فلنكشف خطر « الكيان الوظيفي »

قاسيون
2008 / 2 / 22 - 10:44     

كانت هدفاً أوروبياً. شنت أوروبا في كل أطوارها، بدايةً من سيادة طبقات ملاك العبيد الي سيادة أمراء الإقطاع الي سيادة الرأسماليين وطواغيت المال هجماتها علينا. ذهبوا في كل مرة، لكن درساً هاماً تعلموه ونفذوه بدقة، وهو أن وجودهم يمكن أن يكون أكثر ثباتاً وإستمراراً بزرع كيانٍ وظيفي في المنطقة كركيزة وذراع وأداة تنفيذ.
الكيان الوظيفي يحتاج الي "جماعة وظيفية". وجد " بونابرت" ضالته المنشودة، وأطلق دعوة منذ أكثر من قرنين - تحت أسوار عكا – بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وهم المعروفون تاريخياً بأنهم جماعة وظيفية.
البريطانيون تحملوا هذه المسئولية فيما بعد، ولعبوا الدور الأساسي في إقامة الكيان الصهيوني ككيان وظيفي في فلسطين بعد قرن ونصف القرن من وعد بونابرت، واللافت للنظر أن بداية الهجرة اليهودية الواسعة الي كل من فلسطين ومصر كانت عقب هزيمة الثورة العرابية واحتلال مصر عام 1882.
كانت رؤية البريطانيين لمسألة الهيمنة علي المنطقة أكثر جذرية من الجميع. إذا أن تثبيت الهيمنة كانت تتطلب وجود كيانات وظيفية أخري بجانب الكيان الصهيوني، يمكن أن تكون أكثر تمويهاً وقبولاً بحكم الإنتماء، وهذا ما يعطي دورها فاعلية كبيرة وهذا ما حدث فعلاً.
الإنتقال من الفكرة الي التنفيذ
في الربع الأول من القرن العشرين صدر وعد " بلفور" بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما تم إتفاق " سايكس- بيكو" لتفتيت المنطقة العربية وإقتسامها. قبل ذلك بقليل كان يجري الترتيب البريطاني لإقامة كيان وظيفي آخر، حيث قام "تشرشل" بدور هائل في إقامته، ألا وهو الكيان السعودي.
وهكذا وبصناعة ومعونة إستعمارية إمبريالية بريطانية قوية نجح مشروع تحالف آل سعود وآل عبد الوهاب بعد محاولات فاشلة إستمرت لأكثر من قرن كامل في إقامة دولة منسوبة لأسرة (وليست أسرة منسوبة لدولة وشعب). قامت بعنف ودموية ليس لهما حدود وعلي أساس الحكم المطلق، والفكر المنغلق، وتوظيف السيطرة علي الأماكن المقدسة ( مكة والمدينة) في الحجاز لإطفاء شرعية زائفة علي حكمهم.
ظل هذا الكيان منذ نشأته في قلب الإستراتيجية والمصالح الحيوية البريطانية ثم الأمريكية، وظل أبناء المؤسس " عبدالعزيز آل سعود" أوفياء لوصيته لحظة وفاته: " إياكم والخواجة.. لاتغضبوه.. وحافظوا علي علاقاتكم معه.. فهو من حول الرمال الصفراء الي أموال وثروة ".
الدور الوظيفي
إستمر حرص هذه الأسرة وهذا الكيان الوظيفي الذي لا يمتلك صفات الدولة بمعناها الحديث، منذ نشأته وحتي اليوم، علي ألا يكون جزءاً من أي إستراتيجية عربية مستقلة، ولم نشهد له أي موقف عملي ضد الكيان الصهيوني قبل أو بعد عام 1948؛ بل كان دوره باهتاً متماهياً من صانعي الكيان المعادي، وحتي بعد عام 1967 لم يتجاوز دوره تقديم قدر من الدعم المالي والموقف الدبلوماسي في المحافل الدولية. كما كان موقف " فيصل " عام 1973 مبني علي مقايضة تمت مع السادات لإنهاء مشروع جمال عبد الناصر التحرري من جهة، والحرص علي الحفاظ علي صورة الكيان السعودي الزائفة أمام المسلمين حيث يهيمن علي الأراضي المقدسة من جهة أخري، مثلما كان موقفه الرافض قولاً للصلح الساداتي المنفرد مع إسرائيل مبني بدوره علي خداع المسلمين لتعزيز وضع الكيان في العالم الإسلامي. لكن هذا الموقف الباهت من الصراع العربي- الصهيوني سرعان ما تراجع منذ مدريد وأسلو وصولاً الي الحياد الواضح ثم التعاون المخابراتي مع العدو والتطبيع السري معه.
