الدولة الدينية دولة متطفلة


سامر سليمان
2007 / 12 / 24 - 11:53     

صنف مصر بأنها دولة شبه علمانية. وذلك لأن حكامها يلبسون البدل والكرافتات، ولأنها تتحدث بانجليزية "مكسرة" أو عربية "مكسرة" عن المساوة بين المواطنين بغض النظر عن الدين والجنس والأصل الاجتماعي، كما تقول المادة 40 من الدستور. ولكن المثل الفرنسي يقول "ثياب القسيس لا تجعل من الشخص قسيساً". فالدولة هنا دينية، متطفلة على خصوصيات الناس، تنصب كمائن للمؤمنين وللراغبين في تغيير ديانتهم. ولا عجب اليوم أن الكثير من العقود التجارية تُكتب فيها ديانة البائع والشاري.

في فيلم "السحر الخفي للبورجوازية" للمخرج الفرنسي لوي بنيال دخل أحد القساوسة فيلا عائلة بورجوازية ليطلب وظيفة جانيني. ولكنه طرد شر طردة لأنهم شكوا فيه. فذهب القس وارتدى ملابسه الكهنوتية ورجع للعائلة لكي يطلب الوظيفة من جديد، فقوبل باحترام شديد حتى أن زوجة البورجوازي قبلت يده – على عادة الكاثوليك المتدنيين. المخرج الفرنسي يخالف إذن مثله الشعبي ويقول أن الثياب تنجح كثيراً في أن تجعل من الشخص قسيساً. وملابس الدولة المصرية الافرنجية نجحت في أن تجعل منها دولة شبه علمانية. ولا عجب في أن تلبس الدولة ثياباً أفرنجية، فكلنا لابسين أفرنجي، بما فينا الاخوان المسلمين. والزي الأفرنجي فارض لنفسه لدرجة القسر. لقد فرض كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية العلمانية القبعة بدلاً من الطربوش بقوة القانون. ولكن حكام مصر فرضوا الأزياء الأوروبية دون قانون. وهم يميزون ضد الأزياء التقليدية لدرجة أن الاوبرا تمنع دخول الناس بالملابس المصرية التقليدية. إنه "السحر الخفي للبورجوازية" الذي يعيد نفسه في كل مكان.. سحر الاهتمام بالشكل على حساب المضمون.. سحر فرض الشكل الحديث لإخفاء قبح الواقع غير الحديث وغير الانساني.
هذا "السحر الخفي للبورجوازية" هو الذي ذهب بعقول الذين صاغوا دساتير الدولة المصرية، فوضعوا قاعدتين لا يمكن التأليف بينهما إلا بمعجزة. القاعدة الاولي تقول أن الدولة في مصر لها دين معين، والثانية تقول أن المواطنين سواء بغض النظر عن الدين! قل لي بالله عليك، كيف تستطيع دولة تحمل بطاقة هوية مكتوب فيها دين معين ألا تتحيز لأصحاب هذا الدين؟ الحل الوحيد هو أن ينظر هذا الدين إلى معتنقيه كما ينظر لغير معتنقيه. وهذا ظلم للاسلام. الأديان يمكن أن تتعايش ويمكن أن تنظر نظرة إنسانية إلى البشر جمعياً، ولكنها لا يمكن أن تسقط الحدود بينها وبين الديانات الأخرى أو بين معتنقيها ومعتنقي الديانات الأخرى. فكما أن الدول لا يمكن أن تقبل انتقاص سيادتها لصالح سيادة دولة أخرى، فالأديان لا يمكن أن تتنازل عن تميزها. نعم الإسلام مستهدف، هو أكثر ديانة في العالم مستهدفة بالمطالبة بالاعتدال، أيا كان معنى الاعتدال. نعم الاسلام مطالب بالاعتدال بالرغم من أن هناك أديان أخرى لا تتميز بأي اعتدال ويتم التسامح معها. لماذا؟ لأن الدين عندما يصبح ديناً الدولة، لابد وأن يتأثر بالصراع السياسي. الاسلام مستهدف من المسلمين ومن غير المسلمين لأنه دين الدولة في مصر. لكي يتحرر الاسلام من الاستهداف، لكي يتحرر من تأويله لصالح السلطان، لابد له وأن يتحرر من سلطان الدولة.
