المجد للذكرى التسعين لثورة أكتوبر العظمى!


صالح ياسر
2007 / 11 / 7 - 11:46     

تمر على البشرية هذه الأيام الذكرى 90 لقيام ثورة أكتوبر العظمى في روسيا، تلك الثورة التي غيّرت مجرى التأريخ العالمي، عندما ظفر البلاشفة بالسلطة السياسية في ظل توازنات وأوضاع سياسية واجتماعية داخلية وخارجية في غاية التعقيد والصعوبة. ورغم الاختلاف في تقييم المآل الذي آل إليه النظام المنبثق من ثورة أكتوبر، فإن قلة تختلف في أن هذه الثورة كانت أحد أهم أحداث القرن العشرين. فقد تركت بصماتها على الاتجاهات الأساسية لتطور عالمنا خلال القرن العشرين الذي انقضى معظمه في ظل القطبية الثنائية للاشتراكية والرأسمالية. إذ أنها قدمت للشعوب ولجماهير الشغيلة والكادحين، البديل الذي كانت تتطلع إليه للنظام السياسي والاقتصادي - الاجتماعي الذي حمل للبشرية فواجع الحرب العالمية الأولى. كما كانت أصداؤها وانعكاساتها المباشرة على عصرها ذات شأن كبير حقاً، حتى اصبح ثلث البشرية يعيش، أواخر العقد الخامس من القرن الماضي، في ظل أنظمة تستوحي مبادئها ومثلها.

وكما أشارت وثيقة: (خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب الاشتراكية) التي اقرها المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي (آيار 2007)، فقد جاءت ثورة أكتوبر تعبيراً عن تفجّر تناقضات الرأسمالية في إحدى اضعف حلقاتها، وهي، خلافاً لما يدعيه بعض المؤرخين البرجوازيين، ثورة حقيقة انطلقت من أعماق المجتمع الروسي بمشاركة واسعة من جماهير الفلاحين المسحوقة في الريف، والطبقة العاملة النشيطة في المدن، وأقسام واسعة من الفئات الوسطى الحضرية. وقد سبقت الانتصار الحاسم للثورة بقيادة حزب البلاشفة، مجابهات وانتفاضات، ضد السلطة القيصرية الاستبدادية وضد طغيان الإقطاعيين وكبار الملاكين. وشملت تلك النشاطات الثورية الريف والمدن الكبرى حيث المحتشدات العمالية، وانبثقت من رحمها مجالس العمال والفلاحين والجنود (السوفيتات) التي كانت تعبيراً مؤسسياً مبتكراً جسّد الديمقراطية المباشرة. واعتبرها لينين شكل ديكتاتورية البروليتاريا الخاص بروسيا. واستطاع حزب البلاشفة، بسياسته الثورية الحازمة ونشاطه التنظيمي الواسع والفاعل، أن يتصدر الحركة الثورية ويجمع روافدها في تيار واحد، وان يقودها إلى الانتصار في السابع من تشرين الثاني 1917.

لقد كان المؤرخ الماركسي المعروف هوبسباوم محقا تماما حين اختتم آخر أعماله بعنوان مثير:
" عصر التطرفات "، راسماً صورة القرن العشرين بأنه قرن أكتوبر، القرن القصير الذي ابتدأ، برأيه، متأخراً في 1917، وانتهى مبكراً في 1991، سنة صعود يلتسن، مثلما أن القرن التاسع عشر كان قرن الثورة الفرنسية.

الممهـــــــــدات للثورة/ التاريخ ليس شاهد زور !
كما أشرنا أعلاه، خلافاً لما يدعيه بعض المؤرخين البرجوازيين، جاءت ثورة أكتوبر تعبيراً عن تفجّر تناقضات الرأسمالية في إحدى اضعف حلقاتها، وهي لهذا كانت ثورة حقيقة انطلقت من أعماق المجتمع الروسي بمشاركة واسعة من جماهير الفلاحين المسحوقة في الريف والطبقة العاملة النشيطة في المدن وأقسام واسعة من الفئات الوسطى الحضرية.

وبعيدا عن العموميات، دعونا نتتبع مسار الأحداث التي سبقت الثورة للبرهنة على الملاحظة السابقة.

بداية، لا بد من الإشارة الى انه لا يمكن فهم التطورات اللاحقة في روسيا القيصرية بدون فهم الانعطاف الكبير الذي دشنته ثورة 1905 – 1907 بالرغم من عدم تمكنها من إنجاز الهدف الاستراتيجي الماثل آنذاك – الإطاحة بالنظام القيصري. لقد كانت تلك الثورة، الناجمة عن الظروف الملموسة لتطور روسيا التاريخي في مستهل القرن العشرين، ثورة فريدة ولا شك، بيد أن تفردها لا يجردها من تلك الملامح التي تكررت مرارا فيما بعد. وليست خبرة هذه الثورة واستيعاب فحواها وقفا على تاريخ روسيا في بداية القرن العشرين. فالتوجه الى دراسة هذه التجربة يوفر الإمكانية لفهم العمليات التالية بمزيد من العمق وصياغة تكتيكات صائبة تساهم في بلورة حلول سليمة للمهمات الاجتماعية والسياسية الناضجة.

كما هو معروف، فقد سبق الانتصار الحاسم للثورة بقيادة حزب البلاشفة، مجابهات وانتفاضات عنفية ولا عنفية ضد السلطة القيصرية الاستبدادية وضد طغيان الإقطاعيين وكبار الملاكين.

ففي خريف عام 1915 حدث نهوض ثوري في روسيا وراح يتنامى بسرعة، فبعد عام أضرب في العاصمة بيتروغراد 150 ألف عامل. واتخذت الاضرابات طابعا سياسيا شديد الوضوح، كما أن هذه الإضرابات جرت بقيادة المنظمات الحزبية البلشفية. وتطورت هذه الأحداث لتتخذ طابع الإضراب السياسي العام الذي اتخذ طابعا شعبيا عاما وشمل المزيد من الأنصار والمؤيدين في قطاعات عديدة.

ومن جهتها فقد اشتدت الحركة الفلاحية وتجذّر طابعها، الأمر الذي دفع الحكومة الى أن ترسل قواتها الى الريف عشرات المرات خلال عام 1916 فقط لتقوم بمداهمة القرى التي ثارت ضد نير الإقطاعيين والمصادرات الحربية.

وشملت تلك النشاطات الثورية الريف والمدن الكبرى حيث المحتشدات العمالية، وانبثقت من رحمها مجالس العمال والفلاحين والجنود (السوفيتات) التي كانت تعبيراً مؤسسياً مبتكراً جسّد الديمقراطية المباشرة. واعتبرها لينين شكل ديكتاتورية البروليتاريا الخاص بروسيا.

والى جانب ذلك وبالتوازي معه، فاقمت الحرب الإمبريالية الأولى ( 1914 – 1918) من حدّة التناقضات في البلاد، وانعكست آثارها بشكل عنيف على وضع العمال والفلاحين. وأدت الحرب الى التدهور الاقتصادي الذي عمّ الصناعة والزراعة والنقل، فتعطل في سنوات الحرب أربعة آلاف مصنع كبير من اصل حوالي العشرة آلاف.

أدت مشاركة روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى الى مفاقمة التناقضات الاجتماعية – الاقتصادية والقومية والسياسية في البلاد. وتسببت الحرب في تدهور الصناعة وأدت الى المجاعة وحدوث أزمة عميقة في النقل والوقود، كما تفاقمت الأزمة التي كانت تطول القطاع الزراعي والريف الذي لم يعد قادرا آنذاك على إطعام المدينة والجيش. علما بأن هذا الجيش الذي كان يقوده جنرالات غير أكفاء قد تكبد خسائر كبرى.

والخلاصة، لقد بينت الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية العميقة والمتفاقمة باستمرار وكذلك الوضع المزري الذي شهدته جبهات القتال والانحلال الذي شهدته قمة السلطة الحاكمة أن روسيا القيصرية تقترب من كارثة وطنية عظمى.

