القوانين البريطانية وتطور الصحافة الفلسطينية


محمد باسل سليمان
2008 / 1 / 11 - 11:07     

(1918-1948)
تقديــــم

وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني في 9 كانون الأول (ديسمبر)1917م. وقد أرادتها بريطانيا مرتكزا لملاحقة فلول الجيش التركي في الولايات العربية المحيطة تمهيدا لهزيمة تركيا وتمكين الولايات العربية من الاستقلال الوطني.
وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى تداعت كل من بريطانيا وفرنسا في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1918م إلى إصدار بيان شامل للعرب (بمن فيهم الفلسطينيين) قالتا فيه: "إن السبب الذي لأجله حاربت فرنسا وإنجلترا في الشرق هو رغبتهما في تحرير شعوبه من ظلم الترك واستعبادهم، وخلاصهم من عسف الألمان ومطامعهم. وقبل هذا وذاك فإن السبب الرئيسي هو تأليف حكومات وإدارات وطنية حرة تنتخب حسب رغائب الأمم وتستمد سلطتها منها.... وإن انجلترا وفرنسا تدعوان الأعيان إلى المبادرة والمباشرة بذلك.... وقد بدء بذلك في سوريا والعراق وبلدان عربية أخرى ، التي تمكنت من إقامة دولها الوطنية. إلا أن هذا الأمر تعذر على الفلسطينيين الذين وجدوا أن وطنهم لم يستقل، شأن البلدان العربية الأخرى، وانما وقع تحت وطأة الاستعمار البريطاني. ولم تجد محاولات الشعب الفلسطيني المبكرة في مقاومة هذا الاستعمار الذي تكرس بالاعلان الرسمي للانتداب على فلسطين، واستبدال الإدارة العسكرية بإدارة مدنية بريطانية يرأسها مندوب سام لجلالة الملك البريطاني وذلك اعتبارا من 1/7/1920م.
ظلت القوانين التركية النافذة في فلسطين سارية المفعول ابان الاحتلال البريطاني، واستمرت خلال فترة الانتداب.
--------------------------------
على صعيد الصحافة، عاودت الجرائد والمجلات التي سبق وأن توقفت عند بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914م الصدور قبل بداية الاحتلال البريطاني بقدرة أصحاب تلك المطبوعات على انتهاز فرصة وهن الحكومة التركية وخواء إدارتها في البلاد.

مع أن مفهوم الإدارة البريطاني متفوق على مفهوم الإدارة التركي ويبزّه مدنية وعصرنة الا أن الحاكم العسكري البريطاني، ومن بعده المندوب السامي ارتأى اخضاع الصحافة والصحافيين والمطبوعات والنشر والمطابع والمكتبات وجميع وسائل الاتصال والثقافة في فلسطين لأحكام القوانين التركية التي أعلن أنها ستظل سارية النفاذ إلى حين صدور تعديلات لها أو قوانين جديدة تجبّها. ونتيجة لتطبيق أحكام هذه القوانين وتعديلاتها جرت معاقبات جزائية ضد بعض المطبوعات مثل تحديد عدد نسخها المطبوعة، أو منعها من التوزيع أو غير ذلك من العقوبات. وفي الوقت نفسه قيدت حركة بعض الصحافيين "المخالفين" بالاستناد الى بنود متضمنة في تلك القوانين و/أو تعديلاتها.
كما طالت العقوبات حرية الرأي والتعبير، فسجن عدد من الصحافيين لأسباب تتصل بآراء ومواقف سياسة عبروا عنها من خلال مقالات نشروها في الصحافة المحلية. وكان من أبرزهم خليل موسى صاحب مجلة الثقافي الذي سجن بسبب دعوته للانتفاضة عام 1919م، والصحافي عيسى السفري، الكاتب السياسي في جريدة "فلسطين" اليافاوية الذي أعتقل أكثر من مرة .
على هذا الصعيد يشار إلى أن القوانين التركية التي ظلت سارية المفعول في عهد الانتداب البريطاني والتعديلات التي أدخلت عليها خلال ذلك العهد، والقوانين والأنظمة التي أصدرتها سلطات الانتداب البريطاني بشأن المطبوعات والنشر قد أضرّت بصورة مباشرة، ليس على صعيد تصدير الصحف والمطبوعات الفلسطينية إلى البلدان العربية المحيطة فحسب، وإنما على صعيد منع أو تصعيب استيراد المطبوعات العربية والأجنبية من الخارج إلى فلسطين أيضا.
وطالت هذه الإجراءات كذلك مراسلات الصحافيين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين المنتدبين من صحف بلدان الجوار الى فلسطين. كذلك مراسلات الصحافيين العرب الذين كانوا الى الصحف الفلسطينية.
مع أننا لسنا بصدد الاستفاضة في الحديث عن ذلك في هذا المقام لأسباب تتصل بمسار توجه البحث، إلا أنه سيكون مفيدا القول بأن المراجع التاريخية أشارت على هذا الصعيد إلى أن سلطات الانتداب البريطاني قد منعت (46) صحيفة عربية مختلفة الاختصاص والتوجه من الدخول إلى فلسطين خلال سنوات 1934-1939م، وأن عدد المرات التي منعت فيها الصحف من الدخول إلى فلسطين لمرة واحدة خلال تلك الفترة بلغ أكثر من (100)مرة. وقد تعرضت الصحيفة الواحدة من تلك الصحف للمنع مرة أو أكثر في السنة الواحدة .
بشكل عام يمكن القول أن بواطن الكتب والمراجع التاريخية ممتلئة حتى التخمة بالوقائع والبراهين الاستدلالية على مساوئ وسلبيات حركة التشريعات البريطانية في فلسطين، وخصوصا المتعلقة بالمطبوعات والنشر والنتائج التي ترتبت على تطبيقها بالكيفيات المختلفة. وعلى الرغم من كل المساوئ والسلبيات التي يمكن ذكرها، فان لتلك التشريعات وجها آخر وتأثيرا مختلفا ينأى ذوو الاختصاص من الباحثين والمهتمين التوقف عنده لأنه يحسّن صورة الآخر، فكيف بهذا الآخر عندما يكون المستعمر، و/أو العدو.

