أشاعة ثقافة العولمة


فلاح أمين الرهيمي
2007 / 9 / 28 - 11:03     

(3)
اعتمدت مرحلة العولمة في نشر ايديولوجيتها على نشر الفكر الليبرالي واشاعة الثقافة التي تستطيع ان تؤثر فيها على الوعي الفكري للمجتمع وتستخدمه من اجل الوصول الى غايتها واهدافها بعد ان اصبحت العولمة كظاهرة تجاوزت الحدود الاقتصادية والسياسية اصبحت الحاجة الى الثقافة كي تستطيع التخاطب والتعامل بها مع الشعوب لاخضاعها والتأثير عليها بعد انفجار الثورة المعلوماتية والاتصالات التي قلصت المسافات واقتصرت البعد بين جميع انحاء العالم وجعلت منه (قرية صغيرة) وقضت على جميع حواجز الزمان والمكان ودخلت الى كل زاوية من زوايا المجتمع ومهدت لغزوها هذا من خلال الكتب التي اصدرتها دور الثقافة الاميركية وطيلت وزمرت لها ككتاب (نهاية التاريخ والانسان الاخير) للكاتب (فوكوياما) والذي يجسد فيه الافكار الليبرالية والاعتبار وحرية الانسان ويختمه بعبارة (نهاية التاريخ والانسان الاخير) ما يستدل القارئ من خلاله ان التاريخ سوف تكون نهايته مرتبطة بنهاية العولمة وربيتها الليبرالية بعد سقوط الفكر الشيوعي بأنهيار المعسكر الاشتراكي ، والكتاب الاخر (صدام الخضارات) للكاتب الاميريكي (صاموئيل هنتنفتون) الذي يقول فيه : ( فرضيتي هي ان العالم الجديد لن يكون للصراعات في الاساس جذور ايديولوجية او اقتصادية وانما ستكون انقسامات بشرية كبرى ومصادر الصراعات الرئيسية ثقافية وستستثمر الدول القائمة على القومية لتلعب الدور الاول في شؤون العالمية ولكن الصراعات السياسية العالمية فستجعل في حلبة الصراع امم وجماعات تنتمي الى حضارات مختلفة وسيهيمن تصادم الحضارات على السياسة العالمية ) .
اما الكتاب الاخر فكان من اعداد المفكر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار ( ما بعد الماركسية) وهو عبارة عن مجموعة محاضرات القيت في احدى نوادي (لندن) من قبل مفكرين واعضاء في الاحزاب الشيوعية سابقاً في دول اوربا وقسم منهم كانوا مطرودين من تلك الاحزاب وكانت محاضراتهم تصب حقدا وسموما وتشكيكا في النظرية الماركسية وان أي لبيب او محلل يستطيع ان يفسر هذا الحقد والكراهية لتبرير فشل وهزيمة ولكن الذي يؤسف له ان العناصر التي ترجمت هذه المحاضرات ذا ماض نضالي مشرف كرضا الظاهر وغيره . وهناك كتب اخرى مثيلة لهذه الكتب تنهل من نفس الفكرة الجديدة وتصب في نفس المجرى ...........
بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وانسحابه من الساحة الدولية والمواجه مع المعسكر الرأسمالي برزت الولايات المتحدة كقوى عظمى ذات (قطب اوحد) في السياسة العالمية لتنفرد بالقرار بالسيطرة على العالم وضمه الى (ماكنة ) ومفاهيم ما يسمى بالنظام العالمي الجديد ( مرحلة العولمة المتوحشة) ومن شروطه السيطرة والتحكم في منطق الرأسمال الحاكم كما وردت في مقال نشرته مجلة (البموند دبيلوماتيك) في عددها الصادر في تاريخ كانون الثاني 1995م وهو عبارة عن ترجمة لمجموعة من الباحثين والمفكرين في الشؤون الاقتصادية والفكرية وخاصة مصالح رأس المال الدولي وترجمتها الى مصطلحات مذهبية وفكرية ذات طابع شمولي والذي يستلزم ويحتاج اولا الى طرح الافكار ودحضها لاثبات بطلانها والاتيان بافكار متناقضة معها ومعاكسة لها وبروز وتأكيد فكرها الاوحد عبر الادوات والوسائل الكفيلة باقرار حقيقتها كحقيقة بديهية ثابته وغير قابلة للجدل والنقاش حتى يتسنى لها ذلك فأن من اولى موجباتها اخضاع الفكر القسري كما يسمى (بغسل الدماغ) من كل خياراته التي تحول دون سيطرتها على السوق العالمية وبث الفكر الليبرالي والعولمة المتوحشة ، وفي سبيل ذلك لا يتوانى رأس المال عن القيام بمسح الفائي معنوي او جسدي بحسب ضروريات السوق ولفئات واسعة من البشر بأعتبارها اعداداً وارقاماً يجب ان يخضع وجودها لمعايير الربح والخسارة في قاموسه غير المعلن والاخطر من ذلك هو الجاذبية البراقة لوجهها المقنع بأديولوجيتها التي لها فعل التنويم المغناطيسي او التخدير وحتى تكتمل دائرة السيطرة تتسلل هذه الايديولوجيات بأساليب وطرق مموهة تختفي حقيقة اهدافها الدامية الى تدجين الجيل الصاعد عبر العديد من البرامج والافلام المؤثرة والخلاعية بأغرائاتها وجاذبيتها في منحى التكوين العقائدي للشباب الذين هم في طور التفتيش عن ملاذ تكتمل به شخصيتهم الموجهة حتى تتطابق وفق هذه السياسة الاعلامية الهادفة مع نماذج ابطال هذه الافلام ذات مضمون يحثهم والذي يشجع على الانخراط في دائرة الاستهلاك السوقي .يقارن المفكر الدكتور (محمد عايد الحايري )
لقد عملت ايديولوجيا رأس المال على تكريس مفاهيمها لتصبح سيدة الموقف في العالم اجمع بعد مساهمتها الفعالة في انهيار نقيضها الايديولوجي (النظام الاشتراكي) واصبحت وما زالت تمعن في التفلفل الى الاذهان المتأثرة بزخرفة هذه المفاهيم الليبرالية التي تبطن بخبث للسيطرة والتملك والاستحواذ الخفي لعقولنا المشلولة وغير القادرة على التمييز بين الخطأ والصواب أمام هذه العاصفة الهوجاء التي اقتلعت معها قدرتنا التجريدية وحسنا الموضوعي بما يجب ان يؤديه وان يقوم به .
