الصحافة حارسة اللغة العربية في فلسطين


محمد باسل سليمان
2008 / 4 / 3 - 10:38     

دراسة
(1864 ـ 1922)

يرى فقهاء علم اللغة وقبلهم علماء الاجتماع أن اللغة تعبير كياني، وأحياناً مدلولات هوية ومرجعية انتماء. وإذا كانت الإختلافات حول مضامين الدلالات التعريفية لها قد استغرقت ردحاً من الزمن حتى حسمت إيجابياً لصالح ما هو علمي وحداثي، فإن الآفاق المستشرّفة من حيوية استعمالاتها التعبيرية وسعة وتعددية المعاني الممكنة للمرونة التداولية، برهنت برغم اختلاف الألسنيين وتوافق الرواة؛ على أن قوة أي لغة هي من قوة النظام السياسي التي هي لغته الرسمية. وأما مكانة اللغة فتتحدد بما يعنيه ذلك من توصيفات قومية تتجاوز الجماعة الصغيرة إلى العشيرة والقبيلة والجهوية فالشعب أو الأمة.
واللغة من جانب آخر هي نمط تَجَلّ لمستوى الإرتقاء ودرجة النمو الذي بلغته المجموعة البشرية التي تنطق بهذه اللغة، وربما تنسب إليها وتعرف باسمها، أو تعلن بأن اللغة (الفلانية) هي لغتها الرسمية بشكل وحيد أو إلى جانب لغة (محلية خاصة) أخرى.
واللغة العربية التي بلغت أوج تألقها الأجمل تداولاً وثراء وقيماً إستعمالية طيلة مراحل ازدهار الدولة العربية ـ الإسلامية، بدأت تراجعها بشكل تساوقي مع حالة الوهن التي أخذت تنتاب هذه الدولة بشكل تدريجي؛ وخصوصاً عندما أصبح الخلفاء والحكام وولاتهم في الأقاليم العربية (مسلمين) لا يجيدون هم وأركان حكمهم وكبار موظفيهم في المؤسسات الثقافية والعلمية اللغة العربية وأصولها وقواعدها. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أن الشيخ عبد الله الشرقاوي الذي كان شيخاً للأزهر في أيام محمد علي باشا كان لا يعرف اللغة العربية. ووفق تقاليد وأصول النظام يجب أن يقال لفقهه وفتواه: السمع والطاعة. والأمر نفسه يمكن أن يكون كما هو عليه بالنسبة إلى الجبرتي، الذي ترك لنا ما كتبه بلغة لا علاقة لها باللغة العربية. ويمكن أن نتصور كم كان الوضع سيئاً منذ وقوع البلدان العربية تحت نير الإستعمار التركي، وهو الأمر الذي يجوز معه القول بأن اللغة العربية في العصر العثماني قد تحنطت وبدأت تداهمها مفردات أعجمية تركية. وأما آداب اللغة العربية على إختلاف أنواعها فقد نضبت، وما أنتج منها في تلك المرحلة كان رديئاً قميئاً. وقد حملت مرحلة الإستعمار التركي التي امتدت لأربعة قرون صفة "الإنحطاط" التي أطلقت عليها، بجدارة.
إن اللغة لا تزدهر إلا حينما تكون حياة الشعوب مزدهرة، وتكون النهضة الفكرية والأدبية حيوية ونشطة. وذلك لأن اللغة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بحياة الناس، وتتطور اللغة مع تطور هذه الحياة. وحيث أبتلى الشعب الفلسطيني وغيره من شعوب البلدان العربية الأخرى بحكم إستبدادي ظلامي وسلفي أصولي يتدثر بالدين الإسلامي ويقهر الشعوب باسم تعاليمه، وأكثر من ذلك يحاول فرض قوميته الطورانية ولغته التركية على هذه الشعوب، بحجة الحرص على مستقبل الإسلام وعدم خضوعه لفرص امتحانات التزوير أو الدس أو التغيير أو غيرها؛ فقد كان من المنطقي جداً أن يبلغ الأدباء الحالة التي تتجلد فيها حرارة الأفئدة وتجف المشاعر وتتبلد الأحاسيس وتهزل قوة المحركات ويتراخى نبض التعبير. فيسقط الأدب بكل أنواعه إلى قيعان هاوية الإنحطاط، حيث يتقلص عدد المدارس ويقل عدد المتعلمين، ويتراجع عدد الذين يجيدون اللغة العربية؛ ولا ترتفع كثيراً نسبة المجيدين للغة التركية برغم مثولية سياسية التتريك.

الأمة هي اللغة
وصمت الحالة التي كانت تحيق بالأدب والأدباء في البلدان العربية وبضمنها فلسطين الثقافة بالمظاهر التي كانت سائدة في البلاد وما تتمتع به من قيم ومعارف الحكم الإقطاعي وما هي عليه من الجمود والتأخر والفوضى والفقر. وكانت تتخللها بعض الأحداث التي تخفف من هذا الجمود، وتثير في نفوس العرب بعض الآمال بتخفيف حدة تلك القيود الإقطاعية التي تعيق تطورهم التاريخي. ظل هذا الحال قائماً في البلدان العربية وبضمنها فلسطين حتى عهد التنظيمات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين قامت الدولة بإصلاحات إدارية وقضائية ومالية وسياسية شاملة، إقتداء بالغرب. وقد كانت النتيجة المباشرة لذلك إصغاء الأتراك لنهج جديد في الأدب، والتعرف إلى نزعة جديدة في الشعر أخذت تستهويها نفوسهم. وانعكس ذلك على سلوك رجال الدين في عهد التنظيمات بشكل مباشر، بما ساعدهم على تليين موقفهم من لغات وثقافات القوميات غير العربية، تلخصت في أنه بوسع "الذين يبغون اللغة العربية أن يذهبوا إلى بلاد العرب. والذين يبغون اللغة الإفرنجية فليذهبوا إلى بلاد الإفرنجة. وأما نحن كأتراك، فينبغي أن يكون لنا لغة تركية".
ولكن طبيعة النظام التركي الشمولية تجعله مؤهلاً لأن يطبع بصماته دائماً على واقع أي حالة إجتماعية وتحولاتها. فحيث كان نظام الحكم إقطاعياً فقد رسمت مواصفاته وخصائصه إطاراً إقتصادياً وسياسياً أحاط بفلسطين، ولذا فإن توجه الفلسطينيين (كما غيرهم من العرب) لتعلم اللغة العربية تمثل المحتوى الديني، وأخذ يتشكل بأشكال هذا الإطار. ولذلك كان الطابع الديني في عهد التنظيمات يغلب على الثقافة الفلسطينية، ويبدو كما لو أنه سمتها الرئيس. ويرجع المؤرخون ذلك لأسباب كثيرة من أبرزها أن المسجد الأقصى كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مركزاً هاماً من مراكز نشر العلوم الدينية وفروعها داخل البلاد وخارجها. وكان الشيخ مراد المصري يعلم فيه الخط وعلوم اللغة. كما كان الغزي يقرئ الأولاد القراءة والقرآن ويعلمهم النحو والصرف والفقه في صحن الصخرة. وكان الشيخ عبد الرازق العفيفي يدرس الفقه وعلوم الدين على المصطبة في المسجد الأقصى قبالة باب الحديد. وكان الشيخ يعقوب البديري يدرّس العلوم الدينية تحت شجرة في صحن المسجد قرب باب الناظر... وكان الشيخ عبد القادر أبو السعود يدرّس في زاويته في الخانقاه الفخرية. وكان من شيوخ الحرم في هذه الفترة: الشيخ محمود الريماوي، والشيخ علي العوري، والشيخ سعود العوري، والشيخ يوسف الإمام، والشيخ أمين العوري، والشيخ موسى البديري، والشيخ طاهر أبو السعود، والشيخ علي الخطيب الجماعي، وغيرهم( ).
وتشير المراجع التاريخية إلى أن فداحة التخلف لا تعود إلى أن الأمر كان مقتصراً على الدين الإسلامي فحسب، وإنما لأن مدارس الإرساليات الأجنبية كانت هي الأخرى تحرص على أن يكون المحتوى العام لتدريسها ديني. وفي هذا الصدد قال السكاكيني في كتابه "ما تيسر": "وكانت للمدارس الطائفية صفتان: الأولى أنها كانت أجنبية... والثانية أنها كانت دينية. وكان المفهوم من الدين في ذلك الوقت التحزّن والكآبة، والزهد في الحياة وترك العمل، وقمع النفس والرضا بالنصيب الأخسّ، فكان ضررها من الجهتين، من جهة كونها أجنبية ومن جهة كونها دينية".
وتشير مختلف المصادر التاريخية إلى أن مواد التدريس ومحتواها، أعطت للثقافة الفلسطينية مواصفاتها، وأضفت تأثيراتها على الأدب بشقيه الشعر والنثر سماتها. فكانت النتاجات الإبداعية الأدبية دينية ومحافظة. وبذلك جاء رواد الأدب في تلك المرحلة إمتداداً سقيماً للتيار الأدبي والثقافي القديم. فقد كانوا يقلدون أساليبه ويحاكون طرائق نسيجه، ويستنسخون أهدافه بشكل مكرر يغلب عليه طابع الترادف والتجويف والإسهاب والإطناب والدبلجة المفتعلة والانفعالية أيضاً. وبدا الشعراء والأدباء في تلك الفترة كما لو أنهم يستمرأون التخلف، ويستعصي عليهم الفهم الحديث لدور الشعر والنثر ووظيفتهما الاجتماعية؛ وعلاقة كل منهما بالحياة. وكانوا يبدون كما لو أنهم يرفضون الإنتقال من سواكن تلك المرحلة إلى مشارف المرحلة الجديدة وهم خفاف، وقد تخلصوا من ثقل وطأة عصر الانحطاط وأفكاره وقيمه ولغته بمفرداتها وتراكيبها وأساليبها وملامحها السوداء.
ولهذه الأسباب اتسم أدب ولغة الفترة الأولى من عهد التنظيمات بمضامين مثقلة بالقيم الدينية بصورة ساذجة مهترئة، وبلغة جوفاء سطحية تخلو من بلاغة العمق، ومفخمة وغير فخيمة.
