الماركسية والايكولوجيا - الايكولوجيا بعد ماركس وانجلز


ثامر الصفار
2007 / 9 / 4 - 10:55     

تطرقت في مقال سابق (الماركسية والايكولوجيا – نبذة تأريخية، طريق الشعب 2/آب/2007) الى احدث الانتقادات الموجهة الى ماركس لاهماله الايكولوجيا، وحاولت، قدر المستطاع، تبيان خطأها، وخلصت الى " ان ماركس وانجلز قد تمكنا من الامساك بلب الموضوع ونعني علاقة العداء المستحكمة بين الرأسمالية والبيئة، وبالتالي فان المسألة الاساسية هنا هي ليست مستوى تطور التكنولوجيا بل طبيعة ومنطق الرأسمالية كنمط معين للانتاج".

وسعيا للتواصل مع النبذة التأريخية للايكولوجيا وعلاقتها بالماركسية لابد من التطرق الى مآل الفكر الايكولوجي بعد ماركس وانجلز.

يعتبر كتاب ديالكتيك الطبيعة لانجلز هو آخر ما كتبه مؤسسا الماركسية حول موضوع الطبيعة وقوانينها. وبرغم وجود العديد من الاراء حول الكتاب ( جون فوستر يطرح احتمال خطأ ما اورده انجلز من استنتاجات، هيلينا شيهان ترى ان انجلز كان ميكانيكيا واختزاليا في ماديته وانه حاول فرض فلسفة مثالية على الطبيعة استقاها من افكار هيغل عن الاخيرة)[1] الا ان ما يهمنا في هذا الصدد الرأي الذي طرحه عدد من الباحثين الايكولوجيين من ان الماركسية ، بعد ماركس وانجلز، قد اهملت تطوير الايكولوجيا او انها ناصبتها العداء[2] ، وهو ما يفسر، حسب الرأي المزعوم، عدم وجود اية مساهمة ماركسية هامة خلال الفترة التي اعقبت وفاة انجلز وامتدت الى الستينات حين نشر آلفريد شموت كتابه الموسوم مفهوم الطبيعة عند ماركس عام 1962.

ان واقع الحال يؤكد ان افكار ماركس وانجلز حول الايكولوجيا – علاقة المجتمع بالطبيعة – لم تتوقف عند تخوم القرن التاسع عشر بل امتدت في تأثيرها الى القرن العشرين. و لا نعني هنا التطبيق النصي، بل مدى استيعاب الاجيال التي خلفت ماركس وانجلز للمفهوم المادي عن الطبيعة الذي كان ولا يزال منسجما مع الثورات الكبرى التي شهدتها العلوم، كنظرية دارون، وللفهم الماركسي لديالكتيك الضرورة والصدفة.

ان لائحة المفكرين والعلماء ممن طبقوا المفاهيم الطبيعياتية والايكولوجية في اعمالهم طويلة جدا ولكن يمكن الاشارة الى بعضهم: وليم موريس، اوغست بيبل، روزا لوكسمبرغ، لينين، كاوتسكي، بوخارين، فيرنادسكي، فافيلوف، كادويل، اوبراين، هيلدن،هوغبن، هايمان، وايضا هاري لانكستر و آرثر تانسلي وهما اشتراكيان فابيان ( سنعالج مستقبلا علاقتهما بماركس).

لنبدء بلينين التي يشهد التاريخ له نشر مفاهيم الحفاظ على البيئة والايكولوجيا بشكل عام، وعلى وعيه العالي لموضوعة إنهاك خصوبة التربة وكسر دورة حياة المركبات العضوية لها في ظل اسلوب الزراعة الرأسمالية (ماركس- ليبيخ). وفي أيامه وضع العالم الروسي فلاديمير فيرنادسكي مفهوم البايوسفير (الكرة العضوية) في اطار ديالكتيكي للتحليل امتد تأثيره الى يومنا هذا. واستخدم فافيلوف المفهوم المادي عن التاريخ لرسم خارطة لمراكز الزراعة في العالم وهي ما تعرف اليوم باسم حقول فافيلوف.

وفي كتابه المرأة في ظل الاشتراكية المنشور عام 1879، تناول بيبل جوانب من تحليل ماركس للازمة الايكولوجية فيما يتعلق بالتربة في المجتمع الرأسمالي، مؤكدا على اهمية معالجة ذلك من خلال اعادة تنظيم عقلانية للانتاج في المجتمع الاشتراكي. كما هاجم بشدة نظرية مالثوس عن السكان.

وطبق بوخارين مفهوم ماركس عن العلاقة التبادلية (الايضية) بين الطبيعة والمجتمع في كتاباته حيث اشار الى ان " البشر... هم نتاج للطبيعة وهم جزء منها؛ فاذا ما استبعدنا البعد الاجتماعي من الحساب – وهذا من المستحيلات – فان للبشر نفس الاساس البايولوجي لباقي الكائنات".