الدولة المصرية مثقلة بعبء الدين، ومن هنا هي تفسد على الناس حريتهم في اختيار الدين الذي يؤمنون به. ما الذي يجعل الدولة تنتظرني عند كل منحنى لكي تسألني عن ديانتي وعما إذا كنت قد غيرت ديانة أبي أم لازلت أؤمن بها؟ الدولة تنصب كمائن للمؤمنين وللمؤمنين بديانة غير ديانة أبائهم لكي تسألهم عن أسباب تحولهم عن دينهم. والكمائن اليوم أصبحت للجميع. صحيح أن كمائن المسلمين الخارجين من الإسلام، تكون المعاملة فيها سيئة جداً، لكن الكمائن كلها سيئة حتى لو انتهى الكمين بأن رفع الضابط لك قبعته أو كابه. لأن المهين في الموضوع هو السؤال نفسه. المهين في الموضوع هو أن يسألني موظف عام عن أدق خصوصيات حياتي. المسيحي المتحول للاسلام لابد وأن يتعامل مع أمن الدولة. ولا غرابة في ذلك، فالمفتي الرسمي للدولة قد أفتى بأن إعلان المواطن المصري لديانته هو جزء من النظام العام. وإذا أصبحت ديانة المرء جزءاً من النظام العام، فلابد لرجل الشرطة - أيا كان زيه - أن يسألني عن ديني، ويتحقق من أن إجابتي مطابقة للأوراق التي أمامه، وأن يجيب على طلبي بتغيير الديانة على الورق بالرفض أو القبول. الدولة الدينية اليوم ليست الدولة الدينية في الماضي. هي أسوأ ألف مرة، لأنها تمتلك أدوات حديثة. الدول الحديثة تقوم على التدوين، ولكن الدولة الدينية الحديثة لا تكتفي بتدوين المعلومات اللازمة لعملها، ولكنها تضيف إليها معلومات ليس لها أي ضرورة. هكذا كان على كاتب هذه السطور أن يكتب ديانته حين باع سيارته القديمة. ما هي العلاقة بين ديانتي وواقعة بيعي لسيارة؟ ليس هناك علاقة. القانون لا يطلب كتابة الديانة في العقود، لكن دعاة الفرز الطائفي لا يقبلون بأقل من ذلك، والدولة تخضع لهم، بل أن بعض رجال (وسيدات) الدولة مثل الوزير عائشة عبد الهادي رددت ما يقال في الغرف المغلقة عن ملكية المسيحيين لثلث ثروة البلاد!
الدولة المصرية دينية في المادة 2 من الدستور وعلمانية في المادة 40. هكذا يستمرالتناقض، وهكذا يظل الصراع مستعراً في المجتمع وفي الدولة حول علاقة الدين بالدولة. وهو الصراع الذي يستنزف بعضاً من طاقات الدولة وكثير من طاقات المجتمع. المادة 40 التي تنص على المساواة بين المصريين لا يمكن حذفها، لأن هناك ناس ستفتديها بأرواحها، وأنا سأكون منهم. والمادة 2 صعب تغييرها اليوم لأن معظم النخبة من المسلمين يتصور أن ذلك يعني تخلي الدولة عن الاسلام، كما لو كانت الدولة المصرية أخصلت للاسلام يوماً من الأيام. لقد طالب نشطاء حقوق الانسان بحذف خانة الديانة من البطاقة، ولكن لا حياة لمن تنادي. حسناً، لماذا لا نبدأ بحذف خانة الديانة من العقود التجارية؟ الاسلام لم يميز بين المسلمين وغير المسلمين في المعاملات التجارية كما فعلت اليهودية، التي حرمت الربا بين اليهود وحللته مع غيرهم. لا تسألونا عن ديانتنا في عقود البيع والشراء وعقود العمل. فهذا ليس من الاسلام في شيء. هذا هو الحد الأدني، وهذا هو أضعف الايمان.