وفي هذا السياق ضعفت كل المعاني والقيم الانسانية (عدل ، مساواة ، عطف ، تعاضد، أنسانية) في خانة المثاليات والطوباويات بأعتبارها تحمل بذور فشلها في داخلها من خلال فشل الفكر الاشتراكي وانهيار المعسكر الاشتراكي التي كانت هذه المعاني هي المبادئ والاهداف التي يعمل ويناضل من اجلها وسعت الافكار الجديدة للعولمة على استبدال هذه القيم والمفاهيم بمقولات (اقتصاد السوق) (والعرض والطلب) بأسم العملية الواقعية التي كادت ان (تتأله) لكثرة تردادها وتكرارها في الندوات والمؤتمرات والمحافل الرسمية وغير الرسمية على السنة المستفيدين في مجمل القطاعات النافذة في دول جمهوريات القرن العشرين حتى اننا مع الاسف نجد فريقاً واسعاً من المثقفين والمفكرين والباحثين قد غيروا من اتجاهاتهم وافكارهم وتوجهوا نحو الفكر الليبرالي واصبحوا من دعاة التغيير والتجديد نحو الافضل كما هو مفترض وقد انضموا الى كورس التطبيل والتزمير والتزوير لانتصار النظام العالمي الجديد علماً ان الامانة الفكرية والمسؤولية التاريخية تقتضي منهم الصمود ومواجهة الافتراءات المجحفة بحق الخيار الانساني للبشرية التي هي احوج من اية لحظة اخرى الى نظام اجتماعي عادل يوفر الفرص والحياة السحيدة امام جميع ابناء البشرية بالتساوي ، ونسوق هنا الدور المهم والفعال للثقافة الواسعة والوعي الفكري الخلاق والضبط والالتزام لما لها من دور فعال في قيادة وتأثر وتفاعل جماهير الشعب وصيانة عقولها وافكارها من مثل هذه الافكار الهدامة والكارثية على الانسانية جمعاء وتضليلهم من التطلع الى المجتمع المشرق السعيد .
يقول الفيلسوف الايطالي (غرامشي) : (ان خلق ثقافة جديدة تعتمدها جماهير الشعب في وعيها ومعرفتها وضبطها وصيانة افكارها وعقولها لا يعني الاقتصار على الاكتشافات الفردية الاصيلة بل يعني ايضاً وبشكل خاص البث النقدي ورصد السلبيات للحقائق والاراء الخاطئة المكتشفة وجعلها تصبح حقائق اجتماعية وتحويلها الى قاعدة للأعمال الجماهيرية الحيوية .
ان دور المثقفين الطبيعي وبحكم معرفتهم ووعيهم الواسع هو تنوير الجماهير وجعل الطريق سالكاً ومضيئاً أمام هذه الصورة القاتمة لعالم يقبع في ظلام اجتماعي لا مثيل له جراء هذا التفرد الاحادي لارادة الرأسمالية العالمية المتوحشة الذي لا يعكس الطبيعة الانسانية المتعددة الجوانب والابعاد اذ ان سيادة هذا الواقع المؤلم سيؤدي الى صنع وتكوين انسان مستلب الارادة والروح والقيمة الانسانية السامية أي انسان ذي بعد مادي واحد ينسجم ويتطابق مع احادية سلطة رأس المال العالمي .
ان الارتهان لهذه السلطة لا يبشر الا بالمزيد من الاحباط واليأس الساري على اكثر من صعيد الذي يجعل الشعوب تفقد املها وطموحها في الخروج من دوامة المراوحة في دائرة الاجترار الاستهلاكي لمنتوجات السوق الرأسمالي الذي نجح الى حد ما في غرس مفاهيمه معتمداً على مجموعة افكار تزين صورة وتشوه صورة وحقيقة الاشتراكية مراهنا بذلك على رد الفعل المباشر والعفوي للشعوب ازاء مصالحها المنحازة الى جانب الدعاية المزيفة التي ينشرها ويبثها المنتصر والمنقلبة على المهزوم ) .