الصعود والتطور السلمي في الوصول للسلطة(1)


فلاح أمين الرهيمي
2008 / 1 / 15 - 11:37     

لقد أدى انهيار المعسكر الاشتراكي إلى تسلل اليأس والإحباط وتزعزع الثقة بالنظرية الماركسية العلمية وأدت إلى اختلاط الرؤيا والأفكار والأوراق لدى كثير من الشيوعيين في العالم وأفرزت تلك الظاهرة الكثير من السلبيات والانشقاقات والانسحابات والانهيارات في الأحزاب الشيوعية وتعددت الرؤيا والاجتهادات والتفسيرات حول ذلك الانهيار المفاجئ الذي باغت وفاجئ كثير من الشيوعيين إلا أن الحقائق والوقائع وما كشفته الإحداث والتصريحات وما تناقلته وسائل الأعلام والكتب والمجلات أن المفكرين والباحثين والمنظرين كانوا يعلمون ويتابعون التطورات والإحداث في الاتحاد السوفيتي وبلدان المعسكر الاشتراكي وكان المفروض بهم معالجة تلك الظواهر والعثرات التي كانت ليس بمستوى الحدث ( الانهيار للنظام الاشتراكي ) ولكن الإحداث أخذت تتوالى وتسبق الزمن في تطوراتها بفضل قيادة ( غورباتشوف ) الذي كان حسب ما صرح به فاقد الثقة بالاشتراكية مما جعل الوضع الداخلي يتدهور وكانت تغذيه وتشجعه عناصر من الطابور الخامس ومن المندسين من أتباع مخابرات ومخربين من الدول الغربية وأمريكا إضافة إلى التخريصات التي كانت تطلقها إذاعة صوت أوربا الحرة وأخيرا أنتهي الصراع لصالح أعداء الاشتراكية وأنصار النظام العالمي الجديد ونتيجة للصدمة المروعة واختلاط الأوراق والالتصاق العضوي بين الماركسية والاشتراكية في وعي عامة الناس مما جعل البعض يلقي التهم جزافا على الماركسية حينا وعلى الاشتراكية حينا أخر دون التفكير في طريق الخروج من المأزق الراهن فيغض النظر عمن يتحمل المسؤولية في فشل هذه التجربة العظيمة، وحتى لاتقع في دوامة الجدل البيزنطي ( الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة ) كما يقول الأستاذ نديم مجدي في كتابه ( بيان الأطياف ) لابد من أن يتحمل المنظرون والباحثون والمفكرون مسؤوليتهم والعمل والمشاركة في أيجاد حلول منسقة مع المعاني الإنسانية في الاشتراكية العلمية والاستفادة من الأخطاء وتجاوز التجربة السابقة من دون الاستعجال في أطلاق الأحكام المبرمة بحق حاجات المجتمع المعاصر لبدائل تستند على الاشتراكية العلمية بما هو سائد في معانيها وعناوينها حتى يتضح أكثر فأكثر جلاء الصورة بكل معالمها وتجاوز الخطابات المشوشة ونجعل تلك النظرية الخلاقة هي أملنا وخيارنا في المستقبل المشرق السعيد للبشرية جمعاء أن انهيار المعسكر الاشتراكي أدى إلى انسحاب وتقاعد قيادات كبيرة ومجربة وتركت الساحة والعنان إلى عناصر شابة تأثرت بما شاهدته وسمعته وقرأته عن العالم الجديد وتطوراته التكنولوجية والثورة المعلوماتية في الاتصالات مما جعلت العالم (قرية صغيرة) واستطاعت أفكارها أن تخترق حتى جدران بيوتنا ولم تقتصر على أفكار الشباب وتوجهاتهم وأرائهم، ونتيجة لذلك ظهرت بالأحزاب الشيوعية رؤيا واجتهادات جديدة منسجمة مع اتجاهات وأحداث العالم الجديد كتغيير أسماء الأحزاب الشيوعية إلى أسماء أخرى (بالوقت الذي يمثل اسم الحزب تراث وتاريخ لنضال جميع أعضاء الحزب الشيوعي القدامى والذي يتناسق مع حياتهم النضالية كما بادر القسم الأخر إلى تغيير الرايات والأعلام التي كانت ترمز لثورية ونضال الحزب الشيوعي والقسم الأخرأختارالاعتكاف عن الصراع الطبقي والنضال الثوري والابتعاد عن دور شغيلة الفكر واليد والمناضلين الآخرين وفضلوا الصعود والتطور السلمي لاستلام السلطة ).
