الماركسية بعد 125 سنة على رحيل ماركس


عواد احمد صالح
2008 / 3 / 20 - 12:01     

في الرابع عشر من اذار الحالي انقضت 125 سنة على وفاة كارل ماركس اعظم مفكر ثوري عبقري في تاريخ العالم المعاصر معلم البروليتاريا والاب الروحي للشيوعية المعاصرة .. بعد مرور كل هذه السنوات ماذا يا ترى حري بنا ان نقول نحن الماركسيين ؟؟ هل مجرد الثناء على ماركس والماركسية والتأكيد على المسلمات النظرية والسياسية ؟ ام استخلاص الدروس من النجاحات والاخفاقات التي لازمت حركة الطبقة العاملة وتجاربها الناجحة والمحبطة .؟؟
لابد ان نقول ان الأخفاقات والهزائم هي اليوم اكبر من النجاحات ليس بسبب طوباوية او مثالية فكر ماركس كما يدعي الكثيرين وبعضهم من المحسوبين على هذا الفكر ، بل ان تجارب الواقع العملي وقوة ودهاء وعظمة البرجوازية العالمية وشراستها وهمجيتها في الدفاع عن مصالحها الطبقية في محاولة تأبيد المجتمع الطبقي وانقسام البشر الى طبقات مستغلة ومستغلة هي اكبر من كل الحقائق العلمية والاجتماعية التي جاءت بها الماركسية واقوى من كل ادعاء باحترام كينونة ووجود وحقوق الأنسان الذي تزعم الأيديولوجيا البرجوازية الدفاع عنه .
لنتذكر ماذا فعلت الرأسمالية منذ 125 سنة خلت بحق البشرية وماذا ارتكبت من حروب ومجازر سنكتشف ان الارقام فضيعة ومهولة .. مقابل كل ادعاءات مفكري البرجوازية وقوى اليمين ومزاعمهم الرخيصة في الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وصب اللعنات على جميع الانظمة التي حكمت باسم الماركسية والأسراف في تعداد سلبياتها وهفواتها ونعتها كأنظمة شمولية مستبدة توتاليتارية ... الخ الخ - لسنا هنا بصد تقييم تلك الانظمة ولا بصدد التغطية على الاخطاء التي حصلت- ولكن .. ولكن قياسا الى فضائع الرأسمالية تبدو تلك التجارب اقل سلبية بما لايقاس .
واليوم تحاول كل قنوات الثقافة والفكر الرأسمالي وجميع وسائل الاعلام المأجورة والمبتذلة قتل الروح والمبادرة الثورية لدى عمال العالم ومحو الذاكرة الثورية المتمثلة في استذكار واستلهام الروح الثورية لجميع التجارب والثورات البروليتارية بدءا من كومونة باريس وانتهاء عند اعظم ثورة في كل العصور ثورة اكنوبر الروسية . وذلك بنعتها مرة بصفة اوهام ومرة بصفة محاولات للقفز فوق الواقع او محاولات لحرق المراحل ومره بصفة تجارب فاشلة .. وذلك من اجل تحقير الماركسية والسخرية منها والإساءة الى شخص ماركس نفسه في محاولات مستمرة للتغطية على عيوب النظام الرأسمالي والجرائم التي ارتكبتها الامبريالية بحق البشرية .
واذا كانت الماركسية قد اخفقت حتى الان بتحقيق حلم البشرية في إقامة مجتمع لا طبقي وإزالة العمل المأجور وراس المال ومحو التفاوت بين الشعوب الفقيرة والغنية وإزالة اضطهاد الأمم الكبيرة للأمم الصغيرة فان هذه المباديء ماتزال راهنة ومطلوبة واكثر انسانية من كل ادعاءات الأيديولوجيا البرجوازية حول حقوق الانسان . ان مقولات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل الرأسمالية هي مقولات نسبية لأنها مقولات طبقية لا يمكن ان تتجاوز التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الموجود بين البشر .