وفي ضوء هذا الواقع يغدو من المنطقي أن يكون اللغويون والأدباء والشعراء، هم أيضاً، رجال الدين مسلمين ومسيحيين. وأن تكون النتاجات الأدبية مثقلة بتلك القيم الدينية التي كان يروّجها الإقطاع. وكان يمكن ملاحظة هذا الأمر بسهولة في نتاجات جميع أدباء تلك المرحلة باستثناء خليل السكاكيني، فاللسان عربي لا تشوبه شائبة الإعوجاج أو الركاكة أو العجمة، والنتاج مثقل بالصور التقليدية القديمة وبأنواع البديع الموروثة. ويلاحظ بسهولة سيادة طغيان ملحوظ للتقليد اليافع الذي استوى عوده. وتتشامخ قدرة فائقة على استعارة الأسلوب القديم المتمتع بخصوبة الثروة اللفظية، من غير أن يكون هناك مضمون أو تجربة أو دافع صحيح. ويبدو الأسلوب في الوقت نفسه ممتلئ باستحضار إيحاءات أنفاس الفخر العربية القديمة، ويستأثر الإغراق في علمي المعاني والبديع. وهذا الأمر يتطلب جهداً كبيراً في الترصيع والتصنيع ومجاراة تجويد الشكل، في حين أنه لا يكلف صاحبه أن يبذل الحد الأدنى من مثل ذلك الجهد لتجويد المضمون. وبذلك تبدو اللغة وكأن لا علاقة لها بالحياة، فيما يبدو الأدب وكأنه منعزل عنها، وغارق حتى الأذنين في لغو مكرس لحفظ الأشكال اللفظية القديمة سليمة من التشويه ومن الركاكة والضعف.
وكان يبدو على الكاتب والأديب في تلك المرحلة وكـأنه منشغل حتى النهاية في ممارسة الرياضة اللفظية اللغوية، أكثر من تلمسه الصفات والمميزات الحقيقية للغة. ويستدل على ذلك من تمسك الكاتب الشديد بالمحافظة على القوالب التركيبية التي لم يكن يملؤها شيء من مقومات الحياة، وباستئثاره الحرص على الديباجة المتماسكة، والعبارات التي لا تشوبها الوهانة، واللعب بالألفاظ والصنعة المتروية؛ من دون الاكتراث بأن تؤدي الألفاظ والتراكيب إلى مضمون ذي طائل في تلك الظروف الإقطاعية.
وتكاد لغة ومفردات المدح والثناء أن تكون الغرض الذي كان يتوكأ عليه الأدباء في مرحلة بدء النهضة الأدبية، حيث تسود المباشرة وتتراجع صيغ الترميز والألغاز؛ فيبدو على شكل تقريظ مختلف في الصفات والأهداف. ولكن هذا الجهد برغم مستوى وأهمية نتاجه كان محدود الشيوع والتداول، لأسباب تتعلق بأنواع الإتصال الجماهيري، التي كانت سائدة في عهد ما قبل إعلان دستور عام 1908م، والتي كانت مقتصرة على الخطب في المناسبات العامة، والحلقات الأدبية. كما أن إصدار هذا الجهد ككتاب ليس من اليسير في شيء توزيعه، أو إرساله كرسالة إلى أديب معروف في إحدى مدن البلاد أو في البلدان المجاورة. وإذا قدر لذلك الإنتاج أن ينشر في صحف البلدان العربية المجاورة، فإنه يصعب العلم بذلك حتى على كاتبه. وإذا ما حدث ذلك، فيكون من المصادفات العجيبة، لأنه غالباً ما يمنع إدخال الصحف العربية إلى فلسطين. وقد كان لهذا الوضع تأثيره السلبي ليس على الأدب فحسب وإنما على اللغة العربية والثقافة الفلسطينية، خصوصاً وأن سياسة الحكومة التركية في هذه المرحلة كانت تتسم بالشوفينية الطورانية، وكان مبدأ التتريك وفرض اللغة التركية بديلاً للغة العربية هو الأداة التي استخدمت بشكل إستبدادي قاهر لتحقيق هذه السياسة.
وتوالت الأعوام التي ساد فيها هذا النهج الثقافي، وتصاعدت فيها وتيرة الأشكال الإستبدادية الطورانية، وشعر خلالها مثقفوا البلاد مثل نظرائهم في البلدان العربية بالخطورة التي أصبحت تتهدد اللغة العربية كتاريخ وعلم وهوية قومية لأمة. ولمواجهة الواقع الخطير بدأ المثقفون ينظمون الحلقات والندوات حول منبت اللغة العربية وجذرها التاريخي، ومراحل تطورها وأنواع علومها. وقد اضطلع المسجد الأقصى والمواقع التعليمية الأخرى بدور مركزي على هذا الصعيد في مدينة القدس وغيرها من المدن الأخرى. كما أن الأدباء ومحبي الأدب واللغة وعلماء الدين والفقه ممن ينحدرون من العائلات الأرستقراطية الفلسطينية، كانت لهم مساهمات ملحوظة في هذا الإتجاه من خلال حلقاتهم أو حلقات الأخرين الأدبية التي كانوا يشاركون بها.
وتذكر المصادر التاريخية أن العالم الفقيه الشيخ يوسف الخالدي كان من أوائل المحققين. وكان يتمتع بقابلية لغوية عالية، وبإستعداد كثير لتعلم اللغات الأجنبية. وكان كلما تولى عملاً في بلاد أجنبية حذق لغتها، فقد تعلم وأجاد اليونانية والكردية لأسباب أملتها عليه وظيفته الحكومية. وحين لم يجد في الكردية كتاباً باللغة العربية، ألف كتاب "الهدية الحميدية في اللغة الكردية". وظل هذا الكتاب يشار إليه على إعتباره مرجعاً حيوياً لهذه اللغة ويؤدي وظيفة "القاموس الكردي ـ العربي".
وعندما كان يوسف ضياء الدين الخالدي أستاذاً للغة للعربية وآدابها في جامعة فينّا، جمع "ديوان لبيد" وجعل له مقدمة وشرحاً،وطبع الجزء الأول منه عام 1880م. وقد ترجمت هذه الطبعة إلى اللغة الألمانية، كما ترجمت بعد أن أضيف إليها تعريف بالشاعر؛ إلى اللغة الإنجليزية، وطبعت في لندن عام 1891م.
ولقد استنسخ يوسف ضياء الدين الخالدي نسخة من "رسالة الغفران" للمعري في سنة 1307 هجرية عن النسخة الأصلية القديمة التي كانت محفوظة بمكتبة الكوبرلي في الآستانة، وهمّ إذ ذاك بطبعها، فحال سفره إلى بلاد الأكراد دون ذلك( ).
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الأستاذ روحي الخالدي المقدسي لم يكن أقل شأواً من قريبه يوسف ضياء الدين الخالدي في مجال الاهتمام بالآداب واللغة العربية. فقد كان هو الآخر مطلعاً على الآداب الأجنبية، ويتقن الكثير من اللغات الأجنبية وخصوصاً الفرنسية، حيث تخرج من جامعة السوربون؛ إضافة إلى اللغتين التركية والإنجليزية.
وكان من أقطاب تيار الحداثة في اللغة والأدب ومؤسسيه، وأحد أبرز المنادين بضرورة تلقيح الآداب العربية بالآداب الأجنبية، وبتطعيم اللغة العربية بدينامية إستيعاب مفردات جديدة من اللغات؛ لا سيما الكلمات التي أصبح لها حضوراً تداولياً بين الجمهور، فرضه انتشارها الإستعمالي من قبل مختلف فئات المجتمع. وكان يرى أنه لا ضير ولا ضرر من استيعاب اللغة العربية بشكل عضوي لمفردات وتراكيب علمية أجنبية لم تكن موجودة أصلاً في اللغة العربية، وتمكينها من الإحتفاظ بخصائصها الصوتية في اللفظ مع إمكانية توليفها هجائياً وإملائياً في الكتابة.
لقد حاول روحي الخالدي أن يجد لدعوته التجديدية سنداً في جذور وتاريخ اللغة العربية نفسها. ولذلك أسهب وأطال فسي الحديث عن "لغة مُضَرْ" وعن "لغة حِمْيرَ"، ووضع روحي الخالدي أفكاره ورؤاه ومفاهيمه وتجربته في كتابه الشهير الذي أطلق عليه "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو" الذي قدم فيه فيكتور هوجو الأديب والإنسان، إضافة إلى شذرات عن الأدب الفرنسي ومدارسه واتجاهاته، ثم مجموعة هائلة من المقاربات بين الآداب العربية والأجنبية. وقد اشتمل الكتاب على مستوى عال في النقد، كما كان لا يخلو من آراء مشرقة في اللغة. وهو حين يعرض لغة مُضَرْ يستنتج أنها في مرحلة تاريخية أرقى من سائر لغات الحَضر في حينه. وذلك لأن لغة مُضَر تمتاز بخاصيتين: الأولى منهما اشتمالها على حركات الإعراب في أواخر الكلمة وكيفية تركيب الألفاظ، وهي مرحلة متأخرة في تطور اللغات حسب مبدأ النشوء في اللغة، إذ أن القرينة المعنوية ثم التقديم والتأخير؛ مرحلتان سابقتان لمرحلة الإعراب وخواص التركيب في لغة مُضَرْ. وهذه خاصية تميزها عن سائر لغات الحضر. وأما الخاصية الثانية فهي ما في لسان مُضَرْ من الإستعارات والتشبيهات والمجازات وأنواع البديع من الكلام.
