الماركسية والايكولوجيا ماركس-فيورباخ 1


ثامر الصفار
2008 / 5 / 24 - 11:48     

الهبوط من العلياء
حلم ماركس بالحصول على وظيفة اكاديمية بعد نيله الدكتوراه في نيسان 1841 من جامعة يينا، الا ان السلطات البروسية لم تحقق له ذلك بعد ان شنت حملة لملاحقة الهيغيليين الشباب. ومن ثم تبدد الحلم نهائيا بعد ان تم طرد صديقه برونو باور من وظيفته كاستاذ في الجامعة بحجة نشره افكارا غير مرغوب بها في آذار 1842.

قرر ماركس التوجه الى الصحافة فاستلم في تشرين الاول 1842 منصب المحرر في الجريدة الرينانية التي كانت تمثل الطبقة الوسطى الناهضة في منطقة كولون وتخضع في الواقع لتأثير الهيغيليين الشباب. كانت الجريدة تعنى بشئون السياسة والتجارة والصناعة وهكذا قدر لماركس ان يبدأ وظيفته الجديدة بكتابة مقالة حملت عنوان " مناقشات حول قانون سرقة عيدان الخشب" وقد مثلت هذه المقالة نقطة تحول فكري في حياة ماركس. فقد اجبرته على " الهبوط من عليائه الى الارض"[1] ووفرت له فرصة الاطلاع على واقع حياة الفقراء الذين وقف الى جانبهم بحماسة وقادة استلهكت كل سنين عمره. ويستذكر ماركس تلك اللحظات التي دفعته الى دراسة الاقتصاد السياسي فيكتب في مقدمة " مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي":

" تأتى لي بوصفي محررا في Rheinische Zeitung ان ابدي رأيي للمرة الاولى فيما يسمى بالمصالح المادية، الامر الذي اشعرني بالحرج......وكانت اولى الدوافع لانصرافي الى دراسة القضايا الاقتصادية"[2]

لم يكن ماركس يعالج مسألة بسيطة، فخمسة اسداس التهم التي كانت المحاكم البروسية تنظر فيها كانت تتعلق بسرقة عيدان الخشب من الغابات. اذ رأى ماركس ان القضية كانت تتعلق بتصفية آخر حقوق الفقراء في علاقتهم مع ما كان يعرف بالاراضي المشاع، وهي حقوق كانوا يمارسونها منذ زمن سحيق، لكنها بدأت بالتلاشي مع تنامي عملية التصنيع ونظام الملكية الخاصة، او كما يصفها فرانس ميهرنغ " كانت المسألة موضع الخلاف نزاعا بين الحقبة الرأسمالية النامية وبين آخر بقايا الملكية العامة للارض، كانت صراعا قاسيا يهدف نزع ملكية جماهير الشعب"[3]

كان الفقراء يمارسون، على عادتهم، جمع عيدان الخشب من الاغصان الميتة وما يسقط من الاشجار على الارض لاستخدامها في تدفئة اكواخهم وفي طبخ طعامهم. لم يرق الامر لملاك الارض فقرروا حرمان الناس من هذا الحق واصدروا قانونا يعتبر جمع العيدان والدخول الى اراضيهم بمثابة جرم يستحق العقاب. وقد اكتشف ماركس ان ملاك الارض استطاعوا من خلال هذا القانون ان يعطوا " قيمة" (مصدر الثروة الخاصة) الى مادة لم تكن تباع من قبل، وليس لها سعرا في السوق. ويتم ذلك عند قيام حراس الغابات بامساك " سارقي العيدان" وتثمين ما جمعوه واجبارهم على القيام باعمال خدمية لصاحب الارض دون مقابل، مما يوفر ارباحا لصاحب الارض. ومن هنا توصل ماركس الى موقفه الرافض للملكية الخاصة ومؤسساتها التي اصبحت تقف بين الانسان الفقير والطبيعة حيث حرمته من العلاقة المباشرة معها[4].

وفي الاخير لم يتمكن ماركس طبعا من تغيير القانون فقد كان "تفكيره لا يزال قائما على اعتبارات العدالة وليس بعد على اعتبارات الاقتصاد"[5] لكنه توصل الى ضرورة البدء بدراسة الاقتصاد السياسي، وبعد اشتداد الضغوط الحكومية على الجريدة قرر ماركس الاستقالة في آذار 1843 لينصرف الى مشروعه الطويل الا انه قرر قبل ذلك وضع نهاية لموقفه الفلسفي من النظام الهيغيلي الذي لم يجعل مكانا للمصالح المادية في نظامه الايديولوجي[6].

