هل من بديل للصراع مع إسرائيل؟


سامر سليمان
2008 / 5 / 30 - 10:47     

الكتابة في الجرائد معيبة بالمقارنة بتأليف الكتب والأبحاث. فهي لا تتيح لك البناء على نار هادئة. تقول شيئاً بشكل مختصر ومكثف فتجد أن ما قلته لم يُفهم بالشكل الذي قصدته، أو تبدأ في طرح فكرة فتأتي ردود الأفعال قبل أن تنتهي من بلورة هذه الفكرة. لكن يظل أن الكتابة هنا تعطيك تغذية عكسية سريعة تجعل منها عملية إنتاج جماعي. لذلك أنا سعيد برد سعيد عكاشة على مقالي المنشور الأحد الماضي بالرغم من أنه رد قبل أن انتهي من بلورة تصوراتي عن علاقة مصر بفلسطين وبإسرائيل.
كنت قد قلت أن مرحلة مقاومة إسرائيل قد انتهت والمرحلة الآن هي الهجوم عليها.. الهجوم الحضاري الذي لا يمنع من استخدام السلاح في حالة الضرورة ولكن لا يقتصر عليه أبداً. فرد سعيد قائلاً.. من قال لك أن الكل يريد تحرير فلسطين أو القضاء على إسرائيل؟ والحقيقة أني لم أفترض أبداً أن كل المصريين يريدون القضاء على إسرائيل. أنا فقط كنت أتحدث إلى معسكر أعداء إسرائيل الذي انتمي إليه والذي وإن كنت لا أدعى أنه يمثل كل الشعب المصري، فإنني أزعم أنه يمثل قطاعاً كبيراً منه، مع تسليمي بحق دعاة السلام مع إسرائيل في التعبير عن أرائهم. وربما يأتي اليوم الذي يقوم فيها بمصر نظام ديمقراطي فنحتكم للناس الذين سيقرروا بشكل ديمقراطي إذا كانت إسرائيل دولة عدو أو دولة صديقة أو دولة لا شأن لنا بها.
لقد اتهمني سعيد بالتناقض حيث أنني أطالب بنموذج حضاري علماني ديمقراطي في الوقت الذي أدعو فيه إلى العداء مع إسرائيل. وهذا قول غريب. من الذي يعاني من التناقض يا سعيد؟ كيف تدافع عن الدولة الديمقراطية العلمانية في مصر وتقبل وجود دولة طائفية/دينية على حدودنا الشرقية؟ إسرائيل بالتأكيد تمتلك نظاماً سياسياً أفضل من كل نظم البلاد العربية، نظام سمح لعروبي غير يهودي – عزمي بشارة – أن يرشح نفسه لرئاسة الوزراء وأن يحصل على نسبة من الأصوات لم يحصل عليها مرشح رئاسة معارض في أي بلد عربي. لكن ماذا في ذلك؟ الدول الاستعمارية تمتلك غالباً نظماً سياسية أكثر ديمقراطية من نظم البلاد التي استعمرتها. مشكلة إسرائيل ليست في نظامها السياسي الذي يدير الدولة. المشكلة في الدولة نفسها.. في طابعها الاستعماري الديني الطائفي. مصر لا يجب أن تتسامح أبداً مع دولة القبيلة الإسرائيلية التي نشأت على حدودها. فهي تظل دولة قبيلة مهما تسلحت تلك القبيلة بأحدث ترسانة حربية وبتقنيات العلم والتكنولوجيا. مصر لديها دولة وطنية، وهذا ما لا تمتلكه إسرائيل.. صحيح أن وطنية الدولة هنا لم تترسخ بعد لأسباب كثيرة منها أن الدولة المصرية الحديثة نشأت على يد نخبة تركية/شركسية وأن الامبريالية الأوروبية اصطدمت بها وأعاقت تطورها، وصحيح أن الدولة المصرية لا زالت مترددة بين الطابع الوطني والطابع الديني/الطائفي (المادة 2 من الدستور)، لكن دعنا نتفق أن هناك فارق هائل بين دولة تقول أنها ملك لكل يهود العالم وتعطي جنسيتها لأي يهودي يمر بها، ودولة تقول أنها إسلامية لكنها لا تدعي أبداً أنها دولة كل المسلمين في العالم. مصر لديها دولة قومية وإسرائيل لا تمتلك إلا دولة طائفية تستميت من أجل التحول إلى دولة قومية بلا جدوى. اللغة هي روح القومية. لكن إسرائيل لا تقوم فقط على اللغة، والدليل على ذلك أن عرب إسرائيل (خاصة الأجيال الجديدة منهم) يجيدون العبرية ولكن هذا لن يجعلهم أبداً جزء من القومية الإسرائيلية التي تحاول الدولة الصهيونية بناءها.
يقول سعيد أن اليسار يتهرب "من حقيقة انه ليس هناك اختيار سوى بين مشروعين.. إما المشروع القومي – الإسلامي بكل أبعاده ورؤاه فى الداخل والخارج ودونما فصل بينهما، وإما المشروع النقيض العلماني المنفتح بكل تصوراته، بما فى ذلك الحل القائم على فكرة الدولتين العربية والإسرائيلية كحل عادل للصراع العربي الإسرائيلي". هذا بالضبط ما لا أريده. لن أقبل أبداً الاختيار بين نموذج حماس وحزب الله (الصراع الطائفي والديني مع إسرائيل) أو نموذج التسليم لإسرائيل. حماس وحزب الله ليست إلا ردود أفعال لإسرائيل، تحاربها ولكن لن تتغلب عليها قط لأن نموذج الدولة الذي تطرحه لا يتفوق على النموذج الإسرائيلي. في أوائل الثمانينات كان والدي يقول لي أن إسرائيل تهدف إلى لبننة المنطقة، أي إلى قيام دول طائفية فيها على النموذج اللبناني حتى لا تشعر إسرائيل بالغربة في المنطقة. فلا يخفي على أحد أن الدولة اللبنانية بطابعها الطائفي هي أشبه الدول العربية بإسرائيل. اليوم نستطيع القول بأن إسرائيل حققت (أو تحقق لها) نجاحاً باهراً في لبننة المنطقة. فنموذج الدولة الطائفية اللبنانية القائمة على المحاصصة التي أوقعت لبنان في الحرب الأهلية وفي الخراب هي – ويا للعجب - مصدر إلهام زعماء الطوائف في العالم العربي من العراق شرقاً إلى السودان جنوباً. بل أن حزباً طائفياً أصولياً يحمل اسم الله قرر أن ينفرد بالمقاومة وأن يستقل بطائفة الشيعة عن الدولة اللبنانية أصبح نموذجاً لمقاومة إسرائيل حتى داخل أوساط الكثير من العلمانيين في مصر. لكن مصر تظل عصية على اللبننة. مصر تمتلك دولة قومية راسخة في منطقة تعز فيها الدول القومية. وهذا أثمن ما يمتلك بلدنا. أثمن من النفط الخليجي ومن التكنولوجيا الإسرائيلية. ولذلك سيظل النموذج المصري مؤرقاً للكثيرين في المنطقة وعلى رأسهم إسرائيل. ولهذا أقول أن الصراع بين مصر وإسرائيل هو صراع حضاري بالأساس.. دولة قومية راسخة من جهة ضد دولة قبيلة عاجزة عن التحول إلى دولة قومية. وكما بقيت دولة مصر وزالت دولة العبرانيين في الماضي، أعتقد أن الدولة في مصر باقية وأن دولة إسرائيل إلى زوال أو إلى تغيير جوهري ينزع عنها الطابع الطائفي الديني.