البديل الاشتراكي 2، بديل عن الفردية المتوحشة والعائلية المتخفلة


سامر سليمان
2007 / 12 / 12 - 11:40     

بالأمس تكلمت عن أهمية الحوار والعمل اليساري المشترك. فالاشتراكية – وهي الهدف الاستراتيجي لكل اليساريين - هي مشروع جماعي يجيب على احتياجات مجتمع يئن من سيادة الفردية الأنانية (أنا ومن بعدي الطوفان) كما يعاني من أسرية متخلفة (أسرتي ومن بعدنا الطوفان). فما هي ملامح تلك الجماعية؟

الجماعية هي القيمة العليا للاشتراكية. فالاشتراكية هي التعريب الذي اخترعه الشوام لكلمة socialisme التي ظهرت في فرنسا بفضل السان سيمونيين. ولكن الترجمة الحرفية لكلمة "سوشيالزم" هو الاجتماعية أو الجماعية. وكلمة جماعية هي معكوس كلمة فردية. الاشتراكية هي إذن محاولة لبناء جماعية من نوع جديد، وهي تتوجه إذن لذلك المواطن الفرد الذي أنتزعته الرأسمالية من أسرته أو عائلته أو قبيلته لكي تدمجه في مؤسسات اقتصادية يعمل فيها مع زملاء لا تربطه بهم قرابة الدم. لقد فككت الرأسمالية من نمط الانتاج العائلي وشيدت صروحاً اقتصادية تقوم على عمل جماعي مؤسس على التخصص وتقسيم العمل. وهذه هي عبقرية وتقدمية الرأسمالية. فهي تضع مواطنين غرباء عن بعضهم البعض في مكان عمل واحد، وغالباً ما تخضعهم لشروط عمل قاسية، مما يسمح بنمو تضامن جديد بينهم قائم على زمالة العمل، وليس على العائلة أو القبيلة أو الدين، الخ. وهذا التضامن القائم على زمالة العمل هو من أرقى أنواع التضامن الذي عرفته البشرية، لأنه مرتبط بحياة الأفراد وبمتطلبات تأمين احتياجاتهم الملحة والأساسية. التضامن الأسري لا يكفي وحده لإقامة مجتمع صالح. نعم، ستظل الأسرة قائمة كمؤسسة ضامنة لتجدد البشرية وستظل الوعاء الطبيعي لإنتاج أجيال جديدة من البشر وستظل ساحة من الأمان والتعاطف البشري. لكن الأسرة لم تعد اليوم مؤسسة إنتاجية اقتصادية بالنسبة لمعظم أبناء البشر، ولا بالنسبة لمعظم المصريين. هؤلاء هم الأرضية الاجتماعية لأي مشروع جماعي حقيقي، هؤلاء هم ملح الأرض الذي تحدث عنه الاشتراكيون منذ زمن بعيد. لأن هؤلاء - وهؤلاء فقط - هم الذين يدركون حدود مؤسسة الأسرة، وهؤلاء – وهؤلاء فقط - هم الذين سيدركون أن المجتمع الانساني الحقيقي يقوم على أكثر من تجمع أسر في وعاء كبير يطلق عليه البعض "العائلة". لذلك تظل أحلام التيارات الدينية من قبيل الخيال الجامح، حيث أنها تحاول أن تصنع أسرة واحدة من جماعات هائلة من البشر تصل إلى الملايين أو المليارات، في حين أن منطق الأسرة ذاته يقوم على العلاقة الجسدية المباشرة بين بضعة أفراد. لذلك فهذا هو المستحيل بعينه. ولذلك قوبل كلام الرئيس السابق السادات عن "العائلة المصرية" وعن كونه رب هذه العائلة بسخرية لاذعة. فالمصريون ليسوا أسرة واحدة ولن يكونوا. هم يمكن أن يصبحوا جماعة انسانية واحدة، وهذا يتطلب منطق انساني متجاوز لمنطق الأسرة أو القبيلة أو الطائفة.
الرأسمالية المصرية طبقة رجعية وتقدمية في أن واحد. هي طبقة رجعية لأنها لا زالت تقوم على نمط الإدارة العائلية. معظم البزنس الكبير في مصر تمتلكه عائلات كبيرة، وتديره بشكل عائلي. وبما أن الرأسمالية المصرية طبقة صاعدة لذلك فأفكارها تتقدم وتسود، فكما قال ماركس، الأفكار السائدة هي أفكار الطبقات السائدة. إن انتشار التوريث في الوظائف العامة وفي مؤسسات الدولة (أنظروا إلى كليات الطب مثلاً) ما هو إلا الانعكاس الطبيعي لسيادة النمط الإداري للرأسمالية المصرية الصاعدة على الدولة المصرية. وما ظاهرة جمال مبارك، إلا تطبيقاً لهذا النمط الإداري العائلي على قمة السلطة السياسية التي لا يعرفون كيف يديروها إلا بهذا النمط البسيط والمتخلف. بهذا المعنى الرأسمالية المصرية متخلفة. ولكن كما أن الرأسمالية تقوم بتمتين أواصر أسرها كوحدات إدارية للأصول الاقتصادية، فهي تفكك الطابع الإنتاجي لأسر غير المالكين لأي أصول، مما يسمح لهؤلاء بأن يحتفظوا للأسرة بوظائفها الحيوية فقط (حفظ النوع والتعاطف) وأن يقيموا أشكال من التضامن تتجاوز حدود الأسرة. بهذا المعنى الرأسمالية تقدمية. هذه النظرة العلمية الرصينة للرأسمالية باعتبارها طبقة تقدمية ورجعية في نفس الوقت هي أهم تراث تركه ماركس لكل أجيال اليسار التي جاءت من بعده.
الاشتراكية لها مستقبل في مصر لأن الرأسمالية تساهم في تطوير المجتمع بالشكل الذي تصبح هي ذاتها متخلفة عن جماعات أخرى في المجتمع. تخلف الرأسمالية يكمن في فرديتها الشديدة. لذلك فسهام النقد يجب أن تتوجه لهذا الطابع الفردي. والبديل الاشتراكي هنا هو رافد أساسي من المشروعات الجماعية في مصر. الجماعية التقدمية لا تقوم على قهر الفرد أو الفردية، ولكن عن جدل وربما توتر في بعض الأحيان بين الفردية والجماعية. الجماعية التقدمية هي تعريفنا لمصالحنا الفردية إنطلاقاً من انتمائنا لجماعات أكبر وأكبر، هو البحث عن حلول جماعية للمشكلات المزمنة، لأن الحلول الجماعية هي الحلول الوحيدة الحقيقية لكائنات اجتماعية بالطبيعة. الحلول الجماعية هي مثلاً المواصلات العامة في مواجهة السيارات الخاصة والمكروباس، هي إصلاح المؤسسات التعليمية وأحوال المدرسين عوضاً عن الدروس الخصوصية، هي حق المصريين في التنزه على شاطيء النيل في مواجهة الأقليات التي تحتكر النهر الخالد لها. هذه هي الجماعية أي الاشتراكية. وهذه هي القيمة العليا لليسار، التي لو كان مخلصاً فعلاً لها لكان عليه أن يفكر ويعمل هو بشكل جماعي، لكي يجسد في الواقع العملي قيمته العليا.