ثورة 1789 اللبنانية التي لم تتم!


كميل داغر
2008 / 2 / 16 - 09:51     

بعد شهرين، أو أكثر قليلاً، تكون سنوات ثلاث قد مرت على المظاهرتين الجبارتين، اللتين أطلقت تسميتاهما على الحركتين الأساسيتين المتصارعتين، منذ ذلك التاريخ، على السلطة في لبنان. وذلك في مرحلة من تعمُّق الانشطار الوطني إلى حدود تقارب الكارثة. حيث أن هذه الحفنة من الوهاد والتلال والجبال على شاطئ المتوسط، التي لا ندري إذا كان يمكن أن نقول إنها كافحت على مدى قرن ٍ لتشكل وطناً، فشلت، أيّاً يكن، في بلوغ هذا المبتغى. فضلاً عن ذلك، هي ذي تعيش الآن، وسيف مُصْلَتٌ فوقها يهدد بقطع الروابط التي طالما بقيت تَشُدُّ أجزاءها. وبالطبع، ليس العجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلا واحداً من تجليات هذا الواقع، وليس الأخطر بالتأكيد. الأخطر هو العجز عن التلاقي حول القضايا المصيرية الكبرى لهذا البلد، ولهذا الشعب. وبين أهمها الموقف من القوى المعادية لأبسط تطلعاتنا إلى التقدم والتحرر والسيادة، ولا سيما الإمبريالية الأميركية وإسرائيل؛ وفي الوقت نفسه الموقف من المعيقات الأشد جسامة لوحدتنا، كما لممارستنا لديمقراطية حقيقية، ألا وهي البنى القديمة المتحجرة، وعل رأسها البنية الطائفية، التي لا تشوِّه حياتنا السياسية وحسب، بل تخترق كل مناحي حياتنا الاجتماعية أيضاً وتحجز تطورنا الاقتصادي إلى أبعد الحدود.
لم أشارك في أي ٍّ من تينك المظاهرتين، وعادت بي الذكرى إلى عمر آخر، وأحلام وأفكار من نوع مختلف تماماً، هي تلك التي كانت تراود الآلاف مثلي، ذات أيام ٍ من أواخر الستينيات، وأوائل سبعينيات القرن الماضي. تلك الأحلام والأفكار بالذات، التي جعلتني، مع كثيرين غيري، نجد أنفسنا، مراراً، نقاطاً في بحر تلك الجماهير التي شيَّعت، مثلاً، خليل عز الدين الجمل، أول فدائي لبناني يسقط في صفوف المقاومة الفلسطينية، يوم كانت لا تزال توحي في كل مكان، تقريباً، بأنها حالة ثورية ليس فقط في مواجهة إسرائيل، بل كلِّ المظالم عبر العالم، أيضاً؛ أو تلك التي اعتصمت، وصامت، وانتفضت ضد خنوع السلطة اللبنانية، بعد قصف إسرائيل مطار بيروت الدولي وتدميرها أسطولنا التجاري الجوي؛ أو تلك التي خاضت بعد أشهر من ذلك الحين، وبالتحديد في 23 نيسان 1969، معركة مفصلية ضد السلطة عينها، في ساحة بقيت تتسمَّى باسم ذلك التاريخ سنواتٍ طوالاً، قبل أن تشيخ الذاكرة الجماعية، وتنسى، بنتيجة الحرب الأهلية، اللاحقة، التي كان بين أهدافها الأساسية تصفية الباقي من تلك الأحلام والأفكار؛ وصولاً إلى مظاهرات السنوات الخمس التي سبقت تلك الحرب، مباشرة، وكانت تجمع إلى تحركات فلاحي الجنوب المخضبة بدم نعيم درويش وحسن الحايك وأمثالهما، وانتفاضة عمال غندور المغمَّسة بدماء فاطمة الخواجا ويوسف العطار، ناهيكم عن التحركات العمالية في المكلس وسلعاتا وباقي أنحاء لبنان، تحركاتٍ طلابية متواصلةً رفعت شعارات التغيير الجذري، في شتى المجالات، من المدرسة ودور المعلمين والجامعة، إلى الصعيد الوطني العام، من دون أن تغفل قضايا المنطقة العربية ككل، وفي الوقت نفسه قضايا التحرر والثورة عبر العالم، امتداداً إلى التشيلي، في أقصى جنوب القارة الأميركية.