وانعكست هذه التطورات في المدينة والريف على الجيش والقوات المسلحة عموما. فقد اشتدّت النزعة الثورية لدى الجنود والبحارة بشكل عاصف وخصوصا في الجبهة الشمالية وأسطول البلطيق المرتبطين ببتروغراد. كما ساهم النضال الوطني التحرري الذي اتخذ أحيانا في آسيا الوسطى وكازاخستان شكل انتفاضات مسلحة بقسط كبير في النهوض الثوري.

عام الحريق الثوري الكبير !
في بداية عام 1917، كان ما يقارب 16 مليون نسمة يخدمون في الجيش، مما أدى الى نقص الأيدي العاملة في الريف، فظلّ زهاء 1/3 اسر الفلاحين بلا رجال، وتناقص محصول الحبوب الرئيسية بشكل كبير مقارنة مع فترة ما قبل الحرب، كما تقلصت مساحة الأرض المزروعة. وبالمقابل تفاقمت المديونية الخارجية لروسيا مما أدى الى زيادة تبعيتها المالية للدول الأجنبية.

وفي بداية عام 1917 بلغ التدهور الاقتصادي درجة لم تستطع معها الوسائل العادية لتنظيم الاقتصاد الموجودة في حوزة الدولة الرأسمالية، أن تنقذ البلاد من العلّة المزمنة التي أصيبت بها. ولم تكن هناك من وسيلة لإنقاذ روسيا من الكارثة الاقتصادية المحدقة سوى إجراءات ثورية حازمة تناهض تسلط رأس المال والملكية الخاصة. ولم يستطع أحد أن يقود الجماهير الرازحة تحت وطأة الاستغلال والتي هبت للإطاحة بحكم الملكية المطلقة، سوى البروليتاريا الروسية التي صقلتها المعارك الطبقية بقيادة حزبها. لقد كانت الطبقة العاملة في روسيا من اكثر الطبقات ثورية في العالم حتى في احلك ظروف الحرب، فلم يكن هناك من يدانيها في الحركة العمالية من حيث ثراء الخبرة في النضال في مختلف الظروف السياسية. ولما كانت هي اكثر الطبقات مبدئية وثورية، فقد لعبت الدور القيادي بين كل القوى المناهضة للقيصرية والرأسمالية. وأكد لينين أن البروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم، هي الوحيدة القادرة لتكون زعيما لجميع جماهير الشغيلة والمستغَلين الذين تستغلهم البرجوازية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطا ليس بأضعف بل هو اشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير مؤهلين للنضال المستقل في سبيل تحررهم.

وفي بداية هذا العام (1917) تنامى هجوم القوى الثورية الديمقراطية بشكل واضح. ففي كانون الثاني/يناير تجاوز عدد المضربين أعلى أرقام سنوات الحرب ليصل الى ما يقارب 300 ألف شخص. وفي 14 شباط كانت طوابير المتظاهرين تسير وسط العاصمة وهي تحمل شعارات : تسقط الحرب، عاشت الثورة الروسية الثانية ‍!. وبعد عشرة أيام تجاوز عدد المضربين في بتروغراد وحدها 300 ألف شخص. وفي 25 شباط أصبح إضراب عمال العاصمة عاما وبدأت الاشتباكات مع قوات الشرطة القيصرية.

وقد كان أحد المصادر الرئيسية لقوة البروليتاريا في روسيا وجود حليف لها تمثل في فقراء الفلاحين. كما كانت الطبقة العاملة تمتلك دعامة جماهيرية واسعة بين صفوف الفئات الكادحة غير البروليتارية في المدن أيضا. فبحلول عام 1917 كان اكثر من 22 مليون شخص من سكان المدن، يشكل الحرفيون والتجار والموظفون الصغار نسبة كبيرة منها. وكان معظمهم يتعرض للاستغلال ولم تكن حياتهم سهلة وهينة على أية حال.

الأزمة الثورية تنضج
روسيا على طريق الثورة البرجوازية الديمقراطية
كانت الأزمة الثورية تنضج بوتيرة سريعة وعمت حركة الإضرابات أهم مناطق البلاد الصناعية. كما ظهرت بوادر التمرد الثوري في صفوف الجيش. هكذا كان الوضع السياسي في روسيا قبيل ثورة شباط 1917.

وفي اليوم التالي بدأ الإضراب السياسي العام يتحول الى انتفاضة مسلحة. وفي هذا اليوم أطلقت قوات الشرطة النار على المتظاهرين مما أسفر عن مصرع العشرات. ورغم تأكيد قوات الشرطة على عودة النظام والهدوء الى العاصمة فقد أدى هذا العمل الى إثارة مقاومة قسم من قوات حامية بتروغراد، وباتت وحداتها تنتقل الى جانب الثورة. وفي مساء 27 شباط انظم الى الجماهير الثائرة 60 ألف جندي. وفي مساء اليوم ذاته أصبحت العاصمة كلها عمليا في أيدي الثوار.

كان لدى الملكية في تلك الأيام قوى فعلية للصراع، هي الجنرالات والضباط الرجعيون والبوليس والدرك. وحضي القيصر بتأييد الإقطاعيين وقمة البرجوازية التجارية الصناعية. غير أن تناسب القوى الطبقية لم يدع له فرصة الاحتفاظ بالسلطة، ولم يكن بإمكان الحكم الاستبدادي أن يخمد الثورة وأن يخفف مداها بأية إصلاحات.

وفي يوم 27 شباط/فبراير، تشكلت من ممثلي الأحزاب والتكتلات البرجوازية لجنة مؤقتة لمجلس الدوما، استمرت في محاولاتها لإنقاذ الملكية. وعندما اتضح نهائيا أن على مجلس الدوما أما أن ينحاز الى الثورة وأما أن يقضي على نفسه بالهلاك مع الحكم الاستبدادي أعلن رئيسه قرار اللجنة المؤقتة القاضي بالاضطلاع بتشكيل الحكومة، خوفا من أن يعلن سوفيت بتروغراد نفسه سلطة جديدة.

هكذا إذن في شباط 1917 اندلعت في روسيا الثورة البرجوازية الديمقراطية، التي دخلت التاريخ كأول ثورة شعبية مظفرة في عهد الإمبريالية، مؤججة عمليات الصراع الطبقي التي أدت فيما بعد الى انتصار ثورة أكتوبر العظمى.

من المعلوم أن حركة الجماهير كانت قوية الى حد أنها امتلكت بنية تنظيمية خاصة بها، تمثلت بمجالس (سوفيتات) مندوبي العمال والجنود والفلاحين يسندها حراس حُمر مدججون بالسلاح. وهكذا شهدت روسيا منذ شباط 1917 نظام ازدواجية سلطة فعلية. ففي وجه الحكومة المؤقتة التي تقف على رأس جهاز دولة برجوازية في حالة تفكك بطيء كان هناك شبكة من السوفيتات تبني سلطة دولة عمالية يوما بعد يوم.

ولكن عندما اندلعت ثورة شباط وتم الإطاحة بالحكم القيصري وصعد تحالف الاشتراكيين الثوريين والمناشفة بقيادة الجنرال كيرنسكي إلى السلطة، فانه بدلا من أن تسعى تلك الحكومة إلى تحقيق السلام وتوفير الخبز لأبناء روسيا، سعت إلى الاستمرار بسياسة الحرب وبقيت تتمسك بالأحلاف العسكرية. وهكذا خابت مجددا آمال الملايين من الجنود الروس الرابضين في جبهات القتال تحت رحمة المدافع وشبح الموت والمرض والجوع، وخاب أملهم في تحقيق الصلح وذلك بذريعة الدفاع عن الوطن ومقدسات الأمة الروسية !.

