من أجل تمشّ مشترك لمواجهة موعد 2009


حمه الهمامي
2007 / 11 / 14 - 10:58     

بدأت انتخابات 2009 تحظى بالاهتمام المتزايد من مختلف القوى السياسية ببلادنا. وينبغي الإقرار بأن السلطة هي التي فرضت هذا الاهتمام المبكّر نسبيا. فقد أطلقت منذ أشهر حملة عبر وسائل الإعلام لـ"مناشدة" بن على كي يترشّح لولاية خامسة تكريسا للرئاسة مدى الحياة مقنّعة. وعلى اثر ذلك صدرت ردود أفعال في بعض الصّحف المعارضة المعترف بها وغير المعترف (الموقف، صوت الشعب، مواطنون...) تدين الرئاسة مدى الحياة وتقدم بعض الأفكار لمواجهتها. ولكن يمكن القول إن المسألة الانتخابية بجانبيها الرئاسي والتشريعي لم تحظ إلى حد الآن بنقاش عمومي، موسّع ومعمّق، سواء داخل الأحزاب أو في ما بينها.

وتعتبر هذه الندوة رغم أنها لم ترسم لنفسها مثل هذا الهدف، فرصة لتبادل الرأي وإنضاج النقاش،عسانا نهتدي إلى تمشّ موحّد لمواجهة موعد 2009. وهذا أمر مهم حتى لا تقع الحركة السياسية في أخطاء سابقة، فتنقسم قبل الأوان، وتدخل في صراعات هامشية ومزايدات لا طائل من ورائها، وتنسى مهمّتها الأساسية المتمثلة في مقاومة الاستبداد. إنّ المعارضة مطالبة بأن لا تفوّت على نفسها فرصة أخرى للفعل السياسي الموحّد. وبأن تجعل من 2009 مناسبة للتصدّي المشترك للدّكتاتورية، فتخرج أقوى من قبل وتقطع خطوات نحو تحقيق أهدافها.

إنما يشغلنا في حزب العمال هو كيف نوجد جماعيا التمشّي الذي يحقق هذه الغاية خدمة للشعب وللبلاد. ومن هذا المنطلق نطرح عليكم جملة من الأفكار:

الواقع الحالي لا يسمح بانتخابات حرّة

لا يمكن لعاقلين أن يختلفا حول حقيقة أن الوضع الراهن لا تتوفّر فيه الشروط الدنيا لانتخابات حرّة، وبالتالي لا تتوفّر فيه الشروط الدنيا التي يمكن أن تبرر إعلان أية قوّة سياسية جادّة من الآن مشاركتها في انتخابات 2009. فالقوانين الجاري بها العمل لا تسمح كما هو معلوم لا بحريّة الترشّح للرئاسة ولا بحرّية الترشح للبرلمان. فبخصوص الرئاسة لا يجيز القانون عمليا الترشّح إلاّ لممثل الحزب الحاكم. وفي أفضل الحالات، فإن السلطة ستعمد إلى ما عمدت إليه سابقا من سن قانون خاصّ لا يسمح بالترشّح إلاّ لأشخاص معيّنين، إما لأنها تعتبرهم من المقرّبين منها وبالتالي مؤهّلين للقيام بدور "التيّاس" أو لأنها تعتبرهم مهمّشين ولا وزن لهم ولا يمكن أن يتجاوز دورهم دور الديكور في مهزلة يكون بطلها مرشّح الحزب الحاكم. أما بخصوص الانتخابات البرلمانية فإن النظام الانتخابي الحالي يمكّن السلطة كما جرت العادة، من التلاعب بالعملية الانتخابية من أولها إلى آخرها، خصوصا وأن الإدارة والقضاء لا يتمتّعان لا بالحياد ولا بالاستقلالية بل هما خاضعان تمام الخضوع لإرادة الفريق الحاكم.

