الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي - مناقشة الصديقين عادل سمارة ومسعد عربيد


سلامة كيلة
2007 / 11 / 5 - 10:56     

الجزء الأول

قبل أن ينشر الصديقان عادل ومسعد رأيهما عبر موقع كنعان الذي يشرفان عليه، وفي الرسالة التي يعممها الموقع، كانا قد نشراه على الإيميل المشترك للقوى والأحزاب الماركسية في الوطن العربي التي انطلقت على ضوء النداء الذي صدر في باريس في 18/9/2006، ولقد نشرت ردي هذا على الإيميل ذاته. أجريت هنا بعض التدقيقات والتوضيحات فقط، وشطبت الجمل التي إعترضا عليها في رسالة عممت على الإيميل المشترك ونشرت على موقع الحوار المتمدن كذلك (الحوار المتمدن تاريخ 10/10/2007)، والخاصة بالإشارة التي أوردتها بأن في نقاشهما ما يبدو أنه رد على ورقة تخص الدولة الديمقراطية العلمانية نشرتها على الإيميل المشترك، كونهما أشارا إلى أنهما لم يقرآها.

**********
قدّم الصديقان عادل سمارة ومسعد عربيد مداخلة انطلقت من نقد هدف الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين، معتبرين أن البديل هو الحل الاشتراكي. ورغم أن هناك الكثير من القضايا التي نتفق معها، فقد لحظت أنها وضعت في سياق مربك، وقادت إلى استنتاجات إشكالية. الأمر الذي يشير إلى أن منهجية التحليل هي مرتبكة. حيث نلمس عدم منطقية وغياب ترابط. مما أفضى إلى أن يوضع الحل الاشتراكي في مواجهة الدولة الديمقراطية العلمانية. وربما كان الإشكال الأساسي في الحوار الآن هو أن النص لا يشير إلى الذين يناقشهم، وبالتالي ربما يقود ذلك إلى أن يكون الحوار حول مسألة الدولة الديمقراطية العلمانية مربكاً وإشكالياً، خصوصاً وأنه يعطي لحل الدولة الديمقراطية أبعاداً ومضامين ليست فيه، وحمّله ما لا يحتمل، وبالتالي كان سهلاً الوصول إلى النتيجة المحددة مسبقاً، وهي: رفضه.

في كل الأحوال سوف أتناول في هذه المناقشة الحل الاشتراكي والحل الديمقراطي في إطار نظري عام، لأن الموضوع يحتاج إلى هذا المدخل. ثم أتناول نقدهما للدولة الديمقراطية العلمانية. وبالتالي رؤيتهما للحل الاشتراكي في فلسطين.



(1) الحل الاشتراكي والحل الديمقراطي

إذن سوف أبدأ من "مستوى نظري"، هو أساسي في رؤية الوضع الراهن، ومدخل تحديد إستراتيجية القوى الماركسية (أو الاشتراكية كما يحب الصديقين تسميتها). وبالتالي فإن أهميتها نابعة من كونها مفصل تحديد السياسات والتكتيكات والتحالفات.



المهمات الديمقراطية والمهمات الاشتراكية
والصديقان يبدآن من مقابلة الحل الاشتراكي بالحل الديمقراطي، يطرحان الحل الاشتراكي كبديل عن الخيار الديمقراطي. لهذا يعنونا النص بـ: "نحو حل إشتراكي في فلسطين: مناقشة نقدية في حل "الدولة الديمقراطية العلمانية"". وهما هنا يطرحا الحل الاشتراكي النهضوي العربي القائم على تحقيق الوحدة والتنمية والتحرير. من أجل إقامة دولة عربية فيدرالية، موحدة، إشتراكية، ومتطورة. ويدعوان إلى قيام حركة إشتراكية عربية تمثل الطبقات الشعبية. وينطلقان من ذلك لمواجهة حل الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين بالحل الاشتراكي. وهو النقاش الذي يوحي بأن طبيعة المرحلة الراهنة تفرض الحل الاشتراكي وليس الحل الديمقراطي. وهذه مسألة يبدو أنه يجب أن نعيد النقاش فيها، رغم أنها إستحوذت على نقاشات واسعة في الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين (خصوصاً السنوات من 1950- 1970)، وبدا أن المسألة قد تبلورت في صيغة "الثورة القومية الديمقراطية" وليس الثورة الاشتراكية، التي ظل قطاع محدود من الماركسيين يؤكد عليها.

لهذا ربما من المفيد تركيز الأفكار حول هذه المسألة، لأنها أساس نظري لكل السياسات التي ترسم، وأساس تحديد المهمات ودور الطبقات والتحالفات كما أشرت للتو. إن ملخص النقاش حول هذه المسألة يشير إلى أن التباساً حدث في إطار الماركسيين بعد أن تحولت الرأسمالية من حدودها القومية لتصبح نمطاً عالمياً يفرض مصالح رأسمالية المراكز على أمم الأرض، وبالتالي تنحّت البرجوازيات في الأمم التي لم تصبح رأسمالية عن لعب دورها في بناء الصناعة وتطوير قوى الإنتاج، وبالتالي في تحقيق المهمات الديمقراطية الضرورية لتطور اقتصادي كهذا (أي الدولة الحديثة، وحل المسألة القومية، وحل المسألة الزراعية، والحداثة الفكرية)، ولقد إنجدلت مع الرأسمالية الإمبريالية من موقع التابع. لهذا ظلت هذه الأمم عاجزة عن الانتقال إلى مرحلة الصناعة والدمقرطة والحداثة (وبعضها التوحيد القومي). ولقد أصبحت الرأسماليات الإمبريالية والمحلية مضادة لصيرورة التطور والحداثة هناك، وبالتالي أصبح كل تطور يجب أن ينطلق من الصدام معها، وهو لن يتحقق إلا عبر هزيمة هذه الرأسماليات.

في هذا الوضع طرح خياران، الأول: ينطلق من الإصرار على الفكرة الأصلية لماركس، والقائلة بـ "حتمية" الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى الرأسمالية، وهو الانتقال الذي يتحقق بقيادة البرجوازية، ولن يتحقق بغير ذلك. وسنلحظ هنا أن هذا التيار في الماركسية لم يلحظ تحوّل مسار البرجوازية المحلية بعد ترابطها مع الرأسمال الإمبريالي، حيث لم تعد معنية ببناء الصناعة وتطوير قوى الإنتاج، بل أصبحت توظّف الرأسمال في القطاع الهامشي، في التجارة والخدمات والمال، وهو القطاع المتراكب مع سيطرة الرأسمال الإمبريالي، وبالتالي مع سياساته. وهي لهذا لم تعد معنية بتحقيق المهمات الديمقراطية، بل حافظت على استمرارية البنى المؤسسية والأيديولوجية التقليدية. ونتيجة ذلك أصبح الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية وفق الصيغة النظرية التي تطرحها الماركسية (ماركسية ماركس)، والمستمدة من صيرورة الانتقال في أوروبا، غير ممكن. حيث استمرت البنى الإقطاعية، التي أخذت شيئاً فشيئاً تتكيف مع النمط الرأسمالي وتتحوّل إلى رأسمالية هامشية، وأُخضعت الأمم المخلفة لآليات السيطرة الإمبريالية، لتبقى دون قوى إنتاج قادرة على المنافسة، وبقيت في الغالب أمم زراعية متخلفة، أو تعتمد على المواد الأولية.

الخيار الثاني: هو الانطلاق من أن مواجهة الرأسمالية تفرض تحقيق الاشتراكية، حيث أن الطبقة العاملة لا تحمل سوى مشروع واحد هو: الاشتراكية، بغض النظر عن الظروف الواقعية، وبالتالي المهمات التي يطرحها الواقع. وكما لمسنا للتو فإن الواقع لم يكن قد تجاوز سيطرة الإقطاع، أو تجاوز التكوين الزراعي، وظلت الصناعة هامشاً محدوداً، كما ظلت البنى التقليدية هي المسيطرة، وكانت المهمات الديمقراطية كلها لم تتحقق بالتالي. وهذا ما فرض طرح صيغة "إشكالية" من قبل بعض التيارات الماركسية هي صيغة "البرنامج الانتقالي" في إطار ثورة إشتراكية. أو ربما يكون قد أدى إلى تمييع معنى الاشتراكية كما سنلاحظ تالياً. بمعنى أنه قد أُخرج عن أساسه الطبقي فأعيد إلى المعنى السابق للماركسية، والذي نقده كل من ماركس وإنجلز في الفصل الأخير من "البيان الشيوعي"، وأشار إليه إنجلز في كتابه "الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية"، أو "تطور الاشتراكية من طوبى إلى علم".

بمعنى أن المنطق الذي حكم هذين الخيارين إنطلق من الإجابة على سؤال: هل أن المهمات هي التي تحدد طبيعة الثورة (أو التحول أو التغيير) أم أن دور الطبقات هو الذي يحدد ذلك؟ مَنْ إنطلق من المهمات فقط إتبع "الطريق التقليدي" للتطور، والذي شهدته أوروبا في تحولها إلى الرأسمالية، وبالتالي إستنتج بأن البرجوازية هي التي يجب أن تحقق التغيير، وأنْ لا طريق غير ذلك، وبالتالي بنى منطقه على حتمية هي حتمية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. ومَنْ إنطلق من دور الطبقة العاملة بعد أن رأى عجز البرجوازية، ظل متمسكاً بالفكرة الماركسية "التقليدية" التي تقول بأن مهمة الطبقة العاملة هي تحقيق الاشتراكية، لأن هذه هي مهمتها "التاريخية"، وهنا كمنت حتمية أخرى. لقد تأسس المنطق الأول على أن هذه المهمات التي هي مهمات حققتها البرجوازية إبان صعودها، هي مهماتها. لهذا لن يحققها طرف آخر، إنها مهماتها. وما دامت الطبقة العاملة قد تشكلت، وما دام الحزب الماركسي أصبح قائماً، فعليهما أن يدعماها لا أن يحلا محلها. هنا الربط الميكانيكي المحكم بين المهمات والطبقة التي تحققها (بناءً على التجربة الأوروبية). وتأسس المنطق الثاني على أن عجز البرجوازية عن تحقيق التطور، أو تخلي البرجوازية عن دورها "التقليدي"، وبالتالي إنتهاء دورها "التاريخي"، يفرض أن تقوم "الطبقة النقيض"، أي الطبقة العاملة ما دامت قد تشكلت، بتحقيق برنامجها، الذي هو تحقيق الاشتراكية. وهنا نلمس الربط الميكانيكي المحكم كذلك بين الطبقة العاملة و"مهماتها التاريخية". وسنلمس بأن كلا المنطقين يتجاهل الواقع، وينطلق من فكرة أتى بها ماركس وهو يحلل واقعاً معيناً، جرى تعميمها، أو تحويلها إلى قانون. هل هي قانون؟ لكن كيف يمكن أن تتحول إلى قانون دون أن تدرس تجريبياً في مكان وزمان آخرين، في مكان وزمان غير مكان وزمان ماركس؟ هذا ما تناوله لينين ليتوصل إلى ما هو مخالف لهذه الفكرة ولتلك.

سنلحظ بأن في كلا الإجابتين ما هو صحيح، وإن كانتا إجابتان خاطئتان. حيث أن كل منهما يعتمد زاوية نظر مختلفة عن الأخرى، وهي صحيحة في حدودها لكنها تكون خاطئة حينما تتحول إلى حكم. الحكم المبني على دوغما تنطلق من فكرة لماركس (وليس من منهجيته). وهنا يكون مطلوباً تجاوز الربط الميكانيكي المحكم بين الطبقة والمهمات. فصحيح أن المهمات هي مهمات ديمقراطية تلك التي حققتها البرجوازية في أوروبا والتي لازلنا نسعى إلى تحقيقها. مهمات بناء الصناعة وتطوير القوى المنتجة، الوحدة القومية، الحداثة المتضمنة الدمقرطة والعلمنة. لكن لم تعد البرجوازية (العالمية والمحلية) معنية بتحقيقها كما أشرنا منذ البدء. وليس من الممكن الانتقال إلى الاشتراكية دون تحقيق هذه المهمات. لا إشتراكية دون أن تصبح الصناعة هي أساس قوى الإنتاج، وبالتالي أن تتشكل الطبقة العاملة كطبقة لذاتها. وكذلك دون أن تتحقق المسألة القومية والدمقرطة والحداثة. حيث لا المجتمع متكون بما يسمح بذلك، ولا الطبقة العاملة ( قليلة العدد، ومحدودة الوعي نتيجة الوضع الاقتصادي الاجتماعي ذاته) قادرة على حمل مشروع تحقيق الاشتراكية. إنها بحاجة لأن تتحقق المهمات الديمقراطية، كما أن حجمها يفرض عليها أن تتحالف مع كل الطبقات المعنية بتحقيق المهمات الديمقراطية(خصوصاً الفلاحون والفئات الوسطى المدينية). وما من شك في أن سعيها لتحقيق الاشتراكية يعزلها عن هؤلاء، ويبقي هدفها بعيداً، وليبدو أنه خارج الإمكانات الواقعية.

إذن، هناك مهمات واقعية لم تعد الطبقة التي حققتها في سياق التطور التاريخي الأوروبي معنية بها، وهناك الطبقة العاملة التي لا تستطيع تحقيق مشروعها الاشتراكي نتيجة حجمها، وطبيعة المهمات التي يجب أن تتحقق. هنا الحتمية تتحدد في ضرورة تحقيق المهمات، لأنها تتعلق بالتطور التاريخي الذي لا تتحقق صيرورته إلا بتحقيق المهمات التي يطرحها الواقع ذاته. لكن إنتهاء الدور التاريخي للبرجوازية يفرض أن تقوم الطبقة التي لن تتحقق مصالحها إلا إذا حققت مصالح الأمة، ولتتحول هي الأمة، هذه الطبقة هي الطبقة العاملة. وهنا تتحدد الحتمية الأخرى، أي أن تلعب الطبقة العاملة دوراً فاعلاً وقيادياً لعملية التغيير والتطور. (ملاحظة: الحتمية هنا لا تعني حتمية أن يتحقق التطور، فهذه مسألة خاضعة للممكنات، لكنها تعني أنه من الضروري تحقيق المهمات الديمقراطية، ولا إشتراكية دون ذلك. وأيضاً أن تحقق ذلك يفترض أن تلعب الطبقة العاملة الدور الفاعل والقيادي).

هذا الوضع طرح الصيغة المركبة، التي بدأها لينين (رغم أنها تطورت خلال القرن العشرين)، القائمة على التأكيد على ضرورة تحقيق المهمات الديمقراطية، حيث ليس من تطور دون ذلك، لكن أولاً بأن تلعب الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وبالتالي الحزب الذي يمثلهما، الدور الفاعل والقيادي، دون تجاهل التحالف مع بقية الطبقات الشعبية، وكذلك التحالف مع الأحزاب المعبّرة عن تلك الطبقات. هنا لا تعود المهمات الديمقراطية حكراً على البرجوازية (وإنْ كانت قد حققتها في الماضي)، كما لا تعود مهمة الطبقة العاملة تحقيق الاشتراكية فقط، بل يجب عليها أن تحقق المهمات الديمقراطية تلك لكي يكون بإمكانها الانتقال لتحقيق الاشتراكية. إذن، المهمات الديمقراطية (وأشير إلى أن الصديقين عادل ومسعد لا يطرحان أكثر من هذه المهمات كما سوف أوضّح تالياً) من جهة، وضعف الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، ولكن مقدرتهما على التحالف مع الفلاحين المتوسطين ومع الفئات الوسطى المدينية من جهة أخرى، يجعلان التأكيد على الطابع الديمقراطي للمرحلة (أو للثورة) مسألة أولية، خصوصاً في الوطن العربي، حيث أن المهمات الديمقراطية واسعة: الاستقلال في فلسطين والعراق ومناطق أخرى، الوحدة القومية وحل مسألة الأقليات، تطوير القوى المنتجة وخصوصاً بناء الصناعة وتحديث الزراعة، الدمقرطة والعلمنة والحداثة. بمعنى أنه يجب ملاحظة المهمات من جهة، والكتلة الطبقية القادرة على تحقيقها من جهة أخرى، ودون ذلك لن يكون ممكناً تحقيق التطور، لا الديمقراطي ولا الاشتراكي. وهذه "الكتلة التاريخية" (كما أشار غرامشي) هي الطبقات الشعبية (أي العمال والفلاحون الفقراء والمتوسطون والفئات الوسطى المدينية)، وإذا كانت الطبقة العاملة والفلاحون الفقراء يمكن أن يدعموا إلغاء الملكية الخاصة فإن بقية الطبقات سوف ترفض ذلك لأنها تسعى إلى التملّك، وتحلم بالتحوّل إلى رأسمالية. وبالتالي فإن المطالبة بتحقيق الاشتراكية، أي بإلغاء الملكية الخاصة (وهو ما يشير إليه الصديقان بشكل عابر على كل حال)، سوف لن يسمح بتحقيق التحالف الذي هو وحده القادر على تحقيق المهمات الديمقراطية.


طبيعة الحل الاشتراكي الذي يطرحه الصديقان

لقد حدد الصديقان المهمات في: الوحدة، التنمية (ومرة حدداها بالتنمية الاشتراكية)، التحرير (ومرة بإضافة تعبير: وصولاً إلى الاشتراكية). لكنهما إعتبرا أنها هي "الحل الاشتراكي"، كما إعتبرا أن الطبقات الشعبية (دون تحديد من هي) هي صاحبة المصلحة الحقيقية في تحقيق هذه الأهداف. ولهذا دعوا إلى قيام حركة إشتراكية عربية منها.