ان صراع الماركسية كمنهج وفكر وعقيدة انسانية مع الأيديولوجيا الرأسمالية غدا اليوم صراعا اخلاقيا .. فالماركسية بربرية كما يصفها مؤلف كتاب نهاية التاريخ .. وهي " تعقيد :كما يشير عنوان كتاب كلود لوفور وامام " صنمية" العقيدة الماركسية المدعى عليها خلقت الأيديولوجيا الرأسمالية باسم الحرية صنميات هائلة : انواع شتى من النزاعات الرجعية ، أعادت بعث الأديان والتعصب الديني والطائفي والعرقي وما يسمى الخصوصيات الثقافية ((نفخ الروح في مختلف الوان التعصب القومي والاقليمي والعرقي ونمو النزعات الخصوصية العشائرية والدينية . لقد اججت العولمة المتوحشة عنانَ النزعات الخصوصية وكره الأجانب ، ان طغيان العولمة الرأسمالية وهيمنة الولايات المتحدة عالميا ينمي بشكل مضطرد نزعة محلية نكوصية تقوم على العودة الى الماضي والتعلق الأعمى بالهويات والخصوصيات المحلية .))
يقول بعض الاكاديميين وشرائح من المثقفين ممن وضعوا انفسهم في خدمة الطبقات المالكة ، ان الماركسية والشيوعية قد اضحت " قديمة " وعتيقة" .. ويتنكر امثال هؤلاء لحقائق مازالت قائمة ، ان قوانين الحركة التاريخية للمجتمع الطبقي ما تزال قائمة . الفوارق الطبقية والفوارق بين الامم والصراعات القومية والحروب ان حاجتنا لا تكمن في اجراء أي مراجعة او تعديل في الرؤية النظرية للماركسية واعتبارها قديمة ، طالما كان الصراع الطبقي قائما وطالما ان القوانين الأقتصادية - الأجتماعية للرأسمالية لم تتبدل ،.. اننا لا نزال بحاجة الى استخدام المنهج الماركسي في دراسات الظواهر الجديدة ومعضلات المجتمع الراهنة .

ورغم التشويه والدعاية البرجوازية فان الماركسية كانت وما تزال فكرة عقلانية وديمقراطية تخاطب العقل والشعور الانساني والحس السليم مقابل كل انواع الخرافات الدنيوية والدينية وغيرها التي ترهن الانسان للقدر وسلطة المجهول وتحجب التفكير المنطقي والعقلاني ملقية كل اعباء ومشاكل الأنسان على القوى الغيبية والقدرية ، ان الماركسية هي اعادة الخيار للأنسان في تحديد مصيرة ونمط حياته الاقتصادي والاجتماعي ايضا مقابل كل الفلسفات والأفكار المثالية والرجعية القديمة والجديدة التي ليس لها علاقة بما هو اجتماعي وانساني بقدر ما تهدف الى تبرير ما هو قائم وتشييد ابراج عاجية وعوالم مثالية يتحصن فيها مثقفي الطبقات السائدة تعبيرا عن استعلائهم وبيروقراطيتهم . لقد انتجت الأيديولوجيا البرجوازية وفي سياق جعلها الفكر والثقافة الانسانية مادة استهلاكية مثل البضاعة تنتج وتستهلك ولابد في كل مرحلة من وجود بضاعة جديدة أنتجت كم هائل من تلك الأفكار والفلسفات المثالية والرجعية لكي تهيل التراب على ماركسية ماركس وعلى جوهرها العملي الثوري والأجتماعي.
الماركسية بنت الفقراء والكادحين وبنت الانسان الذي يطمح ان يتجاوز عالم الغرائز المادية والسيكيولوجية : الانانية ، حب التملك ، مجموعة الغرائز العدوانية والتدميرية التي تصنعها الايديولوجيات الدينية والسياسية ، وهي تستعيض عن تلك الغرائز وتحاول تربية البشر على تجاوزها من خلال حب الجماعة والايمان بالتحرر والمساواة بين البشر وتكافؤ الفرص واعطاء كل فرد حقه في العيش والتمتع بالثروات المادية والحصول على مستوى حياتي لائق ومشرف لا بمجرد الوعظ والوعد ولكن بتحقيق ذلك بشكل عملي على ارض الواقع : التعبيرعن مسار الحركة التاريخية والقوى الاجتماعية الفاعلة صاحبة المصلحة في تغيير الواقع: البروليتاريا الذات الثورية المغيرة للعالم القديم .وكما يقول البيان الشيوعي : (( ان مفاهيم الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار، او مبادئ، ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مُصلحي العالم. إنّها تعبير عام عن الشروط الموضوعية لصراع طبقيّ قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا .)) ،
ولقد حاولت الماركسية وتحاول انتشال الانسان من ملكوت الضرورة الى ملكوت الحرية . ان الرأسمالية احدثت ثورة هائلة في قوى الانتاج ووفرة هائلة في القيم الأستعمالية .. لكنها فشلت في توزيعها بشكل عادل على البشر لأن هدف التبادل ظل دائما جني الارباح ووضها في جيوب الرأسماليين اما احد اهم وابرزاهداف ومساعي الماركسية فهو الغاء الطبقات واعادة توزيع الثروة عل المجتمع ككل بدون افراد قلائل يملكون ثروات هائلة واغلبية محرومة . وعلى الرغم من الرفاه النسبي الموجود في دول الغرب الصناعي الا ان الانسان مازال لم يتحرر بعد من عقد التشيؤ واستلاب العمل والخضوع للأنظمة الوظيفية الصارمة ..فهو محكوم بهاجس فقدان العمل والبطالة ، لقد تجاوز البروليتاري في الغرب عصر المجاعة في مجتمع الوفرة المادية لكنه لم يتجاوزعصر القلق والخوف وهاجس الحروب الكامنة في البنية العامة للنظام الرأسمالي ، فالرأسمالية دائما بحاجة الى الحرب لتجديد اليات اشتغالها وتجاوز مراحل الركود والأزمات الدورية .