تحديد المفاهيم

تتضمن مسؤوليات السلطة الحاكمة عادة سن القوانين والتشريعات المختلفة التي تنظم المجتمع وتحدد العلاقات بين مكوناته. وتكون كيفية استخدام التشريعات وتطبيقاتها عاملا رئيسيا في تحديد اتجاه وتوجه النتائج المرجوة من وراء تشريعها. وتمثل في الوقت نفسه العامل الذي يمكن القياس عليه مدى ديمقراطية القوانين، ودرجة عدالة السلطة وجديتها في التطوير. وأهلية المجتمع لقبول التغيير والتفاعل معه، ومن ثم السير على طريق التنمية والتحديث.
لقد أبقت سلطات الانتداب البريطاني على مجموعة التشريعات التركية التي كانت قائمة في فلسطين (بما فيها قوانين المطبوعات والنشر) سارية المفعول، وأكثر من ذلك أنها اعتمدتها كقاعدة انطلاق نحو تأسيس منظومة التشريعات البريطانية التي استكملت فيما بعد وحكمت البلاد بموجبها طيلة عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، وظلت في معظمها واحدا من مكونات الولاية القانونية في إسرائيل بعد ذلك.
إن مقاربة موضوعية لكيفيات تطبيق القوانين نفسها في العهدين، والنتائج المباشرة لهذا التطبيق تشير كما لو أنها قوانين مختلفة. وذلك نظرا لاختلاف المفاهيم والروحية الإدارية التي أخذت تحكم بها بريطانيا البلاد عن طرائق الحاكم التركي وأساليبه الاستبدادية، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته من مجموع ما طرأ على تلك القوانين من تعديلات بدت في مرات كثيرة بشأن قوانين وأنظمة (تركية) كثيرة كما لو أنها تعديلات شاملة. وكان الدافع الرئيسي لتلك التعديلات في معظم الأحيان هو الاستجابة لمتطلبات التطور التدريجي الذي أخذت تشهده البلاد وما اكتنفه من تطوير للصحف والمجلات والمطابع. وكذلك ما أخذت تتمتع به المعالجات والتغطيات التي تنشرها المطبوعات من عصرنة وحداثة في أنواع التغطيات وما اتسمت به من تعدد وتنوع، وكذلك في أساليب الكتابة الصحافية وفي تجويد وترشيق المفردات والتعابير اللغوية.
إن الاستجابة الفلسطينية في مجال الصحافة مع مفاهيم وكيفيات تطبيق قوانين المطبوعات التركية وتعديلاتها والقوانين والأنظمة البريطانية التي صدرت كاستكمال لها عكست مدى الحيوية والجدية في الرغبة الفلسطينية لتطوير وتحديث المجتمع الفلسطيني. وهذا ما أهله للاستدلال على المعاني الجديدة لمنطوق نصوص مواد القوانين وخصوصا ما كان يتصل منها بقضايا الحقوق والواجبات والمدلولات الجديدة لمفردات حرية الرأي والتعبير والحرية الشخصية وحريات الآخرين والحريات الصحافية وغيرها من أنواع الحرية الإنسانية الأخرى. وفي هذا السياق يمكن فهم التطور الملحوظ خلال فترة زمنية قصيرة من عمر الانتداب البريطاني الذي "أخذت تعيشه فلسطين في مجالات الصحافة والطباعة وانتشار الكتب وازدياد عدد المكتبات والمسرح والترجمة والسينما والتأليف... خصوصا وأن قوانين المطبوعات والنشر المعدلة والجديدة أردفت بقوانين حيوية تتصل بالتأليف وبحقوق الملكية...." .
لقد مثلت التشريعات البريطانية، مع كل ما يمكن أن يقال عنها من مساوئ وهنات خطوة رئيسية بارزة في مسار الصحافة الفلسطينية، ونقطة انطلاق لمسيرة تحديث وتنوير الثقافة الفلسطينية أسهمت في تعميق الوعي الاجتماعي وأنسنته ودمقرطته وتحريره من آثار ظلامية الاستبداد الديني. ورسخت في الوقت نفسه لدى المواطن الفلسطيني أولوية حق حرية الرأي والتعبير وضمان حقوق الإنسان الأخرى كشروط لا بد من تحققها وصونها بصفتها المقدمة الرئيسية لحرية الشعب وتحرير الوطن.

ازدياد عدد الصحف

وعرفت فلسطين في الأجواء التي وفرتها التشريعات البريطانية وكيفيات تطبيقها نهضة تنموية شاملة في مختلف مجالات الحياة. وكانت هذه النهضة ملحوظة في مجال الثقافة والصحافة وعلى وسائل الإنتاج الثقافي أيضا، وعلى كل مجالات الحياة الثقافية الأخرى. خاصة وأنها أصبحت وسيلة التعبير المباشرة عن هموم الجماهير وتطلعاتها الوطنية، فتمتعت بشعبية متميزة تمثلت باهتمام الناس وحرصهم على الاطلاع على ما تنشره الصحف من تقارير وأخبار، وما يسطر في الصحافة من آراء ووجهات نظر. وفي هذا السياق جاء في تقرير لمدير المطبوعات كان قد أرسله إلى وزارة المستعمرات بتاريخ 28/7/1932م "إن تطور الصحافة الفلسطينية يعكسه مدى اهتمام الجمهور بها بغض النظر عن موقف وسياسة الحكومة تجاهها. ويمكن ملاحظة هذا الاهتمام عبر حلقات الأميين في القرى التي يجتمعون فيها حول قارئ يجلس في مكان مرتفع وسط البلد فيتلو عليهم الجريدة بصوت مرتفع وسط اهتمام وإصغاء الجميع.
إن هذا الأمر يهدد بخطر كبير في المستقبل لن تحول إجراءات الحكومة دون استمراره من خلال رفع دعوى قضائية ضد هذه الصحيفة أو تلك ولا حتى بمحاكمتها وفرض أحكام قاسية عليها...." .
ويدل الاهتمام الجماهيري بصحافة البلاد على وجود حضور واسع لها تجاوز المدن ليصل إلى الأرياف وأحيانا الى البوادي مراعيا شرط أهمية الزمان أيضا.
ومن البداهة بمكان أن يعي هذا الحضور وتجلياته بالانتشار ويدلل على وجود عدد كثير من الصحف التي تصدر في مدن عديدة في البلاد. وفي هذا السياق أشارت إحصائية حصرية استخرجت من المسرد البيلوغرافي الذي أصدره يوسف مدجورة تحت عنوان "الصحافة العربية في فلسطين (1876-1948) "إلى أنه قد صدر في فلسطين خلال الفترة (1933-1948) ما يقارب (147) صحيفة ومجلة باللغة العربية بشكل رئيسي ولغات أخرى كالعبرية والإنجليزية وغيرها، وقد تضمن المسرد معلومات تعريفية كافية بكل منها.
وجاء في هذه الإحصائية أن من إجمالي عدد الصحف التي صدرت في تلك الفترة حوالي 26 صحيفة صدرت في عام 1933م، و11 صحيفة في عام 1934، وفي عام 1935 صدرت 12 صحيفة. وفي عام اندلاع الثورة الكبرى1936م فإن عدد الصحف بلغ 6 صحف فقط، وفي عام 1937م صدرت 11 صحيفة، وفي عام 1938/م صدرت 6 صحف. وأما في الأعوام 1939، و1940م و1941م فقد صدرت خلالها على التوالي 9 و5 و3 صحف. ولم تتوفر معطيات عن الصحف التي صدرت خلال عامي 1942م و1943م. وصدر في عام 1944م 4 صحف، أما في عام 1945م فقد صدرت 12 صحيفة. ويقدّرعدد الصحف التي عرف أنها صدرت عام 1946م ب 28 صحيفة. وفي عام 1947 صدر 10 صحف، فيما دلّت معلومات على 4 صحف كانت قد صدرت عام 1948م.
إذا كانت المعطيات المعلوماتية والإحصائية قد ذكرت وحددت أسماء 26 صحيفة مختلفة كانت قد صدرت عام 1933م العام الذي صدرفيه قانون المطبوعات البريطاني لأول مرة في فلسطين، فإن المراجع التاريخية لم تشر إلا إلى صدور صحيفتين في عام 1932م إحداهما حكومية، هي جريدة "الوقائع الفلسطينية"، والأخرى جريدة "العرب" لسان حال حزب الاستقلال التي كان يحررها عجاج نويهض، والتي لم تصبح نظامية إلا بتاريخ 4/5/1933م .

