التطور اللارأسمالي والتحول إلى الاشتراكية(1)


فلاح أمين الرهيمي
2008 / 1 / 20 - 11:31     

أود القول أني اعبر عما أكتب بما يجيش به قلبي وقناعتي واجتهادي بالأفكار التي في عقلي ( وأرجو السماح لي ) منطلقا من جدلية الفكر الماركسي من حيث الزمان والمكان والشخصية ( حيث الاختلاف وعدم التشابه والتطابق بين أنسأن وأخر ) من حيث البيئة والتكوين النفسي والرؤيا والاجتهاد حيث كل فرد وكل باحث وكل مفكر أو مجتهد يفهم الفكر ويتعامل معه وفق خصائصه الشخصية وتكوينه العقلي والنفسي ) وأنطلاقآ من قاعدة الانتقاد والانتقاد الذاتي واحترام الرأي والرأي الأخر وحرية التعبير والنقاش الفكري الهادئ الشفاف والبناء. لابد من وقفةٍ فيها نداء حي واستدعاء صارخ للماضي والحاضر والمستقبل فأطلق ما يجيش من الم وحسرة تختبئ في زوايا الفؤاد وبين حناياه فأقول: إلى الأعزاء المحترمين من أولئك المفكرين والمنظرين والباحثين الذين أخذوا يكيلون التهم والتشكيك وحتى الشتائم على النظرية الماركسية العلمية وعلى مفكريها وحاملي رايتها الخفاقة بعد سقوط وانهيار النظام الاشتراكي... أقول أين كنتم أيها السادة الأفاضل من هذه الحقبة الطويلة التي بلغت سبعة عقود من الزمن عاشها الاتحاد السوفيتي وفيما بعد دول أوربا الشرقية ؟ أنني أتساءل بحق رب اللات والعزى... الم تحضروا المؤتمرات والندوات و ( الكومتزن ) التي عقدتها الأحزاب الشيوعية في المعسكر المنهار ؟
ألم يكن أكثركم من الشيوعيين والعارفين المطلعين على جميع مؤلفات ماركس وانجلز ولينين وستالين وبليخانوف وتروتسكي وغيرهم ؟
أن الذي يؤسف له أن البعض من هؤلاء السادة أنجرف مع بعض المثقفين من دعاة التغيير نحو الأفضل وانضموا إلى كورس التطبيل والتزوير لانتصار النظام العالمي الجديد علما أن الأمانة الفكرية تقتضي منهم الصمود ومواجهة الافتراءات والتزوير المجحف بحق الخيار الإنساني للبشرية هي أحوج له من أي وقت أخر والمفروض بهم التحذير والتنبيه والنقد واستعمال إمكانياتهم وقابلياتهم الفكرية والنظرية لتجاوز تلك المرحلة قبل السقوط والانهيار وليس بعد السقوط مما جعل الإحباط واليأس يسيطر ويستحوذ على الملايين من الشيوعيين مما جعل البعض من الشيوعيين أن يرتمي في أحضان الليبرالية ويغيروا أسماء أحزابهم وبرامجهم وأنظمتهم الداخلية بما ينسجم والمرحلة الجديدة كان المفروض بهم تجاوز هذه الأخطاء والبدء والعمل من أجل نظام اجتماعي عادل يوفر الفرص أمام الجميع بالتساوي أو إلى نظام اشتراكي منفتح ومنقح من أخطاء النظام الاشتراكي السابق حين أسوق هذه الملاحظة لآن للثقافة فعل ودور في قيادة الشعوب نحو المستقبل الأفضل يقول الفيلسوف الشيوعي ( غرامشي): (أن خلق ثقافة جديدة لايعني الاقتصار على الاكتشافات الفردية الاصيله بل يعني أيضا وبشكل خاص البث النقدي للحقائق المكتشفة أي جعلها تصبح حقائق اجتماعية كما يقال وتحويلها إلى قاعدة للأعمال الحيوية لان دور المثقفين الطبيعي وبحكم معرفتهم هو تنوير الطريق خصوصا أمام هذه الصورة القاتمة لعالم يقبع في ظلام اجتماعي لا مثيل له جراء هذا التفرد الأحادي لإرادة الرأسمال العالمي الذي لا يعكس برأينا الطبيعة البشرية المتعددة الأبعاد آذ أن سيادة هذا الواقع ستؤدي إلى صنع وتكوين إنسان مستلب من القيمة الإنسانية السامية، آي أنسأن ذي بعد مادي واحد فقط يتطابق مع أحادية سلطة رأس المال العالمي).