فيورباخ
عالجت الفلسفة الهيغيلية موضوعة تطور التاريخ باعتباره انعكاسا لتطور العقل بالضرورة. وفي تلك الفترة برز نجم لودفيغ فيورباخ (1804-1872) في اوساط الهيغليين الشباب الذي بدأ بمعاينة المادية كأداة لمواجهة الدين القطعي الذي لا يقبل الجدل[7] في مؤلفه " تاريخ الفلسفة المعاصرة من بيكون الى سبينوزا" الذي نشر عام 1833. فقد اوضح فيورباخ في هذا المؤلف ارتباطه النقدي مع فلسفة بيكون الذي اعتبره " الاب الحقيقي للعلوم" ونسب اليه مادية نوعية مقابل المادية الكمية او الميكانيكية. وقال بان بيكون " كان اول من ادرك اصالة الطبيعة: ادراك استحالة فهم الطبيعة من خلال اشتقاقها رياضيا او منطقيا او لاهوتيا من فرضيات او توقعات مسبقة، وان فهمها بنفسها فقط" وفي هذا السياق فان فلسفة بيكون عن الطبيعة، برأي فيورباخ، كانت اكثر تفوقا من فلسفة ديكارت. ان " بيكون يأخذ الطبيعة كما هي، ويعرفها بشكل ايجابي، في حين ان ديكارت يعرفها بشكل سلبي فقط، باعتبارها نظيرا للروح. ان موضوع بيكون هو الطبيعة الحقيقية، اما موضوع ديكارت فهو الطبيعة المجردة، الرياضية، والاصطناعية" [8]

ثم ازدادت شهرة فيورباخ بعد نشره لمؤلفه "جوهر المسيحية" عام 1841. وليس ثمة دليل مباشر على مدى تأثير هذا الكتاب على ماركس برغم تأكيدات انجلز[9]، فما احتواه المؤلف لم يكن شيئا جديدا بالنسبة لماركس فقد سبق ان تطرق ديفيد شتراوس الى موضوعة الدين في مؤلفه " حياة المسيح" عام 1835، كما ان ماركس ايضا تطرق في اطروحته للدكتوراه الى قيام هيغل " بقلب...كل التمثلات اللاهوتية [عن وجود الله] رأسا على عقب، فقد رفضها لكي يؤكدها"[10]. اضافة الى هذا نجد ان فرانس ميهرنغ يعتبر "ان الخطأ الذي وقعت فيه ذاكرة انجلز قد يبدو غير هام، لكنه في الواقع ليس كذلك لانه قد يؤدي الى اعطاء فكرة خاطئة عن العلاقة الفكرية بين فيورباخ وماركس"[11] وهو يؤكد ان مؤلف فيورباخ " اطروحات اولية حول اصلاح الفلسفة" الذي صدر عام 1842 هو الذي كان له التأثير الاكبر على ماركس[12]

ففي "اطروحات اولية حول اصلاح الفلسفة" وجه فيورباخ الضربة القاضية للفلسفة الهيغيلية في اضعف مكان فيها ونعني فلسفة الطبيعة. فالطبيعة برأي هيغل لم تكن شيئا تضم في داخلها على وسائل تقرير مصيرها، على افعال ذات معنى، بل هي مجرد اغتراب أجبر الفكر على خوضه بشكل تجريد عام قبل ان يتمكن من العودة الى نفسه بشكل روح كامل ، وبكلمة اخرى " عودة الوعي الذاتي الى ذاته"[13]. ولهذا فان الطبيعة التي لا تحمل في احشائها محفزها الذاتي قد اختزلت في منظومة هيغل الى كيان ميكانيكي، الى ميدان لتصنيف المواضيع فقط. وقد رفض فيورباخ هذا التصور واصر على ان العالم المادي هو الواقع بعينه، الواقع الذي يضم البشر وادراكهم الحسي للعالم. فبرأي فيورباخ ان هيغل قد فصل الجوهر عن الوجود ولهذا:

" ان الجوهر في منطق هيغل هو جوهر الطبيعة والانسان، ولكن بدون جوهر، وبدون طبيعة، وبدون انسان.....الحياة والحقيقة هما....فقط حيث يتوحد الجوهر مع الوجود، الفكر مع الادراك الحسي، النشاط مع الخمول، القيود المدرسية للميتافيزياء الالمانية مع المبدأ المتورد للحسية الفرنسية والمادية"[14]

