نماذج من الإضراب الجماهيري - تأليف توني كليف


رمضان متولي
2008 / 4 / 30 - 11:45     

ترجمة: رمضان متولي
تمهيد
راودتني الرغبة في ترجمة هذا الكتاب على خلفية إضراب عمال المحلة في 6 أبريل الذي أحبطته أجهزة الأمن المصرية بوسائل وحشية مع اعتقال المئات من العمال مازال بعضهم حتى الآن رهن الاعتقال، وما صاحبه من دعوة للإضراب العام في نفس اليوم لاقت صدى واسعا في عموم القطر المصري واعتقل على أثرها عدد من السياسيين والمدونين، وما كشف عنه انتشار هذه الدعوة وذعر أجهزة الدولة المصرية من شيوع حالة من الغضب الشديد في صفوف الجماهير المصرية وارتباك الدولة وتربص أجهزتها وتخبطها في معالجة الأزمات التي يعج بها المجتمع، وكلها عوارض تكشف عن أن التربة السياسية في مصر ربما تأتي بمفاجآت لا يستطيع أحد التكهن بها ولا معرفة مداها، خاصة مع توابع عملية القمع والاحتواء التي مارستها الدولة مع إضراب المحلة في 6 أبريل.
السبب الثاني الذي دفعني إلى ترجمة هذا الكتيب هو الدعوة إلى إضراب عام جديد في 4 مايو التي يعمل المدونون حاليا على نشرها، يدفعهم في ذلك فورة الحماس التي أعقبت الانتشار الواسع للدعوة السابقة وما كشفت عنه من حالة من السخط العام وسط الجماهير.
أما الدافع الثالث وراء ترجمة الكتاب فهو المساهمة بما قد يعد مشاركة إيجابية في الاحتفال بعيد العمال في أول مايو بتقديم بعض خبرات الحركة العمالية العالمية في هذه المناسبة.
يتميز هذا الكتاب بأنه يتعرض بالتحليل التاريخي الشيق لعدد من الإضرابات الكبرى في تاريخ الحركة العمالية ويقارن بينها في ضوء التأسيس النظري لمفهوم "الإضراب العام" الذي طرحته روزا لوكسمبورج في بداية القرن الماضي لدى تقييمها لتجربة الإضراب العام في روسيا 1905. حيث يناقش توني كليف تجارب الإضراب العام في بلجيكا والسويد وبريطانيا وفرنسا، محللا أسبابها ونتائجها وطبيعتها وتنظيمها وما أخفقت فيه وما استطاعت إنجازه من أهداف. وربما إذا استطاع الداعون إلى إضراب عام أو عصيان مدني وخلافه قراءة هذه التجارب واستخلاص دروسها أن يصبحوا أقدر على فهم وإدراك مغزى ما يدعون إليه وما هي الظروف التي توفر له فرصا أكبر للنجاح وتلك التي تدفع بالدعوة إلى الفشل، مع الوضع في الاعتبار طبعا اختلاف ظروف الدول التي يتناولها الكاتب في سياقها الزمني عن الأوضاع في مصر، مما يجنب الكثيرين شعورا لا معنى له بالإحباط ويدفع طاقة الحركة والحماس في الاتجاه الأمثل بما يلائم الظروف ويحقق الأهداف الممكنة، هنا والآن.
لن أطيل الحديث على القارئ العزيز وأتركه مع صفحات الجزء الأول من الكتاب وآمل أن استطيع إنجاز بقية الأجزاء تباعا، متنميا أن تكون هديتي للعمال وللمهتمين بقضايا الاشتراكية والتغيير السياسي نافعة لهم وملائمة لجلال مناسبة عيد العمال.
رمضان متولي





الجزء الأول
كان إضراب عمال المناجم في عام 1984-1985 مختلفا تماما عن إضرابهم في عام 1972 من حيث الخصائص الأساسية والنتائج. لماذا؟ وما هي الخلفية التاريخية لإضراب 1984-1985 التي تختلف تماما مع الخلفية التاريخية لإضراب 1972؟ وكيف كان هذا الاختلاف يرتبط بتوازن قوى الطبقات في كل من الفترتين؟ وكيف أثر هذا التوازن بين قوى الطبقات على العلاقة بين تحرك القواعد العمالية وعلى بيروقراطية التنظيم النقابي؟ كيف اختلفت سياسات الحركة العمالية خلال هاتين الفترتين؟ إن التشخيص الصحيح لأسباب هذه التباينات والفروق شديد الأهمية في اكتشاف الوسائل الصحيحة للتغلب على جوانب الضعف التي شابت إضراب 1984-1985 مقارنة بإضراب 1972؟
وسوف يعالج هذا المقال هذه المسائل تحديدا. وسوف نبدأ بتناول المفهوم الماركسي للإضراب الجماهيري، ثم مناقشة بعض الإضرابات الجماهيرية التي حدثت فعلا، وننتهي إلى مناقشة إضرابي عمال المناجم في عامي 1972 و1984-1985.
روزا لوكسمبورج – 1905 والرؤية الكلاسيكية للإضراب الجماهيري
يتضمن كتاب روزا لوكسمبورج الكلاسيكي "الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات" تحليلا هو الأكثر وضوحا وعبقرية حتى الآن لمسألة الإضراب الجماهيري، ويتناول دور الإضراب الجماهيري في تشكيل الطبقة العاملة في هيئة وحدة نضالية وفي استحضار نموها الروحي وتغييرها حتى تصبح قادرة على تغيير المجتمع.
وتعرض روزا لوكسمبورج في كتابها تصاعد موجة الإضرابات في روسيا خلال السنوات العشر بين عامي 1896 و1905. ففي مايو من عام 1896 شهدت مدينة بطرسبرج إضرابا عاما لعمال النسيج ضم 40 ألف عامل تلاه إضراب عام آخر لعمال النسيج في عام 1897. وبعد الإضراب الأخير، توالى عدد كبير من الإضرابات الصغيرة حتى اندلع الإضراب الجماهيري التالي في مارس 1902 لعمال البترول في القوقاز. ثم في نوفمبر من نفس العام تحول إضراب جماهيري لعمال السكة الحديد في روستوف إلى إضراب عام. وفي مايو ويونيو ويوليو من عام 1903 اشتعلت منطقة جنوب روسيا بأكملها حيث سيطر الإضراب العام على مدن باكو وتيفليس وباتوم وإليزافيتوجراد وأوديسا وكييف ونيكولاييف وإكاترينوسلاف. وجاء عام 1904 بالحرب وتوقفت حركة الإضرابات لفترة. ولكن فترة التوقف انتهت مع هزيمة الجيش والأسطول القيصري على أيدي اليابانيين. واندلع إضراب عام آخر في باكو في ديسمبر 1904، وقبل انتشار أنباء هذا الإضراب إلى كافة أنحاء الإمبراطورية القيصرية، اندلع إضراب جماهيري في مدينة سان بطرسبرج في يناير 1905، وكانت هذه بداية الثورة الروسية لعام 1905.
"كانت الانتفاضة المفاجئة والشاملة للبروليتاريا في يناير بفعل القوة الدافعة العظيمة لأحداث سان بطرسبرج عملا سياسيا صريحا لإعلان الحرب الثورية على الحكم المطلق. لكن هذا التحرك العام المباشر والأول من نوعه أحدث تفاعلا داخليا أقوى كثيرا كما لو أنه لأول مرة أيقظ المشاعر الطبقية والوعي الطبقي في الملايين والملايين وكأنه استيقظ بالصدمة الكهربائية. وعبر استيقاظ المشاعر الطبقية عن نفسه أكثر حتى أن الملايين من جماهير البروليتاريا أدركوا فجأة وبوضوح شديد إلى أي حد لا تحتمل تلك الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تحملوهاا صابرين على مدى عقود في أغلال الرأسمالية. ونتيجة لذلك بدأت الهزة العفوية الشاملة في تمزيق هذه الأغلال. معاناة البروليتاريا الحديثة التي لا تحصى أحداثها جميعها ذكرتها بالجروح القديمة التي مازالت نازفة. فهنا ناضل العمال من أجل يوم عمل من ثماني ساعات، وهناك قاوموا أسلوب العمل بالقطعة، هنا حملوا ملاحظ العمال القاسي في زكيبة على عربة الفحم، وفي موقع آخر ناضلوا ضد نظام الغرامات البغيض، وفي كل موقع كافح العمال من أجل تحسين الأجور، وهنا وهناك أيضا ناضلوا من أجل إلغاء العمل المنزلي." (1)
الإضرابات الجماهيرية الاقتصادية أدت إلى مواجهة مع النظام القيصري، وشرطته وجيشه، وأدت تلك المواجهة مباشرة إلى إضرابات سياسية. وأيقظت هذه الإضرابات الأخيرة عمالا كانوا قبل ذلك خاملين ودفعتهم إلى القيام بإضرابات اقتصادية لتحسين أوضاعهم، وبدورها أعطت الإضرابات الاقتصادية مرة أخرى قوة دافعة جديدة لإضرابات سياسية. فالإضراب الجماهيري يتجاوز ذلك الفصل بين الاقتصاد والسياسة لدى النزعة الإصلاحية (وكذلك لدى نقيضتها التي تشبهها وهي النزعة السينديكالية). والإضراب الجماهيري يعمل على دمج النضال من أجل الإصلاحات في ظل الرأسمالية مع النضال من أجل الإطاحة الثورية بالرأسمالية. والإضراب الجماهيري يعد جسرا بين اللحظة الراهنة "هنا والآن" وبين المستقبل الاشتراكي.