ثمّ إن القوانين لا تسمح بحرّية التعبير ولا بحرية التنظّم والاجتماع أي أنها لا تُوفر لا التعددية الحزبية ولا التعدّدية الإعلامية اللتين هما شرطان أساسيان لأي انتخابات حرّة. زد على ذلك أن وسائل الإعلام والفضاءات العامّة كلّها تحت سيطرة السّلطة.

ومن جهة أخرى تسود اليوم في البلاد حالة من القمع غير مسبوقة. وهي تتمثّل في الحصار المضروب على الأحزاب والجمعيات والهيئات المدنية والنقابية وفي غلق مقرّاتها وحرمانها من الفضاءات العمومية، وفي تلجيم وسائل الإعلام وتكثيف الاعتداءات على المناضلات والمناضلين من مختلف الاتجاهات وتشديد المراقبة عليهم والتضييق على حرّيتهم في التنقل في الداخل والخارج.

يضاف إلى هذا تكثيف المراقبة على المواطنات والمواطنين في كامل أنحاء البلاد وتزايد حملات الاعتقال التي تشمل المئات من الشبان بتعلّة مقاومة الإرهاب، والعودة المكثّفة إلى ممارسة التعذيب وسوء معاملة المساجين السياسيين وتضييق الخناق على المسرّحين منهم سواء كانوا إسلاميين أو يساريين، وقمع التحركات الاجتماعية وخاصّة منها تحرّكات المعطّلين عن العمل والاعتداء على النقابيين وطرد النشطاء من العمل بأشكال تعسّفية.

ولم يعد خافيا على كل من يتابع الشأن العام بالبلاد أن تشديد القبضة الأمنية على المجتمع لئن كان من طبيعة نظام الحكم، فإنه مشروط أيضا برغبة السّلطة في السيطرة على الوضع من هنا إلى 2009 سيطرة تامّة لمنع تطوّر حركة معارضة سياسية واجتماعية تفسد عليها مشاريعها الرامية إلى دوس السيادة الشعبية مرّة أخرى ومواصلة تكريس الرئاسة مدى الحياة واحتكار "التجمّع الدستوري" للحياة العامّة.

وما من شكّ في أن من أهم العوامل التي تشجّع نظام الحكم على مواصلة السير في هذا النّهج، هو تواصل الانخرام الفادح في موازين القوى لفائدته بسبب ضعف الحركة السياسية وتشتّتها وانعزالها عن الحركة الاجتماعية.

إعلان المشاركة من الآن و"مهما كانت الظروف" خطأ فادح

لهذه الأسباب نعتقد أن إعلان المشاركة في الانتخابات من الآن ومهما كانت الظروف يمثل خطأ سياسيا فادحا إلاّ إذا كان الطّرف المعني، لا تهمّه سوى المشاركة لضمان منافع فئوية خاصّة عن طريق الولاء والارتشاء السياسي وليس عن طريق صندوق الاقتراع. وهو السلوك الذي عوّدتنا به أحزاب الديكور. وبالطّبع ليس من المفيد أيضا إعلان المقاطعة الانتخابية من الآن، إذا كان الهدف من ذلك البقاء على الربوة واتخاذ عدم توفر شروط المشاركة ذريعة لعدم خوض نضالات ميدانية ملموسة ضدّ الدكتاتورية ومهازلها الانتخابية.

إن أقصى ما يمكن أن يؤكّده حزب جدّي ومسؤول في الوقت الحاضر هو موقف مشروط من قبيل: "سنشارك إذا ... أو سنقاطع إذا ...". وإذا جاز له أن يرجّح فرضية على أخرى فهو مطالب بأن يفعل ذلك بناء على تحليل ملموس للواقع ودراسة موضوعية لآفاق تطوّره. ومن هذه الزاوية، واستنادا إلى خصائص الوضع الحالي وموازين القوى فيه فإن الأقرب إلى المنطق هو ترجيح المقاطعة على المشاركة. ولكن حتى لا نتهم بالانحياز فإننا نقول إنّ من ينوي المشاركة من موقع نضالي، فهو مطالب بأن يحترز وأن لا يتسرّع فيعلن مثلا أنه "سأشارك ولكن من هنا إلى وقت الانتخابات سأعمل على توفير الشروط الدنيا التي تجعل من مشاركته عملية نضالية، وإن لم تتوفر تلك الشروط رغم ما سأبذله من جهد "، فإنه سيلتجئ مكرها إلى المقاطعة لأن غير ذلك، أي المشاركة مهما كانت الظروف، لن تكون نضالية ولن تخدم سوى الدكتاتورية.