وفي الوقت الذي كان فيه الصراع على اشده بين الضواري الاستعمارية المتصارعة من أجل حصص البرجوازية في كل من البلدان المتحاربة من المستعمرات العادة تقسيم العالم وفق المصالح العليا للقوى الظافرة في تلك الحرب المجنونة، وعندما كانت مختلف الحكومات البرجوازية المتحاربة مصممة على مواصلة الحرب وإلحاق المزيد من الدمار والأذى بشعوبها وكل شعوب العالم الأخرى، قرر البلاشفة بقيادة لينين صد بربرية الأنظمة الرأسمالية وحربها الوحشية وإسقاط حكومة الحرب التي كان يقودها كيرنسكي ليحل محلها حكومة العمال والفلاحين الثورية. وعلى هذا الطريق قاموا بتجميع القوى ونظموا صفوف الجماهير من جديد، ودعوا الطبقات الثورية داخل المجتمع الروسي للالتفاف حول البرنامج الثوري للحزب البلشفي.

تحشيد القوى وخوض المعارك
لتحقيق الهدف الاستراتيجي
يساعد تحليل هذه التجربة والخبرة التي تراكمت على فهم جوهر التكتيكات المستخدمة آنذاك لتطوير الثورة وترقيتها والتغلب على الصعوبات العملية التي واجهتها أثناء تحشيد القوى وزجها في معارك متواصلة لتحقيق الهدف الاستراتيجي.

لنعاين كيف جرت التطورات
في 25 شباط أصدرت لجنة بطرسبورغ لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روسيا (البلاشفة) منشورا جاء فيه " إن أمامنا فترة من الكفاح، ولكن النصر المحقق لنا ! على الجميع الانضواء تحت راية الثورة الحمراء.... كل أراضى الملاكين العقاريين للشعب ! تسقط الحرب ! تحيا الاخوة بين عمال العالم اجمع !" وهكذا دوّت كناقوس ضخم دعوة البلاشفة للنضال الحازم من اجل الإطاحة بالحكم المطلق. وراح إضراب عمال بتروغراد يتحول الى إضراب عام، ثم الى انتفاضة مسلحة ضد القيصرية.

وفي مساء 27 شباط 1917، انضم ما يزيد عن ستين ألفا من جنود حامية بتروغراد الى جانب العمال. وعمت الانتفاضة في هذا اليوم كل أنحاء بتروغراد تقريبا. وكان هذا اليوم هو يوم انتصار ثورة شباط البرجوازية الديمقراطية.

هكذا، إذن، كان للتاريخ منطقه الخاص. ففي الأول من آذار/مارس تحطمت سلطة الحكومة القيصرية نهائيا. وفي ليلة 8 آذار وضع أخر حاكم روسي مستبد، ليس بإرادته قطعا، توقيعه على وثيقة التنازل عن العرش. وهكذا سقطت الملكية العاجزة عن مقاومة هجوم الثورة، تحت ضربات الجماهير الشعبية.

وفي حديثه عن تكتيك أيام ثورة شباط أشار لينين انه التكتيك الثوري الاشتراكي الوحيد الحقيقي. لقد سقطت الملكية المطلقة التي استعبدت روسيا قرونا عديدة. لكنها لم تسقط من تلقاء نفسها كما يؤكد بعض المؤرخين المعاصرين، بل كان من الضروري إيجاد قوة تيسر للجماهير إنجاز هذه المهمة وتحويل وعيها العفوي الى فعل منظم. وكانت البروليتاريا الروسية بقيادة حزبها البلشفي هي هذه القوة التي حركت الجماهير العريضة نحو النضال حتى تحقيق الهدف ومن دون أي تردد ومهما بلغت الصعوبات. وهكذا انتصرت الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا.

تقررت قضية السلطة في البلاد في الصراع بين ثلاث معسكرات سياسية كبرى : الملكية القيصرية، البرجوازية الليبرالية والقوى الديمقراطية. ودخل في معسكر الحكم الاستبدادي، الذي كان في حالة أزمة بنيوية عميقة، الإقطاعيون النبلاء وكبار الموظفين البيروقراطيين والضباط.

- كان المعسكر الليبرالي الذي وقف على رأسه حزب الديمقراطيين الدستوريين ( الكاديت) يسعى الى السلطة ليس لإنهاء القيصرية، بل كان له هدف آخر يتمثل في دعم النظام الإقطاعي الرأسمالي بملكية دستورية. فقد كان من الملائم تماما للبرجوازية الروسية حدوث انقلاب غير واسع في القصر. ويعني هذا أن المعسكر الليبرالي كان يأمل، عن طريق استبدال قيصر بأخر، في تشكيل حكومة يشارك فيها ممثلوه سعيا للحصول على فرص واسعة لتوظيف رأس المال وترك الأراضي في حوزة الإقطاعيين والاستمرار بالحرب حتى تتحقق الأهداف الإمبريالية. واستنادا الى الملاحظات السابقة يمكن القول بأن المصالح الطبقية البرجوازية الروسية كانت تتناقض بعمق مع النضال الشعبي من اجل الديمقراطية وضد الحرب، حيث كان هؤلاء الليبراليون يخشون التحولات الديمقراطية مثل خشيتهم من الموت. واستنتج لينين من الطابع المعادي للثورة بوضوح، الذي اتخذه مسلك هذا المعسكر، استحالة إنجاز المهام المنتصبة عن طريق التحالف بين البرجوازية والبروليتاريا، ومن هنا احل محل ذلك فكرة التحالف بين البروليتاريا والفلاحين.
- أما المعسكر الديمقراطي فقد وضع أمامه مهمات مغايرة تماما. وقد كانت شعارات البلاشفة تدور حول : جمهورية ديمقراطية، يوم عمل من ثماني ساعات، مصادرة أراضى الإقطاعيين. ومن جهة أخرى فقد كان حزب البلاشفة هو الوحيد الذي وقف ضد الحرب العالمية الأولى منذ لحظة انطلاقها، وربط موقفه هذا بالإشارة الى أن المخرج الوحيد من هذه المجزرة هو توجيه كل القوى الديمقراطية والسلاح في كل بلد ضد المسؤولين عن الحرب، أي الملكيّات والبرجوازية الإمبريالية. ودخل في المعسكر الديمقراطي البروليتاريا والفلاحون، أكثر الطبقات جماهيرية في البلاد، والفئات الوسطى في المدينة والمثقفون الديمقراطيون وبينهم الطلبة.

ازدواجية السلطة.... ما العمل؟
أحدثت ثورة شباط ديناميكية سياسية جديدة واصطفافات جديدة وتناقضات جديدة تعبر جميعها عن ميزان القوى الجديد. هنا ظهر ازدواج السلطة في كل أنحاء روسيا نتيجة للإطاحة بالقيصرية، وتشابك دكتاتوريتين لم يشهده التاريخ من قبل:
- دكتاتورية البرجوازية ممثلة بالحكومة المؤقتة ؛
- ودكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية ممثلة بالسوفيتات.

جاء ازدواج السلطة ثمرة أسباب اقتصادية/اجتماعية/سياسية عميقة. ولم يكن هذا بحسب لينين " سوى مرحلة انتقالية من تطور الثورة، وعندما تعدت هذه الثورة حد ثورة برجوازية ديمقراطية عادية ولكنها لم تصل بعد الى دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الخالصة ".(لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 31، ص 155).

كانت ثورة شباط البرجوازية الديمقراطية انعطافا كبيرا في تاريخ البلاد، حرّك كل فئات المجتمع، واستهوى العمل السياسي ملايين لم تكن السياسة في الماضي تخطر لهم ببال

عندما اندلعت ثورة شباط كان لينين ما يزال في المهجر (في سويسرا). وقد تطلب الوضع السياسي الجديد من حزب البلاشفة التقدير الدقيق للموقف في البلاد وتحديد استراتيجية وتكتيك البلاشفة في المرحلة الجديدة.