الصديقان هنا يطرحان المهمات الديمقراطية (أو بعض هذه المهمات). لكنهما يعتبران أنها أهداف المشروع الاشتراكي، لأن تحقيق هذه المهمات هو في تضاد مع الرأسمالية. فـ "بما أن رأس المال الكمبرادوري يخون، بشقيه السياسي والثقافي، فلا مناص من حل غير رأسمالي هذه المرة هو الحل الاشتراكي". بمعنى أنه مادام لم يعد حلاً رأسمالياً فهو إذن حل إشتراكي. ولاشك في أن هذا الاستنتاج متسرع وشكلي، لأن صيرورة الواقع أعقد من أن تحسم بهذه الطريقة "اللفظية". هل أن معنى غير رأسمالي تساوي الاشتراكي؟ على الصعيد التجريدي نعم، لكن في الصيرورة الواقعية لا. لأن طبيعة الحل تتحدد بطبيعة المهمات أكثر من تحددها بطبيعة الطبقة القائدة. وبالتالي فإن خيانة الرأسمالية لا تلغي أن هناك مهمات ديمقراطية يجب تحقيقها. وإن كانت باتت تتحقق بقيادة طبقية أخرى، هي قيادة الطبقة العاملة التي هي وحدها منْ يتبنى تحقيق الاشتراكية "العلمية"، أي تلك القائمة على إلغاء الملكية الخاصة. لكنها معنية أولاً بتحقيق المهمات الديمقراطية في إطار تحالف طبقي سياسي واسع، وبالتالي لا يمكنها طرح إلغاء الملكية الخاصة كهدف، إضافة إلى أن ممكنات الواقع لا تحتمله ما دامت لم تتأسس قوى منتجة تستطيع حمل المشروع الاشتراكي.

أولاً هل أن المهمات التي يطرحها الصديقين هي مهمات إشتراكية؟ بالتأكيد لا، حيث أنها المهمات التي أنجزتها البرجوازية إبان صعودها في أوروبا. وهي مهمات الانتقال من "مجتمع القرون الوسطى" إلى "المجتمع المدني الحديث". مهمات الانتقال من الإقطاع، تجاوز الإقطاع على صعيد البنى القائمة، أي تجاوز المجتمع الزراعي والأيديولوجيا المطابقة التي تشكل الوعي العام، نحو مجتمع مدني حديث يقوم على الصناعة. ولاشك في أن نقلة قوى الإنتاج هذه مهمة وحاسمة كذلك، لأنها الأساس في تشكيل "المجتمع المدني الحديث"، أي على صعيد البنى المؤسسية والوعي والعلاقات، وتشكل الطبقات (الطبقة العاملة خصوصاً).

ومهمات الانتقال في الوطن العربي هي: الاستقلال (لعديد من المناطق فيه)، والوحدة القومية وحل مسألة الأقليات القومية، الدمقرطة والعلمنة والحداثة، وبناء الصناعة وتطوير القوى المنتجة والبنى التحتية. وهي المهمات التي طرحها رواد النهضة العربية لكن البرجوازية العربية الناشئة منذ نهاية القرن التاسع عشر لم تكن معنية بتحقيقها، لأنها تشكلت بالإنجدال مع الرأسمال الإمبريالي، وتوافقت مع سياساته –النابعة من مصالحه – في تكريس البنى التقليدية والزوغان عن بناء الصناعة وتحديث المؤسسات والوعي. وبالتالي هل لأن الرأسمالية لم تفعل ذلك سيكون الحل الاشتراكي هو البديل؟ إذن ما معنى الحل الاشتراكي؟ هل نقصد هنا أن الاشتراكيين (وأنا أقول الماركسيين) هم من يجب أن يحقق هذه المهمات؟ في هذا المعنى الجواب نعم، وبالتالي يجب أن نشير إلى كيف (وهذا ما فرض أن يكون حل الاشتراكيين هو تحقيق المهمات الديمقراطية. بمعنى أنه يجب التمييز بين الحل الاشتراكي، أي ذاك الذي يقوم على تحقيق الاشتراكية، وحل الاشتراكيين الذي ليس هو بالضرورة الحل الاشتراكي. أي الفصل بين الذات –الحزب- والموضوع –المهمات- من أجل إعادة ترتيب العلاقة بينهما جدلياً). أم أنها تعني تحقيق الاشتراكية التي تقوم على إلغاء الملكية الخاصة، ولن تتحقق دون ذلك؟ هنا تبرز الإشكالية، حيث أن الطابع الاشتراكي للحل (وللثورة أو التغيير) يقوم على بناء اقتصاد إشتراكي، أي قائم على إلغاء الملكية الخاصة. وهنا لن يكون ممكناً تأسيس تحالف طبقي سياسي يضمن تحقيق المهمات الأخرى، التي هي مهمات جوهرية لتحقيق التطور، والانتقال إلى الاشتراكية.

وبالتالي ليس لأن البرجوازية قد فقدت دورها التاريخي يصبح الحل هو الاشتراكية، وتتحول المهمات ذاتها إلى مهمات إشتراكية. إنها هي ذاتها المهمات الديمقراطية التي يجب على الماركسيين تحقيقها.

وإذا كانت هذه المهمات لا تتحقق إلا على الضد من النمط الرأسمالي وذيوله المحلية، فإن ذلك لا يحوّلها إلى مهمات إشتراكية بل يقدّم الأساس لأن تلعب الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وبالتالي الحزب الذي يعبّر عنهم، الدور الفاعل والقيادي لكي يحققها. هنا تتغير الطبقة القائدة التي يلقى عليها تحقيق المهمات الديمقراطية. إن عدم تحقّق المهمات الديمقراطية إلا بالضد من الرأسمالية هو مدخل التأكيد على أن لا إمكانية لتحقيق تلك المهمات إلا بقيادة الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، مع ملاحظة أن ذلك يتحقق في إطار تحالف طبقي سياسي كما أشرنا للتو. بمعنى أن ذلك لا يحولها إلى مهمات إشتراكية بل يحوّل في دور الطبقات، ويعطي الطبقة العاملة الأفضلية.

إن وسم هذه المهمات بأنها إشتراكية هو تحميل لها بأكثر مما تحتمل، وتضييع لمعنى الاشتراكية، التي تفترض مستوى معيناً من التطور بنشوء قوى إنتاج حديثة قائمة على الصناعة، ومتجاوزة للمهمات الديمقراطية، وتقوم على إلغاء الملكية الخاصة. لهذا سنلمس بأن "الحل الاشتراكي" المطروح يُبهت معنى الاشتراكية، ويتميع، ويتحوّل إلى شعار يتضمن طموح فئات وسطى تسعى لتحقيق المهمات الديمقراطية ذاتها، لكن في ظرف ليس مؤاتياً، هو بالضبط ظرف سيطرة الرأسمالية الإمبريالية، وبالتالي احتجازها التطور "الطبيعي" (العفوي، التقليدي). فتموّه تلك الفئات مشروعها، تغطيه بالألفاظ، تعطيه طابعاً لفظياً، عبر تسميته: الاشتراكية. هذا ما وسم البعث والناصرية، اللذين أعطيا للاشتراكية معنى مساواتياً (الإصلاح الزراعي)، وحداثياً (دور الدولة الاستثماري الاجتماعي، والتخطيط المركزي)، مع تأكيدهم على تقديس الملكية الخاصة. وكان كل ذلك يعيد إنتاج الفائض لمصلحة فئة من الفئات التي شكلت السلطة الجديدة كما لاحظنا في النصف الثاني من القرن العشرين، وما يتبدى واضحاً أمامنا الآن. إن تعقيد الوضع نتيجة السيطرة الإمبريالية، والضرورة التي تفرض الحاجة إلى التغيير في وضع وظروف الفلاحين والفئات الوسطى الريفية آنئذ، والذي كان يفترض مواجهة الرأسمالية، فرض تبني نقيضها، لكن بعد إفراغه من معناه الحقيقي. لقد أصبحت الاشتراكية مدخلاً أيديولوجياً لفرض سيطرة الفئات الوسطى تلك، ولتحقيق مصالحها هي بالذات.

الاشتراكية هنا هي النقيض الشكلي للرأسمالية، لكنها في الواقع الغطاء الذي تتحقق في ظله مصالح رأسمالية. وهو نقيض شكلي لهذا السبب بالذات. لهذا كانت إشتراكية تنطلق من الملكية الخاصة (وهي هنا ليست إشتراكية، بل إشتراكية طوباوية). وكانت إشتراكية "الجماهير الشعبية"، هذا التعبير الهلامي الذي يغطي على الطبقات من أجل فرض سيادة الفئات الوسطى. وهو يتجاوز التحديد الدقيق للطبقات، من تسميتها، ومن تحديد مصالح كل منها سوى ذلك المتعلق بالعام المشترك.

هل يكرر الصديقان ذلك؟ أخشى أن يكونا كذلك. وإذا كانا يعتبران أن تحقيق المهمات الديمقراطية هو تحقيق للحل الاشتراكي، فلسوف نلمس أنهما يؤسسان لضبابية أخرى حينما يعتبران أن هذا الحل تحققه الطبقات الشعبية، ويساويان بينه وبين التنمية. وكل ذلك يفرض طرح السؤال: ما هي طبيعة الاشتراكية التي يطرحانها؟

إن تعبير الطبقات الشعبية يستخدم عادة، لكنه يتحدد في أنها: العمال والفلاحون والفئات الوسطى المدينية. لكن حينما تستخدم دون تحديد يجب أن تثير التساؤل. هل لأن التكوين الطبقي القائم مميع، أو غير محدد؟ أو أنهما يريا أنه غير محدد؟ في هذا الوضع يجب أن يتحدد أولاً، لأنه دون تحدده ليس من الممكن الانتقال إلى الاشتراكية. حيث أن "الكتل الهلامية" لا تطرح على ذاتها مهمات إشتراكية. أم أن الرؤية التي يُنظر منها إلى الواقع هي "الهلامية" لهذا لا ترى الطبقات؟ طبعاً ليس من تكوين طبقي واضح بالمطلق، حيث هناك تداخلات عادة، لكن أساس التحديد مهم هنا، هل هو البدء من الاقتصادي، أي من العمل والملكية؟ أم من السياسي، أي من المهمات السياسية بالذات؟ في المستوى الأول يمكن تمييز الطبقات بوضوح، أما في المستوى الثاني فلا يمكن ذلك لأن المهمات المطروحة هي القاسم المشترك بين "الطبقات الشعبية". لكن هنا تضيع الخيارات المختلفة للطبقات الشعبية. وهذا ما يبرزه التحديد الاقتصادي للطبقات.

إن هذا التعبير سيبدو غامضاً ومموهاً دون تحديد طبقي واضح. وربما كان هذا الغموض هو الذي يشي بإشكالية معنى الاشتراكية المشار إليه للتو. الطبقات الشعبية معنية بتحقيق الوحدة والتنمية والاستقلال (أو التحرير كما يرد في النص)، وأيضاً معنية بالحداثة والدمقرطة والعلمنة، لكن هل هي كلها معنية بتحقيق الاشتراكية القائمة على إلغاء الملكية الخاصة؟ وهل هي كلها، بالتالي، تقبل بأن لا تراكم الرأسمال لكي تصعد، وبالتالي تتحول إلى رأسمالية؟ هنا نلمس حلم الفئات الوسطى الريفية والمدينية التي هي جزء من الطبقات الشعبية. فأمام مسألة الملكية الخاصة تفترق أحلام المساواة التي تنتشر عادة بين الفلاحين، وتؤسس لنشوء "الاشتراكية الفلاحية"، وأحلام البرجوازية الصغيرة المتمحورة حول دور الدولة، والتي تؤسس لنشوء "إشتراكية البرجوازية الصغيرة"، عن إشتراكية الطبقة العاملة. حيث تسعى الفئات الوسطى الريفية والمدينية لأن تترسمل، وتكون أطروحاتها حول المساواة ودور الدولة القائمين على "تقديس الملكية الخاصة" مدخلاً لإنتاج اللامساواة والتمايز الطبقي. وإذا كان ماركس وإنجلز قد ناقشا ذلك في الفصل الأخير من "البيان الشيوعي" لأنه كان منتشراً في أوروبا آنئذ، فقد لمسناه نحن في الوطن العربي مع نشوء تيارات كحزب البعث والناصرية، ولمسنا نتائجه في الواقع، وبالتالي يمكننا توصيف عملية التحول تلك، وإنقلاب المساواة (المتحققة في الإصلاح الزراعي) إلى لا مساواة، وتحول الدولة إلى مركز إعادة توزيع التراكم، وبالتالي نشوء طبقة رأسمالية جديدة في ظل شعارات تحقيق الاشتراكية.

إذن، يجب الخروج من الضبابية التي تلف معنى الطبقات الشعبية وتحديد الطبقات بشكل واضح، وبالتالي التحديد الدقيق لمصالح كل منها كطبقات، ولمس "طموحاتها" وإستراتيجياتها. أي تحديد الاختلاف فيما بينها، قبل تحديد توافقاتها ومصالحها المشتركة، وبالتالي نضالها المشترك. وإذا كانت الاشتراكية تقوم على مفصل إلغاء الملكية الخاصة، فإن تمايزاً واضحاً سوف ينشأ بين الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء من جهة، وبين الفلاحين المتوسطين، والفئات الوسطى المدينية (المسماة كلها بالبرجوازية الصغيرة) من جهة أخرى. حيث سيبدو طرح البرجوازية الصغيرة للاشتراكية كأوهام أيديولوجية لأنها تقيمها على أساس الملكية الخاصة، وهو ما ليس ممكناً، ويفضي في الممارسة إلى الترسمل وليس إلى الاشتراكية. وسنلمس أن تناقضاً واسعاً يخترق "الطبقات الشعبية"، بين من يعمل على إلغاء الملكية الخاصة ومن يعمل على تكريسها وإنْ كان قبل بدور الدولة الاقتصادي.

وبالتالي، فإذا طرحت الاشتراكية بمعناها الواضح القائم على إلغاء الملكية الخاصة، فلسوف ينفرط عقد التحالف بين الطبقات الشعبية، ولم يعد من الممكن توحيدها لتحقيق المهمات الديمقراطية (الوحدة والاستقلال والدمقرطة والعلمنة والتنمية)، ما دمنا نعتبر أن مهمتنا الراهنة هي تحقيق الاشتراكية أيضاً، وأن طابع المرحلة (أو الثورة أو التحول) هو إشتراكي بهذا المعنى. أما إذا تحددت الاشتراكية بالمعنى الفلاحي أو البرجوازي الصغير فهذا يعني تجاوز المعنى العلمي لها، والغرق في تهويمات البرجوازية الصغيرة التي لا توصل سوى إلى تطور هامشي، وعودة لإنتاج رأسمالية تابعة (كمبرادورية) جديدة، دون تحقيق أيٍّ من الأهداف الأساسية. وهنا يكون الحديث عن طبقات شعبية أو عن الجماهير الشعبية ملازما لهذا المنطقً، لأن الاشتراكية هنا لا تطرح كاشتراكية لا تحققها سوى الطبقة العاملة، بل يكون "التعميم الطبقي" (أو التعويم الطبقي) ضرورياً. إن عدم تحديد معنى الاشتراكية هنا هو أمر يشي بأن الاشتراكية هي إشتراكية الفئات الوسطى التي هي بالتالي ليست إشتراكية.

بمعنى أنه إذا تحددت كاشتراكية تقوم على أساس إلغاء الملكية الخاصة فإن الحديث المعمم عن "الطبقات الشعبية" سوف لن يكون له معنى سوى خلق إرباك لا يفيد العمل السياسي، ولا يؤدي إلى تأسيس تحالف بين هذه الطبقات. أما إذا لم تتحدد وظلت عامة فسوف تؤسس لأوهام أيديولوجية كذلك لن تسهم في تحقيق المهمات المطروحة. فتحالف الطبقات الشعبية يجب أن يبنى على سياسة اقتصادية لا تلغي الملكية الخاصة، لكنها تعزز من دور الدولة في مجالات الاستثمار والحماية والضمان الاجتماعي والصحي والتعليم. لكن هذا لا يعتبر إشتراكية، بل هو جزء من المهمات الديمقراطية المطروحة والمطلوب تحقيقها.

هل يساوي الصديقان بين إشتراكية الطبقة العاملة واشتراكية الفلاحين والبرجوازية الصغيرة؟ وإذا كانا يساويان، فهل تقوم هذه الاشتراكية على إلغاء الملكية الخاصة، أم على أساس الملكية الخاصة؟ إذا قالا بأنها تقوم على إلغاء الملكية الخاصة فهذا يعني أن تحالف الطبقات الشعبية سوف لن يقوم، ولن تتحالف من أجل تحقيق مهمات التحرير والوحدة والتنمية. وإذا قالا بأنها لا تقوم على إلغاء الملكية الخاصة فهما هنا يطرحا "إشتراكية البرجوازية الصغيرة"، ويكررا تجربة البعث والناصرية وكل تجارب "حركات التحرر في العالم الثالث"، التي كانت تنطلق من بناء إشتراكية "عربية" أو "عالمثالثية" تقوم على التمسك بالملكية الخاصة وليس على نفيها كما تفعل الاشتراكية الماركسية.

في كل النص يربط الصديقان الاشتراكية بالتنمية ولا يشيران إلى مسألة الملكية سوى في مكان محدد هو فلسطين، في سياق التأكيد على أحقية الحل الاشتراكي، وانطلاقاً من "ضرورات" الواقع، استناداً إلى التنازع الممكن على الأرض والموارد. حيث لأن الفلسطينيين لن يقبلوا الشراكة مع المستوطنين في ظل النظام الرأسمالي، ولأنه يستحيل تحقيق الشراكة في الأرض،والمساواة في ملكيتها في ظل النظام الرأسمالي، فإن الحل الاشتراكي هو البديل. الذي يقوم على "إلغاء الملكية الخاصة"، ووضع الأرض والموارد ووسائل الإنتاج في ملكية المجتمع. "وبهذا تخلع الاشتراكية مبرر وجود الصهيونية بما هي حركة طبقية رأسمالية بالأساس. وتمنع الصهاينة من اغتصاب الأرض واحتكارها، وتحرم نهب حقوق وملكية الآخرين. وأيضاً تمنح الفلسطينيين تبريراً للقبول بالشراكة مع اليهود في نظام إشتراكي عادل". بمعنى أنه حل لمسألة التنازع على الأرض بين أصحابها الأصليين (الفلسطينيين) والمستوطنين الجدد الذين باتوا يعتبرون أنها ملكيتهم. طبعاً هنا الحل "براغماتي"، أي غير ناتج عن قناعة بضرورة إلغاء الملكية الخاصة، أو على الأقل يبدو هكذا، بل نتج كحل لمشكلة محددة. وهذا يطرح السؤال: هل ينطبق ذلك على الدولة العربية الفيدرالية الاشتراكية الموحدة؟ أي هل سيقوم النظام الاقتصادي الاجتماعي على إلغاء الملكية الخاصة؟

إذا كانت الاشتراكية التي يدعوان إليها تقوم على إلغاء الملكية الخاصة فإنها هنا تتناقض مع دعوتهما لأن تتحقق من خلال الطبقات الشعبية. لأن هذه الطبقات كما أوضحنا ليست متوافقة على هذه المسألة، وبعضها يحمل مشروع تطور هو في جوهره رأسمالي. الطبقات الشعبية تتوافق على تحقيق المهمات الديمقراطية وتختلف في الموقف من الملكية، وبالتالي من مشروع التطور الاقتصادي الاجتماعي. لهذا ينفرض في مرحلة تحقيق المهمات الديمقراطية تأسيس شكل للتطور الاقتصادي يقوم على دور الدولة (التي تخضع لقيادة القوى الاشتراكية)، وفي إطار السماح للملكية الخاصة. وبالتالي فإن الدعوة إلى الاشتراكية هنا تتناقض مع كل المشروع المطروح، لأنها لا تؤسس لوحدة الطبقات الشعبية، وتحصرها في الطبقة العاملة فقط.لهذا فإن وضع الاشتراكية كهدف هنا يلغي ممكنات تحقيق أي تطور.