المشاركة والمقاطعة شكلان من أشكال النضال

إن المشاركة والمقاطعة شكلان من أشكال النضال، وهما مرتبطان تمام الارتباط بالظروف الملموسة، وبالتالي لا يمكن لأي قوّة سياسية جادّة أن تتبنى أحد هذين الشكلين، وترفض الشكل الأخر بصورة مطلقة، دغمائية، بالنظر إلى ما في هذا الموقف من نتائج سياسية سلبية.

إن من يتبنى المشاركة مثلا بشكل مطلق ودون اعتبار للظروف، قد يجد نفسه عندما تكون المشاركة في غير محلّها، يخدم في ركاب الاستبداد والدكتاتورية، ولا يقدم في شيء قضية الشعب والبلاد، مهما كانت الشعارات التي يغلّف بها مشاركته، إذ أن ما يعطي مدلولا للمشاركة ليس النوايا وإنما السياق العام الذي تندرج فيه والأهداف التي تخدمها موضوعيا.

وما قلناه عن المشاركة يصحّ أيضا على المقاطعة حين تتحوّل إلى مبدأ يطبّق بمعزل عن الظروف الملموسة للنضال. فالمقاطعة إذا كانت في غير محلّها تصبح سلوكا انعزاليا، صبيانيا، يؤدّي إلى خسارة فرصة الاتصال بالعمال والشعب والارتقاء بوعيهما ودرجة تنظيمهما، وهو ما يخدم في نهاية الأمر الرجعية الحاكمة.

إن ما يحدد الموقف العملي من أي انتخابات، هو أولا وقبل كل شيء التحليل الملموس للظرف الملموس الذي تجري فيه، أي الشروط القانونية والسياسية لهذه الانتخابات. وعلى هذا الأساس الشكل الأنسب الذي يتقدم بالحركة الديمقراطية خطوة أو خطوات نحو أهدافها.

لقد سمعنا أكثر من مرّة من يقول إنه يتبنى موقف المشاركة في الانتخابات بصورة "مبدئية وثابتة" لأنه مع "النضال السلمي" وكأن المقاطعة شكل من أشكال النضال العسكري وليست من أشكال النضال المدني السلمي التي نرى حتى أحزابا برجوازية، ليبرالية، في كافة أنحاء العالم، تتبناها كلّما رأت أن الطغمة الحاكمة في بلادها تمارس التزوير والتزييف وتدوس مبدأ السيادة الشعبية.

كما يوجد من يقول إنه طالما أن الحالة، حالة جزر، فإنه لا بديل عن المشاركة معتبرا أن المقاطعة لا تجوز إلاّ في حالات المدّ. وهذا الموقف معروف، وهو للينين ولكن الذين يستعملونه لتبرير المشاركة يخرجونه عن إطاره التاريخي ويوظّفونه توظيفا خاطئا. لقد جاء هذا الموقف ردا على مجموعات يسراوية ترفض العمل في البرلمانات البرجوازية في أوروبا وفي ظروف لم تكن فيها الأوضاع ثورية، فحثها لينين على استغلال ما يوجد من هامش حرّية يسمح بالترشح وبالدعاية وحتى بالفوز لتوعية العمال والكادحين والدفاع عن مصالحهم من أعلى البرلمانات، واعتبر أن رفض العمل في المؤسسات البرجوازية في ظرف الجزر موقف صبياني.