أن بعض المفكرين والباحثين من الشامتين والمتشككين حفروا القبور والزوايا للبحث والاستدلال في موضوعات مضى عليها الزمن ودفنت مع مفكريها وحتى لو أنها كانت أفكار مغلوطة وبعيدة عن الحقائق ومما يؤسف له كان أكثرهم تشكيكا هو الدكتور الفاضل العراقي ( فالح عبد الجبار ) حيث يقول وكذلك الآخرين: إن ماركس لم يستطع أن يكمل نظريته بسبب وفاته... هذا القول ملفق وعار عن الصحة، أن ماركس أستطاع أن يكتب ويكمل ( النظرية المادية التاريخية ) و ( النظرية الديالكتيكية ) والاشتراكية العلمية ماعدا الجزأين الأخيرين من كتاب رأس المال. تقول كتب التاريخ ( كان الرفيقان ماركس وانجلز كتوأمين يكمل أحدهما الأخر حتى أصبح أسم أنجلز ملازما دائما لاسم ماركس وعندما توفى ماركس بقي أنجلز حاملا لواء الماركسية وأتم القسمين اللذين تركهما ماركس من مؤلفه ( رأس المال ) فجمع أنجلز مخطوطات رفيقه الأكبر ونشرهما على أسمه ( آي ماركس ) وعندما وقف أنجلز يرثي ماركس على القبر نعته بأكبر مفكري العصر وأكثرهم أخلاصا وأسخاهم خدمة وتضحية. وهذه ما تكشفه الحقائق والتاريخ وليس التلفيق.
أما الموضوع الفكري النظري الثاني الملفق الذي يعتبرمن أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي ( في روسيا لحظة الاستيلاء على السلطة لم تكن تملك الشروط المادية لقيام الاشتراكية بسبب تخلف تطور قوى الإنتاج في روسيا والطابع البورجوازي الصغير لرأسماليتها وعدم بلوغ العلاقات الرأسمالية فيها درجة النضج الكافي لانجاز البناء الاشتراكي وقد سميت (بالعبور على مراحل )) أما الحقيقة والواقع فأن الكتب والتاريخ تقول: لقد وضع العبقري الفذ لينين خطة انتقال البلدان المتخلفة إلى الاشتراكية متجاوزة مرحلة الرأسمالية وقد برهن هذا القائد العظيم الملهم أنه من أجل الانتقال من مرحلة الإقطاعية إلى مرحلة الاشتراكية يجب إسقاط سلطة المستثمرين وإقامة سلطة العمال والفلاحين وتقديم المساعدة من أجل الانبعاث الاقتصادي والثقافي للشعوب المتأخرة وبرهن هذا القائد العبقري (لينين) على انه لاضرورة مطلقا لتطوير الرأسمالية ومن ثم القضاء عليها فيما بعد فبديل الرأسمالية هنا هو طريق التطور اللارأسمالي الذي لا يشكل مرحلة وسطا بين الرأسمالية والاشتراكية بل جزءً أساسيا من خطة تحويل المجتمع تحويلا اشتراكيا.