في الإضراب الجماهيري لا يصبح العمال مراقبين لحركة التاريخ لا يتدخلون فيها، ولا جيشا مرحليا في هذه الحركة، بل يتدخلون في معترك الحركة التاريخية لتشكيل مستقبلهم وصياغة أنفسهم.
"في الثورات البرجوازية السابقة، عندما كان التعليم السياسي والقيادة السياسية للجماهير الثورية تقوم بهما الأحزاب البرجوازية من ناحية، وكانت المهمة الثورية محددة في الإطاحة بالحكومة من ناحية أخرى، كانت المعركة القصيرة على المتاريس هي الشكل الملائم للنضال الثوري. أما اليوم، في الوقت الذي تضطر الطبقة العاملة فيه إلى تعليم وتنظيم وقيادة نفسها في خضم النضال الثوري، وحيث الثورة نفسها ليست موجهة ضد سلطة الدولة القائمة فحسب ولكن أيضا ضد الاستغلال الرأسمالي، تبدو الإضرابات الجماهيرية أسلوبا طبيعيا في تعبئة وتثوير وتنظيم أوسع شرائح ممكنة من البروليتاريا في الحركة. وفي نفس الوقت تصبح هذه الإضرابات أسلوبا يجري بواسطة تقويض سلطة الدولة القائمة والإطاحة بها علاوة على مواجهة الاستغلال الرأسمالي.
وحتى يمكن للطبقة العاملة المشاركة بجماهير غفيرة في أي تحرك سياسي مباشر، ينبغي أولا أن تنظم نفسها، الأمر الذي يعني قبل كل شيء أنها يجب أن تلغي الحدود بين المصانع والورش وبين المناجم وأفران الصهر، أي ينبغي عليها تجاوز الانفصال بين الورش الذي تحتمه السيطرة اليومية للرأسمالية. ولذلك فإن الإضراب الجماهيري هو الشكل العفوي والطبيعي الأول الذي يتخذه كل تحرك ثوري بروليتاري عظيم. وكلما أصبحت الصناعة هي الشكل المهيمن على الاقتصاد، كلما أصبح دور الطبقة العاملة أكثر بروزا، وكلما تطور الصراع بين العمل ورأس المال، كلما أصبحت الإضرابات الجماهيرية أكثر قوة وأشد حسما. إن الشكل الرئيسي السابق للثورات البرجوازية، أي المعركة على المتاريس، أو المواجهة المفتوحة مع قوة الدولة المسلحة تعد جانبا ثانويا في الثورة في الوقت الحاضر، إنها لحظة واحدة فقط في عملية شاملة من النضال الجماهيري للبروليتاريا." (2)
على خلاف جميع الإصلاحيين الذين يرون حائطا صينيا يفصل بين النضالات الجزئية من أجل إصلاحات اقتصادية وبين النضال السياسي من أجل الثورة، أوضحت روزا لوكسمبورج أن النضال الاقتصادي ينمو ويتحول في الفترات الثورية إلى نضال سياسي والعكس.
"إن الحركة لا تسير في اتجاه واحد فقط من النضال الاقتصادي إلى النضال السياسي، ولكنها أيضا تسير في الاتجاه العكسي. فكل تحرك سياسي جماهيري، بعد أن يصل إلى ذروته، ينتج عنه سلسلة من الإضرابات الاقتصادية الجماهيرية. وهذه القاعدة لا تنطبق فقط على إضراب جماهيري واحد، وإنما تنطبق أيضا على الثورة ككل. ومع انتشار ووضوح واحتدام النضال السياسي، فإن النضال الاقتصادي ينتشر ولا ينحسر وفي نفس الوقت يصبح أكثر حدة وتنظيما. فهناك تأثير متبادل وتفاعل بين شكلي النضال. كل هجوم جديد وانتصار جديد للنضال السياسي له أثر قوي على النضال الاقتصادي من حيث أنه في نفس الوقت الذي يؤدي إلى فتح مجال أوسع للعمال من أجل تحسين أوضاعهم ويقوي لديهم حافز الحركة لتحقيق ذلك، فإنه يعزز الروح القتالية لديهم. وبعد كل موجة عالية للحركة السياسية، تتخلف تربة خصبة تنمو عليها آلاف النضالات الاقتصادية. والعكس أيضا صحيح. فنضال العمال الاقتصادي المستمر في مواجهة رأس المال يدعمهم ويساندهم في كل لحظة توقف في المعركة السياسية. ويمكن القول أن النضال الاقتصادي يمثل المخزون الدائم لقوة الطبقة العاملة الذي تستقي منه الصراعات السياسية دائما قوة جديدة.
والخلاصة، أن النضال الاقتصادي هو العامل الذي يدفع الحركة من نقطة سياسية محورية إلى نقطة أخرى. وأن النضال السياسي يهيئ التربة ويخصبها بين فترة وأخرى من أجل النضال الاقتصادي. وفي كل لحظة، يتبادل السبب والنتيجة موقعهما. وهكذا نجد أن عنصري الاقتصادي والسياسي لا يميلان إلى الانفصال عن بعضهما خلال فترة الإضرابات الجماهيرية في روسيا، ناهيك عن الحديث عن نفي أحدهما للآخر كما تفترض الرؤى والسجالات البيزنطية." (3)
إن الذروة المنطقية والضرورية للإضراب الجماهيري هي "الانتفاضات الشاملة التي يمكن أن تتحقق فقط كتتويج لسلسلة من الانتفاضات الجزئية التي تهيئ التربة، ولذلك تكون هذه الانتفاضات عرضة للتوقف فترة فيما يبدو وكأنها "هزائم" جزئية، وربما تبدو كل منها "غير ناضجة" أو سابقة لأوانها". (4)
وبالنسبة لروزا، "النمو الروحي للبروليتاريا هو المكسب الذي لا يقدر بثمن، لأنه المكسب الباقي خلال حركة المد والجزر العنيفة للموجات الثورية. التطور السريع في وعي البروليتاريا يوفر الضمانة القوية لمزيد من التقدم في الصراعات الاقتصادية والسياسية الحتمية القادمة."(5)
وما أروع الروح المثالية التي يبلغها العمال حينذاك! إنهم ينحون جانبا التفكير فيما إذا كانوا يمتلكون سبل إعالة أنفسهم وأسرهم خلال هذا النضال. ولا يسألون إذا ما كانت جميع الاستعدادات التقنية قد أنجزت. فالإضراب الجماهيري يمكن أن "ينتج طاقة هائلة من المثالية بين الجماهير حتى يبدو وكأنهم أصبحوا محصنين تقريبا ضد تأثير الحرمان من أهم ضروريات الحياة." (6)
التحليل الذي قامت به روزا لوكسمبورج يركز على الأثر الكبير للإضراب الجماهيري في إذابة الحدود والفواصل بين الاقتصاد والسياسة في نضالات العمال. ولكنها أيضا تدرك إن هذا الإضراب يميل إلى إذابة حواجز وفواصل أخرى – مثل القطاعية، والإقليمية، إلخ – في نفس الوقت الذي يكشف عن الهوة التي لا يمكن تجاوزها بين مصالح العمال ومصالح أصحاب العمل ودولتهم. وتنطبق رؤية لوكمسبورج تماما على عدد من الإضرابات الجماهيرية: مثل روسيا 1905، و 1917، وفرنسا وإسبانيا عام 1936، والمجر 1956، وبولندا 1980، وغيرها.
ومع ذلك هناك إضرابات جماهيرية عديدة لا تشترك في الكثير من جوانبها مع التي وصفتها روزا لوكسمبورج. فعندما يكون العمال منظمين بدرجة عالية في نقابات، يكون مدى استقلالهم عن بيروقراطية النقابات المحافظة عاملا مؤثرا في ثقتهم في مواجهة الرأسماليين. وكلما كان مستوى التنظيم والثقة بين القواعد العمالية مرتفعا في مواجهة الرأسماليين، كلما زادت قدرتهم على تحطيم الأغلال التي تفرضها البيروقراطية النقابية، والعكس صحيح. ويحدد المدى الذي يكون فيه الإضراب نيتجة لمبادرة القواعد العمالية مدى اقتراب هذا الإضراب من القاعدة التي وصفتها روزا لوكسمبرج في تحليلها للإضراب الجماهيري.
ولسوء الحظ، يستخدم كثيرون تحليل روزا لوكسمبورج للإضراب الجماهيري بطريقة دوجمائية، وبدلا من مقارنة مفهومها لهذا الإضراب مع ما يحدث واقعيا من إضراب جماهيري، يستخدمون هذا التحليل في التعتيم وليس في التنوير. إن الإضراب الجماهيري، مثل كل الظواهر الاجتماعية، ليس ظاهرة مطلقة، وإنما يعتمد إلى حد كبير على الظروف التي يقع فيها الإضراب. وحتى نبين ذلك، سوف نتناول إضرابين جماهيريين يختلفان تماما عن الإضرابات التي قامت روزا بتحليلها: وهما الإضراب العام الاقتصادي الخالص في السويد 1909 الذي سيطرت عليه البيروقراطية سيطرة مركزية، والإضراب العام السياسي الخالص في بلجيكا 1913 الذي سيطرت عليه البيروقراطية أيضا.