تعدد لغات الصحف

تدل أرقام الإحصائيات المذهلة عن عدد الصحف والمجلات والنشرات الى وجود حياة صحافية مزدهرة إبان الحكم البريطاني، ولعل أهم تلك الإحصائيات تلك التي عرفت باسم "إحصاء للنشرات الدورية الصادرة في فلسطين 1933-1948" . وجاء في هذه الإحصائية أنه قد صدر في فلسطين خلال الفترة المشار إليها 3 صحف باللغة الأرمينية و4 صحف بالأرمينية ولغات أخرى مختلفة من بينها العربية والعبرية والجركونية والانجليزية والاسبانية والفرنسية والألمانية، وهي اللغات الأجنبية التي كانت تصدر بها صحف مع لغات أخرى كثيرة كما تشير الإحصائية.
وأفادت الإحصائية أنه صدر في تلك الفترة 5 صحف باللغة الألمانية، و61 صحيفة باللغة الألمانية ولغة أخرى، أوأكثر تصل احيانا إلى 10 لغات من بينها 16 صحيفة بالألمانية والعبرية و صحيفة واحدة بالألمانية والعربية.

ووفق الإحصائية فقد كان يصدر في فلسطين 36 مطبوعة باللغة الانجليزية و121 مطبوعة بالانجليزية ولغة أو لغات أجنبية مختلفة من بينها 41 مطبوعة باللغة الانجليزية والعبرية و18 مطبوعة باللغة الانجليزية والعربية. ومن بين الصحف التي تصدر باللغة الانجليزية 5 صحف يملكها مواطنون فلسطينيون.

وباللغة الإيطالية ولغة أو لغات أجنبية أخرى مختلفة كان يصدر في فلسطين 7 مطبوعات، كما كان يصدر باللغة البولونية 6 صحف و3 صحف باللغة البولونية ولغة أو لغات أجنبية أخرى، و3 صحف باللغة التشيكية، و1 صحيفة باللغة الجركونية و17 صحيفة بالجركونية وبلغة أو لغات أجنبية أخرى مختلفة. وباللغة الروسية كان يصدر3 صحف اضافة الى3 صحف أخرى باللغة الروسية ولغة أو لغات أخرى مختلفة.
وجاء في الإحصائية أنه كان يصدر في فلسطين (242) مطبوعة عبرية مختلفة الاختصاص ومولد الصدور، إضافة إلى 111 مطبوعة أخرى باللغة العبرية و41 صحيفة باللغتين العبرية والانجليزية.
وأشارت الإحصائية إلى أنه كان يصدر في فلسطين خلال تلك الفترة 88 مطبوعة باللغة العربية من بينها 40 مطبوعة تعود ملكيتها لمالكين غير فلسطينيين وواحدة منها هي جريدة "الوقائع الفلسطينية" الصحيفة الرسمية لحكومة الانتداب. كما كان يصدر إضافة إلى هذه الصحف 41 مطبوعة باللغة العربية ولغة أو لغات أجنبية أخرى من بينها 18 مطبوعة باللغتين العربية والانجليزية.
وأشارت الإحصائية إلى أنه من بين الصحف التي صدرت خلال تلك الفترة صحيفة واحدة باللغة اليونانية، وصحيفة واحدة أخرى باللغة الهنغارية، وكان يصدر في فلسطين أيضا 7 مطبوعات باللغة الفرنسية و32 مطبوعة باللغة الفرنسية ولغة أو لغات أجنبية أخرى واحدة منها بالفرنسية والعربية.