لكن التركيز على الطبقات الشعبية يعطي مؤشراً على أن التباساً يطال هذه المسألة. يكمله أن الصديقين يساويان الاشتراكية بالتنمية، يقزّمان الاشتراكية إلى تنمية، رغم أهمية التنمية وضرورتها في مجتمع يفتقد قوى الإنتاج الأساسية. لكن التنمية ليست الاشتراكية. الاشتراكية تحقق تنمية، لكنها تحققها في مجتمع إلتغت فيه الملكية الخاصة. الاشتراكية بالتالي لا تساوي الدور الاقتصادي (الحمائي والاستثماري الإنتاجي) للدولة. وبالتالي فإن الاشتراكية المطروحة هنا، والتي تتحدد في تحقيق التنمية، والتي تحققها الطبقات الشعبية، هي إشتراكية مشوشة، وفي الغالب تعبّر عن نزوع فئات وسطى، لكن في تصادم مع المشروع الرأسمالي الإمبريالي، وتطمح لتحقيق التقدم. لهذا تتراكب مع المهمات الديمقراطية (بما فيها تحقيق التنمية)، وتصبغها بصبغة إشتراكية شكلية هي إشتراكية الفئات الوسطى. أي أنها تهدف إلى تحقيق التطور الرأسمالي، لكن في ظرف عالمي لا يسمح بذلك، لهذا تستعير التعبيرات النقيضة للرأسمالية (الاشتراكية)، وتقزّمها إلى تنمية فقط. وتربطها بـ "الطبقات الشعبية" التي تتبدى وكأنها الفئات الوسطى فقط.

إذن، إن التأكيد على الاشتراكية مرتبطاً بدور الطبقات الشعبية وبتحقيق التنمية فقط يؤشر إلى إشكالية لا يبددها النص حول الملكية الخاصة الوارد في إطار الحل الفلسطيني. وإذا ما جرى تعميم هذه الفكرة سنشهد تشوشاً آخر يتعلق بتناقض مصالح جزء من الطبقات الشعبية مع الحل المطروح، وبالتالي عدم إمكانية تأسيس هذا التحالف أصلاً.

ما أشرت إليه يوضح بأنه لا يجب الخلط بين تحقيق المهمات الديمقراطية وتحقيق الاشتراكية، حيث أن لكلٍّ القوى الطبقية التي تحققه. وستكون المهمات الديمقراطية هي مجال إجماع هذه الطبقات، لكن الاشتراكية تفرّق بينها. ولما كان تطوير الواقع يفترض تحقيق مهمات سابقة للاشتراكية، ولأن المهمات الديمقراطية تفترض تحالف الطبقات الشعبية، أصبح على الطبقة العاملة (التي هي المعنية بتحقيق الاشتراكية) الإسهام في تحقيق تلك المهمات. بمعنى أنه مادام التطور يفرض تحقيق المهمات الديمقراطية لأنها مهمات مؤسِّسة لتكوين اقتصادي اجتماعي وسياسي جديد، فعلى الطبقة العاملة أن تتشارك مع الطبقات الأخرى في تحقيقها، وان لا تطرح ما يجعل التحالف مهدد بالانفراط، أو بعدم التحقق أصلاً. وهنا التطرق إلى إلغاء الملكية الخاصة من أجل تحقيق الاشتراكية هو الذي يفضي إلى عدم التحقق أو الانفراط.

لكن المسألة الضائعة هنا هي أنه إذا كانت البرجوازية عاجزة عن تحقيق تلك المهمات فقد تبيّن بالملموس أن الفئات الوسطى عجزت كذلك (تجارب البعث والناصرية وحركات التحرر)، وبالتالي فإن قيادة هذه الفئات للثورة (أو للتغيير) لن يقود سوى إلى تكرار الفشل. هذا ما يجعل (كما كان الوضع منذ لينين) الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء هي التي تقود عملية تحقيق المهمات الديمقراطية، في إطار تحالف الطبقات الشعبية. هنا الطبقة العاملة التي هي الأكثر تناقضاً مع الرأسمالية، وحاملة مشروع تحقيق الاشتراكية، هي التي تحقق المهمات الديمقراطية بالاستناد إلى ذاك التحالف. وهي بالتالي لا تحقق الاشتراكية الآن، بل سيكون تحقيق المهمات الديمقراطية مقدمة تحقيق الاشتراكية. وهذه الصيغة هي التي أنجزت المهمات الديمقراطية في التجارب الاشتراكية، وإن كانت تحققت في ظل "وهم" تحقيق الاشتراكية. فقد أنجزت المهمات الديمقراطية في الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، بغض النظر عن "فشل" الاشتراكية.

إذن، يجب الفصل بين المرحلة الديمقراطية والمرحلة الاشتراكية، لكن في إطار دور الطبقة العاملة الفاعل والقيادي في المرحلة الأولى لكي ينجح الانتقال إلى المرحلة الثانية.

إن توضيح الطبقات هنا، وعدم الاكتفاء بالإشارة إلى الطبقات الشعبية هي مسألة منهجية وأكثر من ضرورية، نتيجة التناقضات والتصورات المختلفة لهذه الطبقات، التي تتوافق على تحقيق المهمات الديمقراطية. ولهذا سيبدو النمط الاقتصادي الذي سيمارس في فترة سيطرة الطبقات الشعبية، ونتيجة الإشكاليات الاقتصادية الواقعية، نمطاً مركباً، لا يلغي الملكية الخاصة، لكنه يعزز من الدور الاقتصادي للدولة، ويؤسس الاقتصاد على أساس مخطط، وفي إطار ملكية الدولة، إلى أن يتشكل اقتصاد متطور يحتمل الانتقال إلى الاشتراكية. ودور الطبقة العاملة الفاعل والقيادي هو الذي يحدد ممكنات نجاح هذا الانتقال.

ما يطرحه الصديقان تحت عنوان "الحل الاشتراكي" هو حل مموه، يخفي مصالح الفئات الوسطى، وهو عن قصد يهمل الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، ويعمم استخدام تعبير: الطبقات الشعبية بدل تعبير: الجماهير الشعبية الذي كان يستخدم في الماضي من قبل الفئات الوسطى. وبالتالي فإن أي حل "إشتراكي" يجب أن تحمله الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، لأنها تقبل بإلغاء الملكية الخاصة، فهي لا تملك بالأساس، عكس الطبقات الأخرى. ولقد لمسنا ذلك في تجارب النظم القومية، وكيف أن الفئات الوسطى الفلاحية والمدينية التي كانت تنادي بتحقيق الاشتراكية القائمة على "تقديس الملكية الخاصة"، كيف نهبت الرأسمال المتراكم بيد الدولة، فخرج منها رأسماليين كبار، وهي لا تزال تلهج بالاشتراكية.

الاشتراكية إذن تحققها الطبقة العاملة والفلاحون الفقراء، وهي تحققها حين تصبح الظروف الاقتصادية الاجتماعية والفكرية السياسية مهيأة لذلك.


ما قلته في الصفحات السابقة هو أن الصديقين يطرحان المهمات الديمقراطية لكن تحت غطاء إشتراكي، أو تحت تسمية: الحل الاشتراكي. لكن كيف يفهما المهمات الديمقراطية؟


الحل الديمقراطي العلماني:

أشرت إلى أن الأهداف التي يطرحها الصديقين هي: الوحدة العربية، التنمية، وتحرير الأرض المحتلة. معتبرين أنها الحل الاشتراكي. والصديقان يرفضان حل الدولة الديمقراطية العلمانية المطروح لفلسطين، ليس لأنه لفلسطين فقط، بل أنهما يرفضان الطابع الديمقراطي والعلماني، أو على الأقل يتجاهلانه، وإن كانا يقرران حق الأقليات. وهما يواجهان حل الدولة الديمقراطية العلمانية بالحل الاشتراكي كما أشرنا، دون ملاحظة أنه حتى الحل الاشتراكي يجب أن يتضمن أهداف الديمقراطية والعلمنة. أي أن المشروع النهضوي العربي يجب أن يتضمن ليس فقط الوحدة والتنمية والتحرير، بل كذلك الديمقراطية والعلمنة والحداثة (وهو ما أكد عليه رواد النهضة العربية منذ البدء). وبالتالي يجب أن تكون الدولة العربية الفيدرالية الموحدة التي يدعوان إليها أيضاً ديمقراطية وعلمانية وتقرّ حقوق الأقليات القومية.

لهذا فإن الدولة الديمقراطية العلمانية هي هدف مطروح في كل الوطن العربي، وفي كل دولة فيه، لأن المسألة هنا تتعلق بتأسيس نظام سياسي ديمقراطي يقوم على أسس حداثية تبدأ من إقرار المواطنة (أي المساواة بين المواطنين دون تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو الإثنية)، وفصل السلطات واستقلال القضاء وحداثة المؤسسات. كما على الحريات والانتخابات. ولكن أيضاً على فصل الدين عن الدولة، ورفض التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو طائفي أو إثني، مع الحق في ممارسة المعتقدات الدينية. ودون كل ذلك ليس من الممكن تأسيس النظام الاشتراكي، حيث أنها يجب أن تكون متضمنة في كل وعي إشتراكي، وبالتالي في كل مشروع إشتراكي. وهي مرتبطة بتحقيق القطع مع البنى السياسية التي كانت سائدة في القرون الوسطى، والبناء على أسس جديدة تقوم على مبدأ المواطنة بدل الرعية، والانتماء إلى الأمة بدل الملة، وتكريس إرادة الشعب بدل الإرادة الإلهية. وبالتالي تشكيل النظام السياسي القائم على كل ذلك. وهي العملية ذاتها التي تفرض القطع مع الأيديولوجيا القروسطية، مع يقينيتها لمصلحة الشك، ولنصيتها لمصلحة العقلانية، ولمنطقها الصوري لمصلحة الجدل المادي. وهي العملية التي تفرض إعادة صياغة البنى السياسية على الأسس سالفة الذكر.

هذه المسألة نابعة من ضرورة داخلية، ولم تكن نتيجة وجود الكيان الصهيوني الذي قام على أساس ديني (اليهودية) رغم أنه مشروع إمبريالي بالأساس وفي الجوهر. لهذا تناولها رواد النهضة في الوطن العربي قرن قبل نشوء هذا الكيان. فهي مشروع الانتقال من القرون الوسطى إلى الحداثة. ومن هذا الأساس هي في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني لأنها تكشف "أصوليته"، ورجعيته، كما كل الحركات الأصولية. وبالتالي فهي الحل الذي يتجاوز المنطق الديني ويؤسس لرؤية تقوم على أساس ديمقراطي، يمكن شمل اليهود المضللين أيديولوجياً بها. حيث يجري "تحييد" الدين. وبهذا يسقط المنطق الديني المؤسس للدولة الصهيونية. كما يجري تحديد البديل القائم على أساس المساواة القانونية في إطار المواطنة. الأمر الذي ينزع عن الصراع طابعه الديني، ويعيده إلى أساسه الحقيقي الذي هو صراع من أجل السيطرة والنهب.

والتأكيد على العلمنة في هذا الوقت ضروري، نتيجة "التدخل الديني" في الصراع السياسي، من إعطاء الصراع السياسي غلاف ديني، وبالتالي تحويله من كونه صراع طبقي (أو قومي) إلى كونه صراع ديني. من وجود أيديولوجيا سادت في عصور قديمة تتخذ من الدين عقيدة سياسية وتشريعية، تحاول أن تستمر في السيطرة، أو أن تعيد سيطرتها، رغم أن التطور يفترض تجاوزها كأيديولوجيا وكعقيدة سياسية وتشريعية وكنظام اقتصادي اجتماعي، وبالتالي تحويل الدين شأناً شخصياً مصاناً في القانون. إن الانتقال إلى مجتمع مدني حديث يفرض هذه النقلة، أو يفرض هذه القطيعة ( القطيعة مع الدور السياسي الأيديولوجي للدين وليس مع الدين). وليس من الممكن الانتقال إلى الاشتراكية دون تحقيق هذه القطيعة، وبالتالي تأسيس دولة ديمقراطية علمانية.

وسنلمس أن البرجوازية لم تكن معنية بهذه الخطوة، وكانت الرأسمالية الإمبريالية معنية بتكريس البنى التقليدية ذاتها. لهذا أصبح تحقيق ذلك مناطاً بالطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وبالقوى الماركسية. وهو في أساس الحل الذي يطرحه الماركسيون.

أخشى أن يكون الصديقان يقابلان الديمقراطية والعلمانية بالاشتراكية، يرفضان الديمقراطية والعلمانية تحت مسمى تحقيق الاشتراكية. أخشى ذلك حقيقة، لأن الصيغة التي يطرحانها قد توحي بذلك. وربما كان لازال هناك خشية من تناول العلمانية نتيجة فاعلية الأصولية والميل العام للتدين. وبالتالي هنا يكرران إشكالية الفكر القومي العربي الذي تجاهل ضرورة العلمانية فإتخذ موقفاً ملتبساً منها، سمح –مع أسباب أخرى – إلى إعادة إنتاج الأصولية. أو أن هذه الخشية نبعت من دور بعض الحركات الأصولية المقاوم (حزب الله مثلاً)، وبالتالي خوفاً من عدم المقدرة على التنسيق، والتصادم معها في وضع يفرض التحالف مادام الصراع مع المشروع "الرأسمالي- الإمبريالي- الصهيوني" هو الصراع الرئيسي. بمعنى أن السياسي هنا يشل كل إمكانية لتجاوز الأيديولوجيا التقليدية، وتجاوز مشروعها الأصولي. وهو ما يفضي إلى تكريس البنى التقليدية والوعي التقليدي الذي هو بيئة الأصولية، ويمنع تحقيق التطور الضروري، لأننا نكون قد همشنا جزءاً مهماً من مشروعنا، وهو المتعلق بزحزحة الأيديولوجيا التقليدية وتعميم مشروع سياسي واقتصادي اجتماعي بديل. هنا التوافق على مسألة (هي المقاومة مثلاً) يفضي إلى التنازل عن كل المسائل الأخرى، ويقود إلى تكييف وعي الاشتراكيين مع الوعي التقليدي. إن "التحالف" مع قوى "أصولية" نتوافق معها على المقاومة (إذا ما كانت ضرورة) لا يفرض تغييب مشروعنا، أو حتى بعض نقاطه، بل يفرض توضيح الاختلاف كذلك، وإلا تحول التحالف إلى إلتحاق، وقاد إلى التماهي ولم يعد تحالفاً يقوم على توافق في موقف محدد وممارسة معينة، مع رؤية الاختلاف والتناقض في كل المسائل الأخرى، وهو ما يجب أن يكون واضحاً، ليس لنا فقط، بل لدى الطبقات كلها.

أخشى ذلك لأنني أرى بأن العلمنة ضرورة، وهي –في ظل انتشار الموجة الأصولية- باتت أكثر من ضرورة، وأن تحديدها بوضوح، وتحويلها إلى هدف، هي مهمة الماركسيين (أو الاشتراكيين والشيوعيين) بالأساس، أو قبل غيرهم. لأن عودة الأصولية تؤشر إلى أن الفكر العربي لم يقطع مع الأيديولوجيا التقليدية القائمة على أساس ديني. لهذا فعلى هؤلاء تحقيق ذلك: أولاً في الوعي (تجاوز المنطق الصوري/الأرسطي/ الديني)، وثانياً في السياسة (التمسك بهدف العلمنة). وفي ثنايا ذلك تحل المسألة اليهودية كما كل المسألة الدينية.

إذن، نحن نختلف حول خيار الماركسيين (أو الاشتراكيين أو الشيوعيين)، هل هو تحقيق الاشتراكية أم انه تحقيق المهمات الديمقراطية؟ إننا نتحدث عن خيار الماركسيين، أو خيار الاشتراكيين، وليس عن الخيار الاشتراكي، هل هو خيار تحقيق المهمات الديمقراطية (أو كما تسمى: الثورة القومية الديمقراطية)، أم خيار تحقيق الاشتراكية الذي يشمل بعض المهمات الديمقراطية، هذا الخيار الذي يقول به الصديقان؟

وهنا التحديد لا ينبع من "الأيديولوجيا" (من الفكر) بل من الواقع. وسنلمس بأن خيار الماركسيين الراهن هو تحقيق المهمات الديمقراطية. لأن الواقع لم يتجاوز بعد مشكلاته القروسطية رغم سيطرة العلاقات الرأسمالية، وهي العلاقات التي أفضت إلى التبعية والالتحاق لأنها لم تأتِ نتيجة نشوء قوى الإنتاج الحديثة، أي لم تأتِ نتيجة نشوء الصناعة وبالتالي تبلور طبقة رأسمالية صناعية. ولأنها نتجت عن التشابك مع الرأسمال الإمبريالي لم تحقق المهمات الديمقراطية في مجالات الفكر والسياسة. لهذا ورثت الطبقة العاملة (وفي إطار تحالف طبقي) هدف تحقيق هذه المهمات قبل أن يتهيأ المجتمع لتحقيق الاشتراكية. وهي تتحقق بالتناقض مع الرأسمالية التابعة تلك، ومع الرأسمالية الإمبريالية بالأساس. وهو الأمر الذي يعطي الطبقة العاملة مركز القوة الذي يؤهلها لأن تلعب دوراً ريادياً، ويربط تحقيق تلك المهمات بدورها ذاك.