ويقول الأستاذ روحي الخالدي في كتابه الشهير: "لو سعى أهل العلم وأرباب القلم في التقرب من لغة مُضَرْ المدونة وأزالوا منها (العامية) كما أزيلت عامية (الباتوا) من اللغة الفرنساوية، وهذبوها من الجناسات والتشابيه الغامضة، واختاروا فيها السهل من الألفاظ والتراكيب، وأصلحوا إملاءها وكتابة أسماء الأعلام فيها؛ لكان فعلهم على ما نظن أسهل وأنجح من تدوين لسان عامي بل ألسن همجية. وذلك لأنهم بهذا عملوا على إقامة الحواجز بين المتكلمين بها، مع أن ازدياد وسائط النقل والمخابرة يستدعي كثرة اختلاط بعضهم ببعض... و"لغة مُضَرْ تجدها في العصر السابق للإسلام على جانب من الفصاحة والبلاغة، مشتملة على أنواع التشبيه والإستعارة والبديع. وأكثرها حماسية وفيها من التصورات البديعية والتخيلات الشعرية واللطف والرقة والأدب ما يدلنا على أن اللغة لم تكن إذ ذاك في عهد الطفولة. وأن الفارق بين أشعار المضرية وبين أشعار (التروبادور) الفرنساوية عظيم، لما في الأخيرة من الخشونة وعدم الرقة. وإذا غازل شاعر الجاهلية المضري فتاة الحي حسبته من رقة وعذوبة لغته ليس عربياً صحراوياً، وإنما اديباً من أدباء باريس. والحاصل كانت فنون أدب مُضَرْ أتقن من معيشتهم البدوية. وكان لهم مؤتمر وأكاديمية للتفاخر باللسن والفصاحة"( ).
وبيّن الأستاذ روحي الخالدي خطورة الحركة الإستشراقية، وخصوصاً "مؤتمر المستشرقين الحادي عشر الذي انعقد في باريس سنة 1897"م، وأغراضه العلميه والسياسية، عندما يدعو إلى إحياء اللهجات العامية. وكذلك لأن نجاح هذه الدعوة يوصل في نهاية المطاف إلى التفرقة وإقامة الحواجز بين الشعوب العربية، في الوقت الذي يجتهد فيه العلماء لإزالة الموانع المتسببة عن تباين اللغات بين الأمم؛ وذلك عن طريق إيجاد لغة عامة لجميع بني البشر.
ويقود الحديث عن " لغة مُضَرْ" إلى وجود لغات هامة أخرى مثل "لغة حِمْيَرْ وإلى ضرورة التعرف عليها وتحقيق جوانبها المختلفة"، وذلك باستخراج ما في أرض اليمن من الألواح التي تدعى بالمسند الحميري، وما في خرائب مدائن صالح وأرض الحيره وسائر جزيرة العرب من الآثار القديمة الآبدة التي كان لأصحابها نصيب من الحضارة، وذلك لأنه كان لأدبهم تأثير في أدب مُضَرْ ( ).
لقد أستند الأستاذ روحي الخالدي على ما وصل إليه المستشرقون من معرفة اللسان الحميري ومفرداته وتراكيبه اللغوية. وكذلك ما اكتشفوه من حقائق ومعلومات في المسند الحميري. كما اتكأ على معارفه في علم مقابلة اللغات ومقاربتها. وبذلك استطاع أن يربط بين المستوى اللغوي وبين المستوى الحضاري للأمة. كما تمكن أيضاً من إدراك المرحلة المتأخرة للتطور اللغوي من خاصة الإعراب التي تلي خاصتي القرينة المعنوية والترتيب. وهذا الأمر مكنه أيضاً من وضع مؤلفاته في "علم الألسنة أو مقابلة اللغات (التي لا تزال مخطوطة) ( ).
والمؤسف أن الكتاب بمعظمهم في مرحلة ما قبل إعلان دستور عام 1908م كانوا يصنعون الكتابة لأنفسهم ومن أجل أنفسهم، ويجمدونها غير حريصين على من يقرأها؛ ولا يبالون بأمر وصولها إلى الناس. وكانوا يبدون كما لو أن همهم أن يقتلوا الوقت في صوامعهم بهذه الصفة الكتابية.
ووفق مطالعاتنا التاريخية فإن الأديب يوسف ضياء الدين الخالدي قد شكل حالة التميز التي يمكن أن تكون الوحيدة في فلسطين في ذلك الوقت، فقد حاول أن ينشر إنتاجه وأن يعممه، ولكن ظروف عمله غالباً ما أعاقته من القيام بذلك، فهو في مجلس المبعوثان في استانبول حيناً وفي بلاد الأكراد حيناً آخر، وفي جامعة فينا حيناً ثالثاً، وجميعها أماكن بعيدة عن العواصم العربية التي تصدر فيها الصحف، والمواصلات والإتصالات بينهما وبين هذه العواصم العربية بعيدة المنال وتحتاج إلى شهور.
ولما كانت الكتابة بالنسبة للشيخ يوسف ضياء الدين الخالدي وظيفة علمية، فقد تواصل فيها، ولم يحبطه عدم توفر فرص لنشر انتاجه. واعتماداً على ذلك يمكن بلوغ بعض أسباب عدم طباعة وإصدار مؤلفاته اللغوية الكثر وبقاؤها مخطوطات تتمتع بأهمية مرجعية فائقة على صعيدي الأدب ومقاربة اللغات والألسنية( )
ويقدر المؤرخون بأن جهود الأديب روحي الخالدي الإبداعية واجهتها نفس عقبات النشر التي اعترضت جهود الشيخ يوسف ضياء الدين الخالدي، مع فارق بسيط هو أن الصدف قد قيضّت لروحي عملاً دبلوماسياً في باريس بعد تخرجه من جامعة السوربون. وقد وفر له هذا العمل ود علاقة ومتانة صداقة مع الصحافيين المصريين الذين كانت تتمتع صحافتهم حينذاك بشهرة واهتمام في جميع البلدان العربية. وكنتيجة لهذه المعطيات كان روحي الخالدي قد تمكن من نشر كتابه "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو "في مجلة الهلال القاهرية" على حلقات بدون توقيع، ثم طبعته عام 1904م بتوقيع المقدسي، وذلك لأسباب تتعلق بالمسموح والممنوع في حياة الديبلوماسي. ثم أعيد طبعه باسم مؤلفه الصريح بعد ذلك.
وبسبب هذا الدور الذي لعبته الصحافة فقد اشتهر الأديب محمد روحي الخالدي. ومن جانب آخر فقد بدأ إطلاع القراء العرب على الثقافة الغربية، وذلك بعد أن استطاع روحي الخالدي صوغ لون من ألوان الروابط التي تصل الحياة العربية وآدابها بالحياة الأوروبية والأدب الغربي. وأدخل في الوقت نفسه إلى اللغة العربية مفاهيم نقدية جديدة تزدحم بمفردات وتراكيب لم تكن تعرف من قبل في مجال النقد. وأصبح الأدباء والمثقفون العرب والفلسطينيون أمام قيم أساليب بنائية ولغوية شامخة، وهي بالضرورة ليست ثمرة من ثمار المستوى الأدبي المحلي، وإنما هي واحدة من نتائج التمرس الطويل بالنماذج الرائعة في الأدوار المختلفة لحياة الأدب العربي منذ أن كان في الجزيرة قبل الإسلام. وكانت كذلك نتيجة لما فعلت فيه عوامل التطور المختلفة عبر العصور. ثم هي ثمرة من ثمرات المقابلة بين حياة هذا الأدب وظروفه وبين الأدب الفرنسي وغيره من الآداب الأوروبية الأخرى والكشف عن العوامل المتشابهة والنتائج المتقاربة في الشكل والمضمون بين كل منهما؛ وكذلك التعرف على ما هو متبادل بين الآداب العربية والآداب الأوروبية، ومعرفة ما اقتبسه الأوروبيون عن العرب من الأدب والشعر إبان قيام الغرب بنهضته الحديثة.
وكان روحي الخالدي قد أمسك بتلاليب القيم وأساليب استعمالها في مجال الأدب واللغة وما اشتملت عليه من تجارب إنسانية رائعة. وأسس منذ ذلك الحين ما عرف في مرحلة لاحقة باسم "أدب الواقعية العلمية" أو "اتجاه الواقعية في الأدب" وما أصبح يعرف بالأدب الواقعي.
وبسبب هذه الجهود أصبحت المفاهيم اللغوية الحديثة قيد التداول والإهتمام من الكتاب والشعراء والمثقفين العرب والفلسطينيين، كما أصبحت مدلولات النصوص التي تكتب بهذه المفاهيم جديدة ومختلفة، لا سيما عندما أخذ الكتاب يقتنعون بنظرية فيكتور هوجو القائمة على أن "الكلمة كائن حي فاعلموه". وبدأوا في الوقت نفسه يميزون بين "الكلاسيك" و "الرومانتيك"، ويعلمون "أن البلاغة لا تختص باللسان العربي وحده، وأن الأمة كلما ارتفعت في سلم الحضارة كان لسانها أبلغ وأدبها أوسع وأكمل... فيدرك أدبائها حقائق المعاني التي ربما استعملها آباؤهم وأجدادهم في غير مواضعها بسبب الجهل الناشئ من ضيق العمران وقلة العلوم". ويؤكد روحي الخالدي على أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه من غير أن ينظر المثقفون والأدباء العرب في أدب الأمم المتمدنة، ويطلعون على مجمل تاريخ أدبهم، وعلى بعض ما ترجم من مؤلفات المشاهير من كتبهم فيقفون على ما عندهم من سعة الفكر وسمو الإدراك وبلاغة المعاني. ويتعرفون على أساليبهم في النظم والنثر، وتصرفهم بالكلام، والتمييز بين طرق المتقدمين والمتأخرين منهم.
والكتاب والشعراء والمثقفون العرب إن عرفوا مثل ذلك فسيعزفون عن التكلف والتقليد ما داموا يعرفون أن "الأصل في الكلام المعاني وإن وظيفتهم سبك المعاني البليغة العالية في السهل الممتنع من الكلام الفصيح، بغير تهافت على الكلمات اللغوية والمحسنات اللفظية من جناس وطباق؛ وقراءة الكلام طرداً وعكساً( ).