اتساع نطاق الصحف المستوردة

تعزز مدلولات هذا النشاط الحيوي في تداول الصحف والمطبوعات الصورة الايجابية للتشريع البريطاني على هذا الصعيد. اذ كانت تتدفق الى فلسطين أعداد كبيرة من الصحف العربية التي تصدر في العواصم العربية عن طريق الاستيراد المباشر للصحف من تلك العواصم بموجب أحكام قانون المطبوعات والنشر البريطاني وأنظمته المرعية الإجراء.
ويكتسب هذا الأمر أهمية إضافية عندما نعلم أن الصحف المستوردة إلى فلسطين هي من كبريات الصحافة العربية التي كانت تصدر في تلك الأيام من وزن "الاتحاد اللبناني"، "النهار"، "ألف ليلة وليلة"، "البيرق"، "بيروت"، "الجمهور"، "الشرق"، "الشمس"، "صوت الشعب"، "صوت الأحرار"، "المساء"، "النداء" وغيرها من الصحف اللبنانية. وكذلك الصحف التي كانت تستورد من القاهرة مثل: "المقطم"، "المصري"، "اللطائف"، "الصباح"، "الشباب"، "السياسة الأسبوعية"، "السياسة"، "الرابطة العربية"، "الجهاد" وغيرها.
ومن بغداد كانت تستورد صحف "الاستقلال"، "الدفاع"، "الزمان" وغيرها من الصحف العراقية. ويشير المرجع إلى أن صحفا سورية كثيرة وشهيرة كانت رائجة في فلسطين مثل صحيفتي "النذير" و"الجهاد" الحلبيتين، وصحف: "المستقبل"، "القبس"، "فتى العرب"، "العمل القومي"، "الشعب"، "الجزيرة"، "البلاغ"، "الأيام"، "الإنشاء"، "الغباء" الشهيرة، "الاستقلال العربي" وغيرها من الصحف الدمشقية.
كما أمكن وفق التشريعات البريطانية إدخال صحيفة "تونس الفتاه" التي كان يصدرها يوسف بن عاشور في تونس.

إصدار صحف عربية في فلسطين

يلاحظ أن التشريعات البريطانية لم تطل أعرافا قيمة تتعلق بحرية دخول وإقامة وعمل المواطنين العرب في فلسطين باعتبار أن ذلك موروثا متكرسا منذ أن كانت البلدان العربية جزءا من الدولة العثمانية، وسكانها من التابعية العثمانية الذين يكفل لهم الدستور حق التنقل والإقامة والعمل في أي مدينة وفي أي ولاية من ولايات هذه الدولة.
وفي مجال الصحافة فإن البريطانيين عندما أقروا مواصلة العمل بقانون المطبوعات العثماني في فلسطين بعد إعلان الانتداب، أبقوا للعرب الذين كانوا يصدرون صحفا في فلسطين على أحقيتهم بمواصلة تمتعهم بهذا الحق. فعلى سبيل المثال، لا الحصر فإن الصحافي نجيب نصار ابن بلدة التويفات اللبنانية الذي كان قد أصدر جريدة "الكرمل" في حيفا عام 1908م عاود إصدارها مجددا بعد إعلان الانتداب البريطاني. والصحافي اللبناني خليل نصر أصدر جريدة "الأردن" عام 1919م في حيفا، وأصدر الصحافي اللبناني إبراهيم سليم النجار جريدة "لسان العرب" عام 1921م في القدس. والصحافي اللبناني كمال عباس أصدر في حيفا عام 1924م جريدة "اليرموك"، وأصدر الصحافي اللبناني ميشال سليم النجار جريدة "المعاد" في القدس عام 1928م. ومن جانب آخر فإن كثيرا من الصحافيين العرب كانوا يقيمون ويعملون في فلسطين، إما في مؤسسات صحافية تعود ملكيتها لهم أو في مؤسسات صحافية تعود ملكيتها لفلسطينيين أو عرب آخرين، أو كمراسلين لمؤسسات عربية ودولية في فلسطين.
عندما أخذت سلطات الانتداب البريطاني بتطبيق القوانين التركية المتعلقة بالصحافة أو بصدد تعديلات لها أو وضع قوانين وأنظمة جديدة تعاملت مع الأمر باعتيادية تلقائية في كل السياسات التي اعتمدتها لتطبيق أحكام القانون، الأمر الذي سجل نقطة إضافية لصالح أهلية القانون التنموية. فالتشريع، ودون ان يتعمّد ذلك وفر ديمومة التواصل الثفافي والتبادل المعرفي ليس من خلال حركة استيراد الكتب والمجلات العربية من البلدان العربية إلى فلسطين فحسب، وإنما من خلال تسهيل الإجراءات أمام ذوي الاختصاص والشأن في هذا القطاع لامتلاك المؤسسات الصحافية والطباعية والثقافية في فلسطين، وكذلك من خلال العمل في مؤسسات هذا القطاع الفلسطينية.
وفي هذا السياق لا يمكننا أن ننسى الجهد الذي قدمه للصحافة الفلسطينية صحافيون وأدباء وكتاب كبار من لبنان مثل: إبراهيم سليم النجار، ميشال سليم النجار، عجاج نويهض، كمال عباس، سليم اللوزي، خليل نصر أحمد منيمنه وغيرهم. كما تشير المراجع التاريخية إلى دور بارز وكبير للصحافيين الكتاب السوريين في الصحافة الفلسطينية مثل: سامي السراج، خير الدين الزركلي، محمود الخيمي، محمود الشركس، صلاح الدين المختار، سليمان جابر، جلال عوف، إبراهيم كريم وغيرهم. ومن السعودية الكاتب الصحافي يوسف ياسين. ومن مصر الكتاب والأدباء: عبد الهادي عرفان، البيرعون، علي منصور وغيرهم .

وتشير معطيات المراجع التاريخية إلى أن هؤلاء الصحافيين والكتاب العرب الذين كانوا يعملون في الصحافة الفلسطينية قدموا خدمات جلى لمناصرة القضية الفلسطينية، ودعم الشعب الفلسطيني وذلك عند عودتهم إلى بلدانهم. خصوصا وأن بعضهم تبوأ لاحقا مراكز عليا في قيادة وإدارة الحياة في تلك البلدان.

إن المرونة التي اتسم بها سلوك حكومة الانتداب إزاء قضايا الصحافة والمطبوعات سهلت على الصحف القيام بدور طليعي في المجتمع، وساعدتها على الاستمرار في الاضطلاع بالدور التنويري الذي كانت تقوم به انسجاما مع مطالب وتوجهات الحركة الوطنية الفلسطينية المعلنة. وفي هذا السياق شكّلت حركة تصدير واستيراد الصحف والكتب والمطبوعات من فلسطين وإليها مدخلا صحيحا لمفهوم تبادلية المعلومات، وعززت أهمية الاتصال والتواصل كشرط رئيسي لديمومة تحققها وضمانة لاستمراريتها وتطورها.
وجد الفلسطينيون في الصحف العربية التي كانت تصلهم من البلدان العربية، وغير العربية مفاهيم وقيم ومعارف اجتماعية لم تكن معروفة لديهم من قبل، وإن كان قد عرف بعضا منها فهي ليست مألوفة في المجتمع. واطلعوا من خلال مواضيع تلك الصحف على الدور التشاركي للمرأة في عملية البناء والتنمية، فعرفوا أن المرأة في غير مكان تتمتع بوضع اجتماعي غير (الحرملك) الذي كان سائدا في فلسطين كموروث عن العهد التركي. من جانب آخر، تبين الفلسطينيون مشاركة المرأة في الصحافة العربية، خصوصا صحف مصر ولبنان. الأمر الذي مهد الطريق تدريجيا أمام انخراط المرأة الفلسطينية في قطاعات العمل الإنتاجية المختلفة، بما فيها المشاركة في مجال الصحافة، وأهلها خلال فترة وجيزة للانخراط في العملية التنويرية والمشاركة النشطة في فعالياتها المختلفة، وساعدها على تطوير مستوى معارفها السياسية والثقافية والاجتماعية بشكل أسهم كثيرا في الارتقاء بوعيها الوطني فشاركت إلى جانب الرجل في ثورتي 1936م و1939م وسقط من النساء عدد من الشهيدات في مواقع مختلفة المناطق الفلسطينية .