سنشير هنا إلى أن لدى الصديقين خلطاً بين الوصول إلى نتيجة هي: أن البرجوازية باتت عاجزة عن تحقيق الاستقلال والوحدة والتنمية، والقطيعة الفكرية، أي التطور الذي حققته مثيلتها في أوروبا، وحيث بات تحقيق هذه المهمات يقوم على التناقض مع البرجوازية وتجاوز الرأسمالية. وبين القول بضرورة تحقيق الاشتراكية كشكل وحيد لتجاوز الرأسمالية. وهو الخلط الذي يجب أن نتجاوز كماركسيين لكي يصبح ممكناً لنا أن نحقق المهمات التي يطرحها الواقع، والتي هي مهمات ديمقراطية. إن تحقيق المهمات الديمقراطية ضرورة لا يمكن القفز عنها، وأيضاً لا يمكن خلطها بمهمات إشتراكية، وكذلك لا يمكن أن تتحقق إلا بقيادة إشتراكية.

إن التأكيد على أن التطور يقوم على الضد من الرأسمالية هو أمر صحيح وضروري، لكنه لا يساوي القول بأن المهمات تتمثل في تحقيق الاشتراكية، وبالتالي خلط المهمات الديمقراطية بالمهمات الاشتراكية. وهنا يبرز تعقيد الواقع وطابعه المركب الذي لا يمكن أن يختزل في "ترسيمة"، أو في شكل تخطيطي مبسط. الواقع الذي يفرض أن يتحقق القطع مع القروسطية في التكوين الاقتصادي الاجتماعي، كما في الفكر والسياسة. لكن في وضع طبقي يجعل هذه المهمة هي مهمة الطبقة التي تعمل من أجل إلغاء كل ملكية وتأسيس النظام الاشتراكي، دون أن يكون الواقع ذاته مهيأ لتحقيق ذلك. وبالتالي يفرض عليها أن تنجز مهمات كان يجب أن تتحقق قبل وجودها، وكانت هي نتاج هذا التحقق.

إن الخيار المطروح في الوطن العربي هو خيار تحقيق المهمات الديمقراطية (التحرر/الاستقلال، الوحدة وحل مسألة الأقليات، الدمقرطة والعلمنة، تحقيق التطور الاقتصادي الاجتماعي بما هو بناء الصناعة أولاً، والحداثة في الفكر والسياسة ووضع المرأة والتعليم والمؤسسات). وهو خيار يجب أن تحققه الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء (وبالتالي فهو خيار الحزب الماركسي المعبر عن هؤلاء). أي أن نحقق ثورة ديمقراطية بقيادة إشتراكية (ماركسية)، وبتحالف مع الطبقات الشعبية الأخرى (وكذلك مع الأحزاب المعبرة عن تلك الطبقات). مع ملاحظة أن القيادة هنا لا تُفرض فرضاً بل تُكتسب عبر الممارسة والفاعلية ودقة الرؤية والتكتيك. حيث أن تحديد الهدف العام يسمح بتحديد التحالفات بشكل دقيق، وكذلك بتحديد المهمات بشكل واضح.



الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي (مناقشة مع الصديقين عادل سمارة ومسعد عربيد)
الجزء الثاني

(2) نقد حل الدولة الديمقراطية العلمانية
ولأن الورقة المقدمة من قبل الصديقين عادل ومسعد هي لنقد حل "الدولة الديمقراطية العلمانية"، سوف أدخل في الموضوع بعد "المقدمة النظرية" التي قصدت منها التمييز والتحديد، لكي يكون النقاش منتجاً. وأشير ابتداءً إلى أن الورقة لا تشير إلى الأطراف التي تناقشها، بل تنتقد صيغة ما، ليست محددة بأشخاص أو باتجاهات. وربما يقود ذلك إلى إستشكال في النقاش، لأن النقد الوارد لا ينطبق على أي من التصورات المطروحة للدولة الديمقراطية العلمانية التي أعرفها، سوى في نقطة واحدة هي تلك المتعلقة بالبعد العربي. ولهذا سوف أناقش انطلاقاً من رؤيتي للدولة الديمقراطية العلمانية (ومن الورقة التي عممتها على الماك ليست).
النقد وإشكاليته:
يشير الصديقان إلى أن كافة الحلول المطروحة منذ السبعينات "تقاسمت الوطن مع العدو المحتل، واعترفت بالكيان الصهيوني"، ويحدد هذه الحلول بالتالي: حل الدولتين (أي دولة يهودية ودولة فلسطينية)، حل الدولة الثنائية القومية، حل "دولة لكل مواطنيها"، وحل الدولة الديمقراطية العلمانية. ويؤكدان بأن هذه الحلول كلها ألغت حق العودة، وطمست البعد القومي، وأقرت ضمنياً بحلول عنصرية. هل يمكن المساواة بين هذه الحلول؟ وهل أنها كلها تحوي هذه الصفات/الأحكام؟

لن أدخل في النقاش حول هذه الحلول والأسس التي تقوم عليها، سوى حل الدولة الديمقراطية العلمانية لأن هذا هو ما يعنيني. وهو الحل الذي يمكنني الدفاع عنه، لأنه جزء من الحل العربي كما ناقشت في الفقرة الأولى. هل أن حل الدولة الديمقراطية العلمانية يقوم على هذه الصفات/الأحكام؟ لا أعرف إذا ما كان هناك "يهود" (أو إسرائيليون) يطرحون حلاً ديمقراطياً علمانياً يقوم على هذه الصفات/الأحكام، لكن هذه الصفات/الأحكام ليست في بنية أي حل طرح في الجانب العربي، ولم أقرأ أن أحداً طرحه على هذه الشاكلة. ربما هناك من "يطمس البعد العربي"، نعم، ولكن أساس الحل هو في إنهاء الدولة الصهيونية (ولن أتطرق هنا إلى الفرق بين إنهاء الدولة وتفكيك الكيان كما يطرحه الصديقان، حيث سوف أشير إلى ذلك لاحقاً)، وبالتالي عودة اللاجئين وإعادة صياغة التكوين البشري والسياسي على أساس ديمقراطي علماني. وفكرتي –كما سوف أبرز ذلك لاحقاً- تنطلق من أنها ستكون دولة ديمقراطية علمانية عربية، وبالتالي لن تكون دولة ديمقراطية علمانية فلسطينية. بمعنى أن هذا الحل لا يعترف بالدولة الصهيونية، ولا بسيطرتها على الأرض، ولم يلغِ حق العودة، وبالتالي لم يقر لا صراحة ولا ضمنياً بحل عنصري. أكثر من ذلك إنه ينطلق من البعد العربي، ويؤسس عليه. لهذا ستسقط كل إتهاماتهما هنا، وسيبدو زج حل الدولة الديمقراطية العلمانية في سياق الحلول الأخرى لا معنى له، أو أنه يشير إلى خلط بين الرؤى والحلول.

أين المشكلة إذن، التي تستلزم النقد؟ هل لأن المسألة تتعلق بحل ديمقراطي علماني وليس بحل إشتراكي كما يعتقدان؟ وبالتالي فإن النقد موجه إلى طبيعة الحل الذي يقدمه خيار الدولة الديمقراطية العلمانية كونه ليس حلاً إشتراكياً؟ هل هذه هي المشكلة؟ إذا كانت كذلك كان يمكن أن تنقد دون "تزوير"، ويشار بوضوح إلى هذا الخلاف. وبالتالي لم يكن النص بحاجة إلى تكرار هذه "التهم" مرات ومرات. من المؤسف أن يجري تشويه تصور من أجل تبرير تصور آخر. الحلول الأخرى الواردة في النص يمكن أن تنقد على هذه الأسس، لأنها تقوم على الاعتراف بالدولة الصهيونية، وبتقاسم الأرض معه، وبتجاهل (أو بالتخلي عن) حق العودة، أو أن بعض من يطرحونها يطرحونها كذلك. أما حل الدولة الديمقراطية العلمانية فيقوم أولاً على إنهاء الدولة الصهيونية، لأنه يؤسس لدولة مدنية لا تقوم على أساس ديني، وهو ينطلق من الصراع مع المشروع الإمبريالي الصهيوني، وفي كلا الحالين يكون إنهاء الدولة الصهيونية أساسي، لأن المطلوب هو إنهاء دورها الإمبريالي، وبالتالي إنهاؤها كدولة تمثل الرأسمال الإمبريالي، وكونها دولة طائفية عنصرية قامت على الاحتلال والاستيطان.

إذن، أين المشكلة مرة أخرى؟ هل الخلاف هنا حول طبيعة الحل: ديمقراطي أم إشتراكي؟ لقد بدأت من هذه النقطة بالذات لكي يصبح النقاش في الحل في فلسطين أكثر وضوحاً، وأكثر تحديداً، لحصر الخلاف، وبالتالي معالجته. ولقد انطلقت من أن طابع الحل الاشتراكي (أي حل الاشتراكيين) هو ديمقراطي، بمعزل عن المشكلة اليهودية ووضع فلسطين. حيث انطلقت من المهمات الواقعية ومن طبيعتها السابقة لتحقق الاشتراكية، أي السابقة لتكوين يقوم على إلغاء الملكية الخاصة. حيث أن أساس تحقق الاشتراكية هو إلغاء الملكية الخاصة في ظل سلطة الطبقة العاملة.

هنا سوف أنطلق من النقد الموجه إلى حل الدولة الديمقراطية العلمانية. وأشير إلى أن هذا الحل طرح من قبل الشيوعيين قبل قيام الدولة الصهيونية، وطرح على الضد من المشروع الصهيوني. وحتى حينما طرح من قبل حركة فتح سنة 1969، طرح على أنقاض الدولة الصهيونية، وكان يستند إلى الصيغة التي طرحها الشيوعيون من قبل. لهذا فإن نقد الدولة الديمقراطية العلمانية الذي يقوم به الصديقان عادل ومسعد ينطلق من خطأ معرفي، ليبدو أن الهدف هو فقط تغليب الحل الاشتراكي.
ينطلق النقد من أن حل الدولة الديمقراطية العلمانية يستند إلى مكونين: قومي وديني. والنقد هنا لازال ينطلق من أن هذا الحل يقوم على أرضية الدولة الصهيونية وليس على إنهائها. وهذا أساس أول خاطئ، لأن الحل مطروح كبديل للدولة الصهيونية وليس في حضنها. وفيما يتعلق بالمكون القومي يحمّل النقد حل الدولة الديمقراطية العلمانية ما يطرحه حل الدولة الثنائية القومية، الذي يطالب بإزالة التمييز بين "قوميتين"، ويوصل إلى دولة لكل مواطنيها. وهذه الحلول تقوم فعلاً على أرضية الدولة الصهيونية وليس على إنهائها، كما على حل ينطلق من وجود دولتين (إسرائيل/فلسطين). بمعنى أن هذه الحلول (الدولة ثنائية القومية، دولة لكل مواطنيها، حل الدولتين) تنطلق من وجود واستمرار وجود الدولة الصهيونية، وبعضها يقوم على إلغاء يهودية الدولة لتكون لكل مواطنيها، وبعضها يقوم على صياغتها انطلاقاً من وجود قوميتين (عربية ويهودية). لكنها تقوم على افتراض أن الدولة هي في حدود سنة 1967، وأن باقي أرض فلسطين هي الدولة الفلسطينية.

والخطأ هنا يتحدد في أن اليهود ليسوا قومية، هم أفراد من قوميات شتى يجمعهم الدين اليهودي. والخطأ الآخر يتحدد في أن ذلك يتجاوز طبيعة الدولة الصهيونية، التي هي كيان استيطاني إمبريالي عنصري. وبالتالي ليس من الممكن الوصول إلى حلول على أرضيتها، لهذا يجب إنهاؤها. وما أشير إليه في هذا المجال هو أنه إذا بقي تكتل "إسرائيلي" كبير بعد ذلك فيمكن أن يعطى حق أقلية، وبالتالي يمكن أن يعتبر ذلك ميلاً لاعتباره أقلية "قومية". وربما سينطبق ذلك على الأشكيناز دون السفرديم –العرب- الذين هم جزء من النسيج العربي. حينها يمكن أن يحصل الأشكيناز على "حكم ذاتي" كونهم ربما يشكلون أقلية "قومية". وهذه الفكرة ينتقدها الصديقان دون تدقيق. وأنا هنا المس الحل المستقبلي لفلسطين، ولا ابني على ما هو قائم. أنطلق من إنهاء الدولة الصهيونية وليس من بقائها.

إذن، حل الدولة الديمقراطية العلمانية لا يقوم على مكون قومي كما يشير الصديقان. وإذا كان هو الحل الأساسي في مجتمع ينزع نحو التطور كما أشرت في الفقرة الأولى، فهو يتضمن حلاً لمشكلة الأديان، لهذا فهو يقوم على الفصل بين الدين والدولة ويضمن حرية المعتقد دون تمييز. نعم، ما إشكال ذلك؟ هل يرى الصديقان في ذلك مشكلة؟ النقد يوحي بذلك. هل يعني ذلك تكريس الدولة الصهيونية؟ نقول بأن الحل يبدأ من إنهاء الدولة الصهيونية وليس مطروحاً فيها، وهو حل لمشكلة مزمنة تتمثل في استمرار أيديولوجيا القرون الوسطى التي تخلط الدين والسياسة (الدين والدنيا). وفي ثنايا ذلك يجري حل مشكلة تعدد الأديان والطوائف عبر تجاوز سطوة إحداها سياسياً، وبالتالي التعامل المتساوي معها. وهذا لن يتحقق إلا عبر الفصل بين الدين والدولة، وتحويل الدين إلى معتقد شخصي مصان في القانون. ولأن الدولة الصهيونية تطرح ذاتها كـ"دولة يهودية"، ولأن الذين نتصارع معهم هم يهود من الناحية الدينية، ولأن المطلوب هو قبول "المستوطنين" وليس طردهم كما يشير الصديقان وأوافقهما على ذلك، بمعنى أن المطلوب هو التعايش على أنقاض الدولة الصهيونية، يصبح تحييد الدين عبر تحويله إلى معتقد شخصي مسألة ضرورية من أجل تأسيس دولة حديثة. بمعنى أن إنهاء الدولة التي قامت على أساس ديني لن يقود إلى إقامة دولة دينية بديلة، بل يقود إلى إقامة دولة ديمقراطية علمانية. هل يوحي ذلك بأن طبيعة الصراع هي دينية كما يشير الصديقان؟ هل أن معالجة مشكلة الدين تجعل الصراع هو صراع ديني؟

الصديقان يشككان بالحل انطلاقاً مما قد يوحي به. فهو يوحي بالأبعاد الدينية والعرقية للصراع مما يغيب جوهره وطبيعته المتمثلتان في إخضاع الأمة العربية، والهيمنة على مواردها وأسواقها، أي تغييب كونه صراع ضد المشروع (الرأسمالي- الإمبريالي- الصهيوني) كما يسميانه. لماذا؟ لماذا أن تحديد حل لمشكلة دينية، هي قائمة ولقد عمل المشروع الإمبريالي الصهيوني على استغلالها، لماذا يعني ذلك أن طابع الصراع قد بات صراعاً دينياً؟ لست ألمس الربط بين المسألتين، خصوصاً وأن الإمبريالية والصهيونية يؤسسان مشروع سيطرتهما على أساس "الحق الديني". وإذا كانت المراكز الإمبريالية تعي طبيعة المشروع، وتعي الهدف من استخدام الدين، وإذا كنا نعي نحن ذلك، فإن ملايين اليهود الذين أصبحوا مستوطنين لا يعون ذلك. فقد قدموا إلى فلسطين انطلاقاً من "وعي ديني" (خصوصاً الأشكناز)، أو من اضطهاد ديني لحق بهم بعد قيام الدولة الصهيونية (العرب اليهود)، نتيجة تخلف الوعي في الوطن العربي، وسيطرة "وعي ديني" إستُغلّ ضد هؤلاء، إضافة إلى "المؤامرات" والصفقات التي جرت مع النظم العربية التي كانت قائمة آنئذ.

وبالتالي فإن أي حل يجب أن يلحظ هذه المسألة، ومن ثم أن يلحظ أن المطلوب هو "تحييد" الديني عبر فصله عن السياسي، مع إعطاء الحق في ممارسة المعتقد الديني بحرية ومساواة، من أجل أن ينكشف طابع الصراع السياسي الطبقي، وليتوضح بأن المشروع الصهيوني هو، ليس حل لمشكلة اليهود، بل هو مشروع إمبريالي يستخدم اليهود في الصراع من أجل السيطرة على الوطن العربي، وتكريس تجزئته وتخلفه. لهذا فإن حل الدولة الديمقراطية العلمانية هو حل لمشكلة يطرحها المشروع الإمبريالي. والدولة الصهيونية هي دولة طائفية إضافة إلى أنها عنصرية، وبالتالي فإن هذا الحل ضروري حتى لو كان خيارنا الآن هو الاشتراكية. لهذا أشرت إلى أنه ليست مشكلة الحل الاشتراكي في هذه النقطة بالذات، بل مشكلته في مسائل أخرى أشرت إليها سابقاً.

إن حل الدولة الديمقراطية العلمانية بالتالي لا يتجاهل "حقيقة وطبيعة الكيان" بل ينطلق منه. لهذا فهو هنا ينزع الطابع اليهودي عن الدولة، ويلغي كل طابع ديني لها, وبالتالي يوضح خلل الفهم بأن الدولة الصهيونية هي حل للمسألة اليهودية. كل ذلك عبر تحييد الدين والانطلاق من الطابع الحقيقي للصراع. وهو يقدم الحل البديل بالتالي عن "الدولة الدينية". ويؤسس للتعايش في الدولة التي ستقوم على أنقاض الدولة الصهيونية.

