤشر إلى تغبيرات جوهرية في كل المجالات، بما في ذلك الإنتماءات والهويات؟!.
يتعايش المواطن في العالمين العربي والشرقي وفي بلدان الجنوب الأخرى مع وقائع واستحقاقات تفاعل مظاهر تطور مجالات الحياة المختلفة كمتلق ومستهلك، ومشارك بدرجة نسبية محدودة جداً، في الوقت الذي يحمل في أعماقه كل معالم الصراع موزعة بين الاتكاء علي عنجهية الزعم والمواجهة الفعلية لعنجهية القوة. أي الإنكفاء المريح على الذات وضرورة إعادة مناقشة مكونات الذات، وقوة التعبئة التي تمنحها الهوية الثقافية ومحدوديتها في تعبئة القوة في الحياة الفعلية( ). وأمام معطيات نتائج هذه الأطروحات الفاشلة حول هوية "دولة القومية العربية" لا يمكننا فهم أسباب طرح هذه المقولة، والاستمرار في التمسك بها كشعار استراتيجي لمهمات الواقع والمستقبل العربي، إلا في إطار تعبيرها كهوية سياسية الدافع والغرض.
وان استخلاصاً لنتائج المساعي والأبحاث حول أسباب فشل هذا الطرح، أوصل حتى الآن إلى أنه يعود بشكل رئيس وأساسي إلى عدم واقعية شعار "القومية العربية " في التطبيق العملي كما أثبتت التجربة العربية المديدة والمريرة. ويعود كذلك لعامل هام آخر هو استحالة تحقيق هوية "دولة القومية العربية" لأسباب فكرية محضة. إلا أن هذا لا يلغي ولا يحمل مؤشرات إلغاء مستقبلية لمشتركات بين البلدان المشرقية الناطقة باللغة العربية كلغة رسمية وحيدة فيها، تتأهل لمستويات نسب إنتمائية مشتركة ذات بعد حضاري وثقافي يضمن استمرارية وتألق اللغة العربية كلغة مجيدة من لغات العالم الرئيسة. ويوفر لها أهمية التمتع بمكانة مرموقة بين المتحدثين بها باعتبارها جامعة ثقافية تعددية وتنويرية تتأهل بمقومات ارتباطية وجدانية واشواقية جامعة، ولكنها دون القومية، وأوثق من الإنجلو ـ سكسونية عند الناطقين بالإنجليزية، وكذلك من الفرانكفونية عند الناطقين بالفرنسية وتجد هذه المشتركات في "العربية" مصطلحاً ثقافياً للدلالة على ذلك، وللتعبير عنه، يدعو لرسالة راقية تؤسس لنسيج علاقة إنسانية بين البلدان العربية يقوم على المثاقفة الديمقراطية والانفتاح والتنوع وقبول الآخر: الديني والسياسي واللغوي والجندري واللوني، ويؤسس لرابطة تلاقويه بين البلدان "العروبية" تنطلق من حقائق واقع العصر ومتطلبات تطور العالم، وتنفتح مديات هذه الرابطة لأي مستويات تطور توحديه طوعية (النموذج الأوروبي)، ربما تنجز في المستقبل "العروبة" التي هي هوية الدول العربية، بعد أن تعذرت أمكانية بلوغ هوية دولة القومية العربية.
إن الهوية المنشودة هي بالضرورة أيضاً سياسية الدافع والغرض، ولكنها متعددة المشارب والانتماءات، وقادرة على التجدد بشكل دائم لأنها ابنة استحقاقات تطلع، أكثر منها ابنة ذاكرة جماعية وفردية ضرورية الاستحضار. ولذلك كانت تشكلات الانتماء السياسي، الترجمة الأكثر صدقاٍ لمعطيات العصر، مهما كانت المرجعية الثقافية والرمزية لها.
لقد كان المعنى الآخر للهوية القومية وكذلك للهوية الإسلامية (غوغائياً) يتمتع بالجمود والسكون والتمترس الدوغمائي وراء عوازل حصار الثقافة ورفض دورها كمحرك التجديد المجتمعي الدائم والفعل الذي يسمح بإعادة إنتاج الذات. ولذلك كان الفشل هو حصاد قرن وربع من الحراك المثابر في مجالات تحقيق طموح "دولة الوحدة العربية" أو "دولة القومية العربية"، وكذلك في الرفض الشعبي لأطروحات دولة الخلافة الإسلامية!. وكان يقف وراء فشلها تقديم فكرة "القومية العربية " و"الإسلامية" على اعتبار أنها "تراث" و "مقدس"، في حين أن ثقافة العالم اليوم بمعطياتة المختلفة تؤشر على أن الذات كما هي الحضارة إنتاج بشري متأثر بالظروف الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات، وبالتالي فهو عرضة للتغيير، ويستحق التغيير كلما اقتضى الأمر ذلك.