إضرابات عامة اقتصادية خالصة وسياسية خالصة
السويد 1909 وبلجيكا 1913
أولا) السويد 1909: بدأ الإضراب العام في السويد في 2 أغسطس 1909، وجاء في أعقاب سلسلة من الإضرابات الأصغر حجما في شهر يوليو التي ووجهت بإغلاق عدد من المصانع من قبل أصحاب العمل. كان هدف الإضراب هو تحسين أجور العمال. واستجاب لدعوة قيادة النقابة المركزية بالإضراب حوالي 300 ألف عامل توقفوا عن العمل من إجمالي 500 ألف يعملون في قطاعي الصناعة والنقل.
كان الإضراب خاضعا لسيطرة حازمة من أعلى، وكان شعار قيادة الإضراب الراسخ هو الحفاظ على النظام. وهكذا أصدر الأمين العام للنقابات القواعد التالية:
"تقوم لجان الإضراب باختيار عدد كاف من "الشرطة الخاصة" للحفاظ على النظام تنتقى من أفضل الأشخاص المؤهلين لهذا العمل. وتتعاون لجنة الإضراب في كل موقع مع الشرطة، ويعطى أفراد "الشرطة الخاصة" بطاقات ويحملون شارات تشير بوضوح إلى عملهم . وعليهم أن يلتزموا بتعليمات الشرطة التزاما صارما. " (7)
أما فكرة تكوين شرطة خاصة للنقابة فكانت اقتراحا قدمه وزير الداخلية لرئيس اتحاد العمال، وكانت النتيجة حقا نظاما متقنا ومحكما. فقد أشار أحد المؤرخين:
"بسبب الأوامر المستمرة من قبل قيادات العمال بالحفاظ على النظام، وبسبب التعاون المثالي الممتاز من قبل شرطة الإضراب مع قوة الشرطة النظامية، وبسبب وقف بيع البيرة والكحوليات وقفا شبه كامل خلال فترة الإضراب، استطاعت السلطات والجمهور تأكيد أن النظام حوفظ عليه بصورة أفضل من الأوقات العادية، وأن سلوك العمال واحترامهم لقيم اللياقة الاجتماعية تجاوزت كل عبارات المديح." (8)
كان الإضراب منظما تماما بشكل صارم، غير أنه لم يحقق أي إنجاز. وبعد ما يزيد قليلا على الشهر، تم إنهاء الإضراب. ولم يحصل العمال على بنس واحد زيادة في أجورهم. قيادة النقابات "استسلموا عمليا دون أي شروط" وفشل الإضراب "فشلا ذريعا". (9)
بعد ذلك تحول أصحاب العمل إلى الهجوم. عدد العمال الذين طردوا من عملهم أو انتقلوا إلى موقع الإضرابات الدفاعية ظل كبيرا جدا لفترة طويلة. في 9 سبتمبر كان عدد هؤلاء العمال 124351 عاملا، وحتى بداية أكتوبر كان 63620 عاملا يعانون من حرمانهم من العودة للعمل. وفي بعض الصناعات استمر الحرمان من العودة للعمل لما يزيد على العام حتى أول ديسمبر 1910. وشملت هذه الصناعات صناعة الملابس، والسيليولوز، وبناء الطرق والكباري، وصناعة النسيج وورش الخراطة. وانخفضت عضوية اتحاد النقابات بنسبة 33% في عام 1909، ولم يسترد الاتحاد عضويته كاملة حتى خلال عام 1910. (11)
وكان الإضراب العام في السويد مثالا قصويا على الإضراب الجماهيري البيروقراطي.
ثانيا) بلجيكا 1913: في 30 يونيو 1912 قرر مؤتمر خاص لحزب العمال البلجيكي الدعوة إلى إضراب من أجل حق الاقتراع لجميع الرجال وإلغاء الأصوات المضاعفة للأغنياء التي صنفت العمال كأنصاف أو أثلاث أو أرباع مواطنين. ولم يحدد المؤتمر موعد الإضراب، بل منح جميع السلطات في هذا الشأن للجنة الوطنية لحق الاقتراع والإضراب العام. ولم تقرر هذه اللجنة شن إضراب عام حتى اجتماعها في 12 فبراير عام 1913، ورغم ذلك حددت موعد الإضراب في 14 أبريل، أي بعد الاجتماع بشهرين. وكانت قيادات اللجنة تعتقد أن أنسب وقت للإضراب هو "فصل الربيع، حيث يمكن للعمال زراعة حدائقهم في وقت الفراغ خلال الإضراب – كما أن توقف العمل خلال شهر أبريل سوف يواكب من الناحية العملية عطلة عيد القيامة." (12)
لماذا كل هذه الفترة، التي بلغت عشرة أشهر، والتي تفصل بين الدعوة للإضراب العام وتنفيذه فعلا؟ "إن بعض القيادات بلا شك كانت تأمل من اللعب على عامل الزمن حدوث شيء ما يجنبها تنفيذ الإضراب. ورغم أن أساليب القيادة فشلت في تجنب وقوع الإضراب العام في النهاية، فإن تأجيله لمدة عشرة أشهر سمحت بتنفيذ إضراب عام سلمي للغاية عن طريق التنظيم الذي استغرق وقتا طويلا والدعاية المتواصلة، والإحلال البطئ للمنطق الهادئ لعام 1913 محل العواطف الجامحة التي كانت سائدة في شهر يونيو 1912. " (13)
كل شيئ كان منظما تنظيما صارما ومخططا له بعناية. مثال ذلك صدور تعليمات عامة تؤكد على الطابع السلمي تماما للإضراب، بل وحتى عدم التعرض لكاسري الإضراب. وشملت هذه التعليمات:
"أن تكون مسالما، مع تجنب جميع المسيرات الصاخبة والمظاهرات الغاضبة والمشروبات الكحولية. ممنوع التخريب، وممنوع التعدي على حرية العمل. بلغ هذه الرسالة للعمال: "شبكوا أياديكم، واجعلوا الإضراب مرحا. استمروا في الإضراب لستة أسابيع وسوف تنتصرون." وحتى تستطيع الاستمرار في الإضراب لستة أسابيع يجب عليك أن تدخر. وفر المصروفات التي تنفقها في الحانة، وفي ممارسة الرياضة، والقمار. لا تساوم على أموال النقابة التي يجب الحفاظ عليها لتمويل الإضرابات الاقتصادية."
خلال شهور يوليو وأغسطس وسبتمبر عام 1912، تم تنظيم العديد من اللقاءات الواسعة في المدن والمراكز الصناعية، ورددت الصحف العمالية آراء المتحدثين فيها. وعشية إعادة افتتاح البرلمان في شهر نوفمبر، انعقدت آلاف اللقاءات في توقيت واحد في مختلف أنحاء البلاد. وقامت اللجنة الوطنية للاقتراع والإضراب العام بإصدار مليون نسخة من أربعة بيانات وخمسة كتيبات بهدف نشر هذه الدعاية.
وتم تنظيم دعاية متخصصة من جميع الألوان والأشكال لدعوة المحليات، وللنقاش مع أفراد العائلة، وللدوائر الموسيقية والرياضية. وكانت هناك طوابع للإضراب العام توضع على المراسلات، رغم أن هيئة البريد رفضت فيما بعد لصق هذه الطوابع عليها. وشارات للإضراب العام توزع على المتحمسين وأغاني لإيقاظ المشاعر الطبقية حتى في الممرات والأكواخ الصغيرة التي يقطنها أشد العمال فقرا." (14)
كان تمويل الإضراب منظما بأشد الأساليب المركزية والبيروقراطية الممكنة، حتى تمنع أي احتمال للنشاط العفوي للقواعد العمالية. وكان تنظيم الوجبات تحت سيطرة محكمة من قبل اللجنة الوطنية لإمدادات الغذاء.
"كانت مهمة اللجنة تقسيم الأحياء والمناطق بطريقة تضمن منع التقاء أكثر من مائتين من المضربين في نقطة واحدة حتى لا يتحول الإضراب عن طابعه السلمي.
وكانت الوجبات المشتركة تجمع المضربين معا مرتين يوميا، وتشجعهم على المحافظة على الطابع السلمي والنظام وتوفر مجالا لتوجيه الأوامر وشرح خطط القيادات. وقامت اللجنة بمهمتها بعناية شديدة حتى أنها أعدت حوالي عشرين قائمة طعام مختلفة قبل أن يبدأ الإضراب فعليا." (15)
التنظيم الصارم شمل أيضا أنشطة المضربين في وقت الفراغ. "فقد تم إعداد برامج من جميع الأنواع للدراسة والترفيه بالنسبة للمضربين خلال فترة الإضراب. الولائم والحفلات الموسيقية، قراءة كتب مسلية وكتب ذات طابع اشتراكي، تجهيز مكتبات عمالية مؤقتة، وترتيب الاستخدام الكامل للمكتبات الموجودة، تخطيط زيارات جماعية للعمال إلى مختلف المتاحف والمعارض الفنية، (على ألا يتجاوز عدد المجموعة الواحدة 25 شخصا)، الرحلات اليومية إلى الريف واستخدام الحدائق العامة لممارسة الرياضة – كل هذه الأنشطة وأنشطة الإضراب الأخرى وضعتها في اعتبارها بعناية شديدة اللجنة الوطنية واللجان المحلية."(16)
وقامت قيادة الإضراب بإشراك الشباب المتحمس والغاضب في "الشرطة العمالية" الخاصة من أجل منعهم من إساءة التصرف.