في أواخر العقد الخامس من القرنين المنصرمين قام كارل ماركس وفردريك أنجلز بصياغة نظرية طريق التطور اللارأسمالي ثم دأبا على دراستها وتطويرها طوال فترة دامت زهاء نصف قرن وأن مؤسسي النظرية الماركسية اللذين كرسا أبحاثهما العلمية لكشف النقاب عن قوانين ظهور التشكيلة الرأسمالية وتطورها ومن ثم ضمورها قد ضربا في الوقت ذاته أعظم مثال فالتنبوء وبإمكانية تجاوز هذه التشكيلة أو على الأقل تقليص طريق التطور الرأسمالي على نحو ملموس. واستنادا إلى تحليل أسلوب الإنتاج الرأسمالي والاقتصادي الاستعماري في أواخر الخمسينات من القرن التاسع عشر ترسخ لدى ماركس وانجلز يقين بأنه لا توجد حتمية تاريخية تقضي بأن كافة الشعوب يجب أن تمر بمرحلة الرأسمالية بعد أن تملك الثورة الاجتماعية العظمى ناصية منجزات العصر البورجوازي وتستحوذ على السوق البورجوازية والقوى المنتجة المعاصرة وتخضعها لرقابة مشتركة تمارسها أكثر الشعوب طليعية. وحينما يتم ذلك فأن الشكل الرأسمالي للتقدم ينتفي كسبيل وحيد للتطور الاجتماعي والعلمي التكنيكي ولا يعود تقدم البشرية ( يحاكي ذلك الصنم الوثني المقرف الذي كان يعزف عن أرتشاف الرحيق إلا إذا قدم إليه في جماجم الأموات ) كما أن الشرط السياسي الحاسم للتطور اللارأسمالي يكمن في الثورة الشعبية ويرى مؤسسا النظرية الماركسية أن طريق اختزال الرأسمالية لا يتمثل في الإبقاء بشكل مفتعل على أشكال الوجود الاجتماعي السابقة للرأسمالية والتغزل بها بل في النهوض بجماهير الشعب لخوض غمار الثورة التي تكون في بادئ الأمر موجهة ضد الاستغلال الإقطاعي أو شبه الإقطاعي وتغدو عقبة تعترض طريق الرأسمالية وتستثمر التقاليد الجماعية العريقة للارتقاء بالشعوب إلى درجة جديدة من التطور التاريخي.
لقد برهنت مجمل تجارب وممارسات الاتحاد السوفيتي السابق الروح العلمية الحقيقية وحيوية هذه النظرية الخلاقة التي فندت ولا تزال تفند المزاعم والأقوال المشككة والشامتة والانتهازية حول حتمية البلدان المتخلفة بمرحلة التطور الرأسمالي فخلال أقصر فترة تاريخية حققت جملة من الجمهوريات السوفيتية السابقة والمقاطعات والمناطق التي يربو تعدادها خمسة وثلاثين نسمه حققت بقيادة ومساعدة الحزب الشيوعي وجماهير الشعب المناضلة نقله إلى مرحلة الاشتراكية منفلتة من براثن الإقطاع والتشكيلات الاجتماعية السابقة لمرحلة الإقطاعية ومن العلاقات الرأسمالية الضعيفة التطور والمشوبة بترسبات أقطاعية وذلك بشكل واضح في تجربة الجمهوريات المتحدة بأوزبكستان وكازاخستان وطاجكستان وقرغيزيا وتركمانيا وفي عدد من المقاطعات والجمهوريات ذات الحكم الذاتي والأقاليم القومية في أقصى مناطق الشرق والجنوب والشمال في الاتحاد السوفيتي السابق كما كانت النظرية الماركسية – اللينينية حول تجاوز الرأسمالية الأساس والمرشد لكادحي جميع بلدان الشرق المستعمرة التي لم تمر بمرحلة الرأسمالية ولقد طبقت هذه النظرية بنجاح في بلدان مثل جمهورية منغوليا الشعبية وجمهورية فيتنام الديمقراطية وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية.
لقد طرح لينين أمام القوى التقدمية في الشرق مهمة على قدر عظيم من الأهمية التاريخية ( ينبغي عليكم استنادا إلى النظرية والممارسة الشيوعيتين العامتين وبالتكيف مع الظروف المتفردة التي لا وجود لها في البلدان الأوربية أن تتمكنوا من تطبيق هذه النظرية والممارسة على الظروف التي يشكل فيها الفلاحون الجمهور الرئيسي ) أن ما رمى إليه لينين ليس خصائص ظروف بلد فحسب بل أنه كان يتحدث عن صياغة مواقف مبدئية من التحولات الثورية.