ويمكن أن يكون وراء الفشل في تحقيق الهوية "القومية" أو "الدينية" مسببات "قومية عربية" أو "إسلامية" جاءت في معظم حالاتها ممظهرة في سياسات إكراهيه واجباريه كانت على صورة إشكالية واكبت ولادة ومساعي وحالات إنضاج التأسيس لـ "الهوية القومية العربية" في دول الإستقلال القطري وبدون أن يراعي أن دمج مجموعة من الهويات الوطنية القادمة من خصوصيات ثقافية مهما كانت درجة الاختلاف بينها نسبيه لتجعل منها هوية واحدة جديدة، هي بالضرورة مرفوضة لأنها لن تكون هوية ديمقراطية، بل هوية "الأمر العسكري" أو "أحكام الطوارئ" أو هوية "القيادة القومية"؛ ولأن هذه الهوية ستحمل مخاطر القمع الاجتماعي والثقافي والنفسي بشكل مباشر أو غير مباشر. وستزرع في اللاوعي المواطني صدمة الإكراه التي تجعل الاحتمال الممكن دائماً هو احتمال ولادة كائن مسح ذي الهوية غامضة ومضطربة. وذلك لان الهوية تخلق على امتداد زمني يستطاع فيه وعبر الصراع تحشيد تراكمات هوياتية، ولكنها تكون دائماً غير حتمية بسبب التجديد الدائم في كيفيات الصراع وفي تغير أهدافه ووسائله وآلياته.
وفي عصر العولمة اليوم، حيث تتثاقف شعوب العالم مع بعضها البعض بطرائق عديدة وبميكاترمات في غاية الجودة والدقة والتطور والسرعة، يظل الحديث عن الهوية ممكناً، في حين يكون الحديث عن (أبدية) الهوية خيالاً، لأن اندفاعات العولمة وهي في طريقها نحو "نهاية التاريخ "تؤشر إلى أندثارات وانمحاءات هوياتية، كما أنها تبشر بتلاقيات واختلافات واندماجات هوياتية تؤسس لمرحلة الإنتقال التدريجي نحو "العالم الواحد" "الإنسان الأخير" الذي ستكون له هوية واحدة هي "النظام الليبرالي".
وحيث التحول الذي ينتظر عالم اليوم كونياً، فلن يتم بين ليلة وضحاها وبلا أثمان باهظة أو تضحيات، ولذا فإن سؤال الهوياات لن تحيط به إجابة تسليمية قدرية، لأنه يتصل ببشر، تتمتع نظرية "الاصطفاء الطبيعي" بقدر كبير من الاحترام لديهم حتى عندما تعكس بعض ممارساتهم السلوكية نقيضها أو ما هو نضادي معها. ولكنه بالضرورة لن يكون أسير احتمال حتمية واحدة، وخصوصاً سؤال "الهوية العروبية الديمقراطية التعددية" وذلك لأنه قد تجدد أشكال التصارع والإنتماء، إلى أن تصل لتعريف واضح ومحدد لهويته الثقافية والدولانية (من دول ليس دولة ) المتجمعة في موقع ما يعبر عن أغلبية اقتصادية واجتماعية وثقافية في زمان ومكان محددين.كما يمكن أن تكون تدبيراً تشاركياً لا يتجاوز كونه وسيلة دفاع مؤقتة ومحلية أو مؤقتة فوق محلية، أو تجامعية لخوض معركة الدفاع عن الجماعة الدولانية كلها أو بعضها أو جزء منها. وقد يحدث ذلك لتحقيق أغراض أخرى معاكسة لذلك، مثل استغلال جماعات بشرية أخرى.
إن أسئلة الهويات في عصر العولمة الراهن ستكون متراوحة في إطار دائرة هذا المفهوم، وربما قد تتجاوزه امتداداً أو تقلصاً وفق المستجدات وحركياتها في اندفاعية العولمة. وان المفاهيم الأخرى التي تطرح كتعبير عن دلالات الهوية / الهويات: وطنية، قطرية، قومية، دينية وغيرها من التسميات والتوصيفات والمفاهيم، والتي تبدو على درجة عالية من التساهل في الصراع السياسي والأيديولوجي على النطاق الدولي، لا تعبر أبداً عن طبيعة ما يجرى ولا تكتشفه، بسبب ما يثقل كواهلها من افتراضات هوياتية ليس لها أساس من الصحة، ومزاعمية حتى عندما تعزز بالسير والأمثلة التاريخية. وأكثر من ذلك أنها تخلق أمام تبصرنا حوائل لا تسمح ببلورة التصورات المساعدة على فهم وتجاوز الإشكالات التي يطرحها هذا الصراع.
