الوطن العربيّ: أفكار في وحدة اليسار


حزب العمل الوطني الديمقراطي
2007 / 12 / 4 - 11:32     

يستحيل فهم الأوضاع وقيادة المعارك دون الالمام بالتناقضات التي تحكم تطوّر المجتمعات البشريّة. ولئن تعدّدت تلك التناقضات بحكم تعدّد أوجه الحياة وتعدّد مجالاتها فإنّ هناك جملة من التناقضات الأساسيّة الفاعلة في المجال السياسي.

من بين تلك التناقضات الأساسيّة التناقض بين الطبقة العاملة والبرجوازيّة في البلدان الرأسماليّة التي انجزت المهام الديمقراطيّة مثلما انجزتها الثورة الفرنسيّة على احسن وجه سنة 1789. تتجلّى مظاهر هذا التناقض من خلال الاضرابات والتحرّكات العماليّة في بلدان أوروبا وامريكا الشماليّة و اليابان ومن خلال المظاهرات الصاخبة التي تدور بمناسبة اجتماعات "مجموعة الثمانية" وغيرها من التظاهرات المناهضة للعولمة الليبرالية. إنّ علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة في تلك البلدان تضع على عاتق الطبقة العاملة مهمّة تحرير المجتمع من هيمنة راس المال وإرساء النظام الاشتراكي المنشود مع الأخذ بالاعتبار التجارب التاريخيّة وخاصّة الجوانب السلبيّة التي أدّت للانحراف والتكلّس والانهيار.

ومن بينها أيضا التناقض بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الراسمالي الذي برز كتناقض اساسي إثر انتصار ثورة أكتوبر والذي اكتسى طابعا تناحريا على امتداد القرن العشرين وانتهى أو يكاد إلى انتصار كاسح -ولكنّه غير نهائي لانّ التاريخ لم ينته- للنظام الرأسمالي على حساب قيم التقدّم والعدالة الاجتماعيّة والمساواة. ولقد فتح هذا الانتصار المجال أمام المزيد من الغطرسة الراسماليّة والاكتساح الامبريالي تحت يافطة العولمة الليبراليّة وسيطرة الفكر الغيبي الظلامي بمختلف مراجعه العقائديّة ومبشّريه.

ومن بينها أيضا التناقض بين الامبرياليات التي تتنافس فيما بينها وتسعى كلّ منها لتأمين مصالحها وللمحافظة على مواقعها أو لتوسيعها. ولئن تراها تتحالف مع بعضها البعض في عدد من الحالات والظروف فإنّ الصبغة التنافسيّة تصبغ على الدوام علاقاتها ولقد افضت إلى العديد من النزاعات والحروب بما فيها الحرب العالميّة الأولى. ولئن اختلّ ميزان القوى لصالح الامبرياليّة الامريكيّة بشكل ملحوظ منذ أواخر القرن المنصرم فإنّ ذلك لا يعني أنّ الامبرياليات الأخرى قد اصطفّت بشكل كليّ وراءها بل تعمل على منافستها وقد اتضح ذلك بشكل جليّ قبيل الحرب الانجلو-امريكيّة على العراق حيث عبّرت دول امبرياليّة كفرنسا وألمانيا عن تحفّظها. ونحن نشاهد يوميا مظاهر هذا التنافس في العديد من بقاع العالم وحول العديد من القضايا الكبرى كقضايا التسلّح وغزو الفضاء والتجارة العالميّة وإنتاج الأدوية والسيطرة على كبريات الشركات الماليّة والصناعيّة والتجاريّة. ويعبّر عن ذلك مصطلح جديد ظهر منذ بضعة سنوات في البلدان الرأسماليّة وهو مصطلح "الوطنيّة الاقتصاديّة" (le patriotisme economique). لذا فالحنكة السياسية تتطلب الاستفادة من تلك الخلافات وتوظيفها لفائدة النضال التقدّمي وتركيز الجهد الرئيسي في محاربة الامبريالية الامريكية بوصفها الأكثر غطرسة وبطشا وجشعا.