بدأت مشاركة المرأة الفلسطينية في الصحافة من خلال نشر بعض المثقفات، والمدرسات منهن بشكل خاص مواضيع مختلفة في هذه الصحف اقتصر أغلبها على الجوانب التربوية والاجتماعية. ثم تطورت هذه المشاركة بمداومة بعض الكاتبات مثل أسمى طوبي وسميرة عزام وماري بولس شحادة وفدوى طوقان على نشر إنتاجهن الأدبي والثقافي في الصحف.
ولأسباب تتصل بتأثيرات المهنة الصحافية اندمجت السيدة ماري بولس شحادة في العمل الصحافي في جريدة "مرأة الشرق" إلى جانب زوجها الصحافي بولس شحادة/ مالك ورئيس تحرير هذه الصحيفة، واضطلعت السيدة بولس بمسؤوليات عمل مباشرة فيها. كما أن السيدة ساذج نصار أصبحت واحدة من أركان جريدة "الكرمل" إلى جانب زوجها الصحافي نجيب نصار/ مالك ورئيس تحرير هذه الجريدة. وكانت السيدة نصار تقوم ببعض أعمال الطباعة وتوزيع الجريدة أيضا.

ويمكن القول أن السيدتين شحادة ونصار أسستا، ومنذ وقت مبكر للدور التشاركي للمرأة في العمل الصحافي إلى الحد الذي يمكن فيه اعتبار دورهما الريادي على هذا الصعيد الجذر الراسخ للعمل الطلائعي الذي تمارسه المرأة الفلسطينية اليوم في قطاعات ووسائل الإعلام المختلفة.

اعتراف الحكومة بالأهلية المهنية

إن النهضة الصحافية الواسعة التي شهدتها فلسطين في مناخ التشريعات البريطانية أفسحت المجال واسعا أمام تحقق بعض الصحافيين وتمتعهم بشهرة مهنية عالية أكسبتهم مكانة اجتماعية مرموقة، لم تستطع السلطة تجاهلها عند إقدامها على تعيين موظفين في مكتب المطبوعات الحكومي وكذلك في بعض الدوائر الحكومية الأخرى بما في ذلك بعض المواقع العليا في مكتب المطبوعات وهذه الدوائر. وقد بدا اعتراف السلطة واضحا بذلك بعد اندلاع الحرب بين بريطانيا وألمانيا عام 1939م حين وجدت بريطانيا نفسها مضطرة، لأسباب تتصل بالحرب على إقامة إذاعة حكومية عام 1940م عرفت في مرحلة لاحقة باسم "إذاعة الشرق الأدنى". وقد عينت الضابط البريطاني شمس الدين مارساك مديرا لها استمر في هذه الوظيفة منذ بداية تأسيسها وحتى عام 1944م.
كان من بين مهمات الإذاعة ترميم العلاقة الفلسطينية - البريطانية واصلاح ما أصابها من عطب أوجد كراهية واسعة بسبب ما ألحقته الحكومة الانتدابية من قمع واضطهاد بالشعب الفلسطيني كرد فعل على ثورة 1939م. وكان على الإذاعة تعزيز علاقة صداقة إنجليزية – فلسطينية، وإعادة الثقة الفلسطينية برغبة حكومة الانتداب في تطوير المجتمع الفلسطيني. خصوصا وأن الحكومة قد مارست عكس ذلك خلال السنوات الماضية حيث كان توجهها الرئيس يكاد يكون مقتصرا على دعم حركة الاستيطان الصهيوني. وربما يكون أحد الأسباب الرئيسية على هذا الصعيد هو إقدام قيادة الحركة الصهيونية على تغيير أولويات تحالفاتها من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب تتعلق برؤية الحركة الصهيونية للتوجهات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب. وكتعبير عن صدق التوجهات البريطانية الجديدة، وإقناع الفلسطينيين بذلك اعتمدت الحكومة اللغة العربية لغة البث الرسمية للإذاعة، كما عينت في الوظائف التي استحدثتها لهذه الإذاعة موظفين فلسطينيين من أعلام القطاع الثقافي، وحظي الصحافيون بالنصيب الأوفر في هذه التعيينات .
احتلت الثقافة بأنواعها المختلفة درجة متقدمة في أولويات الدورات البرامجية للإذاعة، مما أفسح المجال أمام المبدعين لتقديم نتاجاتهم الأدبية والفكرية والفنية، ولتعريف المجتمعين الفلسطيني والعربي بأدبائه ومثقفيه ونخبه الفكرية، وتاريخه وآثار بلاده، ومعالمها الحضارية والدينية وتراثه وتقاليده.

ويمكن القول أنه بإقامة الإذاعة وجد الشعراء والأدباء والفنانون الدفيئة التي احتضنتهم ووفرت لهم سبل التقدم والشهرة ولنتاجهم الانتشار، كما ربطتهم بشكل أوثق بالواقع العربي المحيط. وعندما توقفت الإذاعة عن البث بعد نكبة 1948م تبوأت الكادرات التي عملت فيها مكانة مرموقة في ميادين الثقافة والسياسة، وكذلك في الوظائف الحكومية الحساسة في البلدان العربية. ويكفي أن نذكر في هذا السياق المكانة المرموقة التي تمتع بها بعد ذلك في مواقع عمل مختلفة كل من الدكتور حازم نسيبة، علي الدجاني، إميل حبيبي، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، ناصر الدين النشاشيبي، محمد أديب العامري، عبد الحميد ياسين، سعيد حربي العيسى، موسى الدجاني، راجي صهويه، عزمي النشاشيبي، الدكتور سامي حداد وغيرهم.