ان الماركسية لم تكن في يوم ما عقيدة دينية او دوغمائية جامدة تريد اخضاع الانسان والواقع لمجموعة من الأشتراطات النظرية او الحقائق النهائية.. انها عقيدة جدلية مبنية على حركية الواقع ومتطلبات البشر وهي ترتكز نظريا الى ارقى القيم والمقولات الفلسفية التي رافقت نشوء الرأسمالية ونتجت عنها وهي تسير دائما في خط المجتمع الأنساني خط التحرر والمساواة والرفاه . ولئن كانت الماركسية في يوم ما في القلب من السياسة العالمية فلأنها كانت فلسفة الممارسة الثورية . ومن المآخذ عليها انها اعطت للتجارب والممارسات المشوة ثيابا تنكرية وانحطت بفعل الممارسات البيروقراطية والانتهازية الى محض أيديولوجيا تبريرية وتقريظية بعيدة عن الواقع وعن حاجات الناس .. لكنها اليوم وبعد سقوط جميع النسخ المشوهه ومن خلال نشاط وعمل التيارات الرديكالية واليسار العمالي والأجتماعي عادت لتربط نفسها من جديد بالواقع ومن خلال المعاينة والنقد : نقد آليات اشتغال الرأسمالية المعاصرة والظواهر الجديدة الناجمة عنها .. ظاهرة العولمة النيوليبرالية الهيمنة الامريكية عالميا الصراع بين الدول الأمبريالية ( اميركا فرنسا روسيا ، الصين ) لأقتسام مناطق النفوذ ، ظاهرة الارهاب والأسلام السياسي ، صراع الأديان والأثنيات والاعراق والطوائف . ان السمة التي تطبع عصرنا الحالي عالميا كما سبق ان قلنا في مقال سابق " انه عصر الصراعات والحروب الرجعية الشرسة والتوتر الشديد بين المجموعات الدينية والمذهبية والعرقية وصعود الحركات الدينية في ظل هيمنة نظام العولمة المتوحشة ".
ان الماركسية تقترب في المرحلة الحالية اكثر فاكثر من المجتمع وتعود كأداة فاعلة للتعبير عن الحاجات الطبقية والانسانية ولابد من ادماج الفكر بالممارسة للتعبير عن الفاعلية الاجتماعية للحركة الماركسية الثورية . الخروج من دائرة التنظير الى دائرة الواقع يتم عبر الاندماج بالحركات الاجتماعية الكبرى والتعبير عن مطاليبها واهدافها العملية في اطار كل مجتمع ووفقا لظروفة وحاجاته وفي السياق العام لعصرنا الذي يشهد تحولات وتغيرات كبرى ، فلقد تشكلت الماركسية منذ البداية علما ثوريا ونقديا مرتبطا بممارسة الطبقة العاملة الحديثة في صلب حركة شاملة تهدف الى تحويل المجتمع البرجوازي الى مجتمع اشتراكي اكثر عدالة وانسانية يخلو من الأضطهاد والاستغلال .
ان الماركسية لم تكن يوما ما ايديولوجيا بالمعنى السائد والمبتذل لمفهوم الأيديولوجيا بل هي نظام للفكر والعمل مرتبط بتغيير الواقع الأجتماعي وعلى اساس حاجات ومتطلبات ذلك الواقع .


18-3 –2008