أخذت الآداب العربية تستوعب المفاهيم الجديدة، فجاءت نتاجاتها طبيعية، ولكنها مغايرة للمعروف. وهذا ما أهّلها للتفاعل مع التطور الذي بلغته حركة الإصلاح والتغيير في أوائل القرن العشرين، بالتحول إلى حركة النهضة القومية العربية، وإلى تيار المطالبة بالإستقلال القومي والتحرر والاستقلال عن الدولة التركية. وهو من جانب آخرا أهّل اللغة العربية وآدابها لأن تكون أحد عناصر النهضة القومية. كما أهّل علماؤها وأدباؤها وما يتصل بها من صحافيين وأساتذة ومثقفين لأن يصبحوا من رموز هذه النهضة. وبإقتدار النتاجات الجديدة على خلق هذه الجدلية تكرست اللغة على أنها الأمة، والأمة هي اللغة. وأصبح بديهياً بلا جدل أو اختلاف، أن ضعف الأولى ضعف الثانية. وهلاك الثانية هلاك الأولى. فورثت اللغة كالأرض، وأعطت اللغة الأرض هويتها.

أدب الحياة
كان التطور في البناء الأدبي تدريجياً وبطيئاً، ولكنه ملحوظاً في بداية مرحلة النهضة. وكانت آخر تعبيرات هذا التطور في تلك المرحلة أساليب وصيغ تراكيب الرسائل بين الأدباء (العثمانيين) في مرحلة ما قبل إعلان الدستور، والتي كان من بينها رسائل الشعراء عباس خماش وأبو السعود المقدسي ويوسف النبهاني إلى الأديب أحمد فارس الشدياق، والتي كان يتوافق فيها أصحابها مع تيار الشدياق أو يعارضونه، ويؤيدونه أو ينتقدونه، وفق مقاييس ومفاهيم وصيغ النقد التي كانت معروفة يومذاك على المستويين اللغوي والأسلوبي. وكانت مضامين الرسائل جادة في محاولاتها لوضع يدها على صورة متماسكة من صور النقد. وكانت تحاول أن تدعم رأيها بالحجة، فتعرض لإتجاه الشدياق وفكرته... ولكنها ما كادت تبلغ هذا المبلغ حتى إرتدت عنه بحكم قيود العصر ومفاهيم الجيل، فترجع بالفكر عن وصف الفكرة والمزايا؛ إلى المديح والثناء... ولكنها على كل حال نَفَسٌ جديد فيه رصانة لشعرنا... وتماسك في الصور، ومتانة في التعبير تكاد تبعد بنا عن مطلع النهضة إلى العصر العباسي؛ دون أن نحس تقليداً فاضحاً وطول نفس لا نسمع فيه لهاثاً.
ويرى دارسوا الأدب والثقافة الفلسطينية أن ألمع الأسماء التي شقت هذا الطريق عبر مواصلتها تطوير إنتاجها الإبداعي في مجال الشعر والنثر، هي: الشيخ يوسف النبهاني، والمعلم نخلة زريق، والشاعر محمود حمدي نجم، والأديب خليل السكاكيني.
ويحدد المؤرخون أن هذه التوجه قد استغرق تبلوره فترة تزيد على ثلاث سنوات، يمكن اعتبار بدايتها عندما وضع الشاعر محمود حمدي نجم قصيدته الطويلة المشهورة باسم "تشطير البرده"، وطبعها في القدس عام 1904م. وأما وصولها ذروة التبلور كإتجاه جديد في الأنواع الأدبية ومواضيعها وتعدد أساليبها، فقد تحققت بكتابة الأديب خليل السكاكيني بتاريخ 3/10/1907م رسالة حب إلى حبيبته سلطانة التي أصبحت زوجته وأم أولاده بعدئذ.
ولقد احتفظ الإتجاه الجديد في الأدب بمواصفات الصياغة التقليدية. وَجُلّ ما عمله فيها أنه جعل لها محتوى واقع وحقيقة أصيلة، وتأكيد فعل حدث لا يشتم فيه رائحة الطابع الإقطاعي ولا قيمه، ولا الموروث من قديم المضمون وشكل التركيب. ويكاد هذا التوجه أن يشتمل على مفاهيم شريحة إجتماعية جديدة في طورها إلى التشكل الطبقي، وهي تحمل مواصفات ما اصطلح على تسميته لاحقاً "البرجوازية"، والتي أصبحت لها قيمها وأفكارها ومفاهيمها، وسلوكها، وطرائق حياتها التي يجب أن يكون لها بالضرورة مفردات ومصطلحات تعبير في اللغة؛ مختلفة تماماً عن مفردات ومصطلحات طبقة الإقطاع التي كانت متمرسة في الحكم حينذاك.
إن هذا التوجه الأدبي الجديد قد حدث في فلسطين متأخراً عن انطلاقته في البلدان العربية المجاورة التي تتأثر الثقافة الفلسطينية بتطور ثقافتها، مثل مصر؛ ويعود ذلك لأسباب عديدة أبرزها أن مصر كانت منذ زمن بعيد، قد ابتليت بمشاكل استعمارية جديدة منذ وقوعها تحت الاحتلال البريطاني عام 1882م. "ولهذا لم تلتفت مصر إلى ما كان يحدث في البلاد العثمانية بوجه عام وفي البلاد العربية بوجه خاص... فكان تأثرها بها وتأثيرها فيها ضعيفين... مع أن جماعات العرب الواعية كانت تتطلع بقلوبها نحو مصر..."( ).
وتشير المراجع التاريخية إلى أن ذلك لم يمنع الأدباء الفلسطينيين، الذين انخرطوا في تيار المفاهيم الجديدة لكتابة الأنواع الأدبية وأساليبها ولغتها الحديثة من التفاعل مع نظرائهم من الأدباء العرب، وذلك عبر المشاركات الأدبية في صحف سورية ولبنان ومصر. وكذلك من خلال إفراد مساحة واسعة في الصحف والمجلات الأدبية الفلسطينية، لمشاركة أدباء من هذه البلدان فيها. والسعي الدءوب لتوزيع صحف هذه البلدان في فلسطين، وتصدير الصحف الأدبية الفلسطينية إليها.
ويجمع الباحثون على أن الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي مثل هذا التوجه ببراعة. وقد حدد أسسه الأولية في المقدمة التي وضعها لديوانه المشهور باسم "الزفرات" الذي أصدره متأخراً في عام 1919م، حيث اكد على ضرورة أن يتناول الأدب بكل صنوفه أغراضاً متعددة... وعلى الشاعر أن يصرف شاعريته إلى الشعر الإجتماعي لأنه بإشتماله على عبره مبكية أو حادثة مضحكة في سبيل إصلاح المجتمع، فقد فعل ما هو أفضل في نفس القارئ أو السامع من سواه من أنواع الشعر. ولذلك نجد الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي قد غرق في تناول الموضوعات الإجتماعية إلى الحد الذي بدت فيه وكأنها الهدف الأول. وأخذ يعرض هذه الموضوعات الإجتماعية داخل إطار قصصي، وبذلك فتح باباً في هذا المتجه كبير الأهمية مهما كانت طريقة معالجته له.
لقد أثرت المعارف والمشاهدات العلمية التي كانت تصل بلادنا، أنواع المواضيع الحياتية المختلفة؛ حتى أخذ الأدب يتناولها بمفردات ومصطلحات وتراكيب لغوية جديدة وغير مألوفة، ولكنها ذات قدرة تعبيرية ــــ. وبدأت تخلق بشكل تدريجي قيم إجتماعية جديدة يعبر عنها بمصطلحات لغوية تتماثل إلى حد كبير مع درجة التطور الذي حدث في الطبقات الإجتماعية. وقد أثبتت المعطيات التاريخية أن الأدباء المتدينين كانوا مثل غيرهم من الأدباء قد استجابوا لذلك وتفاعلوا معه. وقد رأيناهم يتأثرون بروح العصر، وتهتز مشاعرهم حين يرون ظاهرة من ظواهر العلم. وعلى سبيل المثال فقد تأثر الشيخ علي الريماوي حين شاهد "طائرة مارك بونيه تحلق في سماء القدس ويتحلق الناس حولها على اختلاف طبقاتهم حين تهبط، فيقول قصيدته الطويلة الشهيرة بعنوان "إحدى عجائب العصر"( )
وإن استعراضاً سريعاً لنماذج من الإنتاج في تلك المرحلة، يرينا أن الأدب قد حمل كل القيم التي استجدت في الحياة السياسية والإجتماعية والفكرية، وأخذ يحسم طموح وتطلعات الشعب نحو حياة يسود فيها الأمن والسلام والخير والمحبة والعلم. ولقد أخذ الأدب يعبر عن المفاهيم الإجتماعية والقيم الجديدة بلغة عربية سليمة، وبشكل مغاير للتركيب التقليدي المورث للنص الأدبي. ظهرت أساليب حديثة لبناء النص، كما أخذت تنقرض وبشكل تدريجي أنماط الشكل التقليدي، وحرصت الأساليب الجديدة على أن تبدو بوجه مغاير لما هو متعارف عليه من أوصاف لهذا الشكل التقليدي، عندما يكون هنالك ضرورة إلزامية لإستعمال ذلك. ولكننا نرى أنه "حين نجد عرضاً قديماً في هذه المرحلة نجده أيضاً قد عرض علينا في شكل تقليدي كذلك من حيث التعبير..."( )
إن الآثار الأدبية التي عرفت مما كان قد أنتج في فلسطين قبل إعلان دستور عام 1908م، يجمع المؤرخون على أنها محدودة جداً؛ وهي لم تتجاوز: "ديوان أشعار للشاعر لبيد بن ربيعة العامري" الذي طبعه الشيخ يوسف ضياء الدين الخالدي المقدسي عام 1880م في فينا، وكذلك ما حرره أبو السعود من أفاضل القدس الشريف في تقريظ كتاب سر الليالي للشدياق، وأيضاً ما كتبه عباس خماش من نابلس من تقريظ في مجلة الجنان، وآثار الشيخ يوسف النبهاني (من إجزم ـ حيفا) النثرية في كتبه الكثيرة عن الرسول والأحاديث والصلوات، وكتاب "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو للأستاذ روحي الخالدي الذي طبع بمطبعة الهلال عام 1904م، وبضمنها أيضاً رسائل كتبها خليل السكاكيني سنة 1907م من القدس وأمريكا إلى حبيبته سلطانة التي أصبحت زوجته فيما بعد وإلى صديقه داود صيداوي. وكانت هذه (الموجودات) تعكس بشكل دقيق إتجاهي الأدب والمستوى الذي بلغته اللغة العربية من التطور في تلك المرحلة. وهي جميعها تمثل إما تجلياً لأسلوب الماضي أو تطلعاً لأسلوب المستقبل، وبعضها تعبيره صحيح البناء رغم جمود قوالبه، وبعضها الآخر سليم البنية يتحرك مع الحياة.