أمّا التناقض الأساسي الأكثر حدّة والأكثر تأثيرا في أوضاع العالم وجلّ سكّانه فهو التناقض بين الامبرياليّة من جهة والشعوب والأمم المضطهدة من جهة ثانية. فالامبريالية في شكلها المعولم تزداد شراسة وجشعا يوما بعد يوم لارضاء رغبة الاحتكارات الكبرى والشركات الماليّة في تحقيق أكثر ما أمكن من أرباح. وهي ترى في بلدان العالم الثالث مصدرا للمواد الخام من نفط وغاز ومعادن ومجوهرات وغيرها من المواد الطبيعية ومن المنتوجات الفلاحية ومن منتوجات البحار يجب الاستحواذ عليها ونهبها بكلّ الطرق. وهي ترى فيها أيضا سوقا وجب اخضاعها بشتى الوسائل لترويج رؤوس أموالها ومنتوجاتها ذات القيمة الإضافية المرتفعة كالأسلحة والتكنولوجيات المتطوّرة والأدوية والطائرات والأقمار الاصطناعيّة والبواخر والقطارات والسيارات وكذلك لمنتوجاتها الثقافيّة الرديئة ولمنتوجاتها الزراعية ذات الصبغة الاستراتيجية كالحبوب والزيوت واللحوم والألبان. وهي بذلك تحول دون التطوّر الطبيعي للبلدان الخاضعة لسيطرتها وتبقي على علاقات الانتاج المتخلّفة ولا تسمح بتنمية إلا بعض القطاعات الهامشية التي أصبحت في نظرها غير مجدية أو قليلة الجدوى على غرار قطاع النسيج والالكترونيك ومراكز البيع عن بعد (centres d’ appels). والتي تبقى في كلّ الأحوال خاضعة لها من حيث التمويل والتسيير والتسويق. ولإحكام سيطرتها على بلدان العالم الثالث تعتمد الامبريالية على الشرائح الاجتماعيّة المحلّية الأكثر تخلّفا من وسطاء وسماسرة وكمبرادوريين وكبار ملاكي الأراضي وشيوخ قبائل وقادة عسكريين وأمراء حرب وزعماء مجموعات واقليات اثنيّة. كما تعتمد على قادة الأحزاب الليبرالية بما فيها الاحزاب التي تتخذ غطاء دينيا.



هذه المعركة بين الامبريالية، وعلى رأسها الامبريالية الامريكية، تدور رحاها في كافّة اقطار الوطن العربي وخاصّة في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال كما تدور رحاها في أفغانستان والباكستان وإيران والجمهوريات النفطيّة المنتمية سابقا إلى الاتحاد السوفياتي والكنغو وساحل العاج والتشاد وكوبا وفنزويلا وكولمبيا وبدرجات مختلفة في كافّة بلدان العالم الثالث. على أن تبقى المنطقة العربيّة بحكم أهميتها وانتصاب الكيان الصهيوني داخلها المنطقة الأكثر حساسيّة والمستهدفة قبل غيرها في هذه الآونة. وهذه المنطقة كما هو الحال بالنسبة لبقيّة أقطار العالم الثالث، ولئن تفاوتت درجات نموّها، لا تزال تعيش مرحلة التحرّر الوطني والديمقراطي. فالمحاولات التي قامت بها البرجوازية الوطنيّة هنا وهناك لتحرير المجتمع من علاقات الإنتاج البالية ولنشر علاقات الإنتاج الرأسماليّة عبر التأميمات والإصلاح الزراعي والتنمية الصناعية فشلت بسبب ضعف هذه الطبقة وتذبذبها ونزعتها للارتداد والقبول بأنصاف الحلول. وعلى العكس من ذلك فإنّ المنطقة تشهد عودة قويّة للفئات المتخلّفة من المغرب إلى مصر ومن مصر إلى لبنان واليمن والسودان... ولذلك فإنّ الطبقة العاملة التي تتحلى على الرغم من ضعفها العددي بقدرات فكريّة ونضاليّة وتنظيميّة متطوّرة أصبحت المؤهلة لتجميع كلّ الفئات التي يستهدفها النهب الامبريالي من فلاحين منتجين وصغار موظفين وصغار تجّار وحرفيين ولتحقيق أهداف المرحلة الوطنيّة الديمقراطيّة وإعطائها صبغة تقدّمية والمضي بها ضمن أفق اشتراكي.