"لدرء مخاطر الاضطرابات من جانب شباب الاشتراكيين الأكثر نضالية، فكر قادة حزب العمال في تلك الخطة التي حققت نجاحا كبيرا بتحويل أكثر هؤلاء الشباب المتحمسين تأثيرا إلى شرطة عمالية خاصة، وقد حققت هذه الخطة نجاحا غير عادي." (17)
واتخذت الإجراءات الصارمة لمنع الخطباء المندفعين من الانحراف عن الصراط الضيق المستقيم:
بعد بداية الإضراب، تم تعيين جميع المتحدثين خلال الاجتماعات الخاصة بالإضراب تعيينا محددا من قبل الاتحاد الذي كان أعضاؤه يعقدون هذه الاجتماعات حتى لا تحدث أي اضطرابات من قبل الخطباء غير الموثقين. (18)
لم تكن الحكومة واثقة في أن قيادات حزب العمال سوف يتمكنون من السيطرة الكاملة على العمال. "ولذلك، اتخذت السلطات جميع الاحتياطات الممكنة. وانتشر جنود الجيش والشرطة في كل مكان. ومنع اجتماع عدد كبير من الأفراد أمام أي من التعاونيات الكاثوليكية. وانتشرت الدوريات في محطات السكة الحديد وعلى خطوط القطارات، وقام الجنود بحراسة الأنفاق وحراسة أديرة الراهبات. وفي اليوم الأول من الإضراب، تواجدت قوات الجيش والشرطة في جميع المصانع والورش منذ السادسة صباحا. وقبل يوم 13 أبريل كانت السكك الحديدية والجسور وجميع المواقع الاستراتيجية تحت حراسة كثيفة. بل تم وضع جنود حتى في أكثر القرى هدوءا." (19)
كان عدد العمال الذين شاركوا في الإضراب – 450 ألفا – عددا كبيرا مقارنة بالإضرابات الجماهيرية التي جدثت في روسيا في عام 1905، وأكبر بكثير إذا تم حسابهم على أساس نسبتهم العددية من سكان بلجيكا.
كان الهدوء والإنضباط هما أهم خصائص ذلك الإضراب:
"منذ البداية تكشف النظام والانضباط بدرجة ملحوظة. غادر العمال مصانعهم بنظام محكم، قاموا بتنظيف وتزييت ماكيناتهم وأدواتهم، وتركوا كل شيء في حالة تضمن عدم تعرضها لأدنى عطب يعطل استمرار العمل عندما يحين موعد ذلك. بل إن معارضي الإضراب أنفسهم اضطروا للاعتراف بأن ذلك يعد دليلا واضحا تماما على أن الإضراب ليس موجها ضد أصحاب العمل.
وتجول العمال أنفسهم في أحيائهم، يتطلعون بهدوء إلى فتارين المحلات، ينامون في وقت متأخر ولكن يذهبون إلى أسرتهم مبكرا، ويقومون بزراعة حدائقهم، يذهبون إلى الفرع المحلي لبيت الشعب لقراءة الصحف أو معرفة الأخبار من لجنة الانضباط المحلية. يزورون ذويهم في مدن أخرى، ويقطعون المسافة سيرا على الأقدام حتى لا ينفقوا أموالهم على السكة الحديد المملوكة للدولة، عدد كبير منهم أسلموا أنفسهم للزيارات الجماعية المنظمة بشكل رسمي إلى المتاحف والمعارض الفنية أو واظبوا على حضور الحفلات الموسيقية والمحاضرات العمالية. عمال المعادن حصلوا على عمل في فرنسا وقاموا بإرسال جانب كبير من أجورهم تبرعا لصندوق الإضراب. أما أكثر العمال حيوية وحماسا فقد شغلوا أنفسهم بالإدارة الفعلية لعملية الإضراب – يساعدون في مطابخ الوجبات، ويوزعون بطاقات الإضراب، ويعملون تحت إدارة لجنة الدعاية، أو يعملون ضمن شرطة الإضراب." (20)
الإضراب العام في بلجيكا وصفه أحد المؤرخين وصفا مقتضبا بأنه "الصمت العظيم". أما الجانب الذي أثار إعجابا أكبر لدى أحد المراقبين للإضراب فقد كان "ذلك الهدوء العميق الذي بدأ به الإضراب والانضباط الرصين الذي ساد تلك الفترة." وأكد مراسل جريدة التايمز اللندنية في تقرير أرسله إليها خلال اليوم الأول للإضراب أن: "أنباء الهدوء تأتي من كل مكان. هذا الإضراب سلمي تماما."
في شارلوا، حيث أضرب الغالبية العظمى من العمال، "لم يحدث أي اعتداء على من ذهبوا للعمل." استطاع نفس المراسل أن يكتب في اليوم التالي أن "النظام المحكم مازال مهيمنا." وفي اليوم الثالث للإضراب أرسل برقية تقول "حافظ العمال على نفس الطابع السلمي وغياب أي اضطرابات. لقد أوفى قادة الإضراب تماما بوعودهم بأن يكون الإضراب سلميا وأبدى العمال المضربون انصياعا يثير الإعجاب لهذه الأوامر." ورغم وجود أعداد كبيرة من المراسلين الأجانب في جميع أنحاء بلجيكا يتابعون تطورات الإضراب، نشرت صحيفة التايمز عن اليوم الرابع للإضراب تقول "حتى الآن يسود الهدوء التام، ولم يحدث أدنى كسر لحالة الهدوء لعدة أيام على التوالي."
وفي 20 أبريل، نشرت التايمز تقريرا جاء فيه "إن المضربين يتمتعون بنوع من العطلة ويتميزون بحسن السلوك ولا يبدو عليهم شئ يقترب من ذلك الشعور المثبط بالحزن الذي ينذر بالخطر في قضية حرجة وملحة." (21)
واستمر الحال على ذلك الهدوء حتى نهاية الإضراب.
تم إنهاء الإضراب بعد عشرة أيام. ولم يحقق أي إنجاز واقعي على الإطلاق. ولم يطرأ أدنى تغيير على قانون الاقتراع في بلجيكا.
كان الإضراب البلجيكي نفيا متطرفا لمفهوم روزا لوكسمبورج عن الإضراب الجماهيري: لا عفوية، ولا تحركات مستقلة للقواعد، الانفصال الكامل بين السياسة والاقتصاد، لا مواجهة اقتصادية مع الرأسماليين، ولا مواجهة سياسية حقيقية مع الدولة. وحصرت السياسة في إطار المفهوم الضيق لإصلاح النظام الانتخابي.
الإضراب العام في بريطانيا 1926
كان الإضراب العام في بريطانيا قريبا جدا من حيث طبيعته من إضراب السويد في 1909 وإضراب بلجيكا في 1913 رغم أنه لم يكن منظما تنظيما محكما بنفس الدرجة من قبل البيروقراطية، ولكنه كان أقرب إليهما من الإضرابات الجماهيرية في روسيا 1905. وكانت المحصلة أن الإضراب العام الذي دعت إليه البيروقراطية في عام 1926 لم يتح للعمال الذين عبأتهم الفرصة للإفلات، ولو مؤقتا، من قبضة البيروقراطيين. قصر مدة الإضراب التي امتدت لتسعة أيام منعته من خلق حياة مستقلة.
ومنذ البداية أوضح قادة مؤتمر نقابات العمال أنهم يعتزمون إحكام قبضتهم على الإضراب. وتولوا بأنفسهم اتخاذ القرار فيمن ينبغي أن ينضم للإضراب ومن لا ينبغي له ذلك. ولو كانت حركة القواعد العمالية أقوى مما كانت عليه لما تسامحت مع قرار تعسفي بأن يشارك بعض العمال في الإضراب بينما لا يشارك آخرون يقومون بنفس الأعمال. وعلاوة على ذلك، تسبب القرار البيروقراطي المتعسف في حالة من الارتباك الشديد.
دعي للإضراب عمال النقل والطباعة والحديد والصلب وعمال البناء (فيما عدا من كانوا يعملون تحديدا على بناء المساكن والمستشفيات)، بالإضافة إلى عمال الكهرباء والغاز الذين طلب منهم أن "يتعاونوا بهدف وقف إمدادات الكهرباء (ولكن دون وقف الإمدادات التي تستخدم في الإضاءة). وتم الاستثناء من الإضراب للمهندسين وعمال صناعة السفن والبريد (بما فيهم من يتعاملون مع التلغراف والبرقيات – وبالتالي تركت وسائل اتصال شديدة الفاعلية بالكامل في أيدي الحكومة). وكانت النتيجة تخبطا هائلا:
المجلس العام قرر استمرار إمداد الكهرباء بأغراض الإضاءة، وليس لاستخدامات الطاقة المحركة، وبناءا على ذلك أصدر تعليماته للجميع. ولكن نقابة عمال الكهرباء كانت فعلا قد أصدرت تعليمات بتوقف جميع أعضائها عن العمل فيما عدا العمال الذين يمدون المستشفيات بالكهرباء، كما أن نقابات عمال الصناعات الهندسية لم تقرر وقف العمل إلا بعد توقف النقابات الأخرى. وزاد تعقيد الموقف حقيقة أن القرار الأساسي لم يكن عمليا. فقد اتضحت استحالة الفصل في استخدام الكهرباء للإضاءة أو القوة المحركة وفقا لرغبة المجلس العام. وبعد ذلك خلال الإضراب، أصبحت التعليمات الخاصة بالإضاءة والقوة المحركة أكثر غموضا على غموضها، مثل التعليمات التي تعطى للجان الإضراب المحلية بلقاء السلطات المحلية وتقديم الطاقة وكهرباء الإضاءة لها لتوفير خدمات مثل إضاءة المنازل والمحلات والشوارع، "لخدمات اجتماعية مثل توفير الطاقة لإنتاج الغذاء والمخابز والمغاسل والأغراض المنزلية. " ولا عجب أن قامت الكثير من الأحياء بإرسال الوفود إلى ميدان إكلستون للاستفسار عن المعنى الحقيقي للتعليمات.