لقد كان لدستور عام 1908م بصمات تطوير واضحة على مختلف جوانب الحياة بما فيها اللغة العربية وتعابيرها وتراكيبها ومدلولاتها الجديدة. أصبح الناس بتأثير مضامينه يدركون المدلول الواقعي للكلمات التي لم يعرفوا لها معنى علمياً في أي وقت مضى من حياتهم، مثل: الدستور، العدل الإجتماعي، الحرية، القوميات، الصفات، الأمة...الخ.
ويعتبر هذا الأمر طبيعياً، لأن مقومات التصنيف الطبقي استطاعت أن تبلور سمات واضحة للبرجوازية والطبقة الوسطى تحديداً، وذلك بمساعدة العوامل والإمكانيات التي وفرها إصدار الدستور. ويستدل على ذلك بسهولة من خلال ما نلحظه من تزايد الإهتمام بإصدار الصحف السياسية، وحرص هذه الشرائح الطبقية والإجتماعية على ملكيتها والمشاركة فيها، واتساع إقبال الجمهور على قراءتها وكذلك عناية فئة نخبوية من شرائح هذه الطبقة بإصدار الجرائد والمجلات الأدبية، وإقامة المؤسسات والأندية الثقافية والإجتماعية.وأدى تطور الأوضاع على هذا النحو إلى ظهور أشكال أدبية من خلال الجرائد والمجلات تلائم الطبقة المتوسطة بشكل خاص، وتتمثل سلوكها وتطلعاتها، وتحقق أغراضها. وكان من أبرز تلك الأشكال: المقالة الأدبية، واليوميات، والمذكرات، والخطابة. وقد شملت هذه الأشكال جميع المضامين التي خلقتها ظروف الحياة الجديدة، واستقبلت مضامينها الجديدة وذلك وفق ما يمكن ملاحظته من مطالعة موضوعات الصحف والمجلات في تلك الفترة وخصوصاً مجلة النفائس، حيث نرى فيها كل التعابير عن هذه المضامين، مثل: الإصلاح، والنهضة، والكد، والكدح، والعمل، ومشكلة العامل، ودور الشعوب والحكومات في علاقة الأمم، والطبقات، والبناء الإجتماعي، والصراع السلطوي، والتحالف، والتشارك، والعدالة الإجتماعية، والتكاتف الكفاحي، والمضمون الإجتماعي، والأوهام، والثورات، والظواهر المتعددة، والحرب، والسلم، والإقتصاد، والسياسة، والسير، والمداخلات، والأبحاث في علوم الطبيعة وفي النشوء والإرتقاء وفي الدعوة إلى الطبيعة، ودور المرأة، وما إلى ذلك من قضايا الطبقة الوسطى ومشاكلها وارتباطاتها وتطلعاتها. كما أصبح لهذه الطبقة أدباؤها وكتابها ومثقفيها الذين تعايشوا أدبياً مع كتاب وأدباء الطبقة الأرستقراطية (من أبناء كبار العائلات والتجار في المدن). وقد ازداد عدد مثقفي وكتاب وأدباء هذه الطبقة بسرعة قياسية تساوقت مع الإزدياد الملحوظ في عدد الصحف والمطابع والمدارس الخاصة، التي أصبحت هذه الطبقة تمتلكها أو تشارك في ملكيتها أو تسير أمورها. وكان من أبرز كتاب هذه الطبقة: خليل السكاكيني، وخليل بيدس، وبولس شحادة، والشاعر اسكندر الخوري البيتجالي، إضافة إلى كاتبات أخذن يشاركن في العمل والإنتاج الأدبي، مثل الكاتبة سلمى النصر من الناصرة ( ).
وحيث "اللغة ثروة من ثروات الأمم كالمال، تتجمد فلا ينفع بها في كثير أو قليل حيناً وتتحرك فتأتي أكلها وتثمر ثمارها وينتفع بها أهلها؛ جميعاً فقد دخل إلى علم الأدب ما عرف باسم الأدب العلمي أو العلم المتأدب. واستنبط هذا النوع من الأدب مفرداته من واقع لغته الإستعمالية فأثراها، وأمدته بعوامل التعبير والتفسير. وقد تمثل ذلك في المقالات التي كان يكتبها الأدباء المشتغلون في العلوم الطبيعية والتطبيقية، مثل الأستاذ توفيق زبيق الذي كان يكتب مواضيعه العلمية في شكلها العلمي المتأدب ( )". وبواسطة هذا (الأدب) دخل إلى اللغة العربية مفردات جديدة علمية، بدأت تزداد عدداً وانتشاراً وقيمة وأهمية إستعمالية بتزايد الإهتمام بالعلوم، وتوثق الإتصال مع العالم الخارجي والتعرف على آخر الإكتشافات العلمية وأحدث المنتجات الصناعية.
وإذا كانت اللغة العربية قد تأثرت في عهود سابقة بلغة الأمصار التي وقعت تحت حكم الدولة العربية ـ الإسلامية كالفارسية مثلاً، أو البلدان التي كان لها اتصال تجاري معها كاليونانية، واستوعبت بعض مفردات هاتين اللغتين وغيرهما؛ فإن وقوع البلدان العربية وبضمنها فلسطين في قبضة الإستعمار التركي طيلة أربعة قرون لم يترك تأثيراً يذكر على المخزون اللغوي برغم ضخامة آثاره في مجال المضمون الأدبي. وقد اقتصرت المفردات والتعابير التركية التي كان يستعملها العرب، على اللغة المحكية وليس اللغة الفصحى. والمفردات التركية التي دخلت العربية اقتصرت على مكونات الخطاب الإداري؛ ولم تغتن اللغة الأدبية العربية بأي مفرده أو تعبير من اللغة التركية. وبرغم أن كثيرين من أدباء مرحلة التأسيس الثقافي كانوا يتقنون اللغة التركية، فإن أي من المراجع التاريخية لم يشر إلى أن أحداً منهم أنتج أي عمل إبداعي أدبي باللغة التركية، أو أن أياً منهم ترك لنا نصاً أو نصوصاً أدبية تركية مترجمة إلى اللغة العربية في بلادنا فلسطين. وتشير هذه المراجع في الوقت نفسه إلى أن "إتصال مجموعة من الأدباء العرب بالغربيين وتعلمهم لغاتهم سبب توجههم نحو تقليد الآداب الغربية في جميع مناحيها، فتحرروا من الأسلوب العربي القديم، وكتبوا بلغة سهلة جميلة، وأدوا رسالة الحرية إلى هذا الأدب المقلد. وقد ميزوا بأنهم صبغوا الأدب العربي بصبغة جديدة، حتى وإن لم يتخلصوا تماماً من ذيول التقليد. وكانت جهودهم من مظاهر التحول الكبير في تاريخ الأدب العربي الحديث"( ).
وإذ يريد بعض الباحثين وصف هذه العملية بتطعيم الأدب العربي بلقاح من الأدب الغربي، فإنني لا أختلف معه ولكنني أقول أن ثمرة ذلك التلقيح لم تكن غضة نضرة وحلوة لذيذة وذات طعم فواح فحسب، وإنما كانت متنوعة الألوان والأجناس أيضاً. فقد عرف الأدب العربي بواسطة ذلك التلقيح، الشعر المترجم، وأنواع جديدة من النثر الأدبي مثل: المقالة، والرواية، والنقد الأدبي، والمسرحية وفن التمثيل، وسير الأعلام، والمذكرات، وغيرها. وقد دخلت اللغة العربية كنتيجة لهذا التلقيح مفردات وتراكيب جديدة لا تقوم الأنواع الأدبية الجديدة بدونها، وهو الأمر الذي لم يكن معروفاً، أو متداولاً من قبل.
وكانت الجرائد والمجلات هي وسيلة الإتصال الجماهيري لنشر هذه المعارف الأدبية الحديثة، وبواستطها تعرّف الناس إلى مفاهيم جديدة عن الحياة؛ ربما لم تكن معروفة في بلادنا أو أنها مقتصرة على الطبقة الأرستقراطية وبرجوازية المدينة. وكانت هذه المعارف الجديدة تتصل بآثار الحضارة المتبادلة بسبب الاتصال بين الأمم والشعوب، وكذلك بالمستخرجات التي أصبحت من ضرورات التفاعل الموضوعي كأحد الشروط الحيوية للتطور الإجتماعي، والدعوة إلى استخدام أساليب التربية والتعليم الحديثة في تهذيب الأطفال، والإهتمام بإنشاء المدارس الوطنية، وعرض الأفكار والنظريات الجديدة والتفاعل معها، والترويج لها، وتعليم المرأة وموضوع الحجاب والسفور وتحرر المرأة، والاهتمام بمتابعة مظاهر الهجرة من الوطن، ونبذ العادات السيئة، والدعوة إلى السلام، وغيرها.
وكان لهذه المفاهيم الجديدة مفرداتها ومصطلحاتها وتراكيبها التعبيرية التي تتصل بالقيم الاجتماعية، وبمؤشرات معالجة القضايا العامة تمهيداً لبلوغ التطور الإجتماعي. وقد دخلت تلك المفردات والمصطلحات والتراكيب اللغوية وما يتصل بها من أشكال بنائية إلى حيز الإستعمال التداولي في حياة الناس، وأخذت تؤكد يوماً إثر آخر على أن الأدب هو أرقى تجليات الحياة. كما برهنت أنه يصعب انتشار الأدب بدون الجرائد والمجلات. وهذا الأمر يؤكد على أن الثقافة حافزة الصحافة، وهذه بدورها حاضنة الثقافة.
