مناهضة الليبراليّة: من اليسار الثوري إلى السلميّة اللاهوتيّة


دانيال بنسعيد
2007 / 11 / 1 - 11:38     

مناهضة اللبرالية هي عنوان عريض. عريض ومتعدّد المضامين شأنه شأن اللبراليّات نفسها. فهي تشمل مروحة المقاومات للإصلاح اللبرالي المضاد التي برزت منذ الثورة الزاباتية عام 1994، وإضرابات شتاء 1995 والتظاهرات المناهضة للعولمة عام 1999 في سياتل الأميركيّة. وهي تعبّر عن رفض كبير اجتماعي وأخلاقي لم يتوصّل (بعدُ؟) إلى التزوّد باستراتيجيات سياسية فعلياً بديلة.

--------------------------------------------------------------------------------

مناهضة اللبرالية، التي أخرجتها على المستوى العالمي الملتقيات الاجتماعية وأكسبتها شعبيةً الكتبُ المحرّضة التي حملت توقيع فيفيان فورستر أو ناومي كلاين، هي ساعة ـــــ ضرورية من دون أدنى شك ـــــ للرفض: «العالم ليس سلعة، العالم ليس للبيع...». فلا بدّ من عالم آخر، لكن أيّ عالم؟ وخصوصاً، كيف نجعله ممكناً؟ «ساعة معاداة اللبرالية» هذه، المطبوعة بعودة المسألة الاجتماعية وبروز حركات اجتماعية (قديمة أو جديدة) سمحت بنزع صفة الشرعية عن الخطاب اللبرالي المنتصر في بداية التسعينيات.

لكن بالنسبة إلى الحلول التي يمكن إعطاؤها «للثورة السلبية» الليبرالية الحديثة، فنطاقها واسع كل الوسع. فالتكلّم بصيغة المفرد على حركة مناهضة للعولمة، كما لو كانت قضية كبيرة تستطيع أن تحلّ محلّ بروليتاريا في طور الانقراض، ليس محفوفاً بالمخاطر وحسب بل خاطئ أيضاً. فعلى «الكوكب البديل» يتساكن فعلياً ـــــ وهذا أمر جيد جداً شرط ألّا تُغرَق الاختلافات الحقيقية في توافق سياسي ـــــ معارضون جذريون لمؤسّسات أمثال البنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية، ومؤيّدون لإقامتها؛ مؤيدون للـ«نعم» وللـ«كلا» في الاستفتاء على معاهدة الدستور الأوروبي؛ أولئك الذين يريدون إضفاء صفة إنسانية على عملية تحويل العالم إلى سلعة وأولئك الذين يريدون إطاحة مثُلها العليا؛ أولئك الذين يديرون الخصخصة وإصلاحات الحماية الاجتماعية وأولئك الذين يعارضونها...

جميعهم مناهضون للبرالية؟ بشكل معيّن وإلى حدّ ما. بدرجات متفاوتة وبطرائق مختلفة. فقد يكتفي البعض بتصحيح تجاوزات اللبرالية المتوحّشة على الهامش من دون إعادة النظر في أصلها الرأسمالي. فيما يريد آخرون تغيير النظام المعتمد جذرياً. ولا ترتبط خطوط الفصل، أو ترتبط ثانوياً، بمسائل معجمية (مناهضة اللبرالية أو مناهضة الرأسمالية)، بل بسياسات ملموسة. فقد شكّل لولا وحزب العمال في البرازيل وحزب ريفونداسيوني (إعادة التأسيس) الشيوعي في إيطاليا، منذ بدء الملتقيات الاجتماعية عام 2001، عمودين رئيسَين من أعمدة حركة مناهضة اللبرالية في أميركا اللاتينية وفي أوروبا.

واليوم، أضحى الأوّل المذكور تلميذاً مجتهداً عند صندوق النقد الدولي، فيما يسهم الثاني بانضباط في السياسة المعادية للأنظمة العمالية التي ينتهجها رومانو برودي. في أميركا اللاتينية، واضح أنّ «مناهضة اللبرالية» التي يمارسها شافيز أو موراليس لا تحمل المعنى ذاته ولا تتضمّن الديناميّة نفسها لتلك التي ينتهجها لولا أو كيرشنير.

مناهضة اللبرالية هي إذاً، في أحسن الأحوال، دالة فضفاضة للإشارة إلى جبهة رفض تمتد من اليسار الثوري إلى الأوهام الكينزية الجديدة، من السلمية اللاهوتية إلى المعاداة النضالية للإمبريالية. ويمكنها أن تكون رافعة موحدة فعالة لأعمال وحركات محددة ضد الدين أو ضدّ الحرب، ضدّ توجيه بولكنشتاين أو ضدّ معاهدة الدستور الأوروبي (مع أن الجبهة منشقة حول هذه النقطة). فهي ليست بحد ذاتها مشروعاً سياسياً. هذا ما أثبته انقسام اليسار الراديكالي في فرنسا في خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية: فـ«الانتصار الدفاعي» الذي تمثّله الـ «لا» في الاستفتاء على معاهدة الدستور لم يكن قابلاً للتحويل تلقائياً إلى ديناميّة هجومية تتمحور حول برنامج واستراتيجية تحالفات...