إن السذاجة وحدها هي التي تجعل طرح الدولة الديمقراطية العلمانية وكأنه يغطي على طبيعة الصراع، الذي هو ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني، وإلا كان طرح الدولة الديمقراطية العلمانية كحل في أي من الدول العربية يغطي على طبيعة الصراع مع النظم، الذي هو صراع ضد الطبقة الرأسمالية التابعة. إن هذا الحل هو حل لمشكلات واقعية، يمكن أن توظف من أجل التمويه على طبيعة الصراع، لكنها مشكلات قائمة. إن مشكلة سيطرة الأيديولوجيا التقليدية المغلفة بالدين تفرض العلمنة لتحقيق تجاوزها، وتكريس الفصل بين الدين كمعتقد شخصي والدولة، بين الشريعة والقانون، بإحلال القانون بدل الشريعة. وبالتالي فليس الحل هو الذي يوحي بالطابع الديني، بل أنه الحل لمشكلة "دينية"، أي لمشكلة إستخدم فيها الدين. وهذه مسألة لا تتعلق بفلسطين فقط، حيث تبدو الأمور أكثر تعقيداً نتيجة إستغلال الدين (اليهودية) في الصراع، بل أنها تتعلق بكل الوطن العربي حيث تستمر الأيديولوجيا التقليدية سائدة، وتنزع قوى أصولية إلى إعادة تكريسها بكل قوة.

من ناحية أخرى يرفض الصديقان حل الدولة الديمقراطية العلمانية لأنه لا يعالج مسألتين أساسيتين ساخنتين هما: "1) العلاقة بين العرب واليهود، 2) مستقبل المستوطنين اليهود". هل أن الحل لا يعالج هاتين المسألتين؟ أولاً: العلاقة سوف تقوم على أساس ديمقراطي علماني، وهو الأمر الذي يعني أن الحل يقوم على أساس مبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين، وفصل الدين عن الدولة، وهي المسائل التي يُتهم حل الدولة الديمقراطية العلمانية بأنه يدعو إليها، وبالتالي فالحل يحدد المسألة الأساسية الساخنة الأولى. العرب والأشكناز هم مواطنون في دولة واحدة دون تمييز على أساس الدين أو العرق. ألا يعني حل الدولة الديمقراطية العلمانية ذلك؟ إنه يعني ذلك بالتحديد. أما مسألة المستوطنين فيمكن الإشارة أولاً أن الحل ينطلق من بقائهم، ويستند إلى السعي للتعايش. ويمكن أن نقول أنه بإنهاء الدولة الصهيونية، وبالتالي عودة اللاجئين، سوف يحدث تغيير ديموغرافي كبير نتيجة هجرة مستوطنين وبقاء آخرين، وهذا هو الوضع الطبيعي في هذه الحالة. حيث لسنا نحن من يحدد مستقبل المستوطنين، إننا نطرح أن من حقهم البقاء في إطار دولة ديمقراطية علمانية، لكنهم من يحدد البقاء أو المغادرة. أما شكل الدولة التي سيعيشون فيها فهي دولة عربية، علمانية، تقرر المساواة بين المواطنين، كما تقر حرية المعتقد الديني. وإذا ما بقيت كتلة كبيرة من اليهود وطالبت بأن يكون لها حق أقلية "قومية" فلها ذلك.

طبعاً يجب أن نلحظ بأن عودة اللاجئين سوف تفرض إعادة صياغة الوضع فيما يتعلق بالملكية والإقامة، نتيجة التنازع الذي يمكن أن ينشأ على كليهما، والذي نبع من عملية التهجير والاستيطان ذاتهما. ولاشك في أن للدولة الجديدة دور مهم هنا، لكن الصديقين لا يريا سوى الحل الاشتراكي كحل لهذه المشكلة لأنه يقوم على إلغاء الملكية الخاصة للموارد ووسائل الإنتاج، وبالتالي يجنب الدخول في منازعات قانونية حول المسألتين. ربما، لكن هل يقبل الفلسطينيون و"الإسرائيليون" هذا الحل؟ وهل يمكن تعميمه ليشمل كل الفلسطينيين والعرب؟

ما دام الوضع ليس مهيأ لإلغاء الملكية الخاصة (كما بحثت في الفقرات السابقة) فإن حلولاً أخرى يمكن أن تدرس في هذا المجال، تنطلق من أحقية الفلسطينيين بالأرض، وبالتالي تجري تسوية الأمور على هذا الأساس، فهذا حق، لكن هل أنه يعني تجريد اليهود من كل شيء؟ لا، حيث أن إقرار حقهم في البقاء يفرض أن تحل كل المشكلات المرتبطة به، ولهذا سياقاته القانونية التي تصبح ضرورية بعد إنهاء الدولة الصهيونية. وهنا يمكن اللجوء إلى تملك الدولة لمناطق وأرض كجزء من حل يقوم على أساس العدالة، وعلى أساس التساوي بين المواطنين. لكن ذلك لا يعني تحقيق الاشتراكية، لأن للدولة دور اقتصادي ما قبل تحقيق الاشتراكية.

يكمل الصديقان بأن حل الدولة الديمقراطية العلمانية يقوم على المساواة بين كافة المواطنين، وهذا صحيح كما أشرنا للتو، لكنهما يضيفا بأنه يقوم كذلك على حق "القوميتين" في امتلاك الأرض، وهذا خاطئ، وهو غير مطروح في الغالب، ليصلا إلى أن الشراكة والمساواة في ملكية الأرض تستحيل في ظل النظام الرأسمالي، ولا تتحقق إلا بإلغاء الملكية الخاصة. ليقولا، لماذا يقبل الفلسطينيون باقتسام الأرض مع المستوطنين في ظل نظام رأسمالي؟ هنا يخلط الصديقان الحل السياسي بالحل الاقتصادي، انطلاقاً من أن الاعتراف بوجود "قوميتين" (وهو ما يقولا أن حل الدولة الديمقراطية العلمانية يقوم عليه، رغم أنهما هما اللذين يشيران إليه) يفرض المساواة في اقتسام الأرض، وهنا ينطلقا من التعامل مع "الكتل" (العرب واليهود) بينما مسألة ملكية الأرض مرتبطة بالأفراد (وربما فيما يقولا سطحية لأن التعايش معاً لا يفرض اقتسام الأرض على أساس الكتل، بل أن المشكلة ستتمثل في التنازع على ملكية الأرض المصادرة لمصلحة الاستيطان، وبالتالي أحقية اللاجئين في ذلك، وهنا نكون في حدود ما هو قانوني). الدولة الديمقراطية العلمانية هي صيغة النظام السياسي القانوني، أما طابع الملكية فخاضع للنمط الاقتصادي الاجتماعي الذي يحقق التطور. وهذه المسألة الأخيرة تناولناها سابقاً، وأكدنا على أن الظرف الواقعي لا يفرض إلغاء الملكية الخاصة نتيجة الطابع العام للوضع الاقتصادي. لكن سنلمس بأن المسألة في فلسطين محددة في وضعية إشكالية نتيجة مصادرة الأرض والاستيطان كما أسلفنا. ولهذا يجب البحث في أساس قانوني من جهة ويراعي العدالة من جهة أخرى، ينطلق من، أولاً حق اللاجئين في أرضهم، ومن ثم يجري، ثانياً، النظر في وضع المستوطنين وكيفية حل المشكل الناشئ عن ذلك. وهذا الحل الذي يساوي بين المواطنين ينظر إلى الحقوق ولا يتجاوزها، وهو لا ينطلق من حق "القوميتين" لأنه لا يرى أن هناك قوميتان، وبالتالي لا يساوي ولا يشارك في ملكية الأرض، بل يحلها على أساس الحق دون ظلم لأي من الأطراف.

وهنا تكون الإفادة من هذه المشكلة للتأكيد على الحل الاشتراكي ليس أمراً صحيحاً، بل ربما يشير إلى سذاجة. حيث أن تحديد طبيعة الحل تفرض النظر إلى عناصر أخرى، تلك المتعلقة بطبيعة المهمات المنوي تحقيقها، ودور الطبقات في ذلك، وممكنات تحقيق الاشتراكية على ضوء كل ذلك. وهذه كلها مسائل لم يتطرق إليها الصديقان رغم أنها الأساس العام الذي يحدد دور القوى الماركسية (أو الاشتراكية بالمعنى الماركسي).

إذن، ليست مشكلة التنازع على الأرض هي التي تحدد طبيعة الحل، وبالتالي تفرض رفض الحل الديمقراطي العلماني، لأن هذا الحل نابع من أسس أخرى هي تلك التي يرفضها عادل ومسعد. لهذا يختمان ردهما بـ "الضربة القاضية" ضد الدولة الديمقراطية العلمانية، حيث يؤكدان بأن هذا الحل "يفتقر إلى آليات النضال والفعل والتنفيذ"، ولا يستطيع "طمأنة" اليهود وتبديد مخاوفهم، حيث لا يستطيع ذلك سوى الحل الاشتراكي من خلال تأمين حل إنساني عادل لهم. وأن الحل الاشتراكي هو وحده الذي يضمن حق عودة اللاجئين، وأنه لا نستطيع مواجهة المشروع الرأسمالي- الإمبريالي_ الصهيوني "إلا على أرضية إشتراكية وآفاق معادية للرأسمالية وعولمة رأس المال في هذه الحقبة".

هذا ملخص النقاش، وهو محور الرفض لحل الدولة الديمقراطية العلمانية، وأساس طرح الحل الاشتراكي. أما أنه يفتقر إلى آليات النضال والفعل والتنفيذ، فلست أفهم العلاقة بين صحة المشروع وكل ذلك. فربما يكون المشروع صحيحاً لكن دون آليات نضال وفعل وتنفيذ. رغم أن الحل المطروح يتضمن كل ذلك، وهو ما يمكن أن يشار إلى بعضه تالياً. أما عن "طمأنة" اليهود فإن الحل الديمقراطي العلماني يطمئنهم ما دام يعتبر أنهم مواطنين في دولة علمانية. أما الموقف من الملكية فهذا شأن آخر، حيث يمكن لليهود أن يعتبروا أن إلغاء الملكية الخاصة سوف يسلبهم "حقهم"، مثل الفلسطينيين. فليس كل هؤلاء يمكن أن يوافقوا على هذه المسألة. وكما قلنا، هذا موقف يمكن أن تتفاعل معه الطبقة العاملة وليس الفئات الوسطى مهما كان الظرف. وبالتالي فهو يربك ولا يقود إلى الاطمئنان. كما أن عودة اللاجئين مرتبطة بإنهاء الدولة الصهيونية وليس بشكل السلطة التي سوف تقوم، ولهذا ليس من رابط بين حق العودة والحل الديمقراطي العلماني أو الحل الاشتراكي، بل أنها مرتبطة تحديداً بإنهاء الدولة الصهيونية. وكما أشرنا فإنه من التشويه القول بأن حل الدولة الديمقراطية العلمانية يقوم على التخلي عن حق العودة، فهو يقوم على إنهاء الدولة الصهيونية، ليصبح حق العودة حق طبيعي في دولة ديمقراطية علمانية. يصبح من بديهيات الأمور تحقيق العودة، لأن إنهاء الدولة الصهيونية مرتبط ليس بدورها فقط في إطار المشروع الإمبريالي، بل لأنها كذلك دولة قامت على طرد السكان الأصليين وعلى الإستيطان.

أما المسألة الأخيرة، تلك المتعلقة بمواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني، نعم لا يستطيع المواجهة إلا قوى تقوم على أرضية إشتراكية (ماركسية)، وآفاق معادية للرأسمالية ما دام هذا المشروع هو مشروع رأسمالي إمبريالي. لكن هناك فرق بين أن القوى التي تطرح هذا المشروع هي قوى إشتراكية ماركسية، وبين أن يكون هدفها هو تحقيق الاشتراكية.
وكما أشرنا فإن المهمات هي مهمات ديمقراطية، لكن القوة القادرة على مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني من أجل تحقيقها هي القوة المعبرة عن الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، القوى الماركسية (الاشتراكية). بمعنى أن فارقاً مهماً يكمن بين طرح حل إشتراكي، أي حل يقوم على تحقيق الاشتراكية، وبين حل الاشتراكيين، الحل الذي يطرحه الاشتراكيون والذي يناضلون من أجل تحقيقه. فهذا الأخير ليس من الضروري أن يكون إشتراكياً الآن. لكن دور الاشتراكيين ضروري الآن كما في المستقبل.


"المشروع الاشتراكي في فلسطين" وحله للمسألة اليهودية:
يتساءل الصديقان عن الحلول أمام اليهود بعد "تفكيك" الكيان الصهيوني، وتطبيق حق العودة، وإزالة الاحتكار الصهيوني للأرض والموارد والمؤسسة العسكرية والاقتصادية. ويقدمان إجابة: "العيش معنا في المجتمع العربي الموحد الجديد، وفي ظل النظام الاشتراكي". سوف نتجاوز مسألة النظام الاشتراكي التي تناولناها سابقاً، سنشير إلى هذه المسألة الصحيحة، حيث لا يجب طرح حلول شوفينية كما يشيران. أي أن يفتح باب العيش المشترك والتآخي. حيث أن "هناك هذه الكتلة البشرية المؤلفة من بضعة ملايين هم في التحليل النهائي وبغض النظر عن المسميات، أناس وبشر، وهذا يقتضي إيجاد حلول إنسانية لإشكاليتهم أو لإشكاليتنا معهم". وبالتالي فـ "إن مستقبل اليهود المقيمين الآن في فلسطين المحتلة وعيشهم معنا في كافة أجزاء الوطن العربي أمر يجب استشرافه ومناقشته من منظور، وفي إطار، المستقبل الاشتراكي للوطن العربي، والنضال ضد الإمبريالية والرأسمالية".

إذن الحل المطروح هو حل ديمقراطي، لأنه يقوم على القبول بالعيش المشترك. لكن هل هو حل علماني؟ ربما لا، لأن النص يقرر "حق تشكيل الكيانات الدينية و/أو الدينية الثقافية". كيف يمكن تشكيل كيان على أساس ديني؟ الدولة الصهيونية قامت على هذا الأساس، والحركات الأصولية الإسلامية والمسيحية تطرح تشكيل كيانات على هذا الأساس. وبالتالي فإذا كان هذا الحل يبدو كحل ديمقراطي فإن هذه المسألة تنفي ذلك. هل يمكن إعطاءهم حق تشكيل كيان كونهم ربما يشكلون أقلية "قومية"؟ الصديقان راوغا في هذه المسألة، حيث رفضا ونقدا التعامل مع اليهود كقومية، ثم وافقا على التعامل معهم كأقلية قومية. وهنا هما يتعاملان معهم كأقلية دينية لها حق تشكيل كيان.

إن التأكيد على ضرورة العلمنة يفرض تجاوز الموافقة على تأسيس كيانات على أساس ديني، حيث أنها تعني رفض الدولة الدينية. ولهذا أشرت إلى أن الحل المطروح يتجاهل العلمنة. وإذا كان النص يتعامل مع الأمازيغ والأكراد كأقليات قومية لها حق تقرير المصير، فهل أن تجاهله لليهود كأقلية نابع من هذه المسألة، أي من رفض تقرير المصير لهم؟ النص يرفض منح اليهود حق تقرير المصير على شكل كيان سياسي مستقل أو "حكم ذاتي" وما شابه، حيث أن ذلك يعني مكافأة المحتلين ومباركة مشروع رأسمالي-إمبريالي-صهيوني، كما يعني الاعتراف بالاستيطان، أي الإقرار بشرعية المشروع الصهيوني. ويكمل أن الإقرار بشرعية هذا الكيان السياسي الذي قد يأخذ اليوم شكل "حكم ذاتي" سيصبح ضمن معطيات وأوضاع إقليمية ودولية متغيرة "دولة" مستقلة. لكن النص يعود للتأكيد على أن الحل الاشتراكي الشعبي العربي هو "الوحيد الذي يضمن لليهود الحق في البقاء والعيش بين ظهرانينا كأقلية أو أقليات تتمتع بكافة الحقوق والحريات أسوة بالعرب والأقليات أو المجموعات الإثنية الأخرى المتآخية والشريكة في الوطن العربي". ويكمل مؤكداً على الفكرة ذاتها أنه الحل الوحيد الذي يضمن لليهود كأقلية إثنية (أي قومية طبعاً – إضافة مني) في فلسطين والوطن العربي الحقوق والحريات الإنسانية والمدنية والدينية والثقافية في إطار دولة عربية موحدة. إذن يمكن أن يحصل اليهود الذين سيبقون في فلسطين بعد إنهاء الدولة الصهيونية على حق أقلية قومية. وإن كانت كلمة قومية يجب أن توضع بين مزدوجين، لأننا هنا نتحدث عن اليهود الأشكناز (الذين هم من أصل أوروبي)، والذين يمكن على المدى الأبعد أن يشكلوا أقلية لها طابع قومي ما.