اعتبر لينين إن اختيار الطبقة العاملة وحزبها هذا الشكل للنضال أو ذاك أهم مسألة للتكتيك. ولا يمكن حل هذه المسألة مسبقا، في هدوء المكاتب، ولا يعطى الجواب عنها إلا تطور الحركة نفسها ومراعاة الخبرة التي كدستها الجماهير والظروف الوطنية الملموسة. قال لينين في حديث مع وليم بول أحد مؤسسي الحزب الشيوعي البريطاني ملخصا ممارسة المعارك الثورية : " إن ميدان النشاط الكفاحي هو أفضل مكان لاختبار آرائنا النظرية.والاختبار الحقيقي بالنسبة للشيوعي هو فهمه كيف وأين ومتى يحول ماركسيته الى فعل "( لينين : المؤلفات الكاملة، المجلد 37، موسكو 1970، ص 249).

ولم يكتف لينين بهذا التحديد بل أضاف إليه أطروحة مهمة أخرى وفحواها ما يلي : " ينبغي لنا أن نتذكر أن كل حركة شعبية تتخذ أشكالا متنوعة الى ما لا حد له، صانعة على الدوام أشكالا جديدة، نابذة الأشكال القديمة، محدثة تعديلات أو تركيبات جديدة من الأشكال القديمة والجديدة. وواجبنا أن نشترك بنشاط في هذه الصياغة لأساليب النضال ووسائله " ( لينين : روح المغامرة الثورية، دار التقدم، موسكو 1975، ص 12).

التحليل الملموس للوضع الملموس
الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية
استنادا الى التحليل اللينيني، فقد كانت الامبراطورية الروسية الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية ومركزا لتناقضاتها من جهة، كما أنها كانت في الوقت ذاته مركزا للحركة التحررية العالمية. وهنا بالذات نضجت الحالة الثورية قبل البلدان الأخرى وتحولت الى ثورة ديمقراطية شعبية عامة.

في أوائل نيسان/1917 عاد لينين الى الوطن. في " موضوعات نيسان " كتب لينين قائلا " إن الشيء الأصيل في الوضع الراهن في روسيا إنما هو الانتقال من المرحلة الأولى للثورة، التي أعطت الحكم للبرجوازية نتيجة لعدم كفاية الوعي والتنظيم لدى البروليتاريا، الى المرحلة الثانية للثورة، التي يجب أن تعطي الحكم للبروليتاريا، وللفئات الفقيرة من الفلاحين ".

وقد انطلق لينين، وهو يحدد طابع الثورة والقوى المحركة لها، من أن الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا قد تحققت، وقد تحالف الفلاحون كافة مع البروليتاريا لإنجاح الثورة. والآن تم طرح موضوع الثورة الاشتراكية في جدول الأعمال، تلك الثورة التي سيشترك فيها الفلاحون الفقراء فقط كحلفاء للبروليتاريا حيث انه يجب خوض النضال ليس فقط مع البرجوازية في المدينة بل وفي الريف أيضا.

وإذ عمّم لينين خبرة الحركة العمالية العالمية وإبداع الجماهير الثوري في روسيا فقد اكتشف شكلا للتنظيم السياسي للمجتمع في فترة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية. وبحسب لينين، تعتبر جمهورية السوفيتات من أسمى أشكال الدولة الديمقراطية، بالمقارنة مع شكل الجمهورية البرلمانية العادية. وقد أوضح لينين أن جمهورية السوفيتات تخلق للجماهير الشعبية إمكانيات لا حد لها للاشتراك في إدارة الدولة وبناء حياة جديدة.

وقد وضع لينين في " موضوعات نيسان " أمام حزب البلاشفة ليس فقط المهام السياسية بل والاقتصادية التي تخدم الموضوع الرئيسي – السلطة، وتسعى الى إنقاذ البلاد من الكارثة الاقتصادية التي كانت البلاد قد اقتربت منها. وقد وضع لينين في هذه الموضوعات خطة محددة على أساس علمي لاستيلاء البروليتاريا على السلطة في روسيا.

في 24 يوليو/تموز انتهت مفاوضات الكاديت مع ممثلي الأحزاب الاشتراكية بتشكيل الحكومة الائتلافية الثانية. وعلى الفور قامت هذه الحكومة التي أطلق عليها " حكومة إنقاذ الوطن والثورة " بتطبيق الإعدام في الجبهة، فقد أمر رئيس الوزراء (كيرنسكي) بمنع صدور ونشر الجرائد البلشفية بين الجنود، كما حضر على الجنود عقد الاجتماعات والمؤتمرات واللقاءات. وهكذا قُضيَّ على ازدواجية السلطة لتتركز كلها في أيدي البرجوازية المعادية للثورة ، وهنا انتهت الفترة السلمية للثورة. وشغل موضوع تكتيك البلاشفة في ظل الظروف الجديدة مكانا رئيسيا وذلك في أعمال المؤتمر السادس لحزب البلاشفة الذي عقد في الفترة 26 تموز حتى 3 آب من عام 1917 في بتروغراد.

الانتفاضة المسلحة على الأبواب!
على أساس تحليل ملموس لتطور الأوضاع السريع والعاصف والمحفوف بالمخاطر والاحتمالات المفتوحة، قرر المؤتمر السادس التوجه الى الانتفاضة المسلحة للإطاحة بالبرجوازية، وأكد في أحد قراراته على التالي : " لقد اصبح مستحيلا في الوقت الحاضر أن يتم التطور السلمي، وان تنتقل السلطة الى السوفيتات دون صعوبات، حيث أن السلطة انتقلت في حقيقة الأمر الى البرجوازية المعادية للثورة. وليس هناك من شعار سليم يجب أن يطلق في الوقت الحاضر غير شعار القضاء التام على دكتاتورية البرجوازية المعادية للثورة ".

حلّ ميعاد التصاعد الثوري الذي تحدث لينين عن حتمية حدوثه، أسرع مما كان متوقعا. كان هذا مرتبطا بمقاومة تمرد الجنرال كورنيلوف المعادي للثورة. فرغم اشتراك سبعة وزراء من حزب الكاديت في الحكومة الائتلافية الثانية، ولعبه لدور قيادي فيها، إلا أن البرجوازية الإمبريالية لم تكن راضية عن ذلك. وقررت الإجهاز بضربة واحدة على بقايا الديمقراطية التي اعتبرتها خطرا وبديلا على سياستها. وقد كانت بحاجة الى دكتاتور، وجدته في شخص الجنرال كورنيلوف القائد العام الأعلى الذي اجتذب برجعيته الدوائر الحاكمة.

وقد استطاع البلاشفة وهم ينظمون الجماهير لسحق تمرد كورنيلوف، أن يحققوا تكتيكا فريدا في دعم وحدة العمل، كما استطاعوا القيام بتشكيل جيش سياسي للثورة الاشتراكية. وقد تمكن البلاشفة في عدة أيام من مقاومة طغمة كورنيلوف، أن يحققوا ما كان عسيرا أن يتحقق خلال شهور، لو مضى تطور الثورة في ظروف طبيعية. وكشف هذا التمرد بشكل واضح إفلاس سياسة التوفيقين. وبدأ الفلاحون والجنود في الابتعاد عن الاشتراكيين الثوريين والتحول الى جانب البلاشفة. واصبح واضحا انه ليس هناك من سلطة قادرة على تطوير الثورة وتعزيز مكتسباتها، غير سلطة العمال والفلاحين الفقراء.

