الليبرالية ..حضارة واجندة نظام صاعد ام محاصر؟


ثائر سالم
2008 / 1 / 3 - 11:35     

للمجتمعات في كل عصر حضارة ، تتفوق في ادوات وانماط انتاجها المادي والمعرفي، حضارة وثقافة.. تتجلى نمطا سلوكيا ، في العيش ، والاستهلاك... وحضارة رئيسية ، تسود ، وتنتصر ، دون الغاء امكانية ، بقاء او نشوء، ثقافات او بنى ثقافية ، تنتمي الى مرحلة سابقة، في تاريخ المجتمع ،... تعوض عن دور السلطة والقضاء في فض المنازعات والحكم بين الناس.. قد تكون بنى وقيم حياة الريف... العشيرة والقبيلة... او قد تكون ثقافات قوى،اجتماعية صاعدة، مناقضة للثقافة السائدة ، لتضررها ، او لامتلاكها رؤية قادرة، على تقديم نموذج حل افضل، للحياة الانسانية ومجتمعاتها. تلك الثقافات ، التي انتجها ماض تاريخي ، اوالتي يستدعيها قادم تاريخي... تنمو او تضعف ، برسوخ او اهتزاز ، اسس هذه الثقافة السائدة. نضوج عناصر البديل الحضاري ـ الثقافي ، تميزه وافضليته ، امرا موضوعيا...يتكون في سياق آلية التطور الطبيعي وجدليته العامة ....ومع ذلك فالانتصار الحاسم له.. يتطلب اكتشاف، ادراك الناس لذلك النمط من العيش ، الاكثر فاعلية ، والحاجة له .. ..في الانتاج المادي والمعرفي والسلوك وفي مختلف العلاقات الاخرى. ولكن هل الانتقال، الى هذا النمط ، من العيش ، يشترط انتهاء، استمرار ثقافة اخرى، اقل تطورا او ملائمة ، في المكان والآن التاريخي، او في بعض مناطق العالم ، التي لا زالت ، من الوجهة التاريخية ، خارجه ؟. وهل بامكان احد الجزم، ان هناك نماذج حية اليوم ، خالية تماما، من عناصر حضارة او ثقافة العصر، فقط بسبب وجود عوامل كابحة جدية داخلية بالاساس؟ ودون ان تكون معزولة كليا، واحات منفصلة، عن كل معايير وشروط والات الحياة الحديثة. . التاريخ والحاضر ، يجيبان بالنفي.
لازالت مسألة تداخل وتشارك الحدود بين مفهومي الثقافة والحضارة، في اهم العناصر المكونة ،تشكل ابرز صعوبات تعيين المفهوم بدقة....ويجعل تلك المراعاة ، مطلوبة بدرجة اكبر على المستوى الاكاديمي . فالحضارة والثقافة حسب اكثر المفاهيم قبولا اليوم تتشارك في كونها .. منجزات المجتمع او العصر، المادية والمعرفية.. نمط وطرائق انتاج واستهلاك ، وسائل وادوات، الانتاج المادي والمعرفي ..آلية تفكير معبرة..عن آلية الاستخدام والاستهلاك ، والسلوك كنمط من العلاقات، اقتصادية، قانونية ، سياسية، اجتماعية ،.... بين الاحزاب ، مؤسسات المجتمع المدني ،..الدولة ، السلطة السياسية، ومؤسساتها. بهذه القراءة العامة.. يمكن للثقافة ان تكون الحضارة متجسدة ...اسلوب تفكير ، نمط للحياة... نمط استهلاك وعيش ،.. في السكن الاكل والملبس... ، نمط اتخاذ القرار ..ممارسة السياسة السلطة . آلية الابداع......باختصار ثقافة تنتجها معطيات حضارة.. بهذه الرؤية العامة يمكننا ان نلحظ ، ببساطة ، العلاقة بين الانظمة المطلقة في الحكم وصلته بدرجة التطور الاجتماعي، غالبا ما قبل سيادة نمط الانتاج الراسمالي . وهذا يفسر ايضا ،÷سبب تحول الدكتاتورية في مجتمع مدني او عصري الى عائق امام تطور الحياة ونمطها العصري ، واثر ذلك على تطور الشخصية( العراق) . وحتى النموذج السعودي ـ الخليجي ، الذي يبدو انه ، يشذ عن هذه الحقيقة ، لان قاعدة نظام السوق الاقتصادية، تتعزز دون ان تترابط مع البنيان السياسي القانوني ، على مستوى تداول السلطة ، ونظام الحكم بالدرجة الاولى ، وله اسبابه التاريخية الخاصة ، الداخلية والخارجية ، لا مجال لتفصيل بها الان.
الحضارة والثقافة ، كأي كائن حي ، يولد في زمن ، ينمو ويكبر ويشيخ ..والحضارة والثقافة الاساسية كاشجار الغابة المعمرة العميقة الجذور، لا يضيرها نمو اشجار اصغر او اضعف الى جانبها او تحت ظلالها. ومثلما تنتخب الطبيعة الافضل حسب " الانتخاب الطبيعي " لداروين ومنطق نظريته في النشوء والارتقاء، فان المجتمع وظواهره ، حضارته وثقافته ، مع ادراك الفارق، بين آلية قوى الطبيعة العمياء ، والطبيعة المدركة لقوى المجتمع، هي في الواقع تخضع لذات الجدلية في التطور والارتقاء ..قيام حضارات واند ثارها ، بفعل تقادم وتخلف خصائصها عن التعبير ، عن متطلبات الجديد...اما من تمكن منها ، على البقاء الى جانب ، اكثر من حضارة او ثقافة، فذاك دليل قدرة على التكيف مع الجديد ، او غياب علاقة تناقضية معه.