ويندرج الوضع العربي في هذا الإطار العام مع اكتسائه لخصوصيات تتمثّل في استهداف المنطقة العربية بشكل رئيسي من طرف الامبريالية والصهيونية بعد أن كانت الامبريالية الأمريكية قد استهدفت في فترات سابقة كوبا والفيتنام والشيلي ونيكارغوا في عهد الحرب الباردة. فهي اليوم تضع كلّ ثقلها لمواجهة حركة التحرّر العربية والاستحواذ على خيرات المنطقة والحيلولة دون النموّ المستقلّ لأي قطر من الأقطار العربية وبروز قوّة إقليمية عربية قد تهدّد الكيان الصهيوني ولضرب تيّار التضامن والتوحّد القومي. إنّ إحتلال العراق والهجمات على المقاومة الفلسطينية والمناورات العسكريّة والسياسيّة ضدّ لبنان والسودان والصومال والتدخّل السافر في الشؤون الداخليّة لكافّة الاقطار العربية يرمي إلى اضعافها وتفكيكها واعادتها إلى العهود القروسطيّة وإنعاش الفئات الاجتماعية المتخلّفة داخلها. فهي تستعمل جملة من الأوراق بالاعتماد على الأنظمة التابعة لها وباعداد البدائل لها إذا اقتضت الحاجة وهي بدائل إسلامويّة ليبرالية لا تقلّ تخلّفا.



إنّ هذه الأوضاع الرديئة تستوجب نهوض التيارات التقدمية والعقلانية على مستوى كلّ قطر والسعي للتشاور والتنسيق فيما بينها على النطاق القومي ودفع عملها المستقلّ بالتخلّص من الأوهام حول تحالفها ولو كان ظرفيا مع القوى الاسلاموية المحتكرة للشارع العربي والتي يتباين مشروعها تباينا تاما مع المشروع التقدمي الوطني الديمقراطي والتي تكتسي طرق عملها طابعا استبداديا يكرّس التبعيّة العمياء والتي تسخّرها الامبريالية لفرض مشيئتها وتأمين مصالحها ولذا فإنّ العمل معها يخدمها بينما التباين معها يدعم تطوّر العمل التقدّمي.



ولدفع حركة اليسار التقدمي قطريا وقوميا وجب الالتفاف حول جملة من المهام الأساسية:

1) مناهضة السيطرة الامبريالية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية والنضال ضدّ الصهيونية في كلّ قطر من الأقطار وعلى المستوى القومي مع التركيز على انسحاب الجيوش الانجلو-امريكية من العراق وعلى مساندة النضال الوطني في فلسطين في سبيل اقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.

2) مناهضة الاستبداد في كلّ قطر من الأقطار والعمل على الظفر بحقّ المواطنة وبالحريات الفردية والحريات الجماعية لكافّة الأحزاب والمنظّمات المدنية.

3) الانخراط في الحركة الاجتماعية والمطلبيّة والنقابية للظفر بحقوق العمّال والفلاحين والفئات الشعبيّة الأخرى والدفاع عن القطاع العام والمرافق الاجتماعية والقدرة الشرائية والانتاج الوطني في كافّة المجالات.

4) نشر الفكر العقلاني النيّر خاصة في قطاعات التعليم والثقافة والاعلام والتصدي للثقافة الامبريالية الرديئة والفكر الظلامي.

5) الدفاع عن مبدإ المساواة التّامة بين الجنسين والعمل على تكريسه على أرض الواقع.

6) الانخراط في حركة التضامن العالمية المناهضة للحركة الليبرالية وللهيمنة الامبريالية.

دراسة وتقييم تجربة الحركة التقدّمية والبلدان الاشتراكية للحيلولة دون الوقوع في نفس الأخطاء القاتلة ولتحديد مقوّمات المجتمع الوطني الديمقراطي المنشود وعلاقته بمسألة الوحدة العربية وبالتحوّلات اللاحقة في اتجاه الاشتراكية والمجتمع اللاطبقي.

المصدر: "الارادة" ـ ديسمبر 2007
_______