إن المفهوم الذي حددناه كإطار لأسئلة الهوية ولمحاولات التبصر في إجابتها لا يساعد على تجاوز إشكالات التجاهل التغطرسي الهيمني للهويات فحسب، ولكنه يساعد أيضاً على اكتشاف الطريق المؤدى إلى عضوية التنوع الثقافي، باعتباره وجهاً أخر لمفهوم الاستقلال الثقافي الذي لا يضمن تحقيقه أو استمراريته أن وجد، في عصر العولمة. ويعطي من جانب بعضاً من الثقة والطمأنينة على أمن مستقبل الهويات خصوصاً الثقافية والوطنية، شريطة مشاركة شعوبها مع الآخرين في خلق أواصر "تطمح للتكامل بين الثقافات وذلك في أفق إسقاط الحواجز الثقافية بين البشر وتجاوز اعتبارات الافتخار الحضاري وصولاً الى بناء مستقبل إنساني أفضل يسوده الحس الجماعي والتعامل والتضامن في مواجهة كل الأخطار التي تهدد التقاليد الإنسانية( )".
إن الطروحات الكثيرة التي تتداول في بلدان الجنوب وفي البلدان العربية بشكل خاص حول توصيفات الهوية ومزاعميات الافتخار الثقافي والتباهيات التاريخية لا تؤسس لأي مفاهيم جماعية أو تحققات هوياتية وطنية أو قومية، لأنها لا تحقق ألا باشتراطات تمتعها بالأوصاف التي ذكرت سابقاً، هي ليست أكثر من مفاهيم محكومة بمواقف وآراء مسبقة وغير واضحة المضامين. وهي ليست في صالح شعوب بلدان الجنوب، ولا تمنحهم أي مظاهر طمأنينة على هوياتهم في عصر العولمة، لأنها مفاهيم تبز الحقائق وتركب المغالطات ولا تتيح إدراكاً جيداً لشبكة العلاقات والتصورات القائمة بين استقطابات العالم ومحاوره وبين دوله وبعضها البعض.
وهي من جانب أخر لا تؤسس لمفاهيم يقوم خطابها على بنيات منتجة على تقليص وتذويب درجات التوتر المؤججة للخلافات والداعمة للصراعات القائمة وتهيئ لاندلاع حروب المصالح الهيمنينة الجارفة للهويات والمثاقفات معاً.**
رام الله 25/04/2008م

*محمد سليمان كاتب وباحث فلسطيني مقيم في رام الله /فلسطين.
**هذا البحث فصل من كتاب "أسئلة الهويات والمثاقفة في عصر العولمة، محمد سليمان".وسيصدر فريباً عن معهد إبراهيم لدراسات التنمية الإعلامية والثقافية –رام الله / فلسطين.

مصادر البحث
1- الدولة القطرية والنظرية القومية، جورج طرابيشي. دار الطليعة بيروت 1982م.
2- المحنة العربية الوحدة ضد الدولة، د. برهان الدين غليون مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت (الطبقة الثانية)1994م.
3- النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، د.هشام شرابي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992م.
4- تاريخ الصحافة التقدمية الفلسطينية /مجلة حيفا أول صحيفة يسارية عربية، محمد سليمان. محظوظ. رام الله 2008م.
5- أبحاث نقدية في حقوق الإنسان، هيثم مناع .مخطوط. باريس 2005.
6- نحو نظرية للثقافة :لقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعاكس، سمير أمين. معهد الإنماء القومي، بيروت 1989م.
7- الثقافة والأيديولوجيات في العالم العربي (1990-1960)، د. فهمية شرف الدين.دار الآداب، بيروت 1993م.
8- الثقافة والإمبريالية، إدوارد سعيد.دار الآداب، بيروت الطبعة الثانية 1998م.
9- رهانات النهضة في الفكر العربي، د.ماهر الشريف. وزارة الثقافة، رام الله (دون ذكر سنة النشر).
10- في الثقافة والثورة الثقافية، لينين. دار التقدم، موسكو 1968.
11- قضايا الفكر المعاصر، محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1997م.
12- المختارات/الجزء الرابع، كارل ماركس. دار التقدم، موسكو (الطبعة الأولى) 1967م.
13- العرب والعولمة (بحوث، مناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية)، تحرير أسامة أمين الخولي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998م.
14- العولمة والثقافة، حاتم بن عثمان. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان 1999م.