حداثة اللغة
فرضت النهضة عبر مراحلها المختلفة، حقائق جديدة على مختلف جوانب حياة المجتمع الفلسطيني. وكانت لها مفرداتها وتراكيبها اللغوية التي لم تكن معروفة من ذي قبل. وقد اندمجت هذه المستجدات اللغوية بفعل الإستخدام في أحاديث الناس اليومية، فتكرست كمكونات ومفردات في اللغة العربية المحكية على الأقل. وقد ألغى الإستخدام الدائم للمكونات الجديدة مفردات وتعابير كانت قائمة في أحاديث الناس نظراً لتراجع أهميتها الاستعمالية، ولإنتقاء حاجة الناس بشكل تدريجي لما تدل عليه تلك المفردات والتعابير من أشياء وأغراض ومواد وطقوس عيانية. وعندما أخذت تتطور معارف الناس في مجالات الحياة المختلفة، وأصبحوا يدركون قيماً لم يعهدوها من قبل، تغيرت مفاهيمهم في بعض الجوانب إلى حد إهتزت فيه بعض رواسخ عاداتهم وتقاليدهم المتعارف عليها، والموروثة من مراحل الحياة الماضية.
وبتقدم النهضة كانت تتطور مدارك الناس فيكتسبون قيماً اجتماعية جديدة يصطبغ بها سلوكهم تدريجياً في أشكاله المختلفة وفي طريقة حديثهم وأنماط تخاطبهم. وكانت تتطور معها مفردات وتعابير وموسيقى هذا التخاطب في جميع مجالات تناوله وما يتصل بها، وما ينشئ عنها من علاقات. فتتحول هذه القيم إلى مظاهر حضارية بمفاهيم ثقافية حديثة تصبح من عادات الناس اليومية، وتؤسس لعلاقات إنتاجية جديدة يجري التعبير عنها في مجال الآداب واللغة بشكل يتساوق معها معرفياً وأدائياً أيضاً.
لقد تضافرت التفاعلات التكاملية لمكونات النهضة (التعليم والطباعة والصحافة والإتصال الخارجي وإقامة الجمعيات والمنتديات المختلفة....الخ) في التأسيس لظهور العلاقات الإنتاجية الجديدة في أقاليم وولايات الدولة التركية. وأن التطور الذي بلغته تلك المكونات قد حقق وجود مناخات خصبة ودافئة لنمو أفكار الحداثة والتجديد في فترة متقدمة على إعلان دستور عام 1908م، ساعد على إنطلاقة ثقافية سلسة فور إعلانه. فرواد ثقافة النهضة كانوا يختزنون معارف أدبية ولغوية وثقافية عامة واسعة إكتسبوها من دراستهم الأكاديمية، ومن إتصالهم مع ثقافة العالم الخارجي بشكل مباشر، وعبر اللغة ايضاً ويستدل على ذلك بسهولة في نتاجات يوسف ضياء الدين الخالدي، ومحمد روحي الخالدي، وخليل السكاكيني، ويوسف النبهاني، وبندلي الجوي، وغيرهم، حيث كانوا قد سافروا إلى بلدان العالم الخارجي لأسباب تختلف من واحد وآخر، وكانوا يجيدون لغات أجنبية مختلفة. وبعضهم الآخر حقق ذلك عبر معرفة اللغات الأجنبية مثل: محمد إسعاف النشاشيبي، وخليل بيدس، وإيليا زكَّا، واسكندر الخوري البيتجالي، وعادل جبر، وغيرهم؛ وقد انعكس هذا الأمر على واقع الثقافة والأدب واللغة أيضاً. وقد أسست معارف الثقافات ذات المنابت المختلفة إلى تفاعلات مختلفة ولكنها حيوية في آن واحد معاً. وتمثلت نتيجة ذلك بشكل مباشر في وجود التيار التقليدي الكلاسيكي الذي كان يتزعمه محمد إسعاف النشاشيبي، والتيار التجديدي الرومانتيكي الذي كان يتزعمه خليل السكاكيني. وكان في وجود هذين التيارين إغناء للآداب، وإثراء للغة العربية أيضاً، تعزز بشكل أكبر نتيجة تبني قطبيه واتباع كل منهما لضرورة الإصلاح وموجبات التغيير في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والتعليمية والإجتماعية والثقافية، والإنخراط في حركة النهضة القومية باعتبارها الأسلوب الممكن لمثل ذلك. وهذا يعني إن كلا التيارين يدعو إلى التجديد والتجويد، ولكن بمنظورين ومفهومين مختلفين يتقاطعان أحياناً كثيرة في المواقف التي تتصل بضرورة التطوير.
وتوسع الإثراء وتنوع الإغناء في الآداب واللغة بعد نشوء الصحافة ونهضتها عقب إعلان دستور عام 1908م، وما اهتمت به من أشكال حرص على تفتيح النوافذ على الآثار الأدبية العالمية بعد أن أصبح ممكناً إمتزاج الشرق بالغرب. وقد أدى ذلك "إلى التطور في أساليب الإنشاء نثراً ونظماً. فأخذ البعض ينشئون على منوال الخياليين ما يدعونه النثر الشعري أو الشعر النثري، فيرصفونه كُقطّعات شعرية ويلحقونه دون ارتباط كبير في المعاني، يمثلوا بالسور القرآنية أو ببعض المختارات مما أنتجه المحدثين من كتبة الإفرنج. وقد تمكن الشعر من طريقتهم هذه أن يخرج من دائرته السابقة الضيقة، و"أخذ أصحابه يتغنون في نظمه صورة ومعنى... وقد أكثروا من وضع الزاويات الخيالية، ونقلوا ما شاع منها في البلاد (الأجنبية) إلى العربية، فغلبت في اذهان الكتبة والقراء قوة الإحساسات والشواعر التخيلية... ومن مميزات القرن العشرين اتساع نطاق الآداب العربية... التي أخذت تنتشر بفضل المواصلات والمهاجرة... فكثرت (بسبب ذلك) المطبوعات وتوفرت الصحف السياره. وكان من سمة تلك المنشورات أنها تحررت من كل مراقبة. فكان أصحابها يعرضون أفكارهم بكل حرية، ولا يخافون تقييداً في بسطها. فنالها بذلك بعض المحاسن... وخاضت كل المواضيع السياسية والأدبية والتاريخية والفنية، مطلقة العنان لكل العواطف والتخيلات. ولا تخشى إنتقاد الأعمال المذمومة، ضاربة على أيدي كل ظالم حتى السلاطين..."( ).
وفي فلسطين يمكن القول أنه إذا كانت مرحلة التنظيمات وبداية حركة الإصلاح والتغيير هي بداية نشوء وتشكل الثقافة الفلسطينية، وإن ظهور حركة النهضة القومية هو أحد قرائن دلالة تطورها؛ فإن نشوء الصحافة الفلسطينية كانت منطق النهضة اللغوية في هذه الثقافة؛ كما تشير إليه، وما يمكن إستقراؤه من مختلف المصادر التاريخية.
وحيث كانت الإرساليات ومدارسها وبعض خريجيها الذين يوفدون لإكمال تحصيلهم العلمي والأدبي في جامعات البلدان الأجنبية، وخصوصاً تلك البلدان التي ترعى الإرساليات ومدارسها التي تخرج منها التلاميذ الموفدين، هي النافذة الرئيس التي أطلت منها البلاد على ثقافة العالم، فإن نشوء الصحافة في فلسطين قد فتح بواباتها على البلدان الأجنبية في الإتجاهين من تبادليه التأثير. فشربت الثقافة الفلسطينية من سلسبيل ثقافة العالم الخارجي المختلفة ما استساغت واستطابت. وعرفت ثقافتنا وآدابها ووسائلها ولغتها أنواعاً جديدة من فنون الثقافة الإبداعية ومفرداتها وتراكيبها، مثل السينما والمسرح والمهن والإختصاصات الفنية التي تتصل بفنونه كالسيناريو والتمثيل والإخراج والديكور وغيرها. وتعززت في الوقت نفسه الإتجاهات الأدبية بشقيها الكلاسيكي والرومانطيقي، وكذلك إختلاف أساليب الكتابة والنقد اللغوي بينهما، والتأثيرات المباشرة لكلا الإتجاهين على اللغة العربية ورصيد خزنة مفرداتها وتراكيبها، سواء بدعوة الكلاسيكيين لحماية (فخامة) مظاهر اللغة، أم عبر دعوة المحدثين لتجديد نمطية اللغة وتحفيزها بما يساعدها على استيعاب لتستوعب مستجدات الحياة من المفردات والتراكيب، وترييح المتلقين باعتماد (رزانة) الوضوح.
وكانت الصحف هي الدفيئة الملائمة لنمو الولادات الجديدة من الأفكار والمفاهيم والقيم والتعابير الثقافية، وكذلك المفردات والمصطلحات والتراكيب اللغوية التي استوعبت من لغات أخرى بواسطة الإقتباس، أو استنبطت من اللغة العربية نفسها بواسطة النحت لتتمكن من توصيف وتقديم المستجدات من المعارف الثقافية، من خلال التقارير الصحفية والمواضيع والدراسات والأبحاث والتعريفات والتحقيقات والمقالات النقدية؛ التي كانت تقوم الجرائد والمجلات بنشرها باهتمام شديد وبلا كلل.
و "كما اتصل الناقد روحي الخالدي بآفاق الأدب الفرنسي المتمثلة في فيكتور هوجو وبما أحاط بهذه الآداب من ظروف إجتماعية، كذلك فعل الكاتب خليل بيدس في مجلته "النفائس" التي طلع بها على الناس، والتي جعلها مدرسة قائمة بذاتها تطل على حياة الأمم الأخرى، وتنتفع بما أنتجه الفكر العالمي من آثار أدبية وغيرها.. وجعلها مسرحاً لروايات أكبر الكتاب العالميين؛ وفتح نوافذها على الآفاق الروسية وغيرها من الأدب القصصي. وعني بالروايات لما لها على اختلاف مواضيعها من التأثير الخطير في القلوب والعقول حتى اعتبرت من أعظم أركان المدنية بالنظر إلى ما تستنبطه من الحكمة في تثقيف الأخلاق، وما تنطوي عليه من العبر والمواعظ في تنوير الأذهان..."( ).