ففي حالة وجود الحزب الشيوعي على رأس السلطة واستطاع أن يحقق إنجازات ومكاسب للشعب وشاءت الظروف الداخلية والتطورات اللاحقة أن تؤدي إلى خروج الحزب الشيوعي من السلطة (كما جرى في نيكاراغوا وبلدان الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي) وصعود قوى مناوئة ومعادية للحزب الشيوعي إلى السلطة، كيف يستطيع الحزب الشيوعي المحافظة على تلك المنجزات والمكاسب ؟
أن الحزب الشيوعي حينما يستلم السلطة عليه أن يترجم الفكر الماركسي الخلاق ويقوم بتأميم وسائل الإنتاج والمؤسسات والمشاريع والأراضي الزراعية الكبيرة بحيث تصبح ملكيتها تابعة إلى الشعب وألا ماهي المكاسب والانجازات التي يحصل عليها الشعب حينما يسعى ويناضل ويضحي بكافة شرائحه من شغيلة ومضطهدين ومحرومين ومستغلين ؟
ليس المهم أن تعلق أسم الحزب الشيوعي على لافته معينة وليس المهم أن تدرج وتكتب برامج ومناهج الأحزاب على صفحات الجرائد والكتب ولكن المهم كما يقول المفكر الألماني نيتشه: ليست العظمة عندي أن تتحمل أحكام الضرورة وتصبر عليها وتحبها ولكن واآسفاه ما أسهل القول وأصعب العمل كقول الشاعر (لوركا) عندما خاطب حبيبته ( ماريانا):
ماالانسان من دون حرية يا ماريانا ؟ قولي لي : كيف أستطيع أن احبك إذا لم أكن حرا؟ كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي ؟
لازالت محفورة في ذاكرتنا أحداث وأفعال وتصرفات وسلوك القوى المعادية للاشتراكية وعلى سبيل المثال: إسقاط الحكومة الشيوعية في كيرا لا أحد المقاطعات الهندية من قبل البورجوازية الهندية بقيادة بانديت نهرو رئيس وزراء الهند الراحل وإسقاط حكومة ( لومومبا ) في الكونغو الشعبية عن طريق تحريض قطعات عسكرية ضدها بقيادة ( تشومبي ) وبتحريض من الامبريالية الأميركية والرأسمالية البلجيكية وأدى إسقاط حكومة لومومبا إلى تقسيم الكونغو إلى ولايات ومقاطعات اقتسمتها الدول الاستعمارية وإسقاط حكومة ( الليندي ) اليسارية في جمهورية تشيلي في أمريكا الجنوبية على يد الجيش بقيادة الجنرال ( بينوشت ).
كما أن الحكم البرجوازي في أية دولة تخضع لسلطة الطبقة البرجوازية تؤسس وتبني قوات تسلطية وضاربة من الجيش والشرطة والأمن والأجهزة الإدارية تخدم مصالحها وتدافع عنها عند تعرض مصالحها أو وجودها للخطر وكثير من الدول التي تحدث فيها حركات انقلابية ويكون فيها الحكم للطبقة البورجوازية لا تقضي كليا على الطبقة الإقطاعية السابقة أو ما كنتها العسكرية والقمعية من الشرطة والأمن وإنما تبقيها وتنميها وتطورها وفق النموذج الجديد الذي يخدم مصالحها البرجوازية وتبقى تلك القوات مرتبطة أخلاقيا وأدبيا وطبقيا فالطبقة السابقة التي كانت تحكم البلاد ،الطبقة الإقطاعية وأنصار النظام والبرجوازية التجارية الطفيلية ) والدليل على ذلك حكومة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958م حيث أبقت القوى القمعية من الشرطة والأمن في العهد الملكي المباد على وضعها بعد قيام حكومة الراحل عبد الكريم قاسم كما بقيت تلك القوات القمعية على علاقة وطيدة مع القوى الرجعية وأنصار الحكومة البائدة في العهد الملكي وكانت هذه القوى تحرض الشرطة وقوات الأمن ضد الشيوعيين وتلقي القبض عليهم وتحيلهم إلى المحاكم بتهم ملفقة مثل ( شتم الزعيم عبد الكريم قاسم أو التهجم على الثورة ) وكان رئيس المجلس العرفي الأول من ضمن الزمرة الحاقدة والمعادية للشيوعيين تصدر أحكامها الجائرة ضدهم وعندما تعرضت حكومة الراحل عبد الكريم قاسم للانتكاسة والارتداد وفتور العلاقة بينه وبين الشيوعيين قامت تلك القوات القمعية من الشرطة والأمن بشن حرب قاسية وفاشية ضد الشيوعيين وكانت تنفذ أكثر مما تؤمر به وتحضرني ألان قصة واقعية وطريفة عن تلك الفترة حيث كان أحد رجال الأمن أسمه ( عمران أبو ريمه ) رحمه الله وكان هذا الرجل تقاريره الأمنية منصبة على الشيوعيين فقط وفي أحد الأيام طلبه مدير الأمن وقال له: يا عمران أن جميع تقاريرك تصب ضد الشيوعيين ولم تكتب لنا في يوم من الأيام عن نشاط وتحركات البعثيين والقوميين، فأجابه رجل الأمن ( عمران ) قائلا سيدي صار لي خمسة وعشرون عاما في هذه الخدمة ولم أعرف من السياسيين سوى الشيوعيين فقط فضحك مدير الأمن وقال له: أذا لم تعرف سوى الشيوعيين أستمر في الكتابة عنهم. وبالمناسبة كان هذا رجل الأمن في العهد الملكي المباد مكلف بمراقبة الشخصية الوطنية البارزة ونصير السلم الراحل الشيخ عبد الكريم الماشطة وفي أحد الأيام حينما كان المرحوم الشيخ الماشطة في السوق يتبضع منه الخضروات والحاجيات الأخرى فألتفت الشيخ الراحل يبحث عن عتال يحمل معه البضاعة إلى دارهم فلم يجد أحد منهم ماعدا رجل الأمن ( عمران ) الذي كان يقف بالقرب منه والمكلف بمراقبته فأشار إليه المرحوم الشيخ الماشطة بمساعدته وحمل البضاعة معه إلى دارهم على اعتبار أنه مكلف بمراقبته وأين ما يذهب الشيخ يذهب خلفه... فوافق رجل الأمن ( عمران ) يحمل البضاعة وكان يسير خلف المرحوم الشيخ الماشطة حتى وصلا إلى دار المرحوم الشيخ الماشطة فمد الشيخ يده إلى جيبه وأخرج منه مبلغ خمسين فلسا وقال لرجل الأمن ( عمران ) هذه الأجرة التي كنت أعطيها إلى العتال الذي يحمل البضاعة معي وبما أنك أوصلت البضاعة معي فلتأخذ أجرة أتعابك... فرفض رجل الأمن ( عمران ) تسلم المبلغ فشكره الشيخ الراحل ودخل داره.