الشبح، تكراراً، ومن جديد
لم نكن وحدنا، أي ذلك الجزء المتجذَّر من شبيبة تلك الحقبة، من لاح له الشبح نفسه الذي «تسلط على أوروبا»، بحسب البيان الشيوعي، قبل ذلك بمئةٍ وبضعة أعوام. كانت فكرة الثورة تحوم في كل مكان تقريباً، في باريس كما في براغ عام 68، وفي إيطاليا المجالس العمالية عام 69، وفي الشرق الأقصى، وأميركا اللاتينية، وعلى صعيد قطاع واسع من الشبيبة عبر العالم. حتى كمال جنبلاط، الزعيم اللبناني الوطني الراحل، ذو الأصول الإقطاعية، وكان في سن الكهولة، كان يهجس بها، معترفاً في الكتاب الصادر له بالفرنسية بعد الوفاة، بعنوان Pour le Liban (من أجل لبنان)، بأنه كان يعتبر في بدايات الحرب الأهلية، ولا سيما خلال صعود مقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية إلى أعالي صنين، أن الأحداث التي كانت تتم آنذاك، وبالتحديد «أحداث 1975- 1976»، «وهي نسخة – حسبما كتب – عن أحداث 1859*، هي لنا نوع من ثورة 1789**، ولكن على الطريقة اللبنانية، حيث تمتزج الفظاعة بالبطولة».
هذه الثورة – التي رأى القيادي المذكور أن مقدماتها الأساسية ناضجة، ليس فقط على صعيد الواقع الموضوعي (الفساد المعمَّم، والظلم الاقتصادي والاجتماعي، وتفشي أحزمة البؤس، إلخ...)، بل كذلك على المستوى الفكري والنفسي، واعتبر أنها، على الرغم من العقبات الكأداء التي تقف في طريقها، سواء بسبب الفكر الطائفي المحلي أو تدخلات الرجعية العربية المرتعبة مما قد يترتب على انتصارها المحتمل من ارتدادات على المستوى العربي العام، «سوف تنتصر عاجلاً أو آجلاً» – هذه الثورة سرعان ما سيتم إغراقها في دوامة الاقتتال الطائفي. هكذا، كان يتكرر، بالتحديد، مصير ثورة الفلاحين لعام 1859 في الجبل اللبناني، التي أجهضت سيرورتها، وما كانت تحبل به من تمخضات ذات منحىً تقدمي شامل، أحداثُ عام 1860 الطائفية وما تلاها من تدخلات أجنبية لتحديد مستقبل هذه البقعة الصغيرة، ولكن الهامة والحيوية جداً، في الجسم المترهل للسلطنة العثمانية.
وبالطبع، لا يمكن تجاهل الجانب الجسيم من المسؤولية عن ذلك المصير، الذي يقع على الحركة الوطنية بالذات (وحلفائها في المنظمات الفلسطينية آنذاك)، حيث أنها فوَّتت فرصة تاريخية للتغيير الجذري، «فرصة أن نحوِّل أخيراً – بحسب النقد الذاتي المرير من جانب رأس تلك الحركة في كتابه المذكور أعلاه – مؤسساتٍ مطيَّفةً ومتصدعة إلى مؤسسات علمانية وديمقراطية حقاً»؛ وأن يتم استقطاب حركة جماهيرية كاسحة، عابرة للطوائف، على أساس برنامج اجتماعي متقدم، بحيث يصعِّب ذلك إلى أقصى الحدود مهمة جيش النظام السوري، المرسل لإنقاذ النظام اللبناني المتعفن، وربما يشكل منطلقاً لتغيير ثوري عابر للحدود. وذلك بدلاً من الرضوخ للحسابات البائسة لممثلي منظمة العمل الشيوعي آنذاك في المجلس المركزي للحركة الوطنية، الذين لفت أحدهم انتباه رئيسها، بحسب اعتراف الأخير في كتابه «من أجل لبنان»، إلى أن «إصلاحاً لمعدل الإيجارات وفرضاً للسعر العادل قد يحرمنا من دعم كل أبناء بيروت، وهم في غالبيتهم الساحقة من الملاكين، لا من المستأجرين» (!!) (ص 246 من الكتاب في أصله الفرنسي). علماً بأن تحليلاً من النوع عينه، من المريع والمخزي أن تكون المسؤولة عنه أحزاب يسارية ضمن المجلس المركزي المذكور، بحسب القيادي المنوّه به، هو الذي حال دون إجراء إصلاح زراعي، وتوزيع الملكيات الكبرى للأرض والعقارات المبنية، في وقت كانت الحركة الوطنية تسيطر فيه على 82% من التراب الوطني!
هذا وقد جاء الاجتياح الصهيوني في صيف عام 1982 ليحدث تغييراً عميقاً في موازين القوى السياسية والاجتماعية في لبنان لصالح صعود القوى المذهبية إلى واجهة السيطرة العسكرية، مع ما أنتجه ذلك من إطالة الحرب الأهلية، بالتلازم مع المزيد من التعفن في الحياة السياسية اللبنانية، ومع المزيد من إباحة الأوضاع المحلية للتدخلات الخارجية، ومن ضمنها تدخل الرجعيات العربية الخانق وعلى رأسها بوجه أخص المملكة العربية السعودية، التي سينعقد فيها بعد سنوات قليلة مؤتمر الطائف المشهور، مع ما سيصدر فيه من مقررات باتت تحكم هيمنتها على دستورنا، كما على الحياة الدستورية في البلد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.

من الطائف إلى الاستعصاء الخطير الراهن
منذ التعديل الدستوري الكبير الذي أعقب اتفاق الطائف، يتبارى السياسيون المحليون، من شتى المشارب والاتجاهات، ومن الخنادق المتقابلة، في إعلان تمسكهم شديد النفاق بهذا الاتفاق، وينشد فيه العديدون منهم قصائد المديح. علماً بأن كل طرف يأخذ منه ما قد يرى فيه تناسباً مع مصالحه، وفي الغالب الظرفية منها، في حين ينكر على خُصومه الاستفادة مما يلائمهم فيه. وعلماً أيضاً بأن لكل من الأطراف المتصارعة في الشريحة السياسية، الممثَّلة إلى هذا الحد أو ذاك في السلطة القائمة، تفسيراته الخاصة به لبنود هذا الاتفاق، وتجلياتها في الدستور الحالي. وذلك في مرحلة من غياب المحاسبة الشعبية الخطير، الذي يتيحه واقع النظام الطائفي السائد إلى الآن، وبالتالي من الالتحاق الجماهيري القطيعي بهذا الطرف أو ذاك، مع عواقب ذلك التي قد تؤدي بالبلد بأجمعه إلى الكارثة، في تاريخ لاحق.
وفي الواقع، ربما تكون الفضيلة الوحيدة، أو الفضيلة ونصف الفضيلة، لنكون أكثر دقة، إنما تتمثل في الحالة الأولى بوقف الحرب الأهلية، وفي الحالة الثانية بإيجاب إلغاء الطائفية السياسية، نظرياً، هذا الإلغاء الذي لا يزال ينتظر منذ سبعة عشر عاماً ونيفاً تقريباً، وعبثاً، الانتقال إلى التنفيذ!
أما ما عدا ذلك فالاتفاق، عدا ما يكثر فيه من الالتباسات، يكرس عملياً، وحتى نظرياً، البنية الطائفية للبلد ومخاطرها القاتلة، ويؤدي فضلاً عن ذلك إلى إحداث حالة شلل حقيقية في السلطة، وأكثر أيضاً في عملية بناء الدولة والمؤسسات. ولعل أخطر ما يدفع في هذا الاتجاه إنما هو الأحكام الواردة، سواء في مقدمته (البند ي) أو في متنه (المادة 95)، التي يستند إليها المتصارعون في الشريحة المذكورة أعلاه للحديث عما يسمونه ديمقراطية توافقية يقوم عليها، في رأيهم، المجتمع والدولة اللبنانيان، علماً بأنهم لا يتفقون في الأخير على مفاعيل هذه «الديمقراطية» المزعومة، الخاصة بلبنان! وأبلغ دليل على ذلك اختلافهم على شرعية حكومة السنيورة أو عدم شرعيتها في وضعها الراهن، ومنذ استقالة الوزراء الشيعة، بوجه أخص. وهو اختلاف لا يلغي واقع أن دستور الطائف واضح تماماً في جزمه بلا دستوريتها، وفي الوقت نفسه في كونه يتيح هكذا، على الأقل لممثلي كلٍّ من المذاهب الأكبر الثلاثة (الماروني والشيعي والسني)، إدخال البلد بكامله في استعصاء سلطوي خطير، ساعة يشاؤون، مع ما قد يفضي إليه ذلك من ارتدادات سلبية.
هذا وإن مطلب الثلث الضامن، أو المعطل، لا فرق، إنما يندرج في الإطار عينه «للديمقراطية» المشار إليها أعلاه، ويؤدي في الواقع، في حال اعتماده، إلى الاستعصاء نفسه، ويخدم، تالياً، شلل الدولة، مع ما يهدد به ذلك على صعيد قضية الاستقرار والسلم الأهلي. علاوة على ذلك، فهو سيفٌ ذو حدَّين، وإذا تم تشريعه الآن، في وجه جماعة الموالاة الحاليين، فسوف يتيح هذا لهؤلاء، إذا أصبحوا في المعارضة بعد الانتخابات النيابية القريبة القادمة، أن يستحصلواهم أيضاً عليه حينئذٍ، وهكذا دواليك...!! والخاسر في كلتا الحالتين إنما هما ذانك الاستقرار والسلم الأهلي، وفوق كل شيء مصير أوسع الجماهير الشعبية التي تزداد افتقاراً وبؤساً ويأساً، وتهاجر نسبة عالية من خيرة كادراتها العلمية وأكثر أفرادها قدرة على العطاء، وذلك تحت غطاء صراع الديوك في السلطة كما في المعارضة، وفي الغياب شبه التام ليسار ثوري فاعل، واتحاد عمالي كفاحي مستعدين للمواجهة ومجهزين بأدواتها النضالية، وبالبرنامج الاجتماعي المتقدم، ومن ضمنه بوجه أخص المطالب المعيشية الأساسية، على صعيد ضمان العمل والأجر العادل والصحة والشيخوخة، ناهيكم عن تلك المتعلقة بحماية القطاع العام والتصدي بنجاح لبرنامج الأكثرية الحاكمة الحالية الاقتصادي القائم على نهب الثروة الوطنية (بدءاً بالخليوي، ومروراً بالكهرباء، وماذا أيضاً؟!)، وتكبيل البلد بالديون، والشعب الكادح بالضرائب، فضلاً عن تسليم زمام اقتصاد البلد وإمكاناته المالية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمصارف والشركات الرأسمالية المعولمة.
هذا الغياب يجب وضع حدٍّ له، ذلك أن هناك خياراً آخر ليس الالتحاق بأي من المعسكرين المتصارعين، وليس في الوقت نفسه اليأس الذي يغرق فيه الكثيرون، في القاعدة الجماهيرية الواسعة ولكن أيضا على صعيد من ينضوون عادة، في الفكر الشعبي، تحت يافطة النخبة أو الطليعة، والذي يعبر عن نفسه إجمالاً بالاستنكاف والقرف، سواء مع تبرير هذا الموقف أو من دون تبريره.

أجل، ثمة خيار آخر!
في نص جميل، على قتامته وانسداده، بعنوان القربان، كتب الأستاذ أنسي الحاج، في عدد 24 تشرين الثاني الماضي من هذه الصحيفة، الكلام التالي:
«ولو كان هناك أمل بثورة شعبية عامة تغير الواقع لهانت الآلام. ولكننا ممسوكون على نحو من الجهنمية بحيث لا مجال معه في المدى المرئي لانتفاضة جماعية إلا تحت طائلة تحويلها فتنة طائفية أو مذهبية».