أما الوضع في الأنظمة الاستبدادية التي لا يوجد فيها هامش من الحرية السياسية وبالتالي لا تتوفر فيها إمكانية لا للترشح الحر للهيئات التمثيلية ولا للدعاية ولا للفوز، وتتحكّم الدكتاتورية في كامل مراحل الانتخابات، ويمثل التزييف القاعدة، وحتى من يصل إلى البرلمان، فبالتعيين من وزارة الداخلية، فهو وضع آخر يقتضي موقفا آخر وهو رفض المشاركة بأي ثمن وتطوير موازين القوى لفرض مشاركة جادّة وفعّالة.

إن القول بأن المشاركة في الانتخابات في وضع مثل وضعنا في تونس يمثل فرصة للدعاية والاتصال بالشعب وتحقيق الالتحام به هو أيضا قول خاطئ، لأننا لا نعتقد أن 15 يوما وهي مدّة الحملة الانتخابية تمكّن من تحقيق هذه الغاية ونحن نعرف الظروف التي تجري فيها تلك الحملة: خضوع البيانات والمناشير للمراقبة المسبقة للبوليس السياسي، منع توزيع البيانات والمناشير التي تثير القضايا السياسية والاجتماعية الأساسية، خضوع الكلمات المتلفزة والمبثوثة عبر جهاز الراديو لمراقبة قضائية، فتتحول إلى كلمات متشابهة ومبتذلة، منع استعمال الفضاءات العمومية، ترهيب المواطنين لثنيهم عن حضور اجتماعات المعارضة.

إن الثمن السياسي الذي يدفع مقابل "شيء من الدّعاية" المتحكّم فيها، وهو ثمن باهظ، يتمثل في إضفاء صبغة تعدّدية زائفة على مهزلة انتخابية معلومة النتائج مسبقا، وجميعنا يتذكّر ما حصل مثلا للحزب الديمقراطي التقدّمي من تضييقات سنة 2004 مما اضطره إلى الانسحاب في آخر لحظة رافضا أن يكون شاهد زور.

فيوجد في السابق من الأحزاب من شارك في كل الدورات الانتخابية، انطلاقا من موقف جامد، لا يعترف إلاّ بالمشاركة، كطريقة واحدة للتعاطي مع الانتخابات في مثل ظروف بلادنا، وقد بين الواقع أن تلك المشاركة لم تؤدّ مطلقا إلى توسيع تأثير تلك الأحزاب في صفوف الشّعب ولا إلى تنمية قواها الذاتية من حيث عدد منخرطيها وحضورها في الأوساط النقابية والشبابية والنسائية والثقافية وغيرها، بل إننا لا نغالي إذا قلنا إنها ازدادت انحسارا، في الوقت الذي توجد فيه قوى سياسية غير معترف بها، وتنشط في السرّية ولا تشارك في الانتخابات، أكثر حضورا وتأثيرا وعددا.

إن من يريد التوجّه إلى الشعب عن طريق البيانات والمناشير وأدوات الاتصال الأخرى عليه أن يقوم بذلك على مدار السنة وليس مرّة كل خمس سنوات، كما أن عليه أن يكسّر بشكل دائم الحواجز التي تضعها الديكتاتورية بينه وبين الشعب، ولا ينتظر ذلك الموعد اليتيم المتحكّم فيه، وإلاّ أصبحت المشاركة في الانتخابات تعبيرا عن نزعة شرعوية، وذريعة لإخفاء العجز الذاتي عن العمل في صفوف الشعب خارج الخطوط التي ترسمها الدكتاتورية.

إن تعبئة الشعب للتصدّي خلال الانتخابات للاستبداد لا يمكن أن يتمّ خلال أسبوعي الحملة، بل لا بد من القيام بها يوميا حتى إذا جاء الموعد كانت الحالة الذهنية للجماهير متحفزة لمقاومة التزوير والتزييف، ولا ننسى هنا حقيقة وهي أن فئات واسعة من الشعب التونسي، حتى لا نقول معظمه، تقاطع المهازل الانتخابية التي تنظّمها السلطة مرّة كل خمس سنوات لأنها لا تثق بها وتعرف أنها مزوّرة وأن نتائجها معلومة مسبقا فكيف يمكن الاعتقاد أن هذه الفئات ستلبّي نداء المعارضة خلال الحملة وتشارك في المهزلة، بل كيف يمكن لها أن تصدّق معارضة تحاول إقناعها بجدّية ما يجري وبمصداقيته، والحال أنه لا جدّية ولا مصداقية له؟ أو كيف يمكن للمعارضة أن تغير ذهنية الناس في أسبوعين وتقنعهم أنهم بمشاركتهم، في عملية حبكتها السلطة، يمكنهم قلب موازين القوى؟