طبعاً أوافق على هذا الحل الأخير، وأعتبر أنه صحيح وضروري. لكن لماذا هذا التناقض في المنطق؟ لماذا الرفض ثم القبول؟ لماذا الهروب من العلمنة كحل للمشكل الديني، ولماذا التخوف من اعتبار اليهود المتبقين أقلية قومية؟ لماذا هذه المراوغة في الطرح؟ إن الـتأكيد على أنه يمكن التعامل مع "اليهود" كأقلية يوصل إلى إمكانية أن يعطوا "حكماً ذاتياً". هل يقود ذلك إلى مطالبتهم بالاستقلال انطلاقاً من مبدأ حق تقرير المصير؟ هنا سنلمس الإشكالية التي أوجدت كل هذا الإرباك، وكل هذا التناقض، حيث أن الصديقين يعتقدان بأن حق تقرير المصير ينطبق على الأقليات، لهذا قالا بأن من حق الأمازيغ والأكراد تقرير المصير بصفتهم أقليات قومية. ورغم أن وضع الأمازيغ والأكراد مختلف، أو أنه يمكن أن نختلف في توصيف وضعهم، هل هم أقليات أم غير ذلك، إلا أن النقطة الجوهرية هنا هي أن حق تقرير المصير وفق المفهوم الماركسي والعالمي ينطلق من حق الأمم في تقرير مصيرها، وليس الأقليات التي لها حقوق أخرى غير تقرير المصير الذي يعني الاستقلال في الغالب. هذه الحقوق هي الحقوق الثقافية وحق المواطنة، وأيضاً حق الحكم الذاتي. وبالتالي فإن التمييز بين الأمم والأقليات حاسم هنا. ولهذا فحينما نقول أنه يمكن لليهود المتبقين في فلسطين أن يكون لهم الحق في "الحكم الذاتي" فإننا نعتبر أن هذا هو الحل الأقصى لوضعهم، الذي لا يمكن أن يتطور إلى أي حل آخر يتعلق بتقرير المصير. إن هذا التخوف المبني على فهم خاطئ لمعنى حق تقرير المصير هو الذي أوجد كل هذا الإرباك، وهذا التردد في تناول المسألة اليهودية. أو أنه واحد من أسباب الإرباك، وسنلمس أن هناك ما هو "نفسي"، حيث أن أي حل يقبل بوجود اليهود الذين قدموا كمستوطنين سيعني الاعتراف بواقعة الاستيطان، وهذا أمر مربك لشعب جرى إقتلاعه من أرضه.

هذا الوضع يؤسس لتناقض في المنطق من جديد، حيث أن الحل المطروح والقائم على أساس ديمقراطي عبر الدعوة إلى العيش المشترك والتآخي لا يستقيم مع اعتبار أن اليهود الذين باتوا مقيمين في فلسطين هم "غزاة ومستوطنون صهاينة". إذن كيف يمكن أن نتآخى مع غزاة وصهاينة؟ المسألة هنا حساسة ودقيقة، خصوصاً وأن أي حل ديمقراطي يجب أن يؤسس لذاته منذ البدء، أي أن التعايش المستقبلي يفرض سلوكاً دقيقاً من الآن. بمعنى أن المطلوب ليس زيادة الأحقاد بل التفهم الدقيق لمشكلة هؤلاء، وبالتالي التعامل الذي يقنع هؤلاء بأن إنهاء الدولة الصهيونية لا يعني إنهاءهم. وهنا يجب التمييز بين "أصحاب" المشروع الإمبريالي الصهيوني والمستفيدين منه ، وبين المحوَّلين من قبل "أصحاب" ذاك المشروع إلى "مرتزقة" وأداة حرب. فنحن لن نتعايش مع "أصحاب" المشروع، لا مع الرأسمالية الإمبريالية، ولا مع الرأسمالية الصهيونية المرتبطة بالإمبريالية، بل سنتعايش مع هؤلاء الذين قدموا كمستوطنين. والسؤال الذي يجب أن نجيب عليه هنا هو: لماذا قدموا كمستوطنين؟ هل لأنهم يعون التصور الإمبريالي؟ إن مسافة تقع بين أن هؤلاء هم جزء من المشروع الإمبريالي، وبين أنهم يعون هذه الحقيقة، أي بين دورهم ووعيهم. فقد إنحكم جزء كبير منهم لوعيه الديني أو لأسباب أخرى ذكرتها سابقاً. وبالتالي سار وراء وهم أيديولوجي وليس وراء مشروع سياسي، خصوصاً أن رفض "الآخر" لهم (وهذه هي حالة أوروبا، وحتى في الوطن العربي لكن حدث ذلك بعد قيام الدولة الصهيونية خصوصاً) كان يدفعهم للرحيل عبر التعلق بذاك الوهم. هل يبرر كل ذلك الدور الذي قاموا به؟ طبعاً لا، لكن وعيه يؤسس لسياسة لا تجعل كل هؤلاء أعداء بالمطلق كما يبدو في نص الصديقين، رغم أنهما يدعوان إلى العيش المشترك والتآخي. ويفتح الأفق لصيغة من الصراع مختلفة، تنطلق من السعي لـ "تحويل الوعي"، وتأسيس اصطفافات جديدة، حيث ننطلق من أنهم يمتلكون "وعياً زائفاً".

لهذا فإن التأكيد على العيش المشترك (وليس الطرد كما كان يطرح) مسألة مهمة، لأن كشف زيف الوعي يفرض كشف طبيعة المشروع الإمبريالي، والوضع الذي وُضعوا فيه، من أجل دفعهم للاشتراك في النضال من أجل إنهاء الدولة الصهيونية. إذن، قيمة الحل الذي نطرحه اليوم هي في مقدرته على التأثير في وعي هؤلاء، وتحويله ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني. هل سننجح؟ يجب أن نحاول ذلك دون أن نراهن عليه. لكن في كل الأحوال ليس أمامنا سوى أن نطرح حلاً ديمقراطياً للمسألة اليهودية، دون أن نتنازل عن المسألة الأساسية هنا، التي هي إنهاء الدولة الصهيونية. ودون أن يعني ذلك عدم ممارسة المقاومة المسلحة، فهذا أسلوب أساسي من أجل إنهاء الدولة الصهيونية. لكن يجب أن نعمل كذلك على "تفكيك" (وهنا أستخدم تعبير الصديقين، لكن بمعنى آخر) المجتمع الصهيوني. ليس انطلاقاً من منطق انتهازي، بل انطلاقاً من مصالح كل هؤلاء.
ولاشك في أن الخيار الاشتراكي الماركسي هو الأقدر على استقطاب قطاعات من هؤلاء، لأنه ينطلق من الإنساني، ومن تجاوز عميق للوعي التقليدي الديني. وهذه خطوة في إطار صراع كبير له أشكاله المتعددة.
"معسكر العدوّ":
في هذا السياق يمكن تلمس إشكالية تحديد الصديقين لـ "الآخر" العدو. فالمعيار هنا هو فهم دور الكيان الصهيوني في المشروع الرأسمالي-الإمبريالي-الصهيوني، وبالتالي فالآخر هو "المعسكر الرأسمالي-الإمبريالي- الصهيوني بكافة مكوناته بما فيها الأنظمة والطبقات العربية الكومبرادورية العميلة"، ومن الفلسطينيين الذين يتماشون مع هذا المشروع. حيث أن العوامل التي تحدد هوية "الآخر" هي المصلحة المادية والموقف الفكري والسياسي، والدور (الوظيفة)، وليس الدين أو الثقافة أو الإثنية أو القومية. لهذا فإن كل من يعترف بالكيان الصهيوني هو في الحقيقة في معسكر الأعداء، "هو صهيوني".

هنا سنلمس "الشطط"، وبالتالي التعميم والجزم. حيث يحدد المصلحة المادية والموقف الفكري والسياسي والدور/الوظيفة بدل الدين والثقافة والإثنية والقومية كأساس لتعريف الآخر. لتبدو مشكلتنا مع هذا الأساس، ليس لأن الدين أو القومية هما المحددان، بل لأنه يجمع في داخله بين المصلحة والموقف والدور، وهو ما حاولت الإشارة إليه للتو. فالموقف الفكري/السياسي والدور ليس بالضرورة أن يكونا نتاج المصلحة المادية، فهما إما نتاج المصلحة الطبقية أو نتاج "الخطأ المعرفي" أو نتاج الوهم. وعدم التمييز بين كل هذه المسائل يقود إلى خلط يشوه الفكر ويشوه الممارسة السياسية. إن توهم قطاعات من الطبقة العاملة بأن مصلحتها في التفاهم مع البرجوازية لا يقود إلى اعتبار أنها أصبحت عدو، رغم أنها يمكن أن تقاتل معها. العقل الجدلي يجب أن ينفذ من السطح إلى العمق، وبالتالي أن يرى في "الكل" الذي يبدو أنه كتلة واحدة، الأسس التي تجعلها كذلك بدل أن ينطلق من أنها كتلة صماء. وبالتالي أن يمسك التمايزات التي تخترقها. وهنا يمكن تلمس الخلط الذي أوجده الصديقان بين المصلحة المادية (الطبقية) من جهة والموقف الفكري السياسي والدور/الوظيفة من جهة أخرى.

أشير إلى ذلك لأن طريقة التعامل مع العدو هي غير طريقة التعامل مع "المخطئ" أو "المتوهم". العدو الذي له مصالح غير الذين يمكن أن يوظفوا على المستوى الفكري أو العملي في إطار المشروع الذي يعمل العدو على تحقيقه. كما أن طريقة التعامل مع المحارب هي غير طريقة التعامل مع غير المحارب. وإلا توسعت جبهة الأعداء بما لا يجعلنا قادرين على فعل شيء، وإلا أيضاً تجاهلنا تعدد أساليب العمل وقصرناها على أسلوب واحد. حيث أن المخطئ معرفياً أو المتوهم يمكن التعامل معهما في إطار الصراع الفكري أو التوضيح العملي من أجل كسبه إلى "جبهتنا"، بينما العدو يجب أن يهزم. ولكن أيضاً تشوّش وضع الـ "نحن" (مقابل الآخر)، وأصبحت هي من يوافقنا على هذا التحديد. وسألمس أن في النص ما يوحي بأن المسائل مطروحة وفق صيغة: إما، أو. وبالتالي العقل الذي ينطلق من مبدأ التحليل والتحريم، وهو عقل ديني في جوهره.

التناقض الرئيسي (أو معسكر الأعداء كما يسميانه) هو مع الرأسمالية الإمبريالية والطبقات الملحقة بها، حيث أن الرأسمالية الصهيونية والرأسماليات العربية التابعة هي ملحقة أو مترابطة مع الرأسمالية الإمبريالية. وبالتالي مع المشروع الإمبريالي وملحقاته الصهيونية والعربية. لكن أن يجري الاستنتاج بأن كل من يعترف بالكيان الصهيوني هو في معسكر الأعداء، وهو صهيوني، فهذا ما يشكل شططاً، لأنه يتجاهل تلك المسافة بين "أصحاب" المشروع وآخرين الذين يمكن أن يستخدموا، أو يمكن أن يؤيدوا نتيجة فهم ما، ويتعامل معهما على قدم المساواة. وهو، بالتالي، ما يجعل جزءاً كبيراً من العالم أعداء.

هذه المساحة هي التي يجري الاشتغال عليها من قبل الماركسيين (أو الاشتراكيين)، وهو الشغل الذي يسهم في تغيير موازين القوى في العادة. حيث يعملون على مواجهة التشويه الأيديولوجي، وعلى مواجهة تزييف الوعي، من أجل تطوير الوعي الطبقي وتحويله لكي يصبّ الصراع في إطار التناقض الرئيسي. انطلاقاً من أن الطبقات الشعبية غالباً ما تميل إلى التكيف مع الطبقات المسيطرة، فتتقبل رؤيتها وتصوراتها. لهذا، هناك قوى منسجمة مع مصالحها وأخرى يكون وعيها في تناقض مع مصالحها الطبقية، وانطلاقاً من ذلك تحددت مهمة الماركسية في "إدخال الوعي" المطابق لمصلحة الطبقة. لكن ذلك لا ينطلق من الاتهام المسبق لها، ووضعها في معسكر العدو، لأن كل الدور هذا لن يكون ممكناً، أو مطروحاً بالأساس. وهذه الحال لا تنطبق على الطبقات فقط، بل تنطبق على شعوب يمكن أن توظّف في سياق مشروع مناقض لمصالحها. هل توضع في "معسكر العدو"؟

هذه المسافة هي الإشكال في كثير من الحوارات التي تجري، مما يفرض أن يكون الحوار حدياً، أو اتهامياً، لأن تغييبها يؤسس لمنطق يقوم على مبدأ "خير/شر" (أو أبيض/أسود)، أي يقوم على المنطق الصوري، بينما الواقع هو أكثر تعقيداً من هذه الثنائية.
أشير إلى ذلك للتأكيد على أنه ليس قدوم اليهود إلى فلسطين واستمرارهم فيها هو الذي يجعلهم حتماً في معسكر العدو. لقد كان قدومهم خاطئ وضار بالسكان الأصليين، لكنه نتج عن وعي زائف كما أشرنا للتو. ولقد أصبحوا جزءاً من التكوين البشري الذي يجب أن نبحث له عن حل يقوم على أساس ديمقراطي. وبالتالي يجب أن ننطلق من هذه النقطة لكي نحدد آليات العمل وطرقه من أجل التأثير. وإذا كانوا جزءاً من كيان استيطاني استعماري، وجزء من المشروع الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي، فلا يجب أن ننطلق من أنهم في معسكر الأعداء، وإلا لن يكون ممكناً القبول بهم، ولن يجري العمل على استقطابهم أو تحييدهم. ولاشك في أن الحل الديمقراطي مطروح من أجل ذلك الآن، كما هو من أجل حل مشكلة أوجدها المشروع الإمبريالي الصهيوني.

مثلاً يتناول الصديقان وضع العرب الذين يدينون بالديانة اليهودية (اليهود العرب). يقولان أن هؤلاء لم يكونوا "آخر" (أي عدو) قبل أن يجلبوا إلى فلسطين، لكنهم أصبحوا كذلك بكونهم استوطنوا في فلسطين، ولا يغير من هذه الحقيقة تمسكهم بثقافتهم العربية الشرقية، وحنينهم لموطنهم العربي الأصلي. لكن أليس من الضروري السؤال عن الظروف التي فرضت عليهم الهجرة، بعد قيام الدولة الصهيونية وليس قبل ذلك ( ولهذا معنى عميق)؟ هل وعوا المشروع وأحسوا بأنه يخدم مصالحهم، وعرفوا أنهم يخدمون المشروع الرأسمالي-الإمبريالي_ الصهيوني؟ أليس حنينهم ذاك له معنى وقيمة؟ ألا يؤشر إلى أنهم يشعرون أنهم في بيئة أخرى مخالفة لبيئتهم؟ الأسئلة هذه تهدف إلى القول بأن ظروفاً معقدة، وزيفاً في الوعي، هما اللذين أديا إلى هجرة كثير من اليهود ليتحولوا إلى "مرتزقة" في جيش إمبريالي. وتعبير "مرتزقة" هو التعبير الذي ارتأته الرأسمالية الإمبريالية لدورهم، وليس لأنهم قبلوا أن يكونوا كذلك.

في هذا الوضع لا يمكننا أن نلقي بكل هؤلاء في "معسكر العدو"، وأن ننطلق من أنهم صهاينة، فهذا هو الأساس الذي فرض رفض التمييز بين مدني وعسكري، وحلل قتل اليهود عموماً. وإلا لن نستطيع وضع إستراتيجية لاستقطاب قطاعات منهم في إطار الصراع من أجل إنهاء الدولة الصهيونية، وهذا ما يبدو أن الصديقين لا يفكران فيه. إن "انخراطهم في مشروع يرفض الدولة الصهيونية" يعتمد على رؤيتنا لهم أولاً، وبالتالي المشروع الذي نطرحه ويشعرون بأنه الأجدر لتحقيق مصالحهم، ولإخراجهم من الورطة التي هم فيها. هذا دورنا، وهو لا يستقيم ونحن ننظر إليهم كأعداء، لكن دون أن ننسى أنهم يخدمون مشروع إمبريالي صهيوني كذلك. وأنا لا أقصد هنا المؤسسة الحاكمة، والدولة (أي الجيش وأجهزة الأمن والقضاء ...)، والرأسمالية الصهيونية، فهؤلاء هو ما يجب أن ينتهي، أقصد اليهود الموضوعون في مشروع قائم على أساس الدين لكنه يخدم الرأسمالية الإمبريالية.

نختلف مع كل من اعترف بالدولة الصهيونية، ويعمل لتحقيق "السلام" معها، ويقبل بالتالي بوجودها، لكن لا نستطيع أن نضع كل هؤلاء في "معسكر الأعداء". لأننا نكون حينها "طبقويين"، أي نفسر كل موقف من منظار أن أساسه طبقي، متجاهلين أنه في الفكر والسياسة هناك ما يسمى "الخطأ المعرفي"، خطأ في التحليل، وفي تقدير الموقف. وهناك قصور في الوعي يؤسس لوعي زائف. وهذا يظهر لدى الطبقات المضطهَدة، ولدى الشعوب المقهورة. والمسألة هنا هي أن الموقف من هؤلاء يقوم على النقد وكشف زيف الوعي، لكنه لا يصل إلى حد التخوين، ووضعهم في "معسكر الأعداء".

مع اليهود علينا كشف زيف الأساس الديني الذي يشار إلى أن الدولة تأسست على أساسه، والتأكيد على الطابع الإمبريالي للمشروع الصهيوني، من أجل الاستقطاب في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني. وهنا يكون طرح العلمنة ضرورة من أجل تجاوز "الوعي الديني"، أو "الوهم الديني"، والتأسيس لقبول تجاوز العلاقات القائمة على أساس الدين لمصلحة علاقات تقوم على أساس المواطنة.

البعد العربي:
طرحي للدولة الديمقراطية العلمانية لا ينطلق من أن الفلسطينيين هم الذين سوف "يحررون" فلسطين، و"يفككوا" أو ينهوا الدولة الصهيونية (وهذا ما يدعو إليه الصديقان كما سنلحظ تالياً)، حيث أن هذا خيار فاشل ما دامت الدولة الصهيونية هي جزء من المشروع الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي. وبالتالي فلن يتحقق تحرير فلسطين وإنهاء الدولة الصهيونية إلا في إطار صراع عربي صهيوني إمبريالي. وحين تغيّر موازين القوى ليصبح ممكناً هزيمة الدولة الصهيونية، يصبح واضحاً أن فلسطين ستكون جزءاً من دولة ديمقراطية علمانية عربية.

هناك من يطرح المسألة في إطار فلسطين، أي في إطار صراع فلسطيني/إسرائيلي، وبالتالي فهو يطرحها كدولة ديمقراطية علمانية فلسطينية. وفي هذا إشكال (سنلمسه لدى الصديقين كذلك)، لأنه يقوم على أساس خاطئ هو أن الصراع هو صراع فلسطيني/إسرائيلي، وأنه يمكن تحرير فلسطين بقوى الشعب الفلسطيني. هذا وهم، ولقد كانت خطيئة حركة فتح أنها "فلسطنت" الصراع ضد المشروع الصهيوني، وفصلت بين المشروع الصهيوني والمشروع الإمبريالي، كما فصلت الشعب الفلسطيني عن الشعب العربي، مما أدخلها في متاهات، وقاد إلى دمار المشروع التحرري الفلسطيني، وربما ضياع بقية فلسطين.