في كل مواقفه من قضايا التحرر الوطني العربي أو التقدم الإجتماعي أو الوحدة، كان موقف هذا الكيان وظيفياً مشيناً بدءً من موقفه من الوحدة المصرية السورية، الي ثورة اليمن، وصولاً في النهاية الي إستدعاء الإحتلال العسكري الأمريكي - مدفوع الأجر- الي السعودية وباقي بلدان الخليج، وموقفه من الإحتلال الأمريكي للعراق ومن عدائه الشديد للمقاومة سواء في العراق، أو فلسطين، أو لبنان أثناء العدوان الصهيوني في يوليو 2006، وموقفه المطابق تماماً لموقف العدو الصهيو- أمريكي ضد ممانعة وصمود سوريا ووقوفه الكامل داعماً لموقف العدو، وإستبدال العدو الإسرائيلي - علناً- بعدو عربي ومسلم هو سوريا والقوي الوطنية اللبنانية وفي مقدمتها حزب الله وكذا إيران، وكل مقاومين للمشروع الصهيو- أمريكي.
لم ينحصر الدور الوظيفي للكيان السعودي في حدود الأقليم العربي، ولكنه تجاوزه بتوجيه إمكانيات مالية هائلة وتجييش الشباب للحرب ضد عدو بعيد عنا هو الإتحاد السوفيتي، في حين أن العدو الحقيقي موجود في قلب منطقتنا العربية علي بعد أميال قليلة من حدود السعودية. وأنفق هذا الكيان 70 مليون دولار في تمويل الحرب ضد السوفيت في أفغانستان (وهو ما يساوي أضعافه الآن)، وها هي أفغانستان أخيراً قد تحولت الي مستعمرة أمريكية مدمرة.
بتحديد أكثر فإن هذا الكيان السعودي منذ أن تأسس ظل يحمل طابعاً وظيفياً في خدمة الإمبريالية خاصةً الأمريكية مستخدماً قوة المال المغتصب من الشعب - حر من أي محاسبة في ظل حكمه المطلق الرجعي والمتخلف- بدءاً من إيواء ودعم القوي والأشخاص المعادون للتحرر والتقدم في بلدانهم، وإختراق المجتمعات العربية والإسلامية بالمال والفكر الوهابي المتحجر لتكوين جماعات ومنظمات موالية لهم ومعادية لأوطانها وشعوبها وبناء منظمات إرهابية تكفيرية تستقطب جهد الشباب الذي يعاني البؤس ودفعه الي ترويع وإستنزاف طاقات شعوبهم بعيداً عن مقاومة العدو ( وتعتبر منظمات فتح الإسلام وجند الشام ...إلخ نموذجاً) وإختراق المؤسسات الدينية فكرياً ومالياً، وهو ما يشيع مناخاً مواتياً لتمرير المشاريع الإمبريالية المعادية، وصولاً الي صنع شخصيات عميلة من الأفاقين الذين يتم تحويلهم الي "مليارديرية" وإعادة تصديرهم الي بلدانهم الأصلية لممارسة كل ألوان النهب والسرقة والفساد والإفساد والخيانة وإختلاق الأزمات السياسية والشقاق والإنقسام والفتن وإنتاج الدمار (مثلما هو واقع الآن في لبنان الشقيق).
الخطر
لقد أصبح هذا الكيان الوظيفي يشكل خطراً شديداً علي المصير العربي كله في ظل دوره المتصاعد ضد قوي المقاومة والممانعة والصمود، ودوره في إنقاذ الإقتصاد الأمريكي الذي يعاني أشد الصعوبات، وبالتالي تقوية الآلة العسكرية الموجهه ضدنا، وذلك عبر توجيه فوائض النفط بمئات المليارات من الدولارات كل عام الي أمريكا والغرب دون العرب والمسلمين.
كما تحول هذا الكيان الوظيفي الي قاطرة لباقي النظم العربية الرازحة تحت حكم الكمبرادور، وجرهم الي مواقف أكثر إستسلاماً، والزج بالمنطقة العربية بأسرها بالسقوط أكثر وأكثر في مستنقع "الشرق الأوسط الجديد" و"الإتحاد الأورومتوسطي" وغيرها من مشاريع الهيمنة الصهيو- أمريكية والصهيو- أوروبية.
أن السلوك الراهن لهذا الكيان الوظيفي "السعودي" كان كاشفاً - وليس منشئاً- عن أن ما نراه ليس موقفاً عابراً أو راهنياً أو مجرد سحابة صيف يمكن أن تنقشع، لكنه يطرح وبشكل شديد الجلاء عن طبيعته المتجذرة فيه، ككيان وظيفيٍ موازٍ ومماثل تماماً للكيان الوظيفي الصهيوني، وأنه يمثل خطراً داهماً علي مستقبل شعوبنا العربية والإسلامية بأسرها. إنه يشكل إحتياطياً إستراتيجياً للرجعية العالمية، أي لأخطر أعداء الجنس البشري الإمبريالين والصهاينة. لذلك فإن كشفه وفضحه ومناهضته والتصدي له هو واجب وطني وطبقي وقومي وديني علي شعوبنا وقواها الحية. لا ينبغي التهاون فيه لحظة واحدة.. لأن التهاون هو الضياع.

* إبراهيم البدراوي