وفي أواخر آب وأوائل أيلول 1917 وخلال مقاومة تمرد كورنيلوف، ساد البلاد وضع فريد من نوعه. فقد ظهر ضعف سلطة الحكومة المؤقتة في المدن والأقاليم، كما اتضح سوء سمعتها. ونشطت السوفيتات واللجان. وظهرت مرة أخرى إمكانية حقيقية لانتقال السلطة الى السوفيتات سلميا. وقرّر حزب البلاشفة أن يستفيد من هذه الإمكانية، حتى يتفادى ضحايا لا مبرر لها. وفي هذا الصدد كتب لينين قائلا " ... في سبيل هذا التطور السلمي للثورة، في سبيله فقط – أي في سبيل إمكانية نادرة الى أقصى حد في التاريخ وثمينة الى أقصى حد، إمكانية نادرة – في سبيلها فقط، برأيي، انه في مستطاع ومن واجب البلاشفة وأنصار الثورة العالمية وأنصار الطرائق الثورية، أن يقدموا على مساومة كهذه ". (لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 34، ص 134 – 135)

غير أن إمكانية تطوير الثورة سلميا سرعان ما تلاشت، وعاد المناشفة والاشتراكيون – الثوريون الموجودون على رأس السوفيتات الى التحالف مع البرجوازية.

واستنادا الى تحليل ماركسي عميق للأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة، أدرك لينين بوضوح أن روسيا تقترب اقترابا شديدا من الثورة الاشتراكية التي ستقوم بحل التناقضات المعقدة للمسائل الاجتماعية الملحة. وارتبط تعاظم الأزمة الثورية في البلاد بتصاعد ثوري جديد.

وامتدت الأزمة الوطنية العامة في كل أنحاء البلاد. وكتب لينين هنا يقول: ( قانون الثورة الأساسي....، يتلخص فيما يلي: لا يكفي من اجل الثورة أن تدرك أن الجماهير المستغَلة والمظلومة عدم إمكانية العيش على الطريقة القديمة وان تطالب بتغيرها. إن من الضروري لأجل الثورة أن يغدو المستثمِرون غير قادرين على العيش والحكم بالطريقة القديمة. إن الثورة لا يمكن أن تنتصر إلا عندما تمزق " الطبقات الدنيا " عن القديم، وعندما تعجز " الطبقات العليا " عن السير وفق الطريقة القديمة..... ونعني أن الثورة مستحيلة بدون أزمة وطنية عامة تشمل المستثمَرين والمستثمِرين معا). (لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 41، ص 69 – 70).

اثبت لينين، على أساس تحليل عميق للوضع وتطوراته الفعلية، أن الأزمة الوطنية في البلاد قد نضجت وان الظروف المناسبة قد ظهرت لتحويل شعار الإعداد السياسي العام للانتفاظة المسلحة الى شعار الممارسة العملية وذلك في رسالتيه التاريخيتين: " يجب على البلاشفة أن يأخذوا السلطة " و " الماركسية والانتفاضة " وفي مقالة " نصائح غائب ". لقد أكد لينين جديّة هذا الشكل النضالي وخطورته، وحذّر من التلاعب به. وربط لينين نجاح الانتفاضة المسلحة، بالإعداد الجيد والشامل لها، حيث يجب لإنجاحها حشد قوى تفوق قوى العدو بكثير، في المكان الحاسم، واللحظة الحاسمة، وآلا أباد العدو المنتفضين.

كان 25 أكتوبر، يوم انتصار الانتفاضة في بتروغراد، قد دخل التاريخ كبداية لثورة أكتوبر العظمى في البلاد التي فتحت صفحة جديدة في تاريخ البشرية. وتوج الانتصار النهائي في 7 نوفمبر 1917. ثمة ملاحظة ضرورية هنا: الثورة انتصرت في شهر نوفمبر عام 1917 حسب التقويم اليولياني -الميلادي المعروف والمستخدم حاليا ـ لكنها سجلت تاريخيا في شهر أكتوبر لأن التقويم القيصري ـ المعمول به في روسيا في ذلك الوقت ـ كان متأخرا ثلاثة عشر يوما عن التقويم اليولياني، واشتهرت بعد ذلك بثورة أكتوبر.

لقد استطاع حزب البلاشفة، بفضل سياسته الثورية الحازمة ونشاطه التنظيمي الواسع والفاعل، أن يتصدر الحركة الثورية ويجمع روافدها في تيار واحد، وان يقودها إلى الانتصار في السابع من تشرين الثاني 1917.

هل " خان " لينين والبلاشفة ماركس وأطروحاته بشأن استلام السلطة في أكتوبر 1917؟

يطرح العرض التاريخي المكثف السابق السؤال التالي: هل " خان " لينين والبلاشفة ماركس عندما اتخذوا قرارهم بتسلم السلطة، اثر طور قصير مرّت به الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا، رافضين التعامل مع الانتقال الى الاشتراكية باعتباره سيرورة طويلة؟

ويرتبط بهذا السؤال سؤال آخر وهو: كيف يمكن للثورة الاشتراكية أن تنتصر في بلد لا يمتلك، بسبب ضعف تطور الرأسمالية فيه، قاعدة مادية متقدمة لبناء الاشتراكية، وهو الشرط الرئيسي الذي كان ماركس قد وضعه لانتصار الاشتراكية في بلد من البلدان؟

من هذا السؤال وفي مسعى الإجابة عليه، انطلق لينين، مبرهنا على وجود الرأسمالية في روسيا، التي كان يشكك بوجودها " الشعبيون " ومُظهِِرا بان السمات الخاصة التي كانت تميز هذه الرأسمالية، وبالأخص سمة ضعفها، تجعل من إمكانيات انتصار الثورة الاشتراكية فيها اكبر من إمكانات انتصارها في أي بلد آخر من البلدان الرأسمالية المتطورة، وتتيح للطبقة العاملة فيها فرصة التحول الى محرك لهذه الثورة. وكان لينين على قناعة، من جهة أخرى، بأن الانتصار الحاسم على القيصرية في روسيا سينقل الحريق الثوري في أوربا، ويرفع العزيمة الثورية لدى البروليتاريا العالمية ويختصر طريقها نحو الانتصار التام.

لم يكن خافياً على لينين ورفاقه بان روسيا، لحظة استيلاء البلاشفة على السلطة، لم تكن تمتلك الشروط المادية لقيام الاشتراكية. فقد تحدث لينين في اكثر من موضع عن تخلف تطور قوى الإنتاج في روسيا والطابع البرجوازي الصغير لرأسماليتها وعدم بلوغ العلاقات الرأسمالية فيها درجة النضج الكافي لإنجاز البناء الاشتراكي. لكن البلاشفة لم يجدوا في التعارض القائم بين نضج الشرط السياسي المتمثل باستيلاء الطبقة العاملة وحلفائها على السلطة، وعدم توفر بعض عناصر شرطها الموضوعي، سبباً كافياً في عزوف الطبقة العاملة عن الاستيلاء على السلطة والمضي قدماً على طريق بناء الاشتراكية.

لعلّ السند الفكري الرئيسي لموقف البلاشفة يكمن في التعويل الواضح، خلال المراحل المبكرة التي أعقبت انتصار الثورة، على قيام ثورات عمالية ظافرة في البلدان الأوروبية حيث بلغت فيها الرأسمالية مرحلة متطورة، وبشكل خاص في ألمانيا. لذلك دافع لينين عن فكرة إمكانية قيام الاشتراكية في بلد واحد والانتقال السريع بالثورة من مرحلتها البرجوازية الديمقراطية إلى المرحلة الاشتراكية، أي تطبيق مفهوم الثورة المستمرة لماركس، في حين دعا المناشفة وماركسيون آخرون إلى حصر الثورة ضمن افقها البرجوازي الديمقراطي. قادة آخرون للثورة، منهم تروتسكي، ربطوا الانتقال إلى الاشتراكية بقيام ثورات عمالية في البلدان الرأسمالية المتطورة.

على هذا الأساس قدم لينين، بحسب فالح عبد الجبار، الحل التالي: الانتقال من الإنتاج الصغير الفردي، المجزأ، المبعثر، عبر رأسمالية الدولة الى الاشتراكية. بتعبير آخر طرح ضرورة إنجاز مهمة إضفاء الطابع الاجتماعي على الإنتاج، المهمة التاريخية التي لم تكن الرأسمالية الروسية قد أنجزتها بعد في لحظة استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية. وما طرحه لينين إنما هو تعجيل عملية التركز والتمركز.