بمعنى أن رؤية المشروع الصهيوني كمشروع إمبريالي يستهدف الوطن العربي، وأن دور الدولة الصهيونية هو ضد التطور والتوحد والحداثة في الوطن العربي، يفرض أن يكون النضال العربي موحداً خصوصاً أنه ينطلق من تحقيق كل هذه الأهداف. حيث لا يمكن لنضال قطري أن يحقق أي من هذه الأهداف، خصوصاً في فلسطين التي تبدو كقضية عربية بامتياز نتيجة دور الدولة الصهيونية في المشروع الإمبريالي. أي نتيجة كونها أداة المشروع الإمبريالي ضد الوطن العربي ككل.

وإذا كان الصديقان يصرّان على البعد العربي، وأوافق تماماً على ذلك، فإنهما يكرران ما يبدو أنهما يرفضانه، أي فصل فلسطين عن الوطن العربي. حيث أنهما يؤكدان على الربط ، لكنهما يصران على تجزيء النضال ليس العربي/الفلسطيني فقط، بل النضال الفلسطيني ذاته. ولسوف ألمس ذلك في الفقرة الأخيرة التي تتعلق بكيفية تحقق الحل الاشتراكي في فلسطين.

إذن، حل الدولة الديمقراطية العلمانية لا ينطلق من استمرار الدولة الصهيونية بل من إنهائها، وهو شكل السلطة السياسية لدولة ما بعد التحرير، ولهذا فهي تنطلق من بديهية عودة اللاجئين، ومن حل ديمقراطي للمسألة اليهودية التي تشكلت نتيجة قيام الدولة الصهيونية، يقوم على مبدأ المواطنة وفصل الدين عن الدولة، ومن إعادة ترتيب الوضع الديموغرافي والحقوقي (خصوصاً فيما يتعلق بالملكية)، ويمكن إعطاء حق أقلية على أساس قومي وليس ديني لليهود الأشكناز (أو من يريد) ممن بقي في فلسطين. وهذا هو الحل في فلسطين التي ستكون جزءاً من دولة فيدرالية ديمقراطية علمانية عربية. ليست إشتراكية، لكنها ليست رأسمالية، بل يقوم اقتصادها على أساس دور أساس للدولة التي يحكمها تحالف الطبقات الشعبية، والذي يهيئ للانتقال إلى الاشتراكية عبر الدور الفاعل والقيادي للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء.


(3) كيف يتحقق "الحل الاشتراكي"؟
نصل إلى الحل الذي يطرحه الصديقان لفلسطين بديلاً عن حل الدولة الديمقراطية العلمانية. ونشير ابتداءً إلى أنه حل فلسطيني يرتبط بالبعد العربي بوشائج غائمة، أو غامضة، وربما واهية. فهو حل فلسطيني بالتالي. كما أنه حل فلسطيني مجزأ، أي ينطلق من تجزيء النضال الفلسطيني كذلك. وهنا يتجاهل القضية الأهم في البعد العربي الذي يصرّ عليه بشكل لافت، لكن صحيح، ألا وهو ما يمكن أن يسمى: وحدة النضال في الوطن العربي.
"تفكيك الكيان الصهيوني":
يقوم هذا الحل على فكرة جوهرية هي "تفكيك الكيان الصهيوني". وإذا كان يؤكد على المشروع القومي العربي النهضوي الهادف إلى الوحدة والتنمية وتحرير الأراضي العربية المحتلة، ويدعو إلى تشكيل حركة اشتراكية عربية تقوم بذلك لتحقيق هذا الحل الاشتراكي، فهو يضعنا في "مرحلة انتقال"، يطرح علينا "حلاً مرحلياً" عنوانه "تفكيك الكيان الصهيوني". بمعنى أنه يعود بنا إلى ذات المنطق الذي صيغت فيه العلاقة بين تحرير فلسطين والحل المرحلي، ليبدو المشروع النهضوي العربي كـ "إطار عام"، أو كـ "طربوش"، بينما يقوم النضال العملي على أساس الحل المرحلي. الذي يعني ببساطة (وربما بسذاجة) "تقطيع الكيان الصهيوني"، أي نهش أجزائه قطعة قطعة. لهذا فهو يفكك النضال الفلسطيني إلى أجزاء منفصلة، على كل منها نهش قطعة من الدولة الصهيونية. وكأن المشكلة هي في الشعارات التي يمكن أن تكون مقبولة في إطار الشرعية الدولية والتي بالتالي يمكنها أن تتحقق فتقطّع هذا الكيان.

والتفكيك هنا يعني تفكيك النضال الفلسطيني عبر التعامل مع فلسطينيي أرض 1948 ككتلة مستقلة لها هدفها المحدد، ومع فلسطينيي أرض 1967 ككتلة كذلك لها هدفها المحدد. ولا يبقى للاجئين سوى انتظار تفكيك الكيان الصهيوني لتحقيق العودة. ليبدو هنا أن التفكيك الذي يطالبان به هو تفكيك للنضال الفلسطيني، بعد أن تجاهلا ربطه بالنضال العربي. لهذا سيبدو شكلياً ومبسطاً، يفكك الشعب الفلسطيني، ويهمش اللاجئين. وهو ينطلق من "العقلية" السائدة التي تقوم على التكيف مع الأمر الواقع بدل أن ترى الواقع وتحدد آليات تغييره. ولهذا سنلمس أنهما يكرران الأساليب ذاتها المعتمدة على "الشرعية الدولية".

يقوم المشروع الاشتراكي في فلسطين على محورين: الأرض المحتلة سنة 1948، والأرض المحتلة سنة 1967. وهو يعني "النضال" من أجل إقامة دولة فلسطينية في مناطق الاحتلال الأولى (سنة 1948)، و"النضال" من أجل الانسحاب الإسرائيلي من منطقة الاحتلال الثاني (سنة 1967). إذن ليس من هدف هنا لإنهاء الدولة الصهيونية، ولا تحرير فلسطين، رغم أن المقصود هو أن هذا "النضال" يقود إلى تفكيك الكيان الصهيوني، ويوصل إلى "الحل الاشتراكي الشعبي العربي". كيف؟ لا يتطرق النص إلى ذلك. وما هو دور اللاجئين في هذا "النضال"؟ الانتظار على ما يبدو. وما هو دور الطبقات الشعبية العربية؟ ليس واضحاً، سوى أن لا دور لها. حيث ليس من ترابط بين نضالها لتغيير الأنظمة الرأسمالية التابعة (والتي هي جزء من المشروع الإمبريالي) ودورها ضد المشروع الصهيوني والدولة الصهيونية.

إذن يبدأ "الحل الاشتراكي" بتفكيك النضال الفلسطيني، وعلى شعارات واهية متكئة على الشرعية الدولية. هل يوصل بالتالي إلى "تفكيك الكيان الصهيوني"؟ وإذا ما دققنا في هذه الصيغة سنلمس كم هي شكلية ومتناقضة، حيث أن الهدف هو التفكيك عبر قيام كيانين فلسطينيين، عبر "النضال" على أساس شعارين مختلفين: الأول هو حق تقرير المصير لفلسطينيي أرض سنة1948 بصفتهم أقلية قومية، والثاني الانسحاب الإسرائيلي من الأرض المحتلة سنة 1967. وكما أشرنا يستند طرح هذين الهدفين على الشرعية الدولية، وليكون هدف "النضال" هو من أجل تطبيق الشرعية الدولية.

طيب، إن حصول فلسطينيي سنة 1948 على الاستقلال يعني حتماً إنهاء السيطرة الصهيونية على الضفة الغربية وقطاع غزة، لأنه يعني نهاية الدولة الصهيونية، وبالتالي ستقوم دولة في كل فلسطين. أليس الأرض المحتلة سنة 1948 هي أساس وجود الدولة الصهيونية؟ إلا إذا اعتبرنا أن هذه الأرض لا تشمل كل الأرض التي جرى احتلالها سنة 1948. وربما نحن بحاجة إلى تخيل ذلك لكي نستوعب "الحل الاشتراكي" لفلسطين. أشرت إلى ذلك لأقول أن منطق الحل يحوي من السذاجة ما هو فائض. وآسف لهذا القول، لكن منطق الحل يفاجئ ويصيب بالذهول. لكنه يوضح السطحية المفرطة التي تُطرح المسألة عبرها. وأكرر هنا أسفي لهذا الحكم.

فقد ركز على التفكيك، فأوجد آلية "بسيطة" لذلك، تقول أنه إذا استقل شعب 1948 وشعب 1967 يتفكك الكيان الصهيوني. طبعاً هذه نتيجة بسيطة، وهي حل بسيط لنهاية الدولة الصهيونية، لكن كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ فالمشكلة لم تكن في "نضال" شعب 1948 وشعب 1967، بل كمنت في أن هذا النضال لم يكن كافياً لكسر شوكة الدولة الصهيونية نتيجة الاختلال الهائل في ميزان القوى، بالضبط لأن الدولة الصهيونية هي جزء من المشروع الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي، إنها أداة إمبريالية ضد الوطن العربي. وبالتالي فالسؤال المطروح هو ليس الشكل الذي سيتخذه التفكك، بل كيف يمكن "كسر" قوة الدولة الصهيونية؟ ومن هي القوى التي تستطيع ذلك؟ وما هو شكل الصراع المفضي إليه؟ كل ذلك لكي يتفكك الكيان الصهيوني.

هنا الحل لا ينطلق من تغيير ميزان القوى، بل ينطلق من الإفادة من الشرعية الدولية. حيث أن مفهوم "التفكيك" يقوم على أساس أن ظروف الهزيمة والهرولة نحو الحل النهائي قد خلقت "ظروفاً موضوعية وتاريخية تملي بدورها حلاً مرحلياً ممثلاً في تفكيك فلسطين وصولاً إلى الحل النهائي في إعادة تركيبها". ما هي الظروف الموضوعية والتاريخية التي تستوجب ذلك؟ لن نجد جواباً في النص كله، رغم أن هذه الظروف الموضوعية والتاريخية هي أساس طرح حل التفكيك هذا، الذي –كما يظهر في النص- يعني الاستناد إلى الشرعية الدولية. هل يكرر هنا ما جرى في المقاومة الفلسطينية بدءاً من سنة 1973 حين بدء التنظير للحل المرحلي انطلاقاً من الظروف الموضوعية والتاريخية؟ سنلمس أنه ينطلق من الأسس ذاتها، فقد قام الحل المرحلي ذاك على "مرْحَلَة النضال" دون التخلي عن تحرير فلسطين، ودون الاعتراف بالكيان الصهيوني. وتحدد في القبول بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، استناداً إلى الشرعية الدولية، بعد تزايد التعاطف مع القضية الفلسطينية، ونتيجة توازن القوى العالمي. هل أن الظروف الموضوعية والتاريخية هي هذه؟ سنشير إلى أن كل هذه الظروف، ورغم ميزان القوى الذي كان أفضل بالنسبة لنا، لم يتحقق شيء عبر الشرعية الدولية. لكن الوضع تغير نحو الأسوأ، حيث باتت الولايات المتحدة هي القوة الأعظم الوحيدة، وبدأت زحفها للسيطرة المباشرة على المنطقة، وهي منحازة بوضوح لا لبس فيه للدولة الصهيونية التي باتت جزءاً مباشراً من المنظومة الأمنية الأميركية. وبالتالي بات ميزان القوى العالمي مختل بشكل عنيف لمصلحة المشروع الصهيوني. كما باتت "الشرعية الدولية" ملحقة بالإرادة الأميركية. ونتيجة كل ذلك تلاشى مفهوم حق تقرير المصير الذي تطرحه تلك الشرعية، وماتت قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى الانسحاب من الأرض المحتلة سنة 1967، وأصبح السياق العالمي كله يصب في خدمة الدولة الصهيونية.
دور اليهود في الصراع:
التفكيك يقوم به الفلسطينيون وحدهم، أو بعض الفلسطينيين في نضال مجزأ، حيث يجري تهميش اللاجئين ليكونوا دون دور. وإذا كنا نقدم حلاً ديمقراطياً لليهود، ألا يجب أن نرى دور هؤلاء في الصراع؟ إن منطق التفكيك قاد بالتالي إلى تجاهل هذا الدور، لأنه ينطلق من شعارين يخصان الفلسطينيين في أرض سنة 1948، وأرض سنة 1967 (لهذا ضاع دور اللاجئين). حيث لم يلمس هذين الشعارين وضع اليهود، فهما يطرحان الانسلاخ عن الدولة/ الكيان، وليس أكثر. مما لا يجعل لليهود المعنيين بإنهاء الدولة الصهيونية أي دور، ليقدم لهم الحل الخاص بوضعهم بعد "التحرير".

سنلمس بالتالي كيف أن هدف التفكيك هذا يقلص الإطار الذي يمكن أن يبلور قوى المقاومة، ويبذر في القوى الممكنة، ويقزّم بالتالي النضال من حيث الحجم والكيف (الأهداف). لهذا كان من الضروري التأكيد على إنهاء الدولة الصهيونية، وربط ذلك بدور الطبقات الشعبية العربية، ومن ضمنها الفلسطينية عموماً، وكذلك بدور اليهود العرب وكل اليهود الذين يقبلون بإنهاء الدولة وتأسيس دولة تعايش، هي الدولة الديمقراطية العلمانية. وما من شك في أن إنهاء الدولة الصهيونية، ككيان سياسي، يتطلب تفاعلين: قوى مقاومة عربية، وتفكك داخلي يحوّل قسماً من اليهود إلى مناضلين من أجل إنهاء الدولة الصهيونية وتأسيس دولة تعايش.

هنا تصبح كلمة تفكيك، بالمعنى الذي يورده الصديقان، نافلة. وتكون كلمة تحرير وحدها غير كافية (ولا أقول نافلة)، لأنها لا توحي بإمكانية مشاركة اليهود. لهذا فهي عملية تحرير من طرف، وتفكيك (كما حدّدته من قبل وليس كما يطرحه الصديقان) من طرف آخر (ليس اليهود وحدهم، بل والفلسطينيين أيضاً)، يقودان إلى إنهاء الدولة الصهيونية، ككيان سياسي، ويؤسسان لوضعية جديدة، في دولة ديمقراطية علمانية. وهنا يمكن أن يطرح الماركسيين خيارهم الطبقي كذلك، أي تأسيس دولة ديمقراطية علمانية تمثل الطبقات الشعبية (بغض النظر عن الدين والإثنية).

شعارا النضال:
ولتوضيح ذلك يمكن تلمس ما يطرحه النص، حيث أن الحل يقوم على شعارين لـ "النضال": شعار النضال من أجل إقامة دولة فلسطينية في مناطق الاحتلال سنة 1948، ينطلق من حق "الأقليات القومية في تقرير المصير وإقامة دولة لها"، وهذا ينسجم –كما يشير الصديقين- مع"الشرعية الدولية". بمعنى الانطلاق من مقررات الشرعية الدولية والضغط من أجل تحقيقها. أشير أولاً إلى ما أوضحته سابقاً، حيث أن حق تقرير المصير وفق المفهوم اللينيني الذي يستندا إليه، كما وفق "الشرعية الدولية"، هو حق للأمم وليس للأقليات. بينما الحكم الأوسع للأقليات هو "الحكم الذاتي". إلا إذا انطلقنا من الميل الإمبريالي الأميركي الذي يعمم حق تقرير المصير لكي يشمل الأقليات والطوائف من أجل تفتيت الوطن العربي. وهنا سنلمس الاستغلال الشنيع لهذا المبدأ، والذي يلغيه حقيقة، لأنه يلغي الأساس الذي بني عليه، وهو الأمم.

وبالتالي فإن الشرعية الدولية لا تقدم الأساس القانوني لقيام دولة فلسطينية في أرض 1948، ربما هي تقدم الحل الذي رفضاه منذ البدء (والذي أرفضه كذلك)، أي حل الدولة ثنائية القومية فقط. لكن المسألة الأهم هنا هي أن وجود أساس قانوني لا يعني أن الشرعية الدولية معنية بتحقيقه، فهذا يعتمد على ميزان القوى وليس على الحق، ولو كان كذلك لما ضاعت فلسطين. حيث أن المسألة هي مسألة توازنات وليست مسألة أخلاقية. وميزان القوى ليس في مصلحة العرب، كان وهو اليوم أكثر سوءاً.

الشعار الثاني هو "الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران 1967"، وإقامة دولة فلسطينية عليها. ويكمل الصديقان لتبرير ذلك، بأن هذا الهدف كان مقبولاً ومعلناً من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية، بمعنى أنه ينسجم مع ما تطرح تلك الفصائل (وهذا صحيح، لكن هل كان صحيحاً، وأفضى إلى نتائج سوى الكوارث التي نشهدها؟). لهذا يجب "النضال من أجل الانسحاب الإسرائيلي من أراضي الضفة والقطاع". "المطلوب الاستمرار في النضال من أجل هزيمة الاحتلال ودحره وإرغامه على الانسحاب"، لكن ليس من أجل إقامة دولة فلسطينية "كحل نهائي للصراع". ورغم التوافق مع سياسة الفصائل الفلسطينية فإن الاعتراض يتحدد في أن هذه الفصائل ربطت هذا الشعار بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وفي أنها اعتبرت هذه الدولة هي الحل النهائي فقط، وربما يضيف الصديقين التمسك بحق العودة.

إذن، الصديقين يتبنيا السياسة الدارجة، سياسة م.ت.ف والفصائل الفلسطينية، وسياسة عرب 1948 الذين يطالبون بحقوق أقلية. وفي كلا الحالين من خلال الشرعية الدولية. مع الاختلاف في رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، والتمسك بحق العودة، وهو ما لم تفعله م.ت.ف والعديد من الفصائل، وما يتجاهله عرب 1948 الذين يطالبون بحقوق أقلية قومية في إطار الدولة الصهيونية.

