بيتي الوحيد الحزين


منير العبيدي
2008 / 4 / 14 - 08:37     


الشارع الرئيسي المؤدي إلى الجسر الذي يعتلي نهر ديالى ، و يقود الى بعقوبة القديمة ، من ذروة تقوسه في الوسط يعرضُ على امتداد البصر بانوراما البساتين ، أتركه منعطفا إلى اليسار فأدخل شارع المستشفى .. أسيرُ تاركا ورائي أسيجة بيوتٍ بنية ، بيجية أو تلك التي تحمل لون الاسمنت الحائل تطوق أشجار الزيتون و البرتقال و النارنج و النخيل ، بيوت الستينات بطرازها و أجوائها تعكس " بذخ " الطبقة الوسطى المتواضع الحميمي ، الطبقة التي شهدت آخر عهود ازدهارها في الستينات يوم كان المعلم الشخصية الأبرز في المجتمع . ينتهي الطريق الذي يبلغ اقل من كيلومتر واحد متعامدا على نهر ديالى عند السدة التي اذا ما اعتليتها ينكشف أمامي النهرُ يجرى هادئا في العمق و بساتين الهويدر في الضفة الأخرى : أشجار البرتقال تلوذ بالشموخ الفاتن للنخيل السامق . من أول فتحة على اليسار و قبل ان تبدأ بيوت ( الدهلكية ) حيث ينتهي سياجُ المستشفى منعطفا الى اليسار ، قبل أن أصل محطة البستنة ، ادخل شارعا فرعيا ، يمينُه بيوتٌ متطامنة الى بعضها ، متكئة على بعضها ، حين تبقى وحيدة تتهامس الى بعضها بحفيف حدائقها التي تحمل ملامح البساتين أكثر من حدائق بغداد المفروشة بالحشيش الأخضر و التي تكشف نفسها للشمس . لدينا الحدائقُ هنا : نخيلُ تمرٍ ، برتقالٌ ، أشجارُ تين و زيتون ، تظلل مرأبَ السيارةِ فيه " قمرية " عنب و أخيرا عريشة جهنمية ربما لتكسر ايقاع الطابع البستاني للحدائق ، شاهدا على طبقة أزيحت بفظاظة عن المسرح و تركت آثارها . فرعين و أدخل في الثالث ، هذه المرة البيوت على يساري و يميني و أطفالٌ يلعبون ، سيلوحون لي بأيديهم الصغيرة لأنهم يعرفونني ، و قبل النهاية و قبل ان أصل الى تعامد لشارع عرضي حيث بيت الدجيلي ، عند البيت قبل الأخير ، قبل بيت مكي انظر إلى باب فاتحِ الزرقةِ صغيرة بعرض متر واحد ، ربما تكون معمولة من قبل حداد في أواخر الخمسينات أفتح الباب و ألج إلى الداخل ، فيكون الياس مثل حرس الشرف يحفني من الجانبين ، أكون عندئذ في حديقة البيت .
هذا هو بيتي .
إنه بيتي الحزين الوحيد .
يتفقد البيت من غابوا ، تفتش عيونُه الغرفَ و المسالكَ . الصالة و الحديقة تبحث عمّن رحلوا وتركوه وحيدا و حزينا . يفتقدُ البيتُ ما اعتاده طويلا : رائحة الشاي ، إيقادَ المدافئ ، تحضيرَ الفطور ، اندلاقَ الحليب على الطاولة ، الصراخَ المتذمّر ، التهدئة و التهوينَ ، قطعة القماش التي سارعت للمسح ، تقريع َمصطفى الذي تنحى جانبا مطرقا في الزاوية شاعرا بالذنب ، خطوات ( توده ) الصغيرة حافية تهرع و تصطف إلى جانبه تضامنا تواسيه تتطلع إلى وجهه منحنية قليلا إلى الأمام لتلم بوجهه المُطرق ، صوتَ فيروز الرنّان ، حاملَ الفرح ( عودك رنان ، رنة عودك إلي ) ، الخطوات المرتبكة للصاحين توا من نوم صباح الجمعة ، أنفاسَنا التي تعلق بخارا على الزجاج ، القطة التي تنظر خللَ زجاج شباكِ المطبخ ، أصوات بيت (حجي مهدي ) تعبر معتلية السياج عند ظهر البيت ، حفيف النارنج و الصوت المكتوم لسقوط الثمار على الأرض الهشة .
اللوحات : ( حديقة أبو فريدون ) ، ( ليلة اغتيال القمر ) ، ( الموت الابيض ) ، ( كتب و فانوس ) ، ( كابوس ) تشتاق لمن ينظر إليها ، يعيد اكتشاف أسرارٍ فيها ، يرى مرة أخرى مكامنَ الجمالِ في ألوانها و بناءها ، يشم فيها عطرَ اللونِ المتقادم ، يمسحُ بقماشِ (الململ) المبتل ببقايا دفء الماء المغلي الغبارَ عنها ، يرشها بالوارنيش يعيد لها استقامتها على الجدار عائدا خطوتين الى الوراء متطلعا إليها بودِّ صديق .
تبحث الكتبُ عمّن كان يقلبها ، ينفخ عن حوافها الغبار ، تفتقد من تعانق عيونُه كلماتها ، من تهزه قصائدها و قصصها ، من يمعنُ التأملَ في معانيها ، من يفكُ مغاليقَ رموزها الممتنعة ، من يمسك بمعجم ألـ ( The Advanced Learner s Dictionary ) ليلاحق الكلمات ، معانيها و تأويلاتها .
تفتقد النخلتان نشوةَ التلقيح ، رعشة النشوة التي تهز الشجرة الراسخة ، شعورَها المغيّبَ بالأنوثة و هي تعانقُ عطرَ الرجولة لحبوبِ الطلع الفوّاحة بالذكورة ، تتطلع لمن يزيحُ عنها حملَ الشيص لسنوات تتلاحق ، يبحث جذعُها عن ملمس باطنِ القدم المقوسة و هي ترتقيه و رنين (التباليه) على جذعه الشائخ ، يفتقد (التكريب) ، القصَّ اللذيذ ، الأنيقَ للزوائد ، لليفِ المتلفِّ على الكرب .
يفتقد شذى زهر ( الشبوي ) الذي تسلق السياج من يستنشقه .. بنا ، بوجودنا ، يدرك نفسَه ، بنشوتنا ينتشي ، بمديحنا يفتخر ، يجول ممتطيا الهواء مادا ذوائبه الى الشارع الإسفلتي ، طالا على بيوت الجيران مرسلا لوامس عطره الى أطراف الحديقة محيطا بجذع النخيل المتبرم و النارنج الصبور و ( اللالنكي ) الأنيق . العطر الأنيق الممراح ، المرحب به في الأماسي الطرية ، كان ، قبل وحدته ، يشاكس العذارى العابرات يلتف حول الأجساد الممشوقة و يطوق تدويراتها المثيرة ، يقتحم خفاياهن اللذيذة يكشف بميسمه مكامن السر و الشهوة .
إنه الآن يجول وحيدا ، وحيدا ، وحيدا الا من نفسه .
بيتي كئيب يتفقد بحزن من غابوا وتركوه وحيدا .

[email protected]