حقيقة ان العالم بات قرية صغيرة ، بسبب التطور الهائل ، وسائل انتقال المعلومات والاتصالات ، بعد التطور الذي تم في الحياة ونمط المعيشة في العالم . ورغم ان هذا التطور ، لا زال غير متكافئا او متوازنا ، بين الدول وفي داخل الدولة الواحدة ، الا ان عدم المساواة هذه ، لم تمنع العالم من السير نحو اعتماد معايير حضارية ، هي نتاج عملية تاريخية من الصعب ، ايقافها ، وهي لازالت لديها ما تقدمه للعالم ، خصوصا في بلدان الاطراف. اي مجتمع في عالم اليوم.. في دول الاطراف . دع عنك مجتمعات المدينة ، مهما كانت ظروفه ، بامكانه ان يستغني عن ، المدرسة والمعلم ..والمركز الطبي والادوية والاطباء ..او حتى الاستغناء عن الموبايل والانترنيت ، التلفزيون الراديو ..الصحافة والمجلات والكتب .. والسيارة وربما القطار او الطائرة..الخ. ..هل باتت الحضارة (الغربية ـ مجازا) العالمية في الواقع ، قدرا على جميع الشعوب، وانتهت المراهنات على امكان ، اكتشاف طريق آخر غير الطريق الغربي التقليدي؟..ام ان التجربة الماليزية والا ندونوسية .. السعودية والخليجية .. الايرانية والعراقية .. السورية والاردنية.. ، اليمن وجيبوتي ، والاهم الان التجربة التركية ...تجارب امريكا اللاتينية (الفنزويلية ، النيكاراغوية ، البوليفية ).دليلا على امكان، قيام تجارب خاصة، ذات ثقافات اسلامية وقومية ، اشتراكية، لا تلتزم القيم الليبرالية؟
ومع ذلك فان كل هذه القوى والتيارات ، من اقصى احزاب اليسار والشيوعيين..الى الاحزاب الدينية ، وما بينهما من احزاب قومية او اية احزاب عقائدية اخرى ، مضطرة اليوم ، الى ادخال تلك الاعتبارات القيمية ، في برامجها الحزبية والسياسية بهذا الشكل او ذاك. ...والى تاكيد واعلان التزامها ، بالعمل وفق، ومن اجل ترسيخ، تلك القيم ، في البنيان السياسي ـ الثقافي، والحياة في مجتمعتها. عدا التيارات الاشتراكية في امريكا اللاتينية ، ..لا يوجد بين هذه الاحزاب، من يعارض الليبرالية ، كنظام اجتماعي ـ اقتصادي، او مشروعها الثقافي ونظامها السياسي ، واجندته المعروفة ، رغم محاولات عوى الخصوصية القومية ، الدينية ، الثقافية..الخ ؟
لقد باتت الليبرالية اليوم، كثقافة سياسية.. قيم وآلية عمل، بمفاهيم وادوات، على اجندة كل تيارات الفكر السياسي ، ... يقتضي اعتمادها او مراعاتها الى حد كبير ، في الحياة السياسية ـ الثقافية ، لاي مجتمع، بهذه الدرجة او الشكل او ذاك. . فخارج مظلة الديموقراطية ، والتعددية ، والحرية ، ودولة القانون والمواطنة، المتساوية في الحقوق والمسؤليات ، لم يعد ممكنا لاية اجندة سياسية ، ان تبقى فاعلة ، حية ، في الحياة السياسية ، اذا ما تجاهلت كليا تلك المعايير والقيم .
هل هذا مؤشر ودليل على انتصار الليبرالية، تاريخيا (الان) كثقافة ، كنظام سياسي ، ونظامها الاقتصادي ـ الاجتماعي ، الراسمالية؟ الجواب ، نعم وبالتاكيد. ...ولكن هل تقيم هي ..ارقى نظام ديموقراطي ،.. يوفر حرية وعدالة اجتماعية؟..اي هل هي نهاية التاريخ ، كما يقولون ؟ الجواب، كلا بالتاكيد.... قد يبدو ان هناك تناقض بين هاتين الحقيقتين. ولكن انتصار الليبرالية كنظام سياسي ـ اجتماعي ـ اقتصادي ، الان كتجربة ارقي في معاييرها القيمية والسياسية والثقافية ... لا يعني قدرتها على تجاوز تناقضاتها الاساسية ، في الاقتصاد ...في الفجوة التي تسع ..واللا مساواة واللاعدالة ...بين المالكين والمنتجين ..بين تمركز الثروة ..في المركز والحرمان منها في الاطراف.. وانعدام امكان او ضرورة البديل الافضل.
ليس التجارب المعاصرة التي لم تكتمل حتى الان ، في امريكا اللاتينية او في الدول الاحرى التي اشرنا لها اعلاه ، هي وحدها التي تقدم الدليل على امكان قيام ، قيم الليبرالية ، في الديموقراطية ، الحرية ، والعدل ، وحقوق الانسان ، ارتباطا بطغيان موجة الليبرالية على المستوى العالمي ، وانتقالها وبالاصح نقلها من مراكزها، الى اطرافها ،.. شكلا، مشوها، مفرغا من القيم ، التي تدعي قيامها في بلدانها...شكلا مختلفا عن نسختها، التي تريدها لنفسها ، او تضطرها ظروفها لها في بلدها . ولن تشعر باي تناقض او حرج اخلاقي ، حتى لو اقتضى الامر العودة الى فعل الاستعمار.