كما أدى قرار المجلس العام بترك كل نقابة تتخذ إجراءاتها بشأن دعوة أعضائها للإضراب بشكل مستقل إلى صعوبات في التفسير. أبرز مثال على ذلك هو حالة الارتباك التي ترتبت على أمر بدعوة جميع العمال المتدربين إلى الإضراب "فيما عدا أولئك الذين يعملون في المستشفيات وقطاع الإسكان." فما معنى هذه الكلمات؟ اختلفت جميع النقابات المعنية حولها، وأحيانا كان الاختلاف يتخذ شكلا عنيفا. وشكا سكرتير لجنة ويلينجبره بعد دعوة لاجتماع واسع "كل سكرتير لرابطة تابعة كان على المنصة إلى جانبي، وكل منهم كان لديه تعليمات مختلفة، كل منهم دعا الأعضاء إلى التوقف عن العمل، ثم استمر بعد ذلك في وضع قواعد ونظم لا يستطيع أحد تفسيرها، ولكنها أيضا جعلت من المستحيل على الأعضاء أن يفسروها." (22)
فوضى البيروقراطية خلقت عجائب وغرائب حقيقية، هكذا مثلا جاءت أنباء من شيفيلد تشير إلى "إحدى الحالات التي تم إصدار تعليمات فيها لعضو في إحدى النقابات يعمل لدى إحدى الشركات من الخارج بالتوقف عن العمل، فيما طلب من الأعضاء الآخرون في نقس النقابة الذين كانوا يعملون بنفس الشركة أن يستمروا في عملهم، وما أثار اشمئزاز العمال أنهم أجبروا على كسر إضراب زملائهم بتوجيهات رسمية." (23)
ولأن الدعوة للإضراب لم تشمل جميع العمال، اضطر كثير منهم، مثل عمال الصناعات الهندسية وبناء السفن في جلاسجو إلى استخدام المواصلات التي كسرت الإضراب للذهاب إلى العمل.
وعكست الدعوة التي أطلقتها بعض النقابات المتفرقة (عضوية 82 نقابة كانت إما في إضراب كامل أو جزئي) النزعة القطاعية لدى البيروقراطية النقابية. ومرة تلو الأخرى نجد العمال تذمروا على عدم دعوتهم للإضراب وغالبا ما تجاهلوا التعليمات وشاركوا في الإضراب على أي حال.
غير أن المشكلة التي واجهتهم هي الافتقاد إلى التنظيم على مستوى القواعد الذي يمكن انتشار وانتقال هذا التذمر من خلاله. وبشكل عام كانت المنظمات المحلية عاجزة أو تسيطر عليها البيروقراطية. أهم هذه المنظمات القاعدية كانت مجالس النقابات القطاعية، التي بادرت منذ البداية إلى تشكيل لجان الإضراب أو "مجالس الحركة" والتي ربما تراوح مجموعها من 400 إلى 500 مجلس.
سلطات مجالس النقابات القطاعية كانت دائما مقيدة، فالمفاوضات حول الأجور وشروط العمل في كل قطاع كانت تتم إما على المستوى القومي أو على مستوى مواقع العمل، وهو ما حد من الدور التفاوضي لمجالس النقابات القطاعية التي تضم عضويتها مندوبين عن الفروع المختلفة للنقابة في كل منطقة، ولذلك لم يكن لها علاقة مباشرة بالعمال في مواقع العمل، ولم تستطع أن تلعب دورا كبيرا في اتخاذ القرار بشأن الأجور وشروط العمل. علاوة على أنها لم تكن تمتلك أي سلطات عقابية مالية أو أخرى تجعلها قادرة على إلزام أعضائها بأي وسيلة من الوسائل، بل تستطيع فقط أن تلعب دورا في الأمور التي تبتعد تماما عن موقع العمل، مثل قضايا الصحة والتعليم والإسكان بما يشبه دور جماعات الضغط في المجتمع المحلي.
وخلال فترة تصاعد النضال العمالي من 1910 إلى 1920، كان دور المجالس القطاعية هامشيا في أفضل تقدير. هكذا كتب أحد المؤرخين، هو ألان كلينتون، عن دورها في فترة تصاعد حركة النقابات الموقعية في المصانع خلال الحرب العالمية الأولى:
إن المجالس القطاعية كانت إلى حد كبير منظمات مرتبطة بالآلية النقابية نفسها، وليست متوائمة بأي شكل من الأشكال مع مشكلات عمال الورش التي برزت خلال هذه الفترة وعبرت عن نفسها في حركة النقابات المصنعية. ورغم تجاهل وجودها إلى حد كبير من قبل قيادات الحركة النقابية في ذلك الوقت، عبرت المجالس القطاعية ككل عن سياستها وميولها بشكل أكثر راديكالية إلى حد ما. وهكذا كانت العلاقة بين المجالس القطاعية وحركة اللجان النقابية المنتخبة في مواقع العمل تتسم بالتعاون العابر أكثر منها بالدعم المباشر. (24)
ويذكر أحد الكتب التي تناولت تاريخ المجلس القطاعي في منطقة شيفيلد أن تطور حركة النقابات المصنعية المنتخبة خلال الحرب العالمية الأولى لم يكن له علاقة بالمجالس القطاعية.(25) وبالمثل حرص أعضاء لجنة نقابة كلايد حرصا شديدا على تجنب المجلس القطاعي في جلاسجو.(25) ومع ذلك، ففي قضايا لا علاقة لها بالصناعة – مثل التحريض ضد طوابير الغذاء الطويلة خلال فترة الحرب، تعاونت لجنة عمال شيفيلد فعلا مع المجالس القطاعية.(27) كما تعاونت اللجنة المشتركة لعمال الصناعات الهندسية في كوفنتري مع المجالس القطاعية في المدينة على نفس القضية.(28) ولكن لم يبدأ جيه تي ميرفي وقيادات شيوعية أخرى في التركيز على أهمية المجالس القطاعية إلا في أعقاب حركة النقابات المصنعية. ففي عام 1922، أصبح ميرفي مقتنعا بأن المجالس القطاعية كانت "وسيلة لربط القوى العاملة وتوحيدها في المعركة الطبقية. ومن السهل أن ندرك أنه في المستقبل القريب جدا سوف تلعب المجالس القطاعية دورا متزايدا باستمرار في الحرب الطبقية."(29)
في إضراب عام 1926 ساد قدر كبير من الفوضى والارتباك على المستوى المحلي وتم تجاوز العديد من المجالس القطاعية بسبب جهود قيادات النقابات الرامية إلى إدارة الإضراب من خلال الآلية الخاصة بنقاباتهم منفردة. وفي بعض المواقع "كان هناك عدد من لجان الإضراب المختلفة تمتلك سلطات تتعارض فيما بينها. حدث ذلك في ليدز، حيث شكل كل من اتحاد العمال GMWU ونقابات عمال النقل لجان إضراب منفصلة والتي رفضت الاعتراف بسلطة المجلس القطاعي. وفي شيفيلد شكل الحزب الشيوعي لجنة إضراب موازية ومستقلة.(30)
كانت الصورة في لندن شديدة الفوضوية. فبحلول الثامن من مايو تم تشكيل حوالي 15 مجلسا للحركة، ومع نهاية الإضراب بلغ العدد حوالي السبعين مجلس. ولكن لم ينعقد أول مؤتمر لمجالس الحركة إلا بعد نهاية الإضراب. عندما بدأ الإضراب، دعا المجلس القطاعي في لندن إلى اجتماع للجان نقابات المناطق وقام بتشكيل لجنة مركزية للإضراب رسمية. ولكن للأسف "لم تحافظ لجنة الإضراب المركزية على اتصال فعال مع لجان الحركة المحلية ولا مع لجان الإضراب."(31) ونتيجة لذلك "تحولت اللجنة المركزية إلى هيئة بلا قوة حقيقية، وكانت وظيفتها محددة بعقد الاجتماعات لمندوبي المجالس المحلية وتوجيه النصح والإرشادات التي لا تستطيع فرضها."(32)
وفي جلاسجو تم تشكيل اللجنة المركزية التنسيقية للإضراب في 3 مايو من 23 عضوا معظمهم من مسئولي النقابات، كان من بينهم بيتر كيريجان الشيوعي، ووليام شور، أمين مجلس العمال والقطاعات في جلاسجو الذي ينتمي إلى الجناح اليميني. ولأن عمال السفن والصناعات الهندسية لم تتم دعوتهم للإضراب حتى اليوم الأخير منه لم يكن لهم أي تمثيل في اللجنة المركزية التنسيقية للإضراب. وكان الجناح اليميني يهيمن على عمال البناء والنقل والموانئ الذين شكلوا أغلب العمال المضربين.