صيغت الأسئلة المقترحة في مجلة «بوليتيس»، بغالبيتها، على أشكال تحديدات. هل يجب على اليسار الأصيل أن يتحدّد بأنه مناهض للرأسمالية أو مناهض للبرالية؟ كيف يتحدّد بالنسبة إلى اقتصاد السوق؟ إنّ هوس التحديد هو صفة ممّيزة للميل الفرنسي إلى الفكر التصنيفي والهوس بترتيب المفاهيم. فالتحديد يثبّت ويجمّد، فيما التعيين الجدلي، على العكس، يشدّد على التطوّر وعلى الديناميّة. مناهضة اللبرالية أو مناهضة الرأسمالية؟ ليست المسألة مسألة تصنيف أو تحديد، بل قضية توجّه؛ ليست مسألة جدول مقاييس ومطالب في إعلان انتخابي، بل مسألة إجراء يسمح بتقويم التحالفات والتسويات، بين تلك التي تتيح الاقتراب من الهدف المنشود وتلك التي تبعد عنه، وذلك تحت مجهر الواقع.

إنّ سياسة فكّ الارتباط مع الاستبداد المجهول الهوية للأسواق تتطلب اليوم أن يتغلب منطق الخير العام، والخدمة العامّة والتضامن على منطق تحقيق الأرباح بأيّ ثمن، والحساب الأناني ومنافسة الكلّ ضدّ الكلّ. ولهذا تتطلب التجرؤ على اقتحام حازم لحرم الملكية الخاصة (بما فيها ملكية الأموال غير المنقولة والملكية العقارية التي تلعب دوراً أساسياً في المسائل البيئية كما في المسائل المتعلّقة بالتمدين والإسكان). وهي تتطلّب معارضة لا تلين لحرب الفتح الاستعماري الجديد، ولاقتصاد التسلّح، وللمعاهدات العسكرية الإمبريالية. وهي تمرّ عبر فكّ الإرتباط بالقَيد الذي تفرضه المعايير الأوروبية المتعلّقة بالتقاربات ومعاهدة الاستقرار، ذات ليلة من يوم 4 آب ضرائبي.

ويتناقض النضال العازم حول هذه الأهداف تناقضاً كبيراً مع تحالفات برلمانية وحكومية عُقدت مع بلير وشرودر أمس، وتُجرى مع برودي وروايال اليوم، تحت طائلة جعل الخطّّ الفاصل بين اليسار واليمين رفيعاً لدرجة تمكّن معه المنشقين من عبوره (في الاتجاهين) من دون أن يشعروا بتاتاً أنّهم يتخلّون عن آرائهم. فمسألة التحالفات ليست جهاز التبديل التقني لبرنامج يهدف إلى تغيير العالم، ولا هي مجرّد امتداد له، بل تشكّل جزءاً لا يتجزّأ منه.

هل من الممكن عهد مهمّات الخدمة العامة إلى القطاع الخاص؟ في العام 1977، فاجأ ميشال روكار (مفاجأة سارة) مجموعة من أرباب العمل إذ أعلن أن منهجيات التنظيم كلية وأن لا مواربة مع السوق. كان ذلك كلاماً صريحاً وصحيحاً. صحيح لدرجة أنه عندما تسلم اليسار الحكم، كان لوران فابيوس أوّل رئيس وزراء طبّق بشكل عميق تحرير حركة الرساميل؛ وبيار بيريغوفوي، «أول من تسبّب بإلغاء الوساطة المصرفية» (1).

ليست المسألة مسألة إلغاء كل العلاقات التجارية، لكن معرفة مَن الذي يمسك بزمام الأمور، السلطة الديموقراطية (المؤلفة من سلطة الشعب) أو الآلية المؤلّهة للأسواق.

ولا تقتصر القضية على حصّة الخصخصة الإجتماعية الذاتية الإدارة لوسائل الإنتاج والاتصالات والتبادلات، بل تشمل أيضاً سياسة ضرائبية، وتحكّماً سياسيّاً بالأداة النقدية، وإعادة تحديد الخدمات العامة، وتوجيهاً جديداً للتجارة الخارجية. ضمن إطار كهذا، ليس التمكّن من توكيل مهمّات الخدمة العامّة إلى عاملين من القطاع الخاص مسألة مبدأ، إذا أحاطت به تشريعات ضرائبية واجتماعية مقيّدة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتّخذ الخصخصة الاجتماعية أشكالاً مختلفة جدّاً، من المؤسّسة العامّة إلى التعاونية الذاتية الإدارة. ولكن هنا أيضاً، المسألة الأساسية هي مسألة توازن القوى الاجتماعية والسياسية، والسلطة الحقيقة في اتخاذ القرار.

إذا أُريدَ بلوغ جذور المسألة، يتحتّم على المناهضة الجذرية للبرالية مهاجمة صلب الرأسمالية، جعل الحقّ في الوجود (في المسكن والصحة والعلم والعمل) مواجهاً لحقّ الملكية.

يجب أن تواجَه خصخصة العالم وتحويله إلى سلعة بسياسة تقضي بالتضامن الإجتماعي وبنزع صفة السلعة عنه وبالمجانية. وعندئذ يتلاشى التمايز الشكلي بين مناهضة اللبرالية ومناهضة الرأسمالية: فعبر مقاومة الذي لا يُقاوَم يصبح المرء ثورياً من دون أن يدرك ذلك بالضرورة.

دانيال بنسعيد

(1) راجع الشهادة التي توضح هذا الموضوع بقلم جان بيريلفاد وتحت عنوان le Capitalisme total, Seuil, 2005، (الرأسمالية الكاملة).

* عن مجلة «بوليتيس» ــــ ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية