الحكمة الغائبة في حركة التحرر الفلسطينية


سامر سليمان
2008 / 2 / 8 - 12:01     

جورج حبش فارق الحياة. مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وزعيمها رحل. ولكنه ورفاقه تركوا للشعب الفلسطيني تركة تتلخص في مبدأين لا أعرف كيف للشعب الفلسطيني أن يتحرر بدون البناء عليهما؟ أولاً هدف التحرر الفلسطيني هو بناء دولة ديمقراطية علمانية لكل مواطنيها بما فيهم اليهود. ثانياً التمسك بحق الفلسطينيين في استخدام الوسيلة العسكرية لتحقيق هدفهم الوطني والإنساني، طالماً كانت هذه الوسيلة مفيدة للكفاح الفلسطيني. هذا هو الميراث الأهم لحبش.

"مات حبش على فراش المرض بالرغم من أن رفاقه تمنوا له الموت في ساحة القتال." هكذا كان التعليق السمج لمراسل قناة الجزيرة. لكن التصريحات والأحاديث التي سمعتها لرفاقه بعد وفاته لا تشي بأنهم تمنوا له الموت، لا على السرير ولا في ساحة الوغى. غباء تعليق المراسل لفت نظري إلى أحد مشاكل حركة التحرر الفلسطينية.. سيطرة رجل السلاح على رجل السياسة أي هيمنة الأجنحة العسكرية على الحركات السياسية. القائد السياسي الحق – في السياسة الفلسطينية والعربية عموماً - هو من يبرز قدراته في ساحة الوغى. ولما لا والكثير من نظم المنطقة عسكرية؟ ولأن حديد السلاح لا يفله إلا حديد الايدولوجيا أو العقيدة المطلقة لذلك كان على السياسة أن تستقوي بالايدولوجيا.. قومية كانت، أم يسارية. ماركسية كانت أم إسلامية. فالعقيدة هي ما تعطي للقائد السياسي تميمة يستطيع بواسطتها أن يناطح الماسك بالبندقية. لذلك سيطرت العقائد على حركة التحرر الفلسطينية، لكي توازن قوة السلاح. حركة التحرر الفلسطينية تمتلك قبضة حديدية قوية (رجال ونساء أشداء) كما تمتلك قلباً مؤمنا جسوراً (عقائد)، ولكنها لا تمتلك إلا قليل من العقل السياسي الراجح (برنامج للتحرير). بغياب الدكتور جورج حبش أو "الحكيم" كما كانوا يطلقون عليه، فقدت فلسطين أحد عقولها السياسية الراجحة. كان أخر ما سأل عنه حبش قبل رحيله هو حال غزة، وكان أخر ما أوصى به هو الوحدة الوطنية، تلك الوحدة التي داستها أقدام المتصارعين الفتحاويين والحمساويين.
سؤال يلح علي من وقت لأخر.. لماذا نجحت جنوب أفريقيا بينما فشلت فلسطين؟ لماذا استطاع المؤتمر الوطني الأفريقي أن يأتي للسود بالمواطنة أي بالمساواة القانونية الكاملة مع البيض وبالسلام؟ ألا يمكن أن يكون ذلك بسبب الطابع الوطني والإنساني الذي تمسكت به حركة التحرر هناك؟ الوطنية تعني أن تخلص لقضية وطنك ولشعبك قبل أي شيء أخر، وأن تضع نصب عينك وحدة هذا الوطن بكل فئاته وجماعاته. الوطني هو من يقدس أخوة الوطن. والإنساني يعنى أن تضيف للإخلاص الوطني قيماً إنسانية، فتصبح قضيتك الوطنية هي قضية إنسانية عادلة يستحي أي إنسان حقيقي في العالم أن ينكرها عليك. هذا ما نجحت حركة التحرر في جنوب أفريقيا أن تصوغه. فقد أضافت لنضالها الوطني لتحرر السود قبولاً لبقاء البيض أحفاد المستعمرين سالمين في البلاد بعد كسر شوكة عنصريتهم وإخضاعهم لمبدأ المساواة. إن القبول بمبدأ بقاء البيض في جنوب أفريقيا حمى حركة التحرر الوطني هناك من ارتكاب ظلم أن يدفع أحفاد المستعمرين البيض ثمن جرائم أجدادهم. لذلك أضافت الحركة بعداً إنسانيا لبعدها الوطني، ولهذا أصبحت قلوب وعقول كل البني أدمين في العالم معهم. وهذا البعد الإنساني كان ضرورياً بالمنطق السياسي العملي البحت. فبدونه ما كان للسود في جنوب أفريقيا أن يحصلوا على الدعم غير المحدود لقضيتهم من كل أحرار العالم. وبدونه ما كان لهم أن ينجحوا في اختراق معسكر الأعداء لكي "يجندوا" قطاعات هامة من البيض الجنوب أفريقيين لصالح قضيتهم. لا يزال حلم الدولة العلمانية الديمقراطية صالحاً للتداول. حسناً.. سيقولون أنه حلم طوباوي. فهل هو أكثر طوباية اليوم من حلم الدولتين الذي قالوا لنا أن الحل الوحيد الواقعي؟
ما نجح فيه الرفاق في جنوب أفريقيا فشل فيه الأخوة في فلسطين. التيار القابل بفكرة الدولة العلمانية الديمقراطية التي تقوم على المساواة بين المواطنين المسلمين واليهود والمسيحيين والدروز وغيرهم على كامل التراب الفلسطيني لا يزال أقلية في فلسطين. قبول مبدأ بقاء اليهود من أبناء وأحفاد المهاجرين المستعمرين في فلسطين لم يحصل أبداً على أغلبية داخل المجتمع السياسي الفلسطيني. بل أن التيار السياسي الغالب على فلسطين اليوم – حماس والجهاد - يرتكب أكبر خطأ في حق القضية الفلسطينية وهو الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل. لصق صفة اليهودية بدولة إسرائيل هو شرف لا تستحقه هذه الدولة. لأن إسرائيل دولة ضارة للبشرية، ولكن الكثير من اليهود كانوا نافعين لأوطانهم وللبشرية. والكثير من اليهود في العالم لا يعتبروا إسرائيل معبرة عنهم ولا معبرة عن اليهودية. لقد قدم جورج بوش مؤخراً هدية ثمينة لإسرائيل بأن اعترف بيهودية الدولة الإسرائيلية. ولكن الكثيرين من العرب والفلسطينيين قدموا هذا الاعتراف منذ زمن طويل! وبعد ذلك يقولون أنهم لم يعترفوا بإسرائيل. الحق أنهم اعترفوا بها حين قالوا أنها دولة يهودية، حينما اعترفوا بما تقوله تلك الدولة عن نفسها. لكن الحقيقة أن إسرائيل ليست بنت اليهودية وإنما رد فعل للفاشية الأوروبية، وللعداء الأوروبي/المسيحي للسامية. ما كان لإسرائيل أن تقوم لو لم يكن هناك اضطهاد منظم لليهود في أوروبا وصل إلى أوجه في ظل الفاشية.
دافع اليسار الفلسطيني والعربي كثيراً عن حل الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني. كما دافع بضراوة عن التمييز بين اليهودية والصهيونية. لكنه خسر مواقع كثيرة في السنوات الأخيرة. الجهل العربي ساد وطغى. عندما عاتبت أحد الصحفيين في جريدة أسبوعية على الشتيمة المنهجية لليهود، وعدم التمييز بين اليهود والصهاينة، قال لي أن الناس العاديين لا تفرق بين الاثنين، فلماذا نصدع دماغهم بالتأكيد على تفرقة لن تفيد كثيراً من الناحية العملية؟ هنا تكمن العلة.. حينما يتصور المثقف أو السياسي أنه سيحقق أي شيء بدون أن يصطدم بما هو مقبول ومتعارف عليه بالضرورة. الحقيقة أننا لا نملك ترف العداء لليهود. لأن اليهود جزء من تاريخ فلسطين والمنطقة. إذا كانت المنطقة تريد الخلاص من اليهود واليهودية فعليها أن تعود عدة ألاف من السنين إلى الوراء أيام الكنعانيين، أو المصريين القدماء, عندما كانت الثقافة اليهودية والديانة اليهودية محصورة في قبائل العبرانيين. فهل يمتلك أحدهم آلة للزمن؟
المبدأ الثاني الذي تمسك به جورج حبش هو الحق في الكفاح المسلح، وهو نفس المبدأ الذي قضى نيلسون مانديلا عقوداً طويلة في السجن تمسكاً به. لقد تخبطت الجبهة الشعبية في استخدامها للقوة المسلحة عندما انطلقت في السبعينيات وقامت بعمليات خطف طائرات مدنية في الخارج. ولكن مع نضج الحركة تخلت فيما بعد عن هذا النهج واعتبرت أن أوانه قد فات. الكفاح المسلح الذي تعتقد فيه الجبهة الشعبية الآن هو كفاح رشيد. فطالما أن الهدف ليس إلقاء اليهود في البحر فهنا يجب تجنيب الإسرائيليين المدنيين عنف المقاومة قدر الإمكان. لقد تقلصت العمليات العسكرية للجبهة في السنوات الأخيرة. وبالتأكيد ذلك يرجع إلى الضعف الذي انتابها كما انتاب اليسار الفلسطيني في السنوات الأخيرة. لكن يظل أن الجبهة لم تتخل عن مبدأ حق الشعب الفلسطيني في استخدام العنف المسلح، وكانت عملياتها الأخيرة على محدوديتها محكومة بالعقل والحكمة. ألم يُلقب مؤسسها وزعيمها بالحكيم؟ فسلام عليك أيها الرفيق الحكيم، يا من أفنيت عمرك في خدمة قضية شعبك المركزية.. قضية التحرر الوطني الفلسطيني.