أدخلت الجرائد والمجلات إلى الثقافة الحياتية للمواطن الفلسطيني معارف جديدة تتصل بمأكله ومشربه وتذوقه وإحساسه، وكذلك بلباسه وأناقته وحسن هندامه ومزاجه؛ وذلك من خلال ما كانت تنشره من قصص وروايات أجنبية مترجمة. والصحافة على هذا الصعيد تمكنت من صوغ معايير مقارنة ومقاربة وقياس حداثية للذائقة والتقييم الجمالي؛ بمستوييه الشخصي والعام، والطبيعي والإنساني. كما أنها أسست لهذه المعايير، قواعد عملها ولغتها وأسلوبها وتراكيبها ومفرداتها الحديثة. وبذلك ازداد حجم مفردات ومصطلحات وتراكيب التعبير، إتساعاً وقيمة إستعمالية حيوية غير مسبوقة. كما دخلت الترجمة من الآداب العالمية" إلى اللغة العربية كمكون آخر من مكونات الثقافة، وكأحد الأنواع الأدبية الحديثة التي كان لها تأثير مباشر في الحياة واللغة وآدابها وأساليب تطور كل منها؛ تستجيب ومتطلبات التغيير والتجويد وعدم التفريط بموروثات الأصالة في اللغة وفي المجتمع أيضاً.
وبقدر ما اكتسبت الترجمة مكانة واهتماماً، فقد اكتسبت الآداب العربية تنوعاً، واللغة العربية مفردات وتعابير وتراكيب عديدة وجديدة، فقد أضفت اللغة العربية الحداثة. وبسبب ذلك كان لها أربابها ومؤيدوها والمقيّمون الإيجابيون لها من كلا الإتجاهين من اتجاهات الأدب. وكان للترجمة في المقلب الآخر معارضوها ومنتقدوها والمتخوفون منها من كلا الاتجاهين أيضاً. وقد تذرع أؤلئك المعارضون للترجمة بدعوى الخوف على الأصالة، ومنعاً للإيغال في تيه المجهول من آداب وثقافات العالم؛ والتحذير من ما أصاب اللغة العربية من آفة الفساد الناتجة عن ازدياد الألفاظ الأجنبية والأساليب الغربية منها. وربما اعتمدوا في هذا الموقف على ما حشده الصحافيون واللغوين من مفردات مختلفة لمسمى واحد، لا سيما عندما أخذوا ينقلون عن اللغات الأجنبية تراجم مقالات عن المخترعات العلمية الجديدة؛ فاضطربت باختلافها أفكار القراء. وأسوأ من ذلك أنه كان قد ظهر في أثناء الترجمة، أغلاط وسقطات لغوية شاعت في الجرائد والتآليف المستحدثة، فقام بعض الأدباء (كالشيخ إبراهيم اليازجي وعلى شاكلته خليل السكاكيني في فلسطين) ينتصرون لهذه الحداثية التي اشتهرت في آداب اللغة ويزينون ما رأوه مخالفاً لأوضاعها وفق المفاهيم القديمة. ولعلهم لم يلزموا في انتقاداتهم الطريقة الوسطى والخطة المثلى، فقام غيرهم يردون عليهم... وهكذا"( )
ظل هذا الخلاف قائماً بين الإتجاهات الأدبية واللغوية إلى حين تشكلت المجامع اللغوية العربية في بعض العواصم كالقاهرة وبغداد ودمشق، حيث أكدت على أن المحصلة بشكل عام حداثية ولصالح اللغة العربية وتطوير قدرتها الإستيعابية وتأكيد قوة اللغة العربية ودينامية حيويتها.
وتشير المراجع التاريخية إلى أن مختلف الجرائد والمجلات وخصوصاً الأدبية منها، لعبت دوراً بارزاً وحيوياً على هذا الصعيد في جميع البلدان العربية. واضطلع بهذا الدور في فلسطين مجلة "النفائس العصرية" لخليل بيدس في القدس، و "الزهرة" لجميل البحيري في حيفا التي غير أسمها فيما بعد إلى جريدة "الزهور"، وكذلك جريدة "الكرمل" لنجيب نصار و "المجلة التجارية" لتوفيق زيبق في حيفا أيضاً... وجريدة "فلسطين" لعيسى العيسى في يافا، وجريدتا "النفير" و "الأقدام" لإيليا زكا في القدس( ).
واحتفل الأدباء الفلسطينيون بدور الصحف والمجلات على هذا الصعيد. فالأديب خليل السكاكيني أكد على أهمية ومركزية الدور الذي إضطلعت به الجرائد والمجلات الفلسطينية المختلفة، عبر ما كانت تنشره بطرائق وأساليب عديدة عن موضوع حداثة اللغة، ويقول: "التطور ناموس عام، فما من عنصر من عناصر الحياة إلا خاضع له رضينا أم كرهنا. ومن لا يؤمن بهذا الناموس فقد جهل كثيراً... ولا بد أن تكون اللغة العربية خاضعة لهذا الناموس، وأنه ما من سبيل لإخراجها عن حكمه. ومن آثار التطور في اللغة أن الناس كانوا يميلون إلى الإكثار في الكلام، فصاروا يميلون في هذا العصر الأخير إلى الإيجاز... ومن تلك الآثار أن الناس كانوا يميلون إلى التكلف في الكتابة فصاروا طبيعيين في كل شيء... فالأسلوب الطبيعي للكتابة أن يكتب الإنسان كما يفكر وكما يتحدث، فمن حاول أن يكتب ما لا يفكر فيه أو يتحدث به هو أو غيره وما لا يلائم الحياة في شيء؛ فقد تكلف...
"وإذا اراد الكاتب من أصحاب المذهب القديم أن يكتب، فهو يستوحي عقله أو قلبه، ولا يستعمل من الألفاظ ما يؤدي مراده ويناسب المقام، ويفهمه الناس. ولكنه يستوحي القدماء، يفتش عما قالوه في موضوعه في كل مظنه، فيستعير معانيهم وألفاظهم ويدعيها لنفسه... ويقول مثل هذا الكاتب إنهم يكتبون للخاصة وليس للعامة.. ومن أرستقراطيتهم أنهم يبالغون في التأنيق وتخير الألفاظ حتى لو خرجوا إلى الكلفة بل السخافة..." ( ).
رأى الأديب روحي الخالدي من جهته أن التيار القديم سيواجه مأزقه ذات يوم، عندما يجد نفسه كما لو أنه استنفذ كل مفردات وتراكيب اللغة العربية في أغراضه الإستعمالية، خصوصاً وأنه لم يكلف نفسه عناء تجديد الأساليب وإثراء اللغة ويرفض نظرية المقابلة بين اللغات؛ وأحياناً يبدو وكأنه متفاخر وهو يمارس طقوس جعل اللغة العربية عقيمة. ويفقد هذه اللغة مزاياها بالمقارنة مع اللغات الأخرى، كوجود حروف فخيمة في اللغو العربية يصعب على أي لغة أخرى أن تقبل بها، وكذلك وضوح وصراحة كل حروفها وأصواتها، بحيث لا تسمع كلمة منها إلا وتسمع كل حروفها وتتبين كل أصواتها، في حين أن كثيراً من الحروف في اللغات الأوروبية صامتة أو خفية. وفي اللغة العربية من الحروف الحلقية ما لا يوجد في غيرها من اللغات.
ومن جهة أخرى فإن اللغة العربية لغة إيجاز لأنها لغة إعرابية، ولأنها لغة اشتقاقية، ولأنها لغة غنية في أفعالها. فلكل معنى لفظ خاص وكذلك لأشباه المعاني أو فروعها أو جزيئاتها. كما أنها غنية في عدد حروفها ولا تضاهيها في ذلك لغة أخرى. كما تحتمل اللغة العربية الإضمار والتقدير والتقديم والتأخير والحذف، أكثر من غيرها من اللغات الأخرى ( ).
واللغة العربية من جانب آخر لغة شعرية تكثر فيها إستعمالات المجاز والكناية والإستعارات والإشارات والتشابيه. وهي كثيرة المترادفات ووفيرة التراكيب الإعرابية، كما أن ألفاظها تختلف بين الفخامة والرقة. ولو قابلت كثيراً من مفرداتها بمثلها في لغات أخرى، تجد أن المفردات في العربية أنسب للمعنى وأبين للفكر وأطوع لإظهار أعمق التأثرات.
وإذا نظرنا في اللغة العربية من جهة الحركات لرأينا أن حركاتها ثلاث: الضم والفتح والخفض. ومعلوم أن الضم أفخم الحركات، والفتح أخفها، والخفض أثقلها. فاللغة التي يكثر فيها صوت الكسر ثقيلة مستكرهة. وإذا استقريت ألفاظ اللغة العربية ومواطن الضم والفتح والخفض الإعرابية فيها لرأيت الفتح أكثرها، وهذا ما يكسبها جمالاً ورشاقة وعذوبة لفظية ( ).
إن تمتع اللغة العربية بهذه المزايا والخصائص أهّلها لقبول الحداثة والتجديد دون أي وجل أو تحسس من احتمال تأثير ذلك على خاصية التمتع بالأصالة. وكانت هذه الخصائص في سياق آخر السبب غير المنظور الذي أمد اللغة العربية بالمقومات الضرورية لإستيعاب مفردات التعبير التي إستجدت وأصبحت ماثلة في حقائق الإستعمال اليومي إبان مرحلة النهضة( ). ويذكر المؤرخون أن النقد لعب دوراً حيوياً في تأصيل هذه الحداثة، خصوصاً عندما وُظّف لإنماء مفردات ومصطلحات وجمل وتعابير عربية جديدة وإثراء اللغة العربية بها. وإن هذه المفردات والمصطلحات والتراكيب اللغوية أخذت تستمد قوتها التعبيرية من تجسدها ومثولية إستعمالها اليومي.
وقد نشر الأديب خليل السكاكيني مقالة نقدية له بهذا الخصوص في مجلة "النفائس" حملت عنوان "تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها"، وجاء فيها "... تتطور اللغة في ألفاظها وأساليبها تطوراً مستمراً في توءدة وخفاء. فلكل عصر أو إقليم لغته. وأنت إذا استمعت كلام لغه تعرف من أي عصر هي، أو من إقليم، حتى وإن كنت لا تعرف من هو قائله...".