ولأجل بناء القاعدة المادية، الاقتصادية – الاجتماعية للمجتمع الجديد، قامت السلطة الاشتراكية بتأميم الأرض وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وعمدت إلى سياسة التصنيع الثقيل بالتركيز على خلق صناعة وسائل الإنتاج وتوجيه الفائض الاقتصادي المتولد في الريف لتمويل عملية التصنيع.

وقد اعتبر لينين تنظيم الإنتاج الكبير على أسس رأسمالية الدولة، بمثابة مرحلة انتقالية لمواجهة متطلبات بناء الأساس المادي للاشتراكية، مرحلة يحتّمها ضعف تطور الرأسمالية في روسيا آنذاك. وكان يدرك أنّ عملية الانتقال إلى الاشتراكية تتضمن سلسلة طويلة من المحطات والانتقالات تغطي حقبة تاريخية طويلة نسبياً.

ثورة أكتوبر العظمى في 1917
دور التكتيك الصائب في تحقيق النصر الاستراتيجي
من المفيد هنا الإشارة الى رؤية الماركسية لأشكال النضال وكيفية اختيار التكتيكات الملموسة طبقا للوضع الملموس. ويميّز لينين بين الماركسية والمرجعيات الفكرية – السياسية الأخرى في أنها أي الماركسية " لا تربط الحركة بأي شكل وحيد ومحدد للكفاح، فهي تسلم بأساليب النضال الأكثر تنوعا، وهي لا تخترعها، بل تكتفي بتعميمها وتنظيمها وجعل الأشكال النضالية للطبقات الثورية، التي تنبثق عضويا من خلال الحركة ذاتها، أشكالا واعية " ( الأعمال الكاملة، المجلد 9، ص 215).

ويعني ذلك أن الماركسية :
1. ترفض الصيغ المجردة التي لا تنبع من الواقع أو التي تريد أن تقفز فوقه.
2. وتستنبط أشكال النضال والتكتيكات الملموسة انطلاقا من حركة الجماهير وطبيعة نضالاتها ومستوى وعيها، التي تنبثق عنها طرائق جديدة دائما، متنوعة اكثر فأكثر، للدفاع والهجوم كلما تطورت الحركة الجماهيرية وتقدم وعيها واستفحلت الأزمات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية.

ولهذا السبب يؤكد لينين على أن " الماركسية لا ترفض بصورة مطلقة شكل نضالي ما. وهي لا تعتزم في أي حال من الأحوال أن تقتصر على الأشكال النضالية الممكنة والموجودة في لحظة معينة، وهي تعترف بأن تغييرا للوضع الاجتماعي سيستتبع حتى ظهور أشكال نضالية جديدة لا يعرفها مناضلو الفترة المعنية بعد. ومن هذه الناحية تتعلم الماركسية، إن صح التعبير، من المدرسة العملية للجماهير، وهي أبعد من أن تدعي إعطاء الدروس للجماهير بعرضها عليها أشكالا نضالية تصورها صانعو الأجهزة في غرف عملهم " ( المصدر السابق)

وإذ تؤكد الماركسية على هذه المبادئ المنهجية المتعلقة بأشكال النضال وتكتيكاته الملموسة، فإنها تؤكد في الوقت ذاته على بحث قضية أشكال النضال الملموسة في إطارها التاريخي الملموس. وبهذا الصدد يؤكد لينين على أن طرح " هذه المسألة خارج الظروف التاريخية الحسية، يعني جهل ألف باء المادية الديالكتيكية ……. إن محاولة الرد بنعم أو لا حين تطرح مسألة تقييم وسيلة معينة للنضال دون أن تبحث بالتفصيل الظروف الحسية للحركة في درجة التطور التي بلغتها، يعني التخلي تماما عن الصعيد الماركسي ". ( المصدر السابق، ص 216)

اعتبر لينين إن اختيار الطبقة العاملة وحزبها هذا الشكل للنضال أو ذاك أهم مسألة للتكتيك. وكما جرت الإشارة سابقا، لا يمكن حل هذه المسألة مسبقا، في هدوء المكاتب، ولا يعطى الجواب عنها إلا تطور الحركة نفسها ومراعاة الخبرة التي كدستها الجماهير والظروف الوطنية الملموسة.

ولم يكتف لينين بهذا التحديد بل أضاف إليه أطروحة مهمة أخرى وفحواها ما يلي : " ينبغي لنا أن نتذكر أن كل حركة شعبية تتخذ أشكالا متنوعة الى ما لا حد له، صانعة على الدوام أشكالا جديدة، نابذة الأشكال القديمة، محدثة تعديلات أو تركيبات جديدة من الأشكال القديمة والجديدة. وواجبنا أن نشترك بنشاط في هذه الصياغة لأساليب النضال ووسائله " ( لينين : روح المغامرة الثورية، دار التقدم، موسكو 1975، ص 12)

بينت تجربة أكتوبر 1917 أن نجاحات النضال من اجل الاشتراكية لا تتوقف على الاختيار الصحيح للاتجاه العام للتقدم الاجتماعي وحده، بل أن ما ينطوي على مغزى كبير، بل وحاسم أحيانا، هو التكتيك الثوري المعتمد في النضال والبحث في أطر هذا الاتجاه العام عن أفضل الطرق والأشكال والوتائر لتصعيد النضال وتطويره لتحقيق الأهداف الاستراتيجية.

ومن المفيد الإشارة الى أن هذا البحث صعب بل ومعقد، ذلك لأن تعدد أشكال الحركة نحو الهدف الثوري وتغير ما يظهر من الأوضاع الناجمة عن الخاصية الدولية كبيران جدا.

ثمة إشكاليات عديدة تتعلق بقضية الطرق والتكتيكات المستخدمة لتحقيق الوصول الى الهدف – الاستيلاء على السلطة.

1. أول هذه الإشكاليات تتعلق بمسألة استخدام ما يسمى بالطريق " المستقيم " أو الطريق " المتعرج" للتطور حسب تعبير لينين، اللذين يضع التاريخ أمام القوى المتصارعة تقرير اختيارهما.
- الطريق الأول – نضال الجماهير الثوري المباشر وإبداعها الثوري النشيط وهجومها الشامل الموجهة نحو الإطاحة بالسلطة القديمة – هو الطريق " الأجدى بالنسبة للشعب، ولكنه يتطلب أكبر قوة أيضا " ( لينين : المؤلفات لكاملة، المجلد 16، ص 8 ).
- والطريق الثاني هو الطريق " غير المباشر " و " الاضطراري "، حينما لا تكون القوى كافية ولابد من مساومة مؤقتة.

وإذ نظر لينين في هذين الشكلين قبل ثورة أكتوبر نوه بأن " على الماركسي أن يناضل من اجل الطريق الثوري المباشر للتطور، حينما يفرض واقع الأمور الموضوعي هذا النضال " ( لينين : المصدر السابق، المجلد 16، ص 20). وحينما أشار الى ضرورة مراعاة إمكان الطريق " المتعرج " أيضا، ركّز على أنه ينبغي في هذه الحالات " معرفة الإخلاص للمبادئ، للطبقة، للمهمة الثورية " (لينين : المصدر السابق، المجلد 34، ص 133).

إن هذه السياسة المرنة بشكلها، الصلبة والمبدئية بمغزاها الاجتماعي أعطت ثمارها في أكتوبر عام 1917.