إن المرّات القليلة التي هبّ فيها التونسيون إلى صناديق الاقتراع، ونعني هنا تحديدا انتخابات 1981 و1989، ارتبطت بأوضاع كانت تشهد حركية سياسية غير عادية، وكانت الصحافة تعيش فيها حالة نسبية من التحرر، وكانت القوى السياسية والمدنية لا تتعرّض لمحاصرة شديدة ويسمح لها بالاجتماع وبتوزيع مواقفها، وكان يوجد نوع من الاعتقاد بأن الانتخابات ستجرى في جوّ من الشفافية ولو نسبيا، لأن السلطة لم تكن في حالة هجوم على الحرّيات وكانت تتظاهر بقبول قواعد اللعبة، وقد حفز كل ذلك الجماهير على المشاركة ولكن النتيجة كانت سلبية لالتفاف نظام الحكم على النتائج وتزويرها.

أما في المرّات الأخرى فإن المقاطعة السلبية كانت هي السائدة ولم تفلح نداءات المعارضة حتى في جلب المواطنين لحضور اجتماعاتها، وكانت الاجتماعات التي حضرها مئات من المثقفين تعد على الأصابع، وهذه الحقيقة ينبغي إقرارها ولا فائدة في التضخيم لتبرير المشاركة.

استخلاص الدرس وتجميع القوى

وما يهمنا نحن ليس "تصفية الحسابات" مع المشاركة. بل استخلاص الدّرس بالنسبة إلى المستقبل. فالمعارضة أمامها عامان كاملان وبإمكانها استغلالهما للاستعداد استعدادا جيّدا لموعد 2009 حتى تكون قادرة على التأثير في مجرى الأحداث، وتبرز كقطب بديل، وهو ما يَطرحُ عليها بلورة خطّة مشتركة للتحرّك.

إن ما يمكن أن يجمع اليوم كافة القوى السياسية الجادّة التي تريد خدمة البلاد والشعب قبل التفكير في إعلان المشاركة أو المقاطعة هو العمل على تغيير الواقع السياسي الحالي، من أجل خلق ميزان قوى جديد خلال العامين القادمين يمكّن المعارضة من أحد أمرين اثنين إما فرض إصلاحات على نظام الحكم تمكّن من مشاركة جادّة في الانتخابات أو إحداث حالة من الأزمة السياسية التي تضعف الاستبداد وتزيد في عزلته وتخطو بالمعارضة خطوة إلى الأمام في اتجاه النهوض بأوضاعها وأوضاع البلاد.

ودعونا نقول بكل صراحة، إن المعارضة الجادة لو حزمت أمرها، ووحّدت صفوفها وأعلنت من الآن أنها لن تشارك في المهزلة معلومة النتائج مسبقا بل أنها لن تشارك إلاّ إذا توفّرت الشروط الدنيا لانتخابات حرّة وضبطت برنامجا نضاليا ملموسا تتحرّك على قاعدته، لقرأت لها السلطة ألف حساب، أما إذا كانت هذه الأخيرة تعرف مسبقا أن المعارضة منقسمة وأن فيها أطرافا ستشارك "مهما كانت الظروف" ودون أي شرط، فإن ذلك سيشجعها على مزيد الاستهتار بالسيادة الشعبية وممارسة التزييف والتزوير.