أن ما تقدم ينبغي أخذه بنظر الاعتبار عند دراسة ما ألت إليه لاحقا فكرة التطور اللارأسمالي في الماركسية – اللينينية على الصعيدين النظري والعملي ولقد تجسد الطابع الخلاق لهذه الفكرة وحيويتها وخصبها على أن الحركة الشيوعية العالمية دأبت كل مرة على تعميمها وتجديدها تكيفا مع ظروف العصر الراهن من حيث الزمان والمكان والمتغير باستمرار، فقد أتضح من خلال الممارسة العلمية أن التطور اللارأسمالي هو أحد الطرق الرئيسية للتقدم الاجتماعي والاقتصادي وانه يشرع أمام الشعوب التي كانت مستعمرة أو شبه مستعمرة الأبواب المفضية إلى الاشتراكية ولقد غدا التطور اللارأسمالي آمرا واقعا في الحياة الاجتماعية والسياسية في بلدان آسيا مثل الصين وكوريا الشمالية وفيتنام الاشتراكية وفي أميركا ألاتينية وكوبا الاشتراكية التي سنشير في موضوعنا هذا إلى تطورها من المرحلة الإقطاعية وشبه الإقطاعية والبرجوازية الطفيلية والسيطرة الأمريكية وانتقالها إلى المرحلة الاشتراكية متجاوزة مرحلة الرأسمالية أو كما يسمى ( بالطفرة على مراحل ) ففي سنة 1959 وبعد انتصار الثورة في كوبا شهدت سلسلة من الإجراءات الثورية فقد تمت السيطرة على الشركة الأميركية للتلفون وخفضت بدلات الإيجار إلى النصف وفتحت شواطئ السياحة أمام الملونين التي كانت السلطات السابقة تحرمهم من السياحة بها وشرع أول قانون للإصلاح الزراعي الذي أستهدف في الأساس الأراضي الواسعة التي كانت تستحوذ عليها الشركات الاحتكارية الأميركية ولاسيما مزارع السكر كما خفضت أجور الكهرباء ووضعت الخطط والتدابير لمعالجة المظاهر المتفاقمة للبطالة وتحسين الظروف والأوضاع الثقافية والصحية لجماهير الشعب وقد تم أيفاد ألاف المعلمين إلى الريف وشرع ببناء المستشفيات في القرى النائية في جميع أنحاء البلاد وتم استئصال ظاهرة المقامرة وتعاطي المخدرات والتهريب وتصفية ظاهرة البغاء الذي كان القدر السيئ والتعيس والمذل لإنسانية عشرات الألوف من النساء الفقيرات وقد قضي نهائيا على الفساد الإداري وتصفيتها من العناصر المرتشية والمخربة والمأجورة وخلال فترة وجيزة بدأ العمل بنجاح لإزالة الأكواخ والمساكن القذرة وصفيت بالتدرج المشاهد المذلة للاستجداء لقد تحقق ذلك بالرغم من الوضع الاقتصادي المريع فقد كانت أسعار السكر في هبوط واحتياطي البلاد من العملات الأجنبية قد نهب من جانب الطغمة الحاكمة وقطعت الولايات المتحدة الأميركية أعتماداتها ومساعداتها التجارية وهبطت إلى حد كبير أستيرادات البلاد من السلع والحاجيات الضرورية مما أضطر الدولة إلى اتخاذ إجراءات تقشف عسيرة ولكن ليس على حساب الفئات الفقيرة من أبناء الشعب فقد أوقف استيراد السلع الكمالية وطبق نظام توزيع المواد الضرورية بالبطاقات، لقد كان على الثورة أن تتماسك أمام الصعوبات القاهرة وان تتخذ ماهو ضروري وعادل من الإجراءات استعدادا لمرحلة جديدة من النضال المستميت ومن أجل البقاء، فالولايات المتحدة الأميركية التي أخفقت في إحباط انتصار الثورة من خلال محاولاتها تدبير انقلاب عسكري مسلح قد لجأت إلى الوسائل الدبلوماسية فاعترفت بحكومة الثورة وأوفدت إلى كوبا سفيرا لها سعى دون جدوى لتحقيق أهداف الامبريالية الأميركية في إيقاف تقدم الثورة أو (تدجينها) وبالعكس فقد تم منذ الأشهر الأولى للثورة طرد ( البعثة العسكرية الأميركية ) التي كانت تدرب جيش ( باستا ) للقضاء على الثورة في كوبا.