2. أما الإشكالية الثانية فتتعلق بالعلاقة بين الطريقين السلمي وغير السلمي للانتقال الى الاشتراكية. كما تبين كتابات عديدة له، كان لينين يسعى الى البحث عن اقل الوسائل إيلاما وأكثرها فائدة بالنسبة للجماهير الشعبية من أجل تأكيد النظام الاجتماعي الجديد. ونوه مقتفيا أثر ماركس وأنجلز بأفضلية النهج السلمي، على الرغم من أن مفهوم " السلمي " لا يعني بأي حال من الأحوال حركة بدون نضال طبقي، أي الاقتصار على الأشكال " البرلمانية البحت " . إن استمرار إمكان تطور الثورة سلميا الذي اعتبره لينين " قيما للغاية " ( لينين : المصدر السابق، المجلد 34، ص 135 )، وقد ظهر أكثر من مرة في فترة ما قبل أكتوبر، بما في ذلك ازدواجية السلطة ( آذار-حزيران/ مارس- يونيو عام 1917)، حينما فقدت البرجوازية وسائل العنف الفعالة وتحقق أقصى حد من الحريات الديمقراطية وتوفر شكل جاهز ممكن سلطة الشغيلة على شكل السوفيتات.

يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه المسألة المفهوم الذي صاغه لينين حول الطريق الثوري – الديمقراطي الى الاشتراكية. وكان المقصود في هذه الحالة إمكانات التحرك السياسي والاقتصادي على مراحل من التنظيم البيروقراطي البرجوازي- الاحتكاري لمجالات الحياة الى التنظيم الثوري – الديمقراطي، على قاعدة التفاف الجماهير الشعبية حول المهمات الديمقراطية العامة.

ومن جهة ثانية تنطوي على مغزى تاريخي كبير تجربة أكتوبر المتعلقة بالطريق الآخر، غير السلمي، المسلح للانتقال الى الاشتراكية. فحينما استنفذت سياسيا الإمكانات السلمية لإقامة سلطة السوفيات، دعا لينين الحزب البلشفي والجماهير الكادحة الى الانتفاضة المسلحة. ولم يقحم لينين هذا الشكل النضالي على الحزب والجماهير، بل أن الجماهير كانت في ذلك الوقت قد اقتنعت من خلال تجربتها السياسية بأنه يستحيل من خلال الإصلاحات الديمقراطية – البرجوازية والاتفاقات مع البرجوازية إيجاد سبيل " أسهل " للخروج من الأزمة البنيوية الشاملة التي كانت تعتمل في مختلف جوانب المجتمع والاقتصاد الروسي آنذاك. لقد وصلت الجماهير الشعبية الى النضال في سبيل الاشتراكية من خلال النضال في سبيل المطالب الديمقراطية وتلبية حاجاتها المباشرة. وهكذا كانت آلية قيام الجماهير نفسها بالاختيار السياسي للطريق الجديد للتطور الاجتماعي. وجرت الانتفاضة المسلحة في بتروغراد بدون دماء تقريبا بفضل تفوق القوى الثورية.

وفي كتابه الهام : من هم " أصدقاء الشعب " وكيف يكافحون ضد الاشتراكيين الديمقراطيين؟ لخص لينين الموقف من أشكال النضال وتكتيكاته بعبارات بسيطة وواضحة وذات مغزى عميق في الوقت ذاته حين قال: " لا يمكن إعطاء شعار النضال دون دراسة كل شكل من أشكال هذا النضال بكل تفاصيله، ودون التتبع خطوة فخطوة متى ينتقل من شكل الى شكل آخر، كي نعرف في كل لحظة محددة أن نقرر الوضع من دون أن نغفل الطابع العام للنضال وهدفه الإجمالي : القضاء التام والنهائي على كل استثمار وكل اضطهاد " ( لينين : المصدر السابق، المجلد الأول، ص 356)

التحالفات السياسية التي مهدت لثورة أكتوبر وأدت الى نجاحها
كرس البلاشفة، وهم يعدون للثورة الاشتراكية، جهدهم الرئيسي لبناء تحالف العمال والفلاحين: الطبقتين المستغَلتين. بيد أن هذا لا يعني انهم كانوا غير مكترثين بالفئات والمجموعات الأخرى.

انه من الهام الإشارة الى أن البلاشفة كانوا دائما قد عبئوا الانتلجنسيا من اجل المساهمة النشيطة في الثورة لأن المصالح الاجتماعية لهذه الفئة كانت تتشابك بصورة متزايدة مع مصالح الطبقة العاملة. فقام الحزب البلشفي بعمل واسع بين شغيلة الفكر، واستوعب خيرة الانتلجنسيا التقدمية الروسية في صفوفه.

وبالمقابل قام الحزب بالبحث عن حلفاء بين بعض الفئات من الديمقراطية البرجوازية، وأقام صلات سياسية مع جماهير البرجوازية الصغيرة في المدن والقسم الثوري من البرجوازية. إن الطريق الى الثورة في نظر البلاشفة، كان يكمن في توحيد جميع القوى الثورية وتنشيطها حول برنامج عريض يجسد مصالح أغلبية الشعب.

كان البلاشفة متأكدين من أن خطتهم في بناء تحالف شعبي عريض سوف تفضي الى الهدف النهائي. فلماذا؟

أولا، لان روسيا، على الرغم من أنها كانت متخلفة اقتصاديا، لكنها دخلت مرحلة الإمبريالية. وقد عنى هذا انه حدث استقطاب حتمي للقوى السياسية عندما اصطدمت مصالح الغالبية العظمى مع مصالح فئة صغيرة من الطبقات الحاكمة.

ثانيا، لأن المطالب الديمقراطية العامة للشعب لم تكن قد أشبعتها لا ثورة 1905 – 1907 ولا إسقاط القيصرية في شباط 1917. فقد ثارت المعركة حول قضيتين كبيرتين:
• القضية العامة المتعلقة بالأرض والحرية والديمقراطية ؛
• والقضية الطبقية للبروليتاريا المتعلقة بإعادة بناء المجتمع اشتراكيا.

كانت المهمة الحاسمة هي صياغة برنامج سياسي واضح لكي يمكن ضمان وحدة الغالبية الشعبية وانخراطها في الثورة. وكان من الواجب تقديم مقولات المادية التاريخية والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية بلغة بسيطة ومفهومة لدى بلاد كانت تعاني من أمية كبيرة. وقد نجح البلاشفة في إيجاد كلمات بسيطة مفهومة طرحوا من خلالها جوهر المطالب الاجتماعية والديمقراطية ومصالح الجماهير.

وكانت هذه الكلمات بالنسبة لروسيا ذلك العصر هي:
- السلم الذي كانت تتطلع له بلاد عذبتها الحرب ؛
- والخبز الذي كان النقص فيه يؤدي الى مجاعة تطوق عنق البلاد من أقصاها الى أقصاها ؛
- والأرض التي لم يكن الفلاحون ليستطيعوا أن يتصوروا العيش بدونها.

هذا درس هام من دروس ثورة أكتوبر. وقد تطلب هدفا واضحا، ينطوي على حلول لأكثر قضايا البلاد الاجتماعية حدّة، لتحقيق وحدة شعبية ثورية يعتمد عليها.

ثورة أكتوبر العظمى: بعض الدروس والخلاصات
من المؤكد أننا معنيون بالإفادة من التجربة الطويلة التي أسست لها ثورة أكتوبر بالرغم من مالها المأساوي، ففيها خبرات غنية وهامة وأساسية في صياغة تصور ممكن لتحقق الاشتراكية، حلم ثورة أكتوبر وحلم كل الكادحين وبسطاء الناس.

إن عام 1917 العاصف والمجيد خلق ذخيرة من الخبرة الملموسة ذات المغزى العالمي الشامل والقابلة للتطبيق. ولينين بوصفة جدليا أصرّ على أن يقيّم الشيوعيون بعناية الوضع الملموس في بلدانهم المختلفة. ولكنه بالمقابل انتقد بحدّة، أيضا، أولئك الذين سيشرعون بالثورة انطلاقا من " وصفة جاهزة ".