التنظيم الذي تأسس من قبل اللجنة المركزية التنسيقية للإضراب لإدارته اكتمل بتأسيس لجان المناطق، التي تأسس منها 16 لجنة. وطلب من أعضاء أقسام حزب العمال بتأسيس هذه اللجان وقاموا بذلك في الفترة بين السادس والتاسع من شهر مايو. (33) وغالبا ما كان رئيس اللجنة من بين أعضاء مجالس حزب العمال. (34) وأصدرت اللجنة المركزية التنسيقية تعليمات إلى لجان المناطق بالحفاظ على الانضباط والنظام في مختلف أنحاء التقسيم البرلماني. ومنع أي دعاية غير مصرح لها. وتنفيذ أي تعليمات يصدرها مؤتمر النقابات أو مؤتمر نقابات اسكتلندا أو اللجنة المركزية التنسيقية." (35)
وبرغم قيادة كيريجان للجنة المركزية التنسيقية، اتبعت هذه اللجنة الخط الذي رسمه مؤتمر النقابات وخضعت له عمليا. وبعد عدة سنوات كتب بيتر كيريجان:
خلال أيام الإضراب التسعة كنت مشغولا بشكل كامل تقريبا بأعمال اللجنة المركزية التنسيقية التي كنت نائبا لرئيسها ثم رئيسها بعد ذلك. ويسألني البعض حاليا: هل كنت أتوقع خيانة الإضراب العام؟ وكنت دائما أجيب على ذلك بأنه في خضم النضال لم أكن أعتقد ذلك أبدا. (36)
ويستنتج أحد المؤرخين، موريس، أنه "لا يبدو أن اللجنة التنسيقية المركزية للإضراب أصدرت أي مواد دعائية للمطلب الشيوعي من أجل حكومة عمالية وتأميم الفحم رغم قيادة الشيوعيين لها، ولا قامت اللجنة بمحاولة تشكيل هيئة دفاعية من العمال أو مفوضية للغذاء بمساعدة الجمعيات التعاونية. وكانت اللجنة المركزية التنسيقية مستعدة لانتقاد قرارات مؤتمر النقابات، ولكن غير مستعدة لتغيير طابع الإضراب عن الصورة التي قررها وحددها مؤتمر النقابات." (37)
لم تجد اللجنة التنسيقية ضرورة حتى لإصدار صحيفة تعبر عنها وتكون مستقلة عن صحيفة مؤتمر النقابات الاسكتلندي الرسمية "العامل الاسكتلندي". وقامت اللجنة برفض الاقتراح الذي قدمه كيريجان بمظاهرات كثيفة أمام المصانع لمنع دخول كاسري الإضراب.(38)
ويرى موريس بموضوعية تامة أنه "أحيانا يتردد في النقاش بشأن الإضراب العام أنه كلما اقترب من نهايته كانت السيطرة تنتقل من أيدي المجلس العام إلى أيدي المناضلين المحليين الذي ينتمون إلى اليسار. ولكن لا يبدو أن هذا ما كان يجري داخل اللجنة التنسيقية المركزية للإضراب. ولم يحدث فعليا في أي وقت خلال أيام الإضراب التسعة أن تعرضت سطلة ونفوذ مؤتمر النقابات للمساءلة." (39)
وفي الشمال الشرقي تم تأسيس لجنة إضراب مشتركة لكل من نورثومبرلاند ودورهام، وترتب على ذلك عقد مؤتمر في 8 مايو في ساحة مدينة جيتسهيد. ونظمت هذا المؤتمر لجنة الإضراب في نيوكاسل وحضره 167 مندوبا من 87 منظمة، منها 28 من مجالس الحركة و52 من لجان الإضراب في نورثومبرلاند ودورهام. وضم المؤتمر مندوبين أيضا من كارليسل، ووركينجتون، وميدلسبره.
وكانت لجنة الإضراب المشتركة لمدينتي نورثومبرلاند ودورهام تعاني عددا من المشكلات، أولها أن رابطة عمال المناجم لمدينة دورهام، والتي كان واضحا أنها أكثر النقابات تأثيرا في المدينة، رفضت الإنضمام إلى هذه اللجنة. (قامت الرابطة بتشكيل لجنة إضراب خاصة بها قبل ساعتين فقط من إنهاء الإضراب). وثانيها أنه أعلن بوضوح أن لجنة الإضراب تخضع لقرارات المجلس العام لمؤتمر النقابات والمجالس التنفيذية للنقابات ولا تخضع لأي قرارات محددة قد يتخذها ذلك المؤتمر. وثالثة هذه المشكلات أن "لجنة الإضراب المشتركة، علاوة على ذلك، لم يكن لها تأثير فعلي في شمال أشينجتون أو جنوب جيتسهيد". (40)
كان هناك لجنتان للإضراب في مدينة دارلينجتون: الأولى هي مجلس الحركة في دارلينجتون، وهو هيئة تتمحور حول المجلس القطاعي المحلي، والثانية تمثل عددا أكبر كثيرا من العمال وهي لجنة إضراب عمال النقل والسكة الحديد. (41)
النزعة القطاعية التي أثرت سلبا على لجنة إضراب نيوكاسل ومجلس الحركة في دارلينجتون أثرت أيضا على المجلس القطاعي في ميدلسبره. ويصف تقرير من أمين المجلس القطاعي في ميدلسبره الاجتماع الأول للجنة المركزية للإضراب الذي انعقد في السادس من شهر مايو قائلا:
تمت دراسة قرار المجلس القطاعي بشأن تشكيل لجنة مركزية للإضراب، وقد اتضح على الفور إن مسألة توجيه الإضراب مركزيا لم تكن ممكنة عمليا في ميدلسبره بسبب خوف بعض المندوبين من أن يترتب على ذلك ما وصفوه بأنه "تدخل في الشئون المحلية لمختلف النقابات." غير أن بنود قرار المجلس القطاعي تم تعديلها لمعالجة هذه الانتقادات عبر إضافة عبارات أخرى تنص على عدم تدخل اللجنة المركزية للإضراب في السياسة المحلية لأي نقابة بأي طريقة غير دستورية. ومع وضع المناقشات التي دارت حول هذه النقطة في الاعتبار، أصبح واضحا أن لجنة الإضراب المركزية لا يمكنها أن تأمل في أن تلعب دورا أكثر من هيئة تنسيقية من الخارج لا هيئة قيادية تحت أي احتمال ومهما يحدث خلال استمرار الإضراب. (42)
أما في برمنجهام، فقد أعطى المجلس القطاعي سلطة لمجلسه التنفيذي في تشكيل آلية لإدارة وتوجيه الإضراب القادم. وفي الثاني من مايو 1926، دعا المجلس التنفيذي إلى اجتماع لمسئولي النقابات المتفرغين وتم اختيار تسعة مندوبين منهم للإنضمام إلى المجلس التنفيذي في لجنة الطوارئ النقابية في برمنجهام.
"ومن الناحية السياسية كان تشكيل لجنة الطورائ أبعد ما يكون عن صفة الثورية، كما هو متوقع من لجنة تضم في عضويتها أربعة من هيئة قضاة برمنجهام ينتمون إلى حزب العمال (بريت، هول، هاينز، ورودلاند)، بالإضافة إلى عضو مجلس المدينة (كرامب) وعضو سابق بمجلس المدينة (آجر) بالإضافة إلى عضو سابق بالبرلمان. وكان أغلب أعضائها من مسئولي النقابات المخضرمين الذين يتسمون بالنضوج والمسئولية والاعتدال. وكان آجر رئيس قسم برمنجهام في حزب العمال." (43)
وفي شيفيلد تم تشكيل لجنة النزاع المركزية من القسم الصناعي لمجلس العمال القطاعي، والتي ضمت أيضا مندوبين من النقابات التابعة للمجلس. وحددت لجنة النزاع المركزية الغرض من إنشائها باعتبارها "هيئة تابعة للمجلس العام لمؤتمر النقابات"، وكان عملها "قاصرا على تحديد أفضل السبل لتطبيق الاستراتيجية التي يضعها مؤتمر النقابات على المستوى المحلي، ولا يمتد إلى تحديد هذه الاستراتيجية نفسها." (44)
أما ليدز، فوفقا لتقييم قامت به رابطة العوام "كانت أسوأ المدن تنظيما في انجلترا، حيث تكونت فيها لجنتان أو ربما أربع لجان إضراب تتنافس فيما بينها." (45)
وبشكل عام كان من المعتاد أن يقوم مندوبو نقابات عمال النقل (أو نقابات عمال السكة الحديد وحدهم) بتشكيل مجالس تنفيذية مستقلة عن لجان الإضراب المركزية، مثال ذلك ما حدث في برمنجهام، جلاجسو، دارلينجتون، ونوتنجهام، وأولدهام، وكرو، ودانفيرملين، وجلوسيستر وستوك. (46)
ولم أتمكن أبدا أن أجد حالة واحدة لتمثيل أعضاء النقابات المصنعية في مجالس الحركة أو في لجان الإضراب المشتركة.
اللجان المحلية – المجالس القطاعية، ومجالس الحركة أو لجان الإضراب المشتركة – لم تجذب الحبل بقوة من المجلس العام لمؤتمر النقابات. ويصف ذلك أحد المؤرخين قائلا:
بشكل عام، تشير الدلائل الكثيرة إلى أن أغلبية المجالس القطاعية ولجان الإضراب لم تكن أكثر جرأة في مشاعرها أو خروجا عن القانون في سلوكها مقارنة بالمجلس العام لمؤتمر النقابات نفسه. على العكس، أبدت هذه اللجان والمجالس إصرارا قويا على المحافظة على الانضباط والنظام والتزام الطاعة.