نقاط برنامجية لعمل مشترك

فما هي النقاط التي يمكن أن تشكل اليوم أرضية دنيا تتحرّك على أساسها المعارضة من أجل تغيير الواقع السياسي الحالي؟

إن مركز الثقل في الانتخابات القادمة، هو بالطّبع الانتخابات الرئاسية، لأن بيت الداء في النظام السياسي التونسي هو أولا وقبل كل شيء الحكم الفردي المطلق الذي يتخذ شكل الرئاسة مدى الحياة، وهذا النمط من الحكم هو الذي يعيق تطور الحياة السياسية في بلادنا، كما يقف حجر عثرة أمام تمتع الشعب التونسي بحقوقه الأساسية، بما فيها حقه في اختيار من يحكمه، كما أنه يمثل العائق الرئيسي أمام إقامة دولة القانون والمؤسسات، لأن رئيس الدولة، يتحكّم قانونا وممارسة في كل شيء ويمسك بكافة السلطات دون حسيب أو رقيب، وحتى البرلمان، فلا وزون له أمام سلطة رئيس الدولة، لذلك فإنه من دون وضع حدّ للرئاسة مدى الحياة وللحكم الفردي المطلق لا يمكن تحقيق أي تقدّم سياسي جدّي في بلادنا. إن نقد النظام السياسي في تونس ينبغي أن يبدأ بنقد الحكم الفردي المطل حتى يكون له معنى. كما أن تغيير النظام السياسي في تونس، حتى يكون له معنى أيضا، ينبغي أن يبدأ بإلغاء الرّئاسة مدى الحياة. وبعبارة أخرى فإن من لا يطرح هذه المسألة ولا يتصدى لها ويحصر اهتمامه بالانتخابات التشريعية إنما يتغاضى عما هو رئيسي وعما هو حاسم في الحياة السياسية ويقدم خدمة ثمينة للدكتاتورية.

إننا نعتقد أن المعارضة السياسية يمكنها، بل من واجبها أن تتفق في المقام الأول على التصدّي للرئاسة مدى الحياة وهو ما يقتضي منها على الأقل وبشكل مباشر اقتراح إصلاح دستوري جوهري يلغي الرئاسة مدى الحياة ويحدد عدد ولايات الرئيس ويشرّع حرّية الترشح لمنصب الرئاسة ويلغي الشروط الواردة بالمجلّة الانتخابية كما ينهي ترشح الرئيس الحالي لولاية خامسة، حتى تتاح الفرصة للتداول الديمقراطي على السلطة. أما بالنسبة إلى الانتخابات التشريعية فإن مراجعة المجلة الانتخابية لتغيير النظام الانتخابي الحالي أمر ضروري لفسح المجال أمام تمثيلية حقيقية للشعب. كما أنه من الضروري فصل الانتخابات التشريعية عن الانتخابات الرئاسية لإتاحة الفرصة للقوى السياسية للإعداد الجيد لها.

ومن جهة أخرى ينبغي العمل على إلغاء ترسانة القوانين القمعية التي تسند الحكم الفردي المطلق وتؤبّده كما تسند احتكار الحزب الحاكم للحياة العامّة وتؤبّدها، وذلك لفسح المجال للاعتراف بكافة الأحزاب السياسية والجمعيات الراغبة في ذلك وللسماح بصدور الصّحف والمجلاّت التي قدّم أصحابها مطالب وبقيت في رفوف وزارة الداخلية، وللترخيص للإذاعات والقنوات التلفزية التي قدّم أصحابها مطالب، علاوة على تحرير وسائل الإعلام العمومية من سيطرة الحزب الحاكم. وإلى ذلك ينبغي النضال من أجل استقلالية القضاء وحياد الإدارة (فصل الحزب الحاكم عن الدولة) ومراجعة المجلّة الانتخابية لتغيير النظام الانتخابي الحالي وتكوين هيئة مستقلّة لمراقبة الانتخابات وتجريم التزوير ومعاقبته.

وأخيرا وليس آخرا لا نعتقد أنه يمكن إجراء انتخابات حرّة دون إطلاق سراح كافة المساجين السياسيين وسن عفو تشريعي عام يعيد إلى ضحايا نصف قرن من الاضطهاد حقوقهم المدنية والسياسية التي تمكنهم من المساهمة في الحياة العامّة.

