عندما تتحدث الفاشية حديث الطبقات


سامر سليمان
2007 / 12 / 13 - 12:06     

الحملة التي انطلقت في مصر ضد رجل الأعمال نجيب ساويرس ترددت فيها بعض أصداء خطاب فاشي يتخفي وراء الإسلام من أجل تعبئة المسلمين طبقياً ضد المسيحيين بحجة "سيطرة الأقباط على الثروة في المجتمع". هذا الخطاب ما هو إلا جزء من ظاهرة فاشية كبيرة متواجدة داخل المجتمع المصري بكل طبقاته وطوائفه وإن كان بدرجات متفاوتة وبأشكال متنوعة.

الفاشية في المانيا اتخذت اسم الاشتراكية الوطنية. فما علاقة الفاشية بهذا الاسم؟ ما علاقتها بالاشتراكية وبتعاون الناس في الإنتاج والاستهلاك؟ وما علاقتها بالوطنية وبالإخلاص في الانتماء إلى وطن واحد متجسد في وحدة سياسية واحدة وهي الدولة. الفاشية في الحقيقة لا علاقة لها بهذا ولا بذاك، وأهم دليل على ذلك أنها نكلت بكل فصائل الاشتراكيين، كما نكلت بالعمال وبتنظيماتهم وهم العمود الفقري لأي مشروع اشتراكي. وهي أيضاً قمعت أي وطني كان يشفق على المانيا من مصيرها البائس المحتوم على يد مجموعة من الحمقى تصورا أن بإمكانهم إخضاع العالم كله لألمانيا، فإذا بالعالم كله تقريباً – أو القوى الكبيرة فيه - يتحالف ضد ألمانيا وينكل بها. الفاشية إذن تتخفي وراء الوطنية دائماً والاشتراكية أحياناً من أجل فرض ايديولوجيتها القائمة على عبادة القوة. الفاشية لا تحترم إلا القوة وهي تحتقر الضعفاء وتنكل بهم أساساً لأنهم ضعفاء. الفاشية هي أحد أمراض العصر، والتربة الخصبة التي تعمل فيها هي تلك البلاد التي تسرع الرأسمالية بتفكيك الكيانات والمؤسسات التقليدية بها مثل العائلة والمجتمعات المحلية وتستبدلها بفردية متوحشة تكون نتيجتها توفر ملايين البشر عارين من أي شبكات أمان أو تنظيمات حديثة توفر لهم الحماية. لذلك فجزء منهم يرحب بالفاشية التي تمنح لهم الاحساس بقوة الجماعة المسيطرة. الفاشية تستعير من الاشتراكية بعض من خطابها المناهض للظلم والاستغلال، ولكنها تضيف إلى هذا الخطاب خلطة من البهارات العنصرية والطائفية، فمثلاً تستبدل العدو الرأسمالي بالعدو الرأسمالي اليهودي، فتصبح المشكلة في اليهود. الفاشية لا تفشل فقط في تجاوز الاستغلال ولكنها ترتد بالمجتمع إلى ما قبل عصر التنوير، بل إلى ما قبل الحضارة. الفاشية هي إذن محاولة تجاوز مظالم المجتمعات الرأسمالية بظلم أشد منه.
الفاشية تكون قوية في بدايتها لأنها تعتمد على مجموعة من المقولات البسيطة الكاذبة، مثل أن فرنسا بها أربعة ملايين عاطل وأربعة ملايين مهاجر عربي. فإذا "شلنا ده من ده، ارتاح ده عن ده". ولكن مقولات الفاشية تستمد قوتها أيضاً من كونها مدعومة بقوة مسلحة تردع من لا يقتنع بأكاذيبها الجوفاء. ولكن الفاشية في حقيقتها ضعيفة لأن محتواها الأخلاقي هش ولأنها تقوم على عبادة الزعيم، فتنهار الحركة حين يغيب هذا الزعيم. عندما هُزمت النازية عسكرياً وبعد أن انتحر زعيمها هتلر، تخلى عنها فوراً ملايين الألمان الذين كانوا يرفعون راياتها. وكما أوضحت الفيلسوفة الالمانية - حنا أرندت - جماهير النازيين الذين حملوا لواء الحركة لعقد أو عقدين من الزمان تخلوا عن النازية بعد الحرب ومارسوا حياتهم الطبيعية كأن شيئاً لم يكن. فالنازيين ضعاف النفوس، لا يعيشوا إلا بإلهام زعمائهم المطلقين وبفضل اعتمادهم على القوة المسلحة.