كانت الفلسفة التأملية الهيغيلية، حتى ذلك الوقت، بالنسبة للهيغيلين الشباب، فلسفة ضد اللاهوت في تطبيقاتها، بل ان نقد الدين يشكل هدفها الارأس. واستمر هذا الاعتقاد برغم تبني هيغل لمذهب لوثر علنا خلال عمله لاكمال منظومته، وبرغم ان عمله قد اعتبر الحصن المنيع للايمان. لكن فيورباخ سواء في " اطروحات اولية حول اصلاح الفلسفة" او في مؤلفه الاخر " مبادئ فلسفة المستقبل" تبنى الموقف القائل بان الفلسفة التأملية كانت في الواقع " الدعامة العقلانية الاخيرة" لللاهوت بدلا من ان تقوم بنقده ، اي ان الدين التقليدي يجري نفيه، ثم يعاد ادخاله في شكل لاهوت معقلن [15]. ان تجريد عقل الانسان ومفهوم الانسانية عن الطبيعة الذي بدأه ديكارت كان برأي فيورباخ اصل ومنبع الفلسفة التأملية الحديثة. فقد احدثت عالما ثنائيا كان الجوهر (العقل) فيه منفصلا عن الوجود.

كان النقد الفيورباخي حاسما برأي ماركس لان هذا النقد قدم الفلسفة التأملية الهيغيلية باعتبارها تبريرا عقلانيا للنظرة السائدة عن العالم، اللاهوتية من حيث الجوهر. ولهذا لابد من الابتعاد عن نمط الفلسفة التأملية والاقتراب اكثر الى اساليب مادية اخرى للتحليل. فيعلن ماركس عام 1842:

اني انصحكم، ايها الفلاسفة واللاهوتيين التأملين، بان تحرروا انفسكم من مفاهيم واحكام الفلسفة التأملية ، اذا ما اردتم التوصل الى الاشياء كما هي عليه، أي ، التوصل الى الواقع. وليس ثمة طريق آخر للحقيقة والحرية، سوى طريق تحمل النيران Bach-Feuer *. من خلال فيورباخ الوسيط المطهر في زمننا الحاضر.[16]

وللموضوع بقية....

[1] ماركس وانجلز، المؤلفات، المجلد 1، ص 225. يمكن الحصول على النص الانجليزي على الرابط التالي:
www.marxists.org/archive/marx/works/1842/10/25.htm
[2] ماركس وانجز، مختارات في 4 اجزاء، الجزء 2، ص 6. دار التقدم، موسكو، 1987.
[3] فرانس ميهرنغ، كارل ماركس، النسخة الالكترونية عن دار الطليعة، ص 17. يمكن الاطلاع عليها على الرابط التالي:
www.almounadl-a.info
[4] ماركس وانجلز، المؤلفات، المجلد 1، ص 224-263، مصدر سابق.
[5] فرانس ميهرنغ، مصدر سابق.
[6] المصدر السابق.
[7] في الانجليزية Positive Religion ,ولا اعرف السبب الذي جعل المترجمين العرب يستخدمون تعبير الدين الايجابي الذي يضيف نوعا من الغموض على النصوص الماركسية. فاذا كان الدين ايجابيا فلماذا الموقف المضاد له. اعتقد ان المطلع على استخدام مفردة Positive في الانجليزية سيتفق معي ان الاصح ترجمتها باليقيني والثابت والقطعي الذي لا يقبل النقاش او الجدل.
[8] مقتبس عن مارك ورتوفسكي، فيورباخ، نيويورك، جامعة كمبردج،1977، ص 436.
[9] ماركس وانجلز، مختارات في 4 اجزاء، مصدر سابق، ص 18.
[10] ماركس، اطروحة الدكتوراه، ص 103.
[11] فرانس ميهرنغ، مصدر سابق، ص 21.
[12] المصدر السابق.
[13] مقتبس عن يندريش زلني، منطق ماركس، ترجمة ثامر الصفار، مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي،1990،ص 189.
[14] مقتبس عن مارك ورتوفسكي، مصدر سابق ص 164-165.
[15] منطق ماركس، ترجمة ثامر الصفار، مصدر سابق، ص 192.
* حرفيا Feuer Bach تعني تحمل النيران، وعند دمج الكلمتين تحصل على اسم فيورباخ الفيلسوف.
[16] منطق ماركس، ترجمة ثامر الصفار ، مصدر سابق، ص 276