كان التعهد الذي أعلنته لجنة الإضراب في نورثومبرلاند ودورهام نموذجا في هذا المجال: "لقد تعهدنا وقررنا ألا نتخذ خطوة واحدة تخرج عن تعليمات المجالس التنفيذية للنقابات أو محظوراتها حتى وإن كان ذلك استجابة لمتطلبات واضحة وجلية لمعالجة حالة طارئة. إن التزام الانضباط من جانب لجنة الإضراب المشتركة إزاء ساحة إكلستون والمجالس التنفيذية للنقابات كان التزاما بديهيا من البداية ولم يوضع محل تساؤل في أي لحظة." (47)
وأدى اعتماد القواعد العمالية على بيروقراطية النقابات خلال الإضراب إلى الطابع السلمي تماما للعلاقة بين الشرطة والمضربين. ففي بداية الإضراب، نشرت جريدة "العامل البريطاني" قائمة من الواجبات التي ينتظر أن يؤديها العمال المشاركين في الإضراب:
أبذل قصارى جهدك حتى تجعل الجميع يبتسمون – وطريقة ذلك أن تكون أنت نفسك مبتسما.
أبذل قصارى جهدك حتى تستنكر أي أفكار عنيفة أو سلوك فوضوي. قم بسرعة بأي شيء يمكن أن يشغلك ويهدئ أصعابك إذا اهتزت أو توترت.
إنجز أي مهام تحتاج إنجازها في منزلك.
إفعل قليلا مما يمكنك فعله لتسلية أبنائك ومداعبتهم حيث أن أمامك الآن فرصة للقيام بذلك.
إفعل ما تستطيع من أجل تحسين صحتك، تمشية لفترة مناسبة يوميا سوف تحافظ على لياقتك البدنية.
إفعل شيئا، فالفراغ وتبادل الشائعات ضار في جميع النواحي. ويقترح المجلس العام تنظيم دورات رياضية في جميع الأحياء التي يوجد بها عدد كبير من العمال المشاركين في الإضراب بالإضافة إلى تنظيم حفلات ترفيهية. فذلك سوف يشغل عددا من الناس ويوفر التسلية والترفيه للكثير. (48)
في كافة أنحاء البلاد كان هناك تشديد كبير على العلاقات الودية مع الشرطة. وأشارت تقارير إلى أن رئيس الشرطة في مدينة لنكولن كان صديقا حميما لحزب العمال. ولذلك أصر على رفض السماح لفرق الشرطة الراكبة بدخول لنكولن وطلب من لجنة الإضراب بتوفير الرجال اللازمين لتشكيل شرطة خاصة.
مجلس النقابات القطاعي في مدينة باث أشار للصحف أنه "تلقى التحية والشكر من عمدة المدينة ورئيس الشرطة لمحافظته التامة على النظام، ونصح العمدة في أول يوم للإضراب بحل الشرطة المحلية الخاصة باعتبارها زائدة عن الحاجة."، وفي إلكستون "قامت الشرطة بشكل جيد وسريع بمساعدتنا بدلا من التدخل في شئوننا." وفي يوفيل: "أظهرت شرطة المدينة مشاعر طيبة طوال فترة الإضراب." وفي لايتون: "العلاقة مع الشرطة طيبة للغاية." وفي سيلبي: "مساعدة الشرطة كانت رائعة، وقد عملت شرطة الإضراب في تناغم تام مع الشرطة المحلية في المدينة." وفي سوسكس قام أكثر من ألف عامل من المشاركين في الإضراب "بالتصويت على تأكيد الثقة في مفتش شرطة المدينة وأعضاء فريقه كما تم استقباله مصحوبا بموسيقى الشرف". (49).
وفي مدينة بيتربره "سمح العمدة ورئيس الشرطة باستخدام الملاعب الرياضية بأسعار منخفضة أو مجانا للجان الإضراب التي كانت تنظم حفلات موسيقية ودورات للعب التنس وكرة القدم." (50) وفي مدينة بانبري تم تنظيم حفلات موسيقية مشتركة وعقد مباريات بين الجانبين. وفي نورويتش، قام العمال المضربون وأفراد الشرطة بتنظيم سلسلة من المباريات الرياضية تحت رعاية رئيس الشرطة. وفي جميع الأحياء الشرقية الواقعة بين لندن و هومبر، تعاونت لجان الإضراب مع الشرطة والقادة المدنيين "للمحافظة على السلم وتنظيم المهرجانات الترفيهية." (51) .
ونشرت جريدة العامل البريطاني تقريرا تحت عنوان "الرياضة للجماهير، العمال المضربون يهزمون الشرطة في كرة القدم والموسيقى والدراما": "في كثير من أنحاء البلاد تم توفير مواقع متميزة للترفيه والتسلية للعمال المضربين ولعائلاتهم. وتم تنظيم مباريات خاصة لكرة القدم وكرة المضرب علاوة على العديد من الرياضات الأخرى بالأمس، فيما توافرت أيضا أشكال أخرى للترفيه مثل الحفلات الموسيقية والأعمال الدرامية وتنظيم ألعاب الورق الجماعية." (52)
وإلى جانب المشاركة في الرياضة، كان النشاط الثقافي الرئيسي الآخر للعمال المضربين، فيما يبدو، هو الذهاب إلى الكنسية. في باتريشا:
… خلال اليوم الثاني من الإضراب، لجأ عمدة المدينة إلى العديد من الكنائس المحلية مقترحا بأن تفتح الكنائس وقاعات النقابات أبوابها للجمهور بأغراض الراحة وذلك للتخفيف من التجمعات غير الضرورية للجمهور في الشوارع، وربما يمكن أيضا تقديم خدمات بسيطة أو محاضرات لهم. أحد الكهنة، هو القديس هارفورد في كنيسة لافندر هيل، أعلن أنه وزملاءه يوافقون بالإجماع على هذا الاقتراح. ولن يقتصر فقط على فتح قاعة الكنيسة وتقديم المشروبات والوجبات الخفيفة وإنما سوف يسعده أيضا أن يقدم بعض المحاضرات. واقترح أن يقدم محاضرات تحت عنوان أنبياء وكهنة الديمقراطية حول أفلاطون، وويل لانجلاند وتوماس مور. وقامت كنائس أخرى بالاستجابة وفتحت قاعاتها، والأهم من ذلك أنها سمحت بتقديم تبرعات يوم الأحد إلى صندوق مجالس الحركة. وفي ظهيرة يوم الأحد قامت لجنة الإضراب المشتركة لعمال النقل التابعة لنقابة عمال السكة الحديد بتنظيم مظاهرة كنسية باللافتات في مسيرة من يونيتي هول في فالكون جروف إلى كنيسية سان ماري المجاورة. وبعد غناء ترنيمة دينية "يا إلهي يا من تساعدنا منذ العهود الغابرة" استمع الجمع إلى عظة كنسية. (53)
وفي بلايموث، تم ترتيب أنشطة دينية يوميا وقد حضرها العمال المضربون. (54)
أنهى فرع نقابة عمال السكة الحديد في مدينة ويدنس اجتماعاته بدعاء "اللهم احفظ الملك" كما دعت لجنة إضراب دوفر العمال المضربين إلى ترديد النشيد الوطني Rule Britannia بدلا من The Red Flag (العلم الأحمر) خلال مسيرتهم في الشوارع.… كان في بعض نشرات الإضراب حماسة دينية وليست حماسة ثورية. كان محرر نشرة إضراب ويجان لديه رسالة ملائمة وطبيعية لقرائه يوم الأحد في التاسع من مايو: "أيها الجمهور العزيز، تذكر يوم السبت حتى تحافظ على قداسته. ينبغي أن تحب الرب إلهك بكل قلبك وروحك وعقلك وقوتك، وأن تحب جارك كما تحب نفسك. النشرة اليومية، أخبار من جميع الأرجاء، الموقف رائع، ومتماسك في كل مكان." عدد يوم السبت من نشرة لانسبري، التي تم توزيعها في بوبلار، أعلنت لقرائها أن "غدا هو يوم الأحد. سوف تأتي إلى اجتماعاتنا في المساء، ولكني أرغب منك أن تحضر طقوس أقرب كنيسة إلى منزلك… إنها المقاومة السلبية التي أوصى بها المسيح تلك التي تمارسها اليوم." (55)
غير أن الوضع لم يكن سلبيا وسلميا في كل مكان. ففي أحياء العمال الرئيسية في لندن وفي جلاسجو وإدنبرج والعديد من المدن الشمالية ارتكبت الشرطة عنفا حقيرا وغالبا بشكل مستمر ضد العمال المشاركين في الإضراب:
في بريستون، تعرضت مجموعة تضم 5000 شخص حاولوا اقتحام قسم الشرطة لإطلاق سراح أحد العمال المضربين كان مقبوضا عليه إلى الضرب بالعصي في تجريدة تلو الأخرى حتى يتراجعوا.…وجرت أحداث شبيهة في المراكز الصناعية الهامة مثل ميدلسبره، نيوكاسل وهول، حيث كان هناك 25 محتجزا و41 من المصابين في المستشفيات. وفي مدينة يورك، حاولت مجموعة أخرى إطلاق سراح أحد السجناء، فيما شهدت مدينتا إدنبرج وجلاسجو أحداث عنف لمدة أربع أو خمس ليال مع إطلاق الصواريخ والقبض على المئات. (56)
ولو استمر الإضراب أكثر من تسعة أيام لكان بلاشك سيشهد مزيدا من عنف الشرطة. وقد أشار العديد من الكتاب إلى "التشديد الواضح في إجراءات الشرطة في كافة أنحاء بريطانيا خلال العطلة الأسبوعية الأخيرة." (57) ومع ذلك فإن ضآلة عدد مجالس الحركة التي قررت تشكيل فرق دفاع عمالية تعد إشارة على أن عنف الشرطة كان محدودا نسبيا من حيث الانتشار.