هذا ولا ينطلق الاستاذ الحاج من الفراغ، بل يستند إلى التجربة الفعلية لهذا الوطن الصغير على امتداد قرنين من الزمن. ولكننا نعتقد أنه لا شيء في هذا العالم، ولا سيما مع القفزات الهائلة التي بات يعرفها في العقود الأخيرة، يخضع لقدر مكتوب سلفاً. لا حتميات قاتلة أمام عقل الإنسان وإرادته اللامتناهيين. وعلى رغم السقطات العميقة والتراجعات التي شهدها بلدنا في الثلاثين سنة الماضية، فلقد اجترح أبناؤه أيضاً معجزات حقيقية في الفترة نفسها، ولا سيما بمواجهة قبضايات هذا العالم وطغاته وسفاحيه، من واشنطن وصولاً إلى تل أبيب. وخرجت جيوش هاتين مدحورةً من أرضنا وموصومة بالعار، أكثر من مرة، منذ العام 1983 وحتى الصيف ما قبل الماضي. وذلك بانتظار أن تخرج أيضاً كل منوعات الفكر المتخلف، أكان طائفياً، أو سلفياً، أو ملتحقاً بأكاذيب رأس المال المعولم وأساطيره، ومعها كل هذه المافيات المالية التي أتاحت لها السيطرة على مفاصل السلطة وثروات الوطن والشعب حربٌ أهلية طويلة وتدخلاتٌ لا تتوقف من جانب الغرب الإمبريالي والرجعيات العربية على اختلافها، أكانت تنتعل الأخفاف الخليجية أو الجزمات الدكتاتورية، وسواء كانت تتربع على السلطة في دمشق، أو في القاهرة والرياض.
ذلك أن أعداداً غفيرة من الفتيات والشبان، يقدرون بعشرات إذا لم يكن بمئات الآلاف، تخرجوا ولا يزالون يتخرجون من الجامعات، في حين تنوصد دونهم أبواب العمل، ويضطر كثيرون منهم إلى الهجرة، وقد كان بودِّهم لو يتمكنون من العثور على الحياة الكريمة في الوطن، وعلى مقربة من الأهل والأحباء. وعاجلاً أو آجلاً، قد يكتشف غالبية بينهم أسباب المآزق التي يتخبط فيها وطنهم، ومسؤولية القادة الحاليين للمذاهب والطوائف والشركات عنها، أكانوا في مواقع السلطة أو خارجها. علماً بأنه يمكن تسريع ذلك، بقدر ما تنجح الشروط الموضوعية لأزمة النظام الطائفي الرأسمالي المتخلف، وجهود الأكثر وعياً وإخلاصاً في تجربة اليسار المحلي، في تسهيل سيرورة تجمُّع يسارٍ ثوري حقاً وديمقراطي حقاً حول برنامج يدمج المطالب الوطنية – وفي طليعتها إنتاج مقاومةٍ مسلحةٍ شاملة يلتقي في صفوفها الإسلاميون كما العلمانيون الديمقراطيون، سواء بمواجهة إسرائيل أو بمواجهة الإدارة الأميركية وحلفائها – بالمطالب الاجتماعية والديمقراطية، وفي واجهتها الأمامية مطلب إلغاء الطائفية السياسية وإرساء قانون مدني للأحوال الشخصية والإرث، على أساس المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. فضلاً عن السعي لإجهاض التوجهات المعلن عنها حالياً، لدى كلا طرفي الصراع لدينا، إلى إقرار قانون للانتخابات النيابية على أساس القضاء، وبالتالي الاقتراع الأكثري، واستبدالها بالتوجه إلى انتخاب جمعية تأسيسية على أساس التمثيل النسبي ولبنان دائرة واحدة، يكون في مقدمة اهتماماتها تحقيق خطوات جدية على طريق تجاوز البنى الطائفية المتحجرة. ذلك أنه بقدر ما نتقدم أكثر نحو العلمنة الشاملة للمجتمع والدولة اللبنانيين، بقدر ما تنضج عندئذ إمكانية تجاوز ذلك «القَدَر» البائس، المتمثل في تحول الثورات سريعاً لدينا إلى حروب أهلية طائفية، والقدرةُ على إنجاز ثورة حقيقية على المستوى اللبناني البحت قد تلعب دوراً حاسماً لا في تغيير الصورة الراهنة لهذا الوطن الصغير وحسب، بل كذلك في تعميم هذه الصورة على كامل الوطن العربي، وهو ما يخشاه أشد الخشية شتى الملوك والرؤساء العرب، الذين أبدى العديد منهم هلعه إزاء صمود لبنان في وجه عدوان تموز- آب 2006، الإسرائيلي- الأميركي.
إن ثورة 1789 اللبنانية التي لم تتم إلى الآن، يمكن ويجب أن تتم. ومثلما أنتج الأصل الفرنسي ارتدادات هائلة على امتداد أوروبا بأسرها، يمكن أن يفعل الشبيه اللبناني المنشود بدوره الفعلَ نفسه في محيطه العربي.