تنامي الوعي النقابي

كان الصحافيون يشعرون ببعد المسافة بينهم وبين الحومة ويعانون مما كان يترتب على ذلك من فتور في العلاقة وشحة في المعلومات، وقلة في مصادر الدخل وعجز ومصاعب مالية عديدة ومعقدة، خصوصا وأن عائدات البيع والإعلان لم تكن تفي بتغطية نفقات المطبوعة ورواتب الصحافيين والعاملين فيها. وبسبب ذلك، كثيرا ما نشبت نزاعات عمل بين أصحاب الصحف وأصحاب المطابع والمشتغلين في كل منها. وكثيرا ما حاولت سلطات الحكومة استثمار هذا الوضع لتوسيع شقة الخلاف بينها، وذلك في محاولة لاستمالة أحد الطرفين إلى جانبها عن طريق الرشوة المباشرة التي غالبا ما كان يرفضها الصحافيون على الأقل .

برزت الخلافات ونزاعات العمل في قطاع الصحافة وكذلك الطباعة في وقت مبكر في مناخ العمل الحزبي المتنامي بنشاط الحركة الوطنية الفلسطينية التي تبلورت منذ العشرينات. وبدأ العاملون في الصحافة والطباعة يتنورون في الجوانب الحقوقية والاجتماعية وعلاقة قطاعاتهم وشرائحهم بعضها ببعض، فتبلورت تدريجيا مفاهيم ثقافية جديدة أنتجتها منظومة الحقوق والواجبات التي اشتملت عليها تفاصيل الأنشطة التشريعية الحكومية في مجالات المجتمع المختلفة. وكان يمكن أن تتطور نتائج تلك النزاعات التفاعلية في اتجاه خلق إطارها النقابي الذي سيشكل رافعة لتحرك الصحافيين المطلبي والمهني، إلا أن مداخلات قيادات القوى التي كانت تمتلك الصحف أو تمولها، والتي ينتمي إليها الصحافيون والكتاب أثرت على ذلك فحالت، للأسف دون قيام نقابة للصحافيين. إلا أنها لم تلغ اهتمام الصحافيين بأهمية الفكرة وضرورة تحققها. ليس في قطاع الصحافيين فحسب، وإنما في قطاعات العمل الأخرى أيضا، وذلك من خلال التبشير للفكرة وتبيان أهميتها وضرورة وفائدة وجودها وذلك بواسطة الكتابة عنها وحولها، وكذلك عبر البحث عن الصيغ التي يجب أن يعمل بها الصحافيون كبديل في مرحلة غياب النقابة.
كان الصحافيون يعرفون أن المصادر التمويلية ومتطلبات ولاء الصحف السياسي لها هي العامل الرئيسي الذي أعاق تعزيز أواصر اللحمة بين الصحف وتوحدها في المواقف. ولكنهم أدركوا في الوقت نفسه أنهم هم العنصر الأساس في العملية الصحافية. وانطلاقا من ذلك توجه ضغط الصحافيين على أصحاب الصحف بضرورة وحدة الموقف حول الثورة كاستجابة مع الموقف الجماهيري منها، وقد أذعن أصحاب الصحف لمطلب الصحافيين الوطني فعكسوا موقف توحد مشهور في هبة البراق عام 1929م وثورة 1933م وثورة 1936م وغيرها. وقد أتى على ذكر هذه الوحدة الصحفية ودورها وأهميتها "تقرير لجنة بيل" حيث ذكر أنه أمكن الاتفاق بين جميع الصحف والصحافيين على عقد مؤتمر عام للصحافة يوم 27 آيار (مايو)1936م جرى فيه تداول الوضع الوطني العام وخطورة سياسة الحكومة في تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين وحماية وتسهيل نشاط حركة الاستيطان الصهيوني. وجرى فيه أيضا مناقشة أبعاد وخطورة تعديلات قانون المطبوعات وأنظمته وأوامر الطوارئ وأثرها على مستقبل الحركة الصحافية في فلسطين. وقد أقرّ الاجتماع رفض الصحافيين وأصحاب الصحف للسياسة الحكومية، والتعبير عن ذلك بالانخراط في الثورة بصفتها الصيغة التي أرادها الشعب وسيلة للتعبير والتغيير، ولأن سياسة الحكومة تجاه الصحافة جزء من مجمل سياستها العامة في فلسطين فقد قررت الصحافة إعلان الاضراب والتوقف عن الصدور والاستجابة لقرار الإضراب العام ولكن لمدة (3) أيام فقط كمشاركة رمزية لأن الصحافة هي وسيلة التعبير الوحيدة للثورة وصوتها المدوي ووسيلة اتصالها الجماهيري الوحيد .
إن منظومة التشريعات البريطانية بشأن الصحافة والمطبوعات في فلسطين وفرت أسبابا كثيرة لتطوير القطاع المهني الصحافي، ومع أنها لم تمنع قيام أطر وتشكيلات مهنية ونقابية، إلا أن هذه الأطر لم تقم لأسباب كثيرة ربما كان العامل الحاكم فيها ذاتي وليس موضوعيا أبدا، وذلك لأن التشريعات البريطانية المتصلة بجوانب المجتمع الفلسطيني الأخرى مثلت في أحايين كثيرة عامل استحثاث لإقامة التشكيلات النقابية والمهنية لقطاعات العمل المختلفة كالفلاحين والعمال والتجار وغيرهم.

