حضارة القمع وآليات صناعة الأوهام


عبد العزيز الراشيدي
2007 / 9 / 24 - 13:19     


على درب التفكيك، والتحليل للمنظومة المجتمعية الحداثية نستمر لنحاول في كل مرة أن نسلط الضوء على بعض القضايا العميقة. التي قد تبدو لنا عادية إذا نظرنا إليها بأعينهم التي تحتل أعيننا، وفي هذه المرة سنحاول إن نكتشف الوجه القمعي لهذه الحضارة، لهذا الوجه المنفتح على جميع الأصعدة. فكيف يتبدى لنا هذا الوجه إذن ؟
إننا بمعية ماركيوز نذرك أن الصفة الأساسية لمجتمع الصناعي المعاصر هي إنه مجتمع قمعي في أساسه. غير أن مفهوم القمع في شكله الجديد يختلف عن صورته التقليدية القديمة، فهو لا يمارس اليوم إنطلاقا من نقص الحاجات أو عدم النضج الطبيعي والفني للإمكانات، وإنما يمارس من خلال مركز القوة. فإمكانيات المجتمع الصناعي الذهنية الوم تفوق إمكاناته بالأمس، وهذا يعني إن هيمنة وسيطرة المجتمع على الفرد أصبحت أكثر وأشد مما سبق.
إن القمع في هذا المجتمع يتأسس على عاملين أساسيين هما الطابع السلعي للمجتمع الذي إستطاع بإمكانيات جهازه الإنتاجي الضخم أن يخلق مزيدا من السلع، والحاجات التي تربط الجماهير بالنظم السائدة، التي تقوم بإحتواء عقلي وغريز للطبقات الكادحة. لتجعل من البرليتاريا تتشارك معها في حاجاتها، وإهتمامتها. لتغدو هذه الحاجات التي ينتجها المجتمع الصناعي اليوم شيء يضرب بجذوره في أعماق البنية الغريزية للإنسان.
أما على مستوى العامل الثاني فهو يكمن في العامل التكنولوجي، الذي حول السيطرة إلى سيطرة تكنولوجية. لتغدو التكنولوجية بدورها وسيلة القمع الأساسية، فبفضلها يتم إمتصاص كافة التناقضات الإجتماعية، والعمل على إخضاع الجماهير عبر تزييف حاجيات الإنسان المادية والفكرية. لتصبح الحاجيات التي يلبها هذا المجتمع مجرد حاجيات وهمية من صنع الدعاية والإعلان، ووسائل اللإتصال. وما الإنسان ذو البعد الواحد إلا ذاك الإنسان الذي إستغنى عن الحرية بوهم الحرية، لأنه يتوهم إنه حر بمجرد أنه يستطيع أن يختار تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع، فما أشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم أنه حر بمجرد أن منحت له حرية إختيار سادته.
إن هذا الوهم يزداد حينما تظن السكرتيرة أنها حرة لأنها تستطيع إن تشاهد نفس البرنامج التليفزيوني الذي يشاهده مديرها. إذن عبر هذا القمع العام الذي يسود في المجتمع أصبحنا أمام مجتمع لايمكن لأفراده أن يتعرف على ذاتهم إلا من خلال سلعهم، ويجدون رحهم في سيارتهم، وفي جهاز التسجيل والمنزل المريح، وأدوات الطبخ. لتغيير الآلية التي تربط الفرد بالمجتمع وتستقر السيطرة الإجتماعية في داخل الحاجات الجديدة المبتكرة