ومن خلال الدور الذي اضطلعت به الصحف دخل إلى الثقافة الفلسطينية مفردات وتراكيب لغوية جديدة إحتلت مدلولاتها شاناً رفيعاً في وعي الناس وفي حياتهم الكفاحية واليومية. وقد حفلت بها أخبار ومواضيع ومقالات صحف ومجلات فلسطين الرئيسية كفلسطين والكرمل والتغيير، والإنصاف، والمنادي، والترقي، والأصمعي، والحرية، والمنهل، والترقي وغيرها ( ). وكان من بين هذه المفردات والتراكيب ما هو سياسي وما هو إجتماعي وفكري مثل: الإصلاح، الدستور، النهضة القومية، الوطن، الوطنية، البلدان العربية، الحركة القومية العربية، التحرير، الحكم الذاتي، الإستقلال، الدول العربية، التمييز القومي، إضطهاد الشعوب، القمع العرقي، الإستبداد، الطورانية، الكفاح، المصالح الوطنية العليا، الأمة العربية، الإقطاع، الرأسمالية، النهضة الأوروبية، الفكر الإشتراكي، حركة الشعوب، العدل، المساواة القومية، التحديث، المطالب الإجتماعية، حرية المرأة، الطبقة، الصراع الطبقي، الصراع القومي، الصهيونية، حركة الإستيطان، الوطن القومي لليهود، الإخاء القائم على المشاركة المتساوية، حقوق الإنسان، المسرحية، المسرح، الممثل، المخرج، الديكور، النقد الأدبي، الإتجاهات الأدبية، المدارس الفكرية، العقائد، الكلاسيكية، الرومانطيقية، الرواية، المقالة،.....ألخ.
وقد أعطت الصحف الفلسطينية لهذه المفردات والمصطلحات والتراكيب مدلولاتها العميقة بالمعنيين الإجتماعي ـ السياسي واللغوي أيضاً، وذلك من خلال ما أخذ يبديه المثقفون الحرص والإهتمام بالكتابة في الجرائد والمجلات في المجالات المختلفة. ويسجل للصحافة في هذا المجال أنها بقدر ما أسهمت في تأسيس الثقافة الفلسطينية، فهي قد أثّرَت في الوقت نفسه اللغة العربية، وأمدتها بعناصر تطور حيوية، وحمتها من أمراض الهرم والعجز والجمود والتحجر.
ولعبت الصحف والمجلات دوراً أكثر أهمية وأبرز قيمة في حماية اللغة العربية من تفاعلات التأثيرات السلبية للترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، سواءً لجهة كثرة الأخطاء الشائعة، أو لعدم الإحاطة باختبار الألفاظ الدالة على المضمون، وما يترتب على ذلك من التباسات في فهم المعنى( ).
لقد تجاهل الأتراك اللغة العربية من حيث الأهمية دون أن يأبهوا إلى أنها لغة القرآن الكريم الذي يؤمنون به، كما أنها اللغة الأم للسكان العرب في ولايات الدولة العثمانية، ولغة حضارة وثقافة الدولة العربية ـ الإسلامية التي كان الأتراك يعتبرون أنفسهم امتداداً لها.
ــــــ التجاهل الحكومي باللغة العربية ـــ مستطيراً من أشكال تحجر وجمود معقدة، وإنحطاط لمستواها وآدابها؛ هدف من وراءه إنجاح السياسة الطورانية التي أريد منها صهر القوميات غير التركية في الثقافة التركية، باعتبارها الثقافة الوطنية للدولة العثمانية. وإمعاناً في القمع الثقافي عمدت الحكومة إلى انتهاج سياسة تتريك صارمة ضد العربية وآدابها في الولايات العربية، وذلك بدءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومع أن العرب كانوا يفتقدون لأية أسلحة بتاره لمقاومة هذه السياسة، إلا أن التتريك فشل، وذلك لأسباب تتعلق بتخلف مفهوم الأتراك في الإدارة العامة.
وبعد أن وقعت فلسطين تحت قبضة الإنتداب البريطاني تعرضت اللغة العربية لخطورة أشد، تمثلت بإقدام السلطات البريطانية على اعتبارها اللغة الرسمية الثالثة في البلاد بعد اللغتين الإنجليزية والعبرية؛ وجعلوا إتقان اللغة الإنجليزية شرطاً لا بد منه لتولي أي منصب حكومي. وفي إطار محاربة البريطانيين للغة العربية في فلسطين روجوا بأساليب مختلفة فكرة "أنها ليست لغة عصرية" و"أنها عاجزة عن استيعاب مظاهر الحضارة الحديثة". وحدث الأمر نفسه من قبل البريطانيين للغة العربية في مصر وفي العراق، وواجهت اللغة العربية في سورية ولبنان نفس الخطر من قبل الفرنسيين. وقد واجه مفكروا الأمة الخطر وتصدوا لهذه الحملة بقوة وعناد، عبر دور طليعي مورس في معظمه على صفحات الجرائد والمجلات؛ من خلال مقالات وأبحاث فكرية ولغوية ركزت على الدور الذي اضطلعت به اللغة العربية في تدوين ونقل منجزات الحضارة الإنسانية في العصور الماضية. كما بينت هذه المقالات والأبحاث فضل اللغة العربية الكبير على الحضارة الإنسانية قديماً وحديثاً، وبينت قدرة اللغة العربية على استيعاب كل ما جاءت به الحضارة المعاصرة، والتعبير عنه بأساليب راقية.
وكان الناقد والأديب السوري قسطاكي الحمصي من أبرز رواد الدفاع عن العربية في هذه الهجمة الشرسة عبر المقالات والأشعار التي كتبها أو نظمها بهذا الخصوص، ونشرها في مجلة النفائس( ).
وكانت إسهامات عيسى العيسى في مجلة فلسطين اليافاوية وخليل السكاكيني واسكندر الخوري البيتجالي وغيرهم في صحف فلسطينية مختلفة، قد مثلت خندق الدفاع الأمامي عن اللغة العربية الذي شارك فيه أيضاً مفكرون من سورية ولبنان بكل جرأة وبسالة.
وكان الأديب إسعاف النشاشيبي في طليعة المدافعين عن اللغة العربية، وذلك لأنها "...لغة أتقنها الإتقان وأبدعها الإبداع. وقد جمعت الحسن كله في نظام.
وهي لغة الكتاب ولغة الإعراب ولغة الإيجاز إذا ابتغيت الإيجاز. ولغة الإطناب إن ترد الإطناب، فهيهات أن تماشيها في الفصاحة والبلاغة لغة، أو يجاريها في البيان لسان.
ولو حدّثت لغة كل قوم نفسها بعباراتها لقعد بها العجز، ورزحت قبل أن تقطع من ألف مرحلة مرحلتين... وليس في لغة العرب من عيب يعيبها( ).
ودأبت الجرائد والمجلات على الإهتمام باللغة العربية وآدابها وتطورها. وقد أعطت الدراسات والأبحاث المتعلقة بموضوعات اللغة ومدارس الفكر اللغوي والإتجاهات الأدبية واللغوية أولوية خاصة في نشر قضايا الخلاف بين المذهبين التقليدي والتحديثي وما تتفرع إليه شبكة هذا الخلاف من آراء ورؤى وأفكار واجتهادات. وكذلك الإهتمام بنشر المواقف التوافقية بين أقطاب التيارات الأدبية واللغوية.
وكان من أبرز ما اهتمت به الصحف في مجال تطوير اللغة وحداثتها، نشر الأبحاث والدراسات التي كان قد أعدها محمد إسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني الذي كان يتوجه إلى المؤسسات العلمية العربية في البلدان العربية لإلقاء محاضرات فيها عن اللغة والحداثة والتطور. ولعل أفضل الأمثلة على ذلك التذكير بأن ما جاء في كتاب "مطالعات في اللغة والأدب" كان في الأساس بعض دراسات أو أبحاث أو محاضرات للأديب خليل السكاكيني نشرت في الصحف المحلية.
وبشكل عام فقد رعت الصحافة كل الإبداعات والنتاجات الأدبية واللغوية، وأسست لمفاهيم جديدة في النشر حول الحداثة واللغة، وحول دراسة نشوء اللغة، والمقاربة بين اللغات، والتقارب والتباعد بين أحرف الهجائيات، وحيوية اللغة وعصرنتها، وغير ذلك من أبحاث حياة وتطور اللغة العربية وآدابها. ولعبت الصحافة في مواجهة خطر الطورانية والتتريك دور المدافع الأمين والقوي عن "العربية" فكانت حارسة بقائها وحاضنة تطورها في فلسطين وفي البلدان العربية أيضاً.
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم في رام الله/فلسطين.

المصادر:
1- د. عبد الرحمن ياغي، حياة الأدب الفلسطيني الحديث من أول النهضة حتى النكبة. المكتب التجاري للنشر والتوزيع، بيروت 1968م.
2- د. ناصر الدين الأسد، الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن. معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة 1963م.
3- ساطع الحصري، نشوء الفكرة القومية. (دون ذكر اسم الناشر)، القاهرة 1955م.
4- د. قستطندي الشوملي، الاتجاهات الأدبية والنقدية في فلسطين. دار العودة، القدس 1994م.
5- الأب لويس شيخو، تاريخ الآداب العربية (1800ـ1925). منشورات دار المشرق، بيروت، الطبعة الثالثة 1991م.
6- الأب لويس اليسوعي، معاني الأدب في حدائق العرب. دار الشرق، بيروت، الطبعة الخامسة 1986م.
7- خليل السكاكيني، مطالعات في الأدب واللغة. (دون ذكر إسم الناشر)، القدس 1925م.
8- روحي الخالدي، تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو. دار الهلال، القاهرة 1904م.
9- جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية. دار الهلال، القاهرة 1911م.
10- أسعاف النشاشيبي، حكمة في اللغة العربية. (دون ذكر اسم الناشر). القدس 1955م.
11- محمد سليمان، تاريخ الصحافة الفلسطينية (1876ـ1976). الجزء الأول. مؤسسة بيسان برس للصحافة والنشر والتوزيع، نيقوسيا 1987م
12- مجلة النفائس العصرية (حيفا، القدس). أعداد مختلفة من سنوات 1908 و 1909 و 1912 و 1913 و 1914 و 1921.