ظهور الأحزاب وتبلور الواقع الطبقي

لقد تزامن خفوت جذوة ثورة 1939م مع بداية اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1944) وكان لاضطلاع بريطانيا بدور مركزي فيها انعكاسات مباشرة على مستعمراتها وبضمنها فلسطين التي بدأت الحياة الاقتصادية فيها بالانتعاش بشكل مفاجئ نتيجة اعتماد الحكومة في تموين جيوشها ورعاياها على المنتوجات الفلسطينية.
ووفق ما أشارت إليه المصادر التاريخية فإن الصحافة الفلسطينية في الثلاثينات من القرن الماضي حققت تطورا جديدا وتعززت مكونات مستواها المهني الذي كان متجاوبا آنذاك مع متطلبات ترسخ الأنماط الجديدة في العلاقات الإنتاجية في فلسطين. خصوصا وأن نموا ملحوظا قد حدث في قطاع الصناعة بشكل ترافقي مع حركات تطور القطاع الزراعي وما أحدثه من مظاهر تأكيد لحيوية الصناعات المحلية كمنطلق تأسيسي للقطاع الصناعي المنشود وما مهد له به، وما واكبه في أطروحات تحديث في برنامج البورجوازية الفلسطينية وما استطاع تحقيقه في استقطاب سياسي وصحافي لعب دورا مركزيا في تطوير دعم العاملين في هذا القطاع بمصالحهم المباشرة، وبمسؤوليات أرباب عمل هذا القطاع إزاء العمال وحقوقهم، وتعريف العمال بضرورة النضال من أجل هذه الحقوق، وبالطرق والأساليب التي يمكن أن يخاض بها النضال من أجل الحقوق المطلبية المشروعة.

وكانت النتيجة المباشرة للنشاط في هذا الاتجاه تمكن العمال في قطاع الزراعة والعمال الزراعيين وكذلك العاملين في قطاع الصناعة وسكك الحديد ووسائط النقل والخدمات من إقامة تشكيلات مهنية لهم عكست مستوى التطور الذي كان قد بلغه وعي هذه الفئات وتكرس ذلك الاعتماد بعد أن أغرقت الغواصات الألمانية السفن البريطانية فتوقفت بسبب ذلك الإمدادات من الجزر البريطانية، مما أفاد في نمو الصناعة الوطنية في فلسطين، وفرض، بالضرورة معطيات تطور جديدة في العلاقات التبادلية التجارية بين البورجوازية الفلسطينية والسوق الاستعمارية الأوروبية وخاصة البريطانية.
وانعكس التطور الاقتصادي على جوانب الحياة الفلسطينية المختلفة وبضمنها الصحافة. وفي هذا السياق ذكرت مجلة "الغد" الحيفاوية في عددها الصادر في آب (أغسطس) 1945م أن بعض الصحف الفلسطينية المعروفة قد تبنت أهداف البورجوازية، وأن جريدة "الدفاع" قد كتبت كثيرا حول ذلك، مركزة على أننا نريد تجارة حرة، واجتماعات حرة. نريد أن تستأنف الحكومة عملها جريا على سياسة الكتاب الأبيض. نريدها أن تحوّل ميزانية الحكومة الضخمة لتنفيذ مشروعها الإنشائي، ليعم الرخاء، ويستتب الأمن، وتتوفر للجميع ضرورات الحياة الشريفة" .
وقبل هذا فإن جل أصحاب الصحف، وكتبة الأعمدة، وحتى بعض الصحافيين هم من علية القوم الذين ينحدرون من عائلات ذات محتد تتشكل منها الطبقة البورجوازية. وفي سياق تشكلها الطبقي ظهرت النقابات والجمعيات المهنية والعمالية وأقامت فيما بينها توافقا على برنامج موحد تتجدد في ضوئه كيفية مشاركة العمال في التحرك الكفاحي من أجل الاستقلال الوطني، وكذلك آلية تضامن العمال في نضالهم من أجل تحقيق مطالبهم وحقوقهم المهنية، فأقامت "إتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب"، وأصدرت، لاحقا جريدة "الاتحاد" الحيفاوية كلسان حال لها في 15/5/1944م وذلك قبل أن تتحول إلى جريدة رسمية لحزب "عصبة التحرر الوطني الفلسطيني" الذي أعلن عن تشكيله عام 1943م كإطار ماركسي لينيني للشيوعيين الفلسطينيين الذين استقلوا عن الحزب الشيوعي الفلسطيني لأسباب تتعلق بقضايا خلافية حول "الصهيونية" "والوطن القومي لليهود في فلسطين" و"حركة التحرر الوطني الفلسطينية" و"الاستقلال" .... الخ

إن التطور التنظيمي الملحوظ في تاريخ الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية كان نتيجة طبيعية لولادة وتطور ملامح وبنيات العمل السياسي في فلسطين التي عرفت الحياة الحزبية منذ عام 1919م بتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني كإطار تنظيمي للعمال والفلاحين وصغار الكسبه والحرفيين والمثقفين الثوريين من جميع سكان فلسطين عربا كانوا أم مهاجرين وافدين، وإسلاميين كانوا أم مسيحيين أو يهود. وظهرت بالتزامن، إلى جانب الحزب الشيوعي أطر حزبية قومية كاستمرار أو تطوير لجمعيات النهضة والإصلاح التي كانت قد تأسست في فلسطين بدءا من إعلان الدستور العثماني عام 1908م، وتحولت لاحقا إلى أطر تنظيمية لاتجاهي الحسيني والنشاشيبي أو المجلسيين والمعارضة ثم آلت إلى أحزاب وقوى سياسية، كحزب الفلاحين، حزب الاستقلال، حزب الدفاع، الحزب العربي ثم الهيئة العربية العليا.