هذه نقاط أساسية يمكن أن تمثل برنامجا ملموسا على مدى العامين القادمين لكافة فصائل المعارضة السياسية الجادّة، الطامحة حقا إلى تغيير الواقع السياسي لبلادنا على طريق إحداث تغيير ديمقراطي حقيقي يؤدي إلى جمهورية ديمقراطية حقيقية، على أنقاض الاستبداد الذي بيّن نصف قرن من تاريخ تونس أنه عدو الديمقراطية التي لا يمكن أن تتحقق لاعن طريقه ولا بالتعاون معه بل بالنضال ضدّه وعلى أنقاضه. وبناء على هذه النقاط يمكن وضع خطط نضالية مشتركة تراعي موازين القوى طبعا، ولكنها لا تستسلم إليها بل تعمل على تطويرها.

العمل مع المجتمع المدني وفي صفوف الشعب

ومن البديهي أن قضيّة الحريات لا تعني القوى السياسية فحسب، بل تهم أيضا كافة مكوّنات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات وهيئات حقوقية ونسائية وثقافية وشبابية، التي نعلم مسبقا أن نظام الحكم سيلتفت إليها لتزكية الرئيس الحالي تكريسا لرئاسة مدى الحياة لذلك من واجبنا أن ننفتح على كافة هذه الفصائل ونتعاون معها حتى يكون الموقف واحدا من هذه المَعَرّة التي تحكم على بلادنا بالتخلّف وتجمّد طاقاتها وتهدد مكاسبها التي تحققت بتضحيات بناتها وأبنائها.

وتهم قضيّة الحريات والديمقراطية كافة فئات الشعب، ومن واجبنا أن نتوجّه إليها ونمثل همومها ومشاغلها، التي تأتي في مقدّمتها البطالة والتهميش وتدهور المقدرة الشرائية نتيجة ارتفاع الأسعار وتردّي الخدمات الاجتماعية علاوة على استشراء الفساد الذي لم يسلم منه قطاع بما في ذلك القطاع التربوي. ومن الأكيد أن تعبئة جماهير الشعب حول حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من شأنه أن يساعد على تقريب الحركة السياسية والحركة الاجتماعية بعضها من بعض وهو ما من شأنه أن يسمح بخلق ميزان قوى جديد قبل انتخابات 2009.

وخلال هذا المسار يمكن للمعارضة بل عليها أن تجتمع وتقوّم وفي نهاية المطاف تحدد الموقف العملي الذي ستتخذه: تشارك لأن الشروط القانونية والسياسية الدنيا متوفرة أو لأن ميزان القوى تطوّر بشكل يمكّنها من أن تفرض نفسها ميدانيا، أو تقاطع وتستعمل المقاطعة للضغط والفضح ولعزل الدكتاتورية والاستبداد وتبرز للرأي العام الداخلي والخارجي، كقطب مستقل، يرفض دوس السيادة الشعبية، كما يرفض أن يكون شاهد زور وغطاء للاستبداد.

إننا مقتنعون بأن المعارضة السياسية قادرة على الفعل في 2009 إذا تسلّحت برؤية سياسية واضحة وببرنامج عمل ملموس ونزَلت إلى الميدان لتكريسه. إن الاستبداد قوي بضعف المعارضة وبتخلّف الوعي السياسي للشعب، وبغياب الأطر التي يتنظّم فيها ويتحرّك من خلالها، وإذا ما تمّ تجاوز هذين العائقين ستتضح هشاشة الاستبداد وإمكانية التخلّص منه إلى الأبد.

هذا ما أردت قوله بشيء من الاقتضاب وربما تتوفر لنا الفرصة مستقبلا لمزيد النقاش.

*********************
النص الكامل لمداخلة الرفيق حمه الهمامي في ندوة "حركة التجديد" حول "الإصلاح السياسي واستحقاقات 2009"
حزب العمال الشيوعي التونسي

تونس في 28 أكتوبر 2007