تتيح دراسة ثورة أكتوبر العظمى استخلاص جملة من الدروس المهمة من بينها:

1. العفوية وحدها لا تكفي بل لا بد من القيام بعمل تحضيري طويل الأمد لقوى المجتمع لتحقيق النصر الاستراتيجي. يستحيل طبعا إنكار القوة الهائلة للعفوية الثورية، فظاهرة العفوية معروفة في الانعطافات الثورية الكبرى. في مثل هذه اللحظات التاريخية يظهر الى السطح باندفاع، انزعاج وغضب الجماهير المستغلة اللذان تراكما وظلا خافتين عشرات السنين. ولكن هذا لوحده لا يكفي. فمن الضروري لتنتصر الثورة، القيام بعمل تحضيري طويل الأمد لقوى المجتمع. وبدون هذا العمل، وبدون إدراك الجماهير لضرورة النضال ضد الحرب وضد الاضطهاد الاجتماعي والقومي، لا يمكن تحقيق النصر الاستراتيجي.
2. تجنب أن تكون التكتيكات عبئا على الاستراتيجية أو بديلا عنها. لدى النظر في أحد أهم قضايا الثورة، أي التناسب بين الوعي والعفوية، يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار حقيقة أن انتفاضات الجماهير العفوية التي جرت في شباط/يناير 1917 كانت قد أعدتها بدرجة لا يستهان بها، خبرتها الثورية السابقة وعمل حزب البلاشفة المتفاني بين العمال والجنود والفئات الشعبية الأخرى. فعلى الرغم من التنكيل القاسي والملاحقات قام البلاشفة بعمل سياسي نشيط ومنظم في صفوف الجماهير البروليتارية وبين حلفائها. وهنا تكمن أهمية ودور التنظيم/الحزب في إكساب النشاط العفوي للجماهير طابعا منظما، وتأطيره وتحويله الى قوة مادية هائلة من خلال صياغة تكتيكات مناسبة وبلورة شعارات ملموسة تصب جميعها في تحقيق الهدف الاستراتيجي للمرحلة التاريخية المعنية.
3. لا انتصار بدون قوة منظمة وموجِهة ومحرضة، أي بدون الحزب الثوري. لقد أثبتت خبرة ثورة أكتوبر انه بدون قيادة جماهير الكادحين من جانب الطبقة العاملة وحزبها لم يكن ممكنا تحقيق الثورة الاشتراكية. لقد ألقى التاريخ على عاتق البروليتاريا بالذات، أكثر الطبقات ثورية، مهمة عظيمة وهي قيادة نضال الجماهير في سبيل القضاء على كل أشكال وأنواع الاستغلال الطبقي والاجتماعي والقومي. كانت البروليتاريا في روسيا في عام 1917 متراصة الصفوف بقوة، وقد صلّبتها المعارك الطبقية وأفعمتها عزما على القيام بدور القوة القيادية في الثورة البرجوازية الديمقراطية للوصول بنضال الجماهير الكادحة حتى النصر النهائي، مستفيدة من تردد وصعوبات الحكومة القيصرية والمعسكر البرجوازي. وضمن لها هذا الدور الحزب الماركسي، الفصيلة الطليعية للطبقة العاملة الروسية آنذاك.
4. لم تكن ثورة أكتوبر ذات أهداف طوباوية، كما يزعم البعض، بل كانت غاية استيلاء السوفيتات على السلطة أهداف ملموسة وواضحة ودقيقة:
• الوقف الفوري للحرب،
• وتوزيع الأراضي على الفلاحين،
• وتأمين حق تقرير المصير للقوميات المضطهدة،
• وتفادي سحق بيتروغراد الحمراء ، الذي أراد كيرنسكي تسليمها للجيش الألماني،
• ووقف تخريب البورجوازية للاقتصاد، وإقامة الرقابة العمالية على الإنتاج، ومنع انتصار الثورة المضادة.

5. الترابط بين الاشتراكية والسلام. إن الطابع الاشتراكي للدولة السوفيتية الذي خلقته ثورة أكتوبر، قد حدد سياستها المحبة للسلام. وكان (مرسوم السلام) أول وثيقة أصدرتها السلطة السوفيتية في مجال السياسة الخارجية تنهج في ثبات طريق النضال من اجل سلام وحرية وأمن الشعوب.
6. أسفرت مكتسبات الاشتراكية عن ظهور المفاهيم العصرية عن العدالة الاجتماعية وعن حق الإنسان في العمل وفي التعليم والراحة وفي التأمين في حالة الشيخوخة ....الخ.
7. كانت ثورة أكتوبر وموقف كادحي البلدان الأخرى منها نموذجا لقانون آخر هو الأممية البروليتارية، إحدى الوسائل العظيمة لنضال الشعوب في سبيل السلام والديمقراطية والاشتراكية والتقدم الاجتماعي عموما.
8. كما حل انعطاف تاريخي على حركة التحرر الوطني، حيث أن اختيار عشرات الدول في آسيا وأفريقيا طريق التطور المستقل، مرتبط ارتباطا وثيقا بثورة أكتوبر، وبناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وظهور النظام الاشتراكي.
9. الرأسمالية ليست الأفق النهائي للبشرية. فبقدر ما كان انهيار التجربة التي انبثقت من ثورة أكتوبر قاسيا على قوى التقدم ، فانه أفضى، في مجرى الفترة اللاحقة الى استخلاص مجموعة هامة من الحقائق والعبر، أهمها أن الرأسمالية ليست الأفق النهائي للبشرية. كذلك فان سقوط مشروع بناء الاشتراكية لا يعني موت الفكرة ذاتها. فقد دللت ثورة أكتوبر على قدرة البشر، الطامحين الى التحرر والعيش في مجتمع مغاير للمجتمع القائم على علاقات الاستغلال، على اجتراح الخطوة الصعبة الأولى في هذا الاتجاه. وإن الاشتراكية كمشروع للتحرر الإنساني، لن تتبلور إلا كتتويج واستكمال لما سبقها من نضالات وخبرات، على طريق التحرر الإنساني، هذا الطريق الذي افتتحته الثورة الفرنسية في عصرنا الحديث وأغنته، نوعيا، ثورة أكتوبر العظمى. إن التخلي عن الخيار الاشتراكي الذي دافعت عنه ثورة أكتوبر ضار ومدّمر معاً، لأنه لن يبقَ لنا، على الصعيدين المحلي والعالمي،سوى البربرية، الفقر والجوع، والتفكك والاستقطاب الاجتماعي

الخـــــــــــــــاتمة
بغض النظر عن مالها المأساوي، فان البشرية لن تنسى ابدأ أكتوبر العظيم الذي كان نقطة انعطاف جذرية في تاريخ العالم، والذي سيظل يوما مضيئا على الدوام في هذا التاريخ العاصف.

في كتابه (عشرة أيام هزت العالم) يقول جون ريد الصحفي الأمريكي: " نعم لقد كانت الثورة مغامرة ولكنها إحدى أروع المغامرات التي سبق للإنسانية أن أقدمت عليها، مغامرة اقتحمت التاريخ علي رأس الجماهير الكادحة وراهنت بكل شيء في تحقيق رغباتها الواسعة والبسيطة، ومهما يكن رأي بعض الناس في البلشفية فلا جدال أن الثورة الروسية من أعظم الأحداث في تاريخ البشرية ".

ورغم اللحظات المشوبة بمشاعر مختلطة بين حلم مؤجل وأمل آت إلا أن مجرد استذكار هذا الحدث الذي غيّر العالم لأكثر من سبعين عاما إنما يعني أن هذه الثورة ومبادئها الكبرى في: السلم والخبز والأرض لم تتسربل بالنسيان، فما زال بيرق النضال ضد الاستغلال والظلم والعسف يرفرف، رغم كل الضجيج بنهاية التاريخ ونهاية الإيديولوجيا.

المجد للذكرى التسعين لثورة أكتوبر العظمى قاطرة تاريخ القرن العشرين !