إن عدد المناطق التي ساد فيها شعور بالحاجة إلى تشكيل فرق الدفاع العمالية كان محدودا خارج حقول مناجم الفحم في فايف: وفي تقرير إدارة بحوث العمل وردت هذه الحاجة فقط في مناطق ألدرشوت، تشاثام، كولشستر، كرويدون، ديني ودونيباس، سان بانكراس، سيلي، سورباي بريدج وويليسدن. (58). وبين الحين والآخر كان أعضاء لجان الإضراب يقدمون اقتراحات لتشكيل هذه الفرق حيث كانت سياسة الحزب الشيوعي وحركة الأقلية القومية هي الضغط لاتخاذ هذه الخطوة. لكن معظم هذه الاقتراحات ووجهت بالرفض. فقد بدت غير ضرورية لمعظم قادة النقابات لأن حوادث العنف كانت استثناءا عند النظر إلى عموم البلاد مقارنة بالصورة العامة التي اتسمت بالهدوء، حيث كانت الشرطة وصفوف حماية الإضراب تحترم كل منها مهام الأخرى. (59)
بطبيعة الحال حدث نوع من التثوير السريع – أو "النمو الروحي الحقيقي" بمصطلحات لوكسمبورج – وسط أقلية من العمال نتيجة لمشاركتهم في الإضراب. أحد أدلة ذلك هو الزيادة الكبيرة في عضوية الحزب الشيوعي خلال الإضراب والشهور التسعة التالية مع إغلاق المناجم ومنع عمال المناجم من العمل. (60)
غير أننا لن نناقش هنا ما حدث للحزب الشيوعي وقسمه العمالي المسمى بحركة الأقلية. ولن ندقق في دور قيادة حزب العمال والدور الذي لعبته موسكو. كما أننا لن نتناول النقد العبقري الذي قدمه تروتسكي للبيروقراطية النقابية، وتذيل الحزب الشيوعي خلف قيادات "اليسار"، ولا لضعف إدراك تروتسكي للأوضاع الحقيقية للطبقة العاملة البريطانية في ذلك الوقت والذي بالغ إلى حد كبير في مدى نضاليتها وقوة تنظيماتها القاعدية. فهذا الضعف في إدراك تروتسكي جاء نتيجة للمعلومات المغلوطة التي كان ينشرها قادة الحزب الشيوعي البريطاني الذين تأرجحوا بين النزعة السينديكالية التي ورثوها عن حزب العمال الاشتراكي والنزعة الإصلاحية اليسارية التي ورثوها عن الحزب الاشتراكي البريطاني. (وقد ساهم الكومنترن في تفاقم هذا التأرجح وتلك المعلومات المغلوطة). هذه الأمور قطعا لها أهميتها الخاصة، ولكننا لا نحاول تناول هذا الموضوع بالتحليل والتفصيل الشامل، حيث اهتمامنا هنا يركز على مناقشة نقطة مركزية واحدة وهي أن الإضراب العام في بريطانيا كان بوجه عام خاضعا لسيطرة البيروقراطية حيث لم تتمكن القواعد العمالية في إبداء أي استقلالية في الحركة والروح النضالية.

هوامش
1. M.A. Waters (ed.), Rosa Luxemburg Speaks (New York 1970), p.171.
2. R. Luxemburg, Ausgewãhlte Reden und Schriften (Berlin 1955), vol.I, pp.227-8.
3. Ibid., pp.201-2.
4. Ibid., p.274.
5. Ibid., p.187.
6. R. Luxemburg, Gesammelte Werke (Berlin), vol.III, p.457.
7. W.M. Crook, The General Strike (Chapel Hill 1931), pp.126-7.
8. Ibid., p.140.
9. Ibid., pp.133, 115.
10. Ibid., p.133.
11. Ibid., p.142.
12. Ibid., p.87.
13. Ibid., pp.73-4.
14. Ibid., p.75.
15. Ibid., pp.80-83.
16. Ibid., pp.84-5.
17. Ibid., pp.79-80.
18. Ibid., p.80.
19. Ibid., pp.95, 87.
20. Ibid., pp.87, 95-6.
21. Ibid., pp.94-5.
22. J. Symons, The General Strike (London 1957), pp.64-5.
23. E. Burns, The General Strike, May 1926: Trades Councils in Action (London 1975), p.172.
24. A. Clinton, The Trade Union Rank and File. Trades Councils in Britain, 1900-40 (Manchester 1977), p.75.
25. J. Mendelson, W. Owen, S. Pollard and V. Thornes, The Sheffield Trades and Labour Council, 1858-1958 (Sheffield 1958), p.67.
26. J. Hinton, The First Shop Stewards’ Movement (London 1973), p.138; W. Kendall, The Revolutionary Movement in Britain, 1900-1920 (London 1969), p.140.
27. Hinton, op. cit., pp.237, 248, 263.
28. Ibid., p.223.
29. J.T. Murphy, Stop the Retreat, n.d. (1922).
30. Clinton, op. cit., p.126.
31. Burns, op. cit., p.139.
32. J. Jacobs, London Trades Council, 1860-1950 (London 1950), pp.129-30.
33. M. Morris, The General Strike (London 1976), p.321.
34. P. Kerrigan in J. Skelley (ed.), The General Strike, 1926 (London 1976), p.321.
35. Morris, op. cit., p.400.
36. Skelley, op. cit., p.316.
37. Morris, op. cit., p.401.
38. Skelley, op. cit., p.322.
39. Morris, op. cit., pp.402, 410.
40. R. Mason, The General Strike in the North East (Hull 1970), pp.22-3, 25.
41. Ibid., pp.27-8.
42. Burns, op. cit., p.146.
43. Skelley, op. cit., pp.211-2.
44. Morris, op. cit., p.438.
45. R. Postgate, E .Wilkinson and I.F. Horrabin, A Workers’ History of the General Strike (London 1927), p.46.
46. Burns, op. cit., pp.15, 123, 154, 171; Clinton, op. cit., pp.217, 219; G.A. Phillips, The General Strike (London 1976), p.197.
كان التعبير الأكثر تطرفا عن النزعة القطاعية هو رفض رابطة عمال طباعة الصحف في أغلب الأحوال الموافقة على طباعة نشرات الإضراب المحلية. "انحياز ومشاعر الطوائف الحرفية القديمة، والتقاليد الكاملة للنزعة القطاعية، وفي الإخلاص والولاء للنقابة الخاصة قبل كل شيء ولسلطة مسئوليها ومجلسها التنفيذي، كل ذلك قطع الطريق على التضامن الشامل … كان قطاع الطباعة لزجا بشكل خاص، يحتاج إلى الكثير من محاولات الإقناع والمفاوضات الطويلة في كثير من المواقف قبل أن يقوم العمال بتنفيذ الطبعات الإقليمية للجريدة الخاصة بالمجلس العام نفسه.
(A. Hutt, The Postwar History of the British Working Class (London 1972), p.142. See also Phillips, op. cit., pp.173-5; C. Farman, The General Strike, May 1926 (London 1974), pp.173-4.)
كان عمال الطباعة الذين يقومون بتنفيذ جريدة العامل البريطاني في لندن طماعين جدا. "العمال الذين يقومون بإدارة الآلات طالبوا في البداية بمبالغ كبيرة. فقد طلبوا مبالغ تزيد عن المبالغ التي كانوا يحققونها في الأوقات العادية. وقد تم التفاوض معهم ومناقشتهم ولكنهم لم يقبلوا تخفيض مطالبهم.
(M. Fyfe, Behind the Scenes in the Great Strike (London 1926), p.62.)
47. Account of the Proceedings of the Northumberland and Durham General Council and Joint Strike Committee, Labour Monthly, June 1926; Phillips, op. cit., pp.205-6.
48. British Worker, 5 May 1926.
49. Farman, op. cit., p.229.
50. Symons, op. cit., p.14.
51. Farman, op. cit., p.229.
52. British Worker, 9 May 1926.
53. Morris, op. cit., p.389.
54. Burns, op. cit., p.160.
55. Farman, op. cit., pp.193, 202.
56. P. Renshaw, The General Strike (London 1976), p.18.
57. Farman, op. cit., pp.339-40.
58. Burns, op. cit., p.70.
59. Morris, op. cit., p.78.
60. لا يستطيع المرء أن يميز بين تأثير الإضراب العام وبين عملية إغلاق المناجم الممتدة على نمو عضوية الحزب الشيوعي. فعند انعقاد المؤتمر السابع للحزب في مايو 1925، كان عدد أعضائه يبلغ 5000 عضو، وقد ارتفع هذا العدد إلى 10730 عضوا بحلول المؤتمر الثامن في أكتوبر 1926. وكانت الأغلبية العظمى من الأعضاء الجدد من بين عمال المناجم.
(L.J. Macfarlane, The British Communist Party. Its Origins and Development Until 1929 (London 1966), p.173.)