ويمكن القول أن عاملا رئيسيا اضافيا قد أسهم بشكل رئيسي في تشكل وانطلاقة وتطور الحركة النقابية والعمالية في فلسطين هو اعتناء الأحزاب والقوى السياسية بإصدار صحف ومطبوعات رسمية ناطقة باسمها، أو مناصرة لها في سياق عملية تراصف تكاملي مع الصحف والمجلات والمطبوعات الخاصة التي كانت تصدر في البلاد منذ عام 1918م مثل صحف: "سوريا الجنوبية"، "الجامعة العربية"، "بيت المقدس"، "مرآة الشرق"، "بيت لحم"، "الأقصى"، "النفير"، "الصباح"، "فلسطين"، "الكرمل" وغيرها. وقد جاءت الصحف الحزبية مثل صحف: "حيفا"، "إلى الأمام"، "لسان العرب"، "الجامعة العربية"، "الوحدة العربية"، "الشباب"، "الأوقات العربية"، "اللواء"، "اللهب"، "الجامعة الإسلامية"، "الكفاح"، "الدفاع" و"الاتحاد".
وتجدر الإشارة إلى أنه في إطار هذه التكاملية بين الصحف الحزبية والخاصة، وتفاعلها مع الأحزاب والقوى السياسية، وحمل برامجها ومواقفها والتعبئة لها عبر موضوعات وتعليقات ومقالات كان يتم نشرها على صفحات الجرائد والمجلات، تأسست الحركة الشعبية منذ بواكير الكفاح الفلسطيني، وأخذت تفرز تكويناتها وصيغ تشكيل هذه التكوينات بما فيها الحركة النقابية، التي تصلب عودها بسرعة، وتعززت تجربتها خلال فترة زمنية قياسية، وكانت مرشحة للعب دور طليعي مشارك في فلسطين، وتأثير تبادلي إيجابي في البلدان العربية الأخرى عبر توطيد أشكال العلاقات الكفاحية التضامنية مع تكوينات الحركة النقابية في هذه البلدان. ومن خلال اقتدارها على نسج علاقات أممية لها عززت ما كان لها من علاقات قومية رفيعة، وذلك لأن فلسطين كانت البلد العربي الأول الذي بلورت فيه الخلايا العمالية والنويّات الاشتراكية واقعها إلى حزب شيوعي تأسس كحزب لليهود والعرب عام 1919م.
بشكل عام يمكننا القول أن حركة التشريعات البريطانية أسست، ومنذ وقت مبكر لمفهوم الحياة المدنية في فلسطين، وأشرت على الاستحقاقات التي يجب توقعها، والمتطلبات التي يجب توافرها وتوفيرها لتحقيق هذا المفهوم مثل إقامة الأحزاب والتشكيلات السياسية والأطر النقابية والجمعيات وقبول الآخر وإحترام النظام والقانون والتقيد بهما كالتزامات قابلة لأن تصبح قيما. والإقبال على التعليم بكافة ضروبه الأكاديمية والعلمية والتربوية والمهنية. وكذلك تعلم اللغات والاطلاع على الثقافة الأجنبية والتزود بمعارفها.
وتشير المراجع التاريخية إلى أن النهضة التي شهدتها فلسطين قد استحدث مقومات انطلاقتها وتطورها من هذه المعطيات التي وفرتها مناخات العمل وفق التشريعات البريطانية. وشكلت هذه المناخات، على الصعيد الثقافي وفي مجالات اختصاصه المختلفة الحاضنة الذهنية والدفيئة المعرفية لمظاهر أنماط التطور الذي عرفته وعاشته فلسطين. وكانت العامل الرئيسي الذي أسهم في بلورة مضامين اختصاصات وحقول الثقافة المختلفة، فتحققت نهضة طباعية انتجت وسائل رئيسية للحياة الثقافية.
وعرفت فلسطين حياة صحافية مزدهرة، فتبين بذلك أن التشريعات البريطانية وفرت مساحة خضراء واسعة كانت ثمارها في قطاع الصحافة والثقافة نضرة ويانعة ومتنوعة، عرفت المجتمع بمفاهيم جديدة في مجالات الحياة المختلفة، فأسست بدايات طيبة لملامح مدنية هذا المجتمع خصوصا لجهة قبول الأفكار الحداثية الجديدة وتمثل المعاصرة والتحضر والاتصال والتواصل. ودلّت فئات المجتمع على مواقع تصنيفها الطبقي ومقومات التعايش بين الطبقات والفئات وبشروط التقدم، وبالعوامل التي يجب استمرار توفرها لضمان إمكانية التطور وديمومة التقدم والتي في مقدمتها احترام الحقوق في مجال الحريات العامة وحرية التفكير والتعبير وإبداء الرأي واحترام الآخر. وكذلك حرية الصحافة وإقامة المنتديات وتشكيل الأحزاب والنقابات وحق تعميم المعرفة وعدم حجب المعلومات أو تحريفها أو تزويرها، والاعتراف بالدور التشاركي الفعال للمرأة في مجالات العمل المختلفة بما في ذلك جميع مهن الثقافة والصحافة ومختلف وسائل الاتصال الجماهيري.
إن مراجعة استطلاعية لدور التشريعات البريطانية في عهد الانتداب البريطاني لا تشي بوجود غول وراء الجانب الآخر من الأكلة إذا أمكن استشراف الواقع بموضوعية، وذلك لأن المواصفات البنيوية التي تأهل بها القطاع الصحافي والثقافي بسبب هذه التشريعات ما كان لها أن تكون لولا اتسام تلك التشريعات أو آليات كيفية تطبيقها بإرادة تطوير جادة حتى ولو لم تكن صارخة الظهور والإشهار. وهي بسبب ذلك وفرت لهذا القطاع حيويته وديناميته التي منحته سمات خاصية التواصل، ومتعته بقابلية تنموية أخذت تتراصف مع قابليات أخرى في منظومة القوانين البريطانية خلقت دعائم التشكيل والخلق الإبداعي المطلوب.
ولهذه المواصفات يعود الفضل في عدم انهيار الصحافة الفلسطينية عندما انهارت الكيانية السياسية الفلسطينية على أثر نكبة فلسطين عام 1948م، حيث استمرت بعض الصحف بعد أن تكيفت مع الاستحقاقات السياسية المستجدة، وحفظت للصحافة الفلسطينية سمة الاستمرارية منذ قيامها وحتى اليوم.
المراجــــع

- فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية، عيسى السفري. مطبعة ومكتبة فلسطين الجديدة، يافا، 1937م.
- الصحافة الفلسطينية وقوانين الانتداب البريطاني، محمد سليمان. مؤسسة بيسان برس، نيقوسيا 1988م.
- البيئة القانونية للإعلام في فلسطين(1865-1999)، محمد سليمان. مخطوطه قيد النشر.
- الصحافة العربية في فلسطين (1876-1948)، يوسف ق. خوري. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1976م.
- تاريخ الصحافة العربية في فلسطين، أحمد خليل العقاد. دار العروبة للطباعة والنشر، دمشق 1967م.
- محمد علي الظاهر، سميح شبيب. الشرق برس، نيقوسيا 1995م.
- المفضل في تاريخ القدس، عارف العارف. مكتبة الأندلس، القدس. الطبعة الثانية 1986م.
- الثقافة القومية في فلسطين خلال الانتداب البريطاني، د. عدنان أبو غزالة. دار الأسوار، عكا. (سنة النشر غير مذكورة).
- الصحافة العربية والوطنية في فلسطين(1920-1948)، د. عايدة النجار. مجلة المصير الديمقراطي، بيروت. السنة الأولى، العدد السابع حزيران 1981م.
- جريدة الوقائع الفلسطينية، القدس. (أعداد متفرقة مما صدر منها حتى عام 1948).
* كاتب ومؤرخ فلسطيني يقيم في رام الله