لكن المشكلة ليست هنا على الإطلاق، هي ليست في كل هذه الاعتراضات. فهذه فرعية سوف يتجاوزها منطق التفكير بالحل ما دام يقوم على "الشرعية الدولية". وكما أشرنا بدأت سياسة م.ت.ف والفصائل من الشروط ذاتها، أي من التمسك بعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني والتمسك بحق العودة "كحق مطلق"، لكن سياق السياسة المبنية على الشرعية الدولية جعلها تتخلى رويداً رويداً عن كل ذلك. المشكلة في السياسات التي سادت في المقاومة الفلسطينية، والذي يكررها الصديقان، تكمن في مسألتين، الأولى: التعويل على الشرعية الدولية والانطلاق منها في الوصول إلى حل، والثانية: تجزئة النضال الفلسطيني بعد فصل النضال الفلسطيني عن النضال العربي.

الشرعية الدولية:
إذن، لازلنا في حدود المنطق الذي تعمم في الواقع الفلسطيني منذ بداية سبعينات القرن العشرين. هل يمكن أن نراهن على الشرعية الدولية؟ هنا مشكلة عميقة بعد تجربة قرن من الصراع حول فلسطين أوضحت بأن الرأسمالية المهيمنة هي التي فرضت وجود الدولة الصهيونية، وهي التي ترعى استمرار هذا الوجود. وكل ذلك يشدد عليه الصديقان عشرات المرات، ويعتبران أنه محدِّد معسكر الأعداء. لكنهما كما يبدو يتجاهلانه حينما يتعلق الأمر في الممارسة. الدولة الصهيونية أداة في المشروع الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي، هذه مسألة جوهرية. ولقد أكد عليها الصديقان وإعتبرا أنها محور ردّهما. ومادامت الإمبريالية الأميركية التي باتت هي راعية الدولة الصهيونية، هي المهيمنة عالمياً، والتي تُخضع "الشرعية الدولية" لتكتيكها أو تتجاوزها لتحقيق ما تريد، فكيف يمكن أن نراهن على هذه الشرعية إذن، رغم مئات القرارات التي يمكن الاستناد إليها؟

هذا وهم تلبّس الفصائل الفلسطينية والحركة الشيوعية العربية. وأودى بالوضع الفلسطيني إلى هاوية مدمرة كما نلاحظ اليوم. هل نكرر ما بات واضحاً؟ أم نبقى متعلقين بالإشارات العمومية للظروف الموضوعية والتاريخية دون ذكر ولا إشارة واحدة حولها؟ الظروف الموضوعية توضح بأن القوى الإمبريالية هي التي تهيمن أكثر من أي وقت مضى. والدولة الأميركية تعمل للسيطرة على العالم، وتجهد لتفكيك الوطن العربي وتعزيز احتلالها له، وتوسيع قواعدها العسكرية فيه. ولقد باتت تحتل العراق وتهيمن بالمطلق على دول الخليج، وتتمدد لإكمال سيطرتها رغم قوة المقاومة العراقية والمأزق الذي وقعت فيه هناك. وأوروبا ملحقة أو تتململ دون فاعلية. وروسيا تحاول النهوض لكنها لم تنهض بعد، والصين كذلك. وبالتالي فإن ميزان القوى السياسي الذي كان يحكم الأمم المتحدة، وكان يميل للتعاطف مع قضايانا دون أن يجرؤ على مقاطعة الدولة الصهيونية أو أن يفرض عليها حلاً يقوم على "قرارات الشرعية الدولية"، هذا الميزان مختل بشكل كامل، ولم يعد حتى التعاطف موجوداً، سوى لدى الشعوب. ومسألة تقرير المصير الذي تطرحها الدولة الأميركية تطبق علينا بالمعكوس، حيث تُشتمل فيها الأقليات الدينية والطائفية والإثنية دون الأمة العربية. وتطبق على مجموعات صغيرة بهدف تفكيك الدول الكبيرة. ويتحقق كل ذلك بما يخدم السيطرة الأميركية وليس مصالح الشعوب والأمم. وليس ممكناً لنا، بطريقة المناكفة، أن نستفيد من كل ذلك، لأن الأقوى هو الذي يفرض ويقرر وينفذ.

وإذا قارنا الظروف الراهنة بتلك التي أسست فصائل المقاومة سياستها المرحلية على أساسها، سنجد أن تلك الظروف كانت أفضل، وكان يمكن أن توهم بأن ميزان القوى يمكن أن يسمح للفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة فيما إذا قبلوا بحدود سنة 1967، التي كان لازال الرأي العام العالمي يعتبر أنها أرض محتلة ويجب أن تستعاد. وبالتالي فإن التنازل عن معظم فلسطين سيجعل العالم داعماً لقيام تلك الدولة. ورغم ذلك تبدى كل هذا الظرف الدولي كوهم، ولم يتحقق شيء سوى أننا أعطينا الدولة الصهيونية وقتاً مريحاً لإكمال سيطرتها على الأرض وبناء المستوطنات وزيادة عدد المهاجرين. وخففنا من الضغط الدولي عليها.

بالتالي أين الظروف الموضوعية والتاريخية غير هذه؟ لا يكفي أن نرمي فكرة دون إسناد ثم نبني تحليلاً ومواقف على أساسها. يجب تحديد الفكرة أولاً، قبل أن تصبح أساس سياسات ومواقف. ولاشك في أن الصديقين كتبا كثيراً عن العولمة والسياسة الرأسمالية الإمبريالية والاحتلال، واختلال الوضع العالمي. لكنهما هنا يكرران ما قالته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حين بررت طرح "البرنامج المرحلي"، أو "الحل المرحلي"، وهو التعبير الذي يستخدمانه. لكن بدت النتيجة ككاريكاتور لما طرح آنئذ. ومع الأسف أن الوهم لازال يعشش في ما يطرحانه، دون رؤية جدية للواقع الفلسطيني والعربي. حيث انهارت القوى الثورية العربية والتحقت النظم بالرأسمالية الإمبريالية. وهزلت قوى المقاومة الفلسطينية، وتحول معظمها إلى قوى سلطة هي ليست سلطة. واستطاعت الدولة الصهيونية أن تسيطر على حوالي 60% من أرض الضفة الغربية، وان توسع الاستيطان بشكل كبير، ثم أن تبني جدار العزل الذي يحصر الفلسطينيين في كانتونات ليست قابلة للحياة.

هذا توصيف للواقع، ولا يمت للتحليل بصلة. وهو الواقع الذي يجب أن نراه ونؤسس على ضوئه، وأن نصل إلى استنتاجات. وبالتالي فليس بإمكان فلسطينيي أرض سنة 1948 أن يحصلوا على "حق تقرير المصير"، بل أن فلسطينيي الضفة الغربية لن يكون بمقدورهم فعل شيء مما يطرحه الصديقان، لأن ليس ميزان القوى العسكري مختل بشكل كبير فقط، بل أن طبيعة السيطرة على الضفة الغربية باتت تؤسس وضعاً مختلاً. وأصبحت ممكنات النضال أصعب نتيجة كل الظروف التي توجدها القوة العسكرية الصهيونية.

إن المسألة الجوهرية هنا تتمثل في القطع مع المنطق الذي يراهن على "الغير" في تحقيق مهمات لن تتحقق بغير قوته. فلا الشرعية الدولية معنية بتطبيق قراراتها تجاهنا، ولا الوضع الدولي مؤاتٍ لكي نحقق "هوامش". وبالتالي فإن إعادة التفكير في السياسة بحيث يجري العمل على بناء قوانا هو السياسة الصائبة.
وهو الوضع الذي يفرض التفكير العميق، ويطرح العودة إلى الربط مع الوطن العربي. أي العودة إلى الانطلاق من البديهية التي كررها الصديقان كثيراً، والتي تؤكد على المشروع "الرأسمالي-الإمبريالي- الصهيوني". وبالتالي التي يجب أن تفضي إلى التأكيد على نضال الطبقات الشعبية العربية الموحد لتحقيق "الدولة العربية الفيدرالية الموحدة". ورغم الاختلاف مع الصديقين على طابع المرحلة وطبيعة المهمات، فإنني أؤكد على ضرورة تأسيس حركة ماركسية في الوطن العربي، وعلى توحيد الطبقات الشعبية لتحقيق المشروع النهضوي العربي.

الشعارات والنضال:
هنا نلمس المشكلة الأخرى التي وقع الصديقان فيها، وهي مشكلة أن هذا المنطق تكمن في أنه لا يطابق بين المشروع الإمبريالي الصهيوني كونه مشروع واحد يطال كل الوطن العربي بأدوات متعددة، وبين القوى التي تتناقض معه، التي ستبدو أنها مفككة، لأنها تقيم نضالها على أساس شعارات "مرحلية"، وخصوصاً هنا في فلسطين. حيث إذا كان تغيير النظم العربية ممكناً عبر النشاط الشعبي، وفي إطار تصاعد التناقضات الطبقية، فإن الأمر في فلسطين مختلف، نتيجة الأساس الذي قامت عليه الدولة الصهيونية كقوة كبح وهيمنة في كل الوطن العربي. لهذا فإن إنهاؤها يتطلب الدور العربي حتماً. وبالتالي فإذا كان من الطبيعي أن تسعى القوى الاشتراكية إلى تغيير النظم في البلدان العربية، وتحويلها إلى نظم تتناقض مع المشروع الإمبريالي الصهيوني، فإن هكذا شعار "مرحلي" لا يفيد في فلسطين ما دامت الدولة الصهيونية هي قوة مواجهة لكل الوطن العربي، وبالتالي ليس بكل القوى الفلسطينية الممكنة يمكن هزيمتها. لتكون مواجهة هذه الدولة هي مشروع عربي بامتياز. وفي إطار هذه الرؤية يمكن تحديد دور الفلسطينيين (واليهود)، وليس خارجاً عنها.
طبعاً يجب أن يكون للفلسطينيين هدف مباشر في إطار المشروع التحرري التوحيدي العربي. ما هو؟ هو إنهاء الدولة الصهيونية، وبالتالي توحيد كل قوى الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة كلها (كل فلسطين) وفي الشتات، والقوى اليهودية التي تتوافق مع ذلك كما أشرنا للتو. وهو نشاط يجب أن لا يكون لدينا وهم أنه سوف يقود إلى تحقيق هذا الهدف، بل أن تحققه مرتبط ارتباطاً عميقاً بتغيير الوضع العربي، وتغيير النظم لمصلحة الطبقات الشعبية، ومن أجل وضعها في إطار الصراع مع المشروع الإمبريالي الصهيوني.
في فلسطين لن يكون النضال الفلسطيني كافياً، ولا حاسماً، لأن التحديد السياسي الطبقي للدولة الصهيونية ولدورها يفرضان الدور العربي، خصوصاً وأن وجود الدولة الصهيونية مرتبط بمنع التطور والوحدة في الوطن العربي. إنها عنصر كبح وإعاقة للتطور، لأنها أداة في المشروع الإمبريالي الذي هو مشروع واحد. ووجودها متكامل مع التجزئة، ومع سيطرة نظم تابعة في الدول العربية هي التعبير عن تبعية الرأسماليات الكومبرادورية المحلية.
وبالتالي ليس فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948، أو فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1967، قادرون على تحقيق تلك الأهداف "المحدودة"، بل أن كل الفلسطينيين ليسوا قادرين على ذلك. بالضبط لأن الدولة الصهيونية هي أداة في مشروع واحد يطال كل الوطن العربي، وهي تجهّز لكي تكون قادرة على مواجهة كل الوطن العربي.
إن المشكلة التي وقعت فيها الفصائل الفلسطينية تمثلت في أنها "مرحلت" النضال. وإذا كانت قررت أن تواجه الدولة الصهيونية بقوى الفلسطينية فقط، فقط قادتها "المرحلة" إلى تجزئة النضال الفلسطيني ذاته، فحصر في اللاجئين وسكان الأرض المحتلة سنة 1967، ثم حصر في سكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط. بينما كان المطلوب هو "تعريب" الصراع ما دامت الدولة الصهيونية هي بالضبط أداة الإمبريالية في سعيها للسيطرة على الوطن العربي. هنا المشكلة التي يكررها الصديقان كحل اشتراكي لفلسطين.

هدف النضال:
يدعو النص إلى النضال من أجل حق تقرير المصير، ولتحقيق الانسحاب الإسرائيلي. لكن ما هو هدف هذا النضال؟ هل أن هدف هذا النضال هو تحريك "الشرعية الدولية" لكي تطبق مبدأ حق تقرير المصير، والقرار 242 الداعي إلى إنهاء الاحتلال؟ أم أن قوة هؤلاء الفلسطينيين قادرة على فرض حق تقرير المصير وعلى الانسحاب؟ وهل سيتحقق إذن بالضغط الشعبي أم يحتاج إلى العمل المسلح؟
هذه أسئلة يفرضها النص، لكن دون أن يجيب عليها، سوى أنه يمكن أن نستنتج بأن هذين الشعارين سوف يتحققان من خلال الشرعية الدولية، وبالتالي فإن هدف النضال هو تحريك الشرعية الدولية لكي تحقق شرعتها وقراراتها. ولاشك في أن الإشارة إلى الظروف الموضوعية والتاريخية تهدف إلى قول ذلك. سواء لأن هذه الشرعة وتلك القرارات أصبحت "قيمة" بحد ذاتها، ولهذا أصبح تحقيقها من البديهيات (كما يعتقد البعض)، أو لأن الوضعين العربي والدولي لا يسمحان إلا بذلك، حيث النظم ملحقة بالمشروع الإمبريالي، وحيث الطبقات الشعبية مهمشة ومشتتة ودون قوى سياسية قادرة على أن تقودها.
وإذا كان المنطق الأول ينطلق من "وهم أخلاقي"، ومن تقدير خاطئ، وربما مصالح في تزيين الرأسمالية، فإن المنطق الآخر ينطلق من الشعور بالهزيمة، وهذا ما يستند إليه النص للقول بالحل المرحلي ذاك، حيث يشير إلى "ظروف الهزيمة والهرولة". وبالتالي فهو يخرج من تفكيره ضرورة السعي لتغيير ميزان القوى والآليات التي تسمح بتحقيق ذلك. الأمر الذي يفرض التساؤل حول كيفية تحقيق تلك الشعارات عبر الشرعية الدولية في وضع مختل إلى هذا الحد، ونحن نقرّ بهذا الاختلال؟ وهو ما يعيدنا إلى المنطق الأول القائم على التوهم بأن الرأسمالية يمكن أن تلتزم قيماً رغماً عن مصالحها. وهي الأوهام ذاتها التي اجتاحت الفصائل الفلسطينية منذ بداية السبعينات، ولإخفاء هذه الأوهام كررت الكلمات ذاتها التي يوردها الصديقان، وأقصد كلمات إرغام ودحر. دحر الاحتلال، وإرغامه على الانسحاب. هذه الكلمات المفخمة، والتي توحي بـ "الجبروت". والتي لا تخرج عن أن تكون المقابل للشعور بالضعف، أو العجز، أو الهزيمة.
بعد تجربة قرن يجب وضع الشرعية الدولية خارج كل الحسابات، ويجب التخلي عن كل وهم بأنها يمكن أن تحقق ما تقرره شرعتها. وأنها تخضع للأقوى. وما دام صراعنا الأساسي هو مع هذا الأقوى، ومادامت الدولة الصهيونية هي أداة له، وتوظفه للسيطرة على المحيط العربي، لهذا يجب أن تحمى. وحيث أن كل ما تقرره الشرعية الدولية هنا يشل هذا الدور، لهذا يتوقف عمل هذه الشرعية حينما تتعلق المسألة بالدولة الصهيونية، وكل القرارات التي اتخذت نتيجة توازن القوى العالمي ظلت دون تطبيق، لأن ذلك يحتاج إلى قرار دولي وقوة دولية وهو ما لا تسمح به الرأسمالية الإمبريالية ذاتها.
ربما كان استخدام المبادئ التي تقوم عليها الشرعة الدولية مفيداً في التكتيك، أي في بعض اللحظات التي تهدف إلى إيصال الرأي العام إلى نتيجة أن هذه الشرعة لم توضع للتطبيق، أو نركز على حدود سنة 1967 من أجل عزل الدولة الصهيونية عبر التأكيد على أن تحقيق ذلك يفترض المقاطعة الشاملة للدولة الصهيونية. لكن أن نبني استراتيجيتنا عليه فهذا ما يجعلنا منفعلين، ودون فاعلية، ويضع القضية الفلسطينية في طريق مجهول. وسنلمس بأن الخلط بين التكتيك والرؤية الاستراتيجية هو سمة عامة للمشتغلين في السياسة كما توضح في الواقع الفلسطيني (ويمكن أن نشمل الواقع العربي كذلك)، حيث يتحوّل التكتيك –الذي هو لحظي ومؤقت- إلى استراتيجية طويلة الأمد. يجب أن نعرف أن المسألة متعلقة بدورنا وفاعليتنا، وأن لا إمكانية للتعايش مع الدولة الصهيونية كونها بالأساس أداة في المشروع الإمبريالي، وكون وجودها يقوم على نفي الآخر الذي هو نحن.
ومن هذا المنطلق أكدت على أن المسألة الفلسطينية هي مسألة عربية بإمتياز، من منظور الدور الصهيوني في المشروع الإمبريالي الذي يطال الوطن العربي، ومن منظور النضال من أجل إنهاء الدولة الصهيونية. وإذا كان الوضعين العربي والعالمي يشيران إلى اختلال مريع لمصلحة ذاك المشروع، وبالتالي ليس من الممكن أن ننجز شيئاً في الوقت الراهن، إلا أن ذلك لا يجب أن يجعل وهم "الشرعية الدولية" يخترق عقولنا، لأنها شرعية الأقوى كما أشرت، بل يجب أن نفكر ملياً في تغيير ميزان القوى عبر تغيير الوضع العربي والتواشج مع كل القوى اليسارية المناهضة للرأسمالية ولمشروع الهيمنة الأميركية. إن الوضع يفرض أن نعيد بناء التصورات انطلاقاً من وعي الواقع، وأن نعمل على بناء القوى، لأن حسم الصراع في كل الأحوال هو مهمتنا، ويعتمد على دورنا.