إذا قمنا بتعريف الفاشية بأنها تعيش على أحلام الحمقى في محاولة تجاوز المعاناة والظلم بظلم مماثل أو بأسوأ منه، فإن الفاشية لها تواجد في كل المجتمعات، ولكنها تتخذ أشكال وألوان مختلفة، منها ما هو سياسي ومنها ما هو غير سياسي. بل يمكن القول أن الفاشية تكمن في كل واحد منا وإن بدرجات متفاوتة. منا من يقهرها بفضل تماسكه الأخلاقي، ومنا من يقع أسيرها ومنا من يروج لها ويتزعمها. الفاشية في أحد أشكالها أطلت برأسها على الساحة المصرية في الاسابيع الاخيرة. فقد تحدثت عن احتكار المسيحيين لمعظم الثروة في البلاد. وبالرغم من أن جولة صغيرة في منشية ناصر أو المطرية أو الزاوية الحمراء أو في بعض مدن وقرى الصعيد كافية للتحقق من أن نسبة فقراء المسيحيين لا تقل كثيراً عن نسبة فقراء المسلمين فإن الفاشية لا تخجل من ترديد هذه الكذبة. وبالرغم من أن لحظة يستعيد فيها المرء أسماء وأديان الأغنياء الذي التقى بهم في حياته أو سمع عنهم كافية لكي يتبين المرء أن الكثير من الأغنياء مسلمين فإن الفاشية هنا أيضاً لا تخجل من الكذب.
الأمانة تقتضي الاعتراف بأن الميول الفاشية موجودة في كل التيارات السياسية ولا تقتصر على التيارات الاسلامية والقومية. ولكن التيار الإسلامي له نصيب الأسد من الميل الفاشي، سواء لأنه التيار الأكبر في المجتمع السياسي المصري، أو لأن بنيته الفكرية ذات مناعة ضعيفة أمام الميول الفاشية لأنها تعتمد على الإقصاء والاستبداد. ولكن يظل أن الفاشية منتشرة في المجتمع كله، وهي متواجدة في الأقليات أيضاً، سواء في شكل فاشية مسيحية معادية للإسلام أو معادية لطوائف وجماعات مسيحية أخرى. وكما هي موجودة ضد الأقليات الدينية باعتبارها جماعات مستضعفة، فهي أيضاً موجود ضد النساء لنفس السبب. فكما أن حل مشكلة فقراء المسلمين قد يكون بفرض الجزية أو الاتاوات على المسيحيين، فإن حل مشكلة البطالة في مصر قد يكون بطرد النساء من المجال العام وإجلاسهن في البيوت حتى لا ينافسن الرجال على الوظائف. كم مرة عزيزي القاريء سمعت مقولة أن البطالة سببها عمل المرأة؟ لا يهم هنا أن ملايين النساء في مصر يعشن بدون عائل وينفقن على أسرهن من عملهن. فالفاشية تحاول حل المشاكل عن طريق هرس الضعفاء، لذلك يتواطأ معها أحياناً الأغنياء والمتسلطين إذا شعروا بالخطر. فلنحذر من تواطئهم معها هذه الايام. فالصراع الطبقي في مصر يشتد، وهم يشعرون بالخطر. فلنحذر من الفاشية، إنها أحط الايديولوجيات السياسية التي يهون في سبيل القضاء عليها الغالي والرخيص.