اما كاوتسكي فقد عالج في مؤلفه المسألة الزراعية، مقتفيا خطى ماركس وليبيخ، موضوعة دورة حياة التربة، مثيرا قضية معامل الاسمدة الكيميائية ومحذرا – لاحظوا اننا نتحدث عن عام 1899 – من فرط استخدام المبيدات في الزراعة. وفي رسائلها ناقشت روزا لوكسمبرغ العديد من القضايا الايكولوجية، وتطرقت الى ظاهرةاختفاء الطيور من بعض المناطق في العالم بعد تدمير بيئتها. وهاجم موريس تلوث المدن وتعرض العمال خاصة والسكان بشكل عام الى خطر التلوث الصناعي في المدن الكبيرة. وطور اوبراين وهيلدن ادق التفسيرات الى يومنا هذا لاصل الحياة على الارض اعتمادا على مفهوم فيرنادسكي عن البايوسفير.

نعم لقد شهد التاريخ كل هذا، لكنه شهد ايضا، اذا اردنا الدقة، تلاشيا لهذا النمط من التفكير الايكولوجي منذ ثلاثينات القرن الماضي وامتد الى الثمانينات منه، وسنحاول توضيح ذلك.

لقد شهدت فترة الثلاثينات من القرن الماضي تربع سالتين على هرم السلطة السوفيتية وشهدت ايضا بداية مرحلة لتصفية معظم المفكرين والعلماء السوفيت ذوي النزعة الايكولوجية – لم يكن هذا مجرد صدفة، باعتقادي، فقد كانوا جميعا من المعارضين لفكرة التراكم الاشتراكي البدائي، وانهم سيؤثرون، بلا شك، على طريقة فهمنا لموضوعة الحتمية التأريخية، وسنترك هذا الموضوع لمناسبة اخرى لعدم اتساع المجال هنا – فتم اعدام بوخارين، وتوفي فافيلوف في زنزانته عام 1943 بسبب سوء التغذية. ولم يقتصر الامر على المرحلة الستالينية بل امتد الى ما يعرف اليوم بعهد الركود وليشمل العديد من العلوم الاخرى. ونذكر على سبيل المثال العالم الروسي فرولوف صاحب كتاب فلسفة وتأريخ علم الجينات الذي عالج فيه القضايا الملحة في العلاقة بين الفلسفة وعلم الجينات (الوراثة) منذ نشوء العلم حتى اواسط الستينات من القرن الماضي، وكان قد انجزه عام 1968 الا انه ظل حبيس جدران الرقابة والمفاهيم الليسنكوية[3] حتى عام 1988 حيث نشر في عهد غورباتشوف[4] . ولم تقتصر الرقابة على العلماء السوفييت فقط بل طالت ايضا بعض العلماء والباحثين الاجانب الذين درسوا هناك خلال تلك الفترة [5] .

اما في الغرب فقد اتخذت الماركسية موقفا متطرفا وحادا في رفضها لموضوعة تطبيق الديالكتيك على الطبيعة، وكان ذلك بفعل تأثير ليسينكو وانصاره من مدعي الماركسية. ونذكر على سبيل المثال النشاط الفلسفي للعالم الفرنسي جاك مونو المتخصص في البايولوجيا الجزيئية والذي انصب على الهجوم على الديالكتيك في كتابه الصدفة والضرورة الذي يعتبر المنهل الفكري الاساسي لهجوم خصوم الماركسية على الديالكتيك، وهو يستهدف اثبات " افلاس" الديالكتيك في العلم[6] مستغلين الترهات الفكرية التي حاول ليسنكو تعميمها متغافلا، عن عمد، من ان لينين نفسه قد اكد على " ان عالم الطبيعة لابد له ان يكون ماديا معاصرا، ونصيرا واعيا لتلك المادية التي صاغها ماركس، اي ان يصبح ماديا ديالكتيكيا "[7] – التشديد لي - .

وللاسف فقد تأثر العديد من الماركسيين بهذه الافكار. فحتى لوكاتش كان ينادي بعدم امكانية تطبيق الديالكتيك على الطبيعة، وكان اضافة الى غرامشي، الذي كان يرفض ان تتحول الماركسية الى تعويذة تقي معتنقيها من عين الحساد[8] ، من اشهر ممثلي الماركسية الغربية التي لم تعلق آمالها الاشتراكية على مستقبل الشيوعية السوفيتية . الا انهما كانا ينظران الى الماركسية بصيغ التاريخ البشري المعزول والمنفصل عن الطبيعة، وتركوا الاخيرة الى مجال العلوم الطبيعية.

وحتى في نقد مدرسة فرانكفورت[9] لعصر الانوار كانت الطبيعة تأتي، في الغالب الاعم، بصيغة الطبيعة البشرية (خصوصا ما يتعلق بعلم النفس)، وليس بصيغة " طبيعة خارجية". وبالتالي يمكن القول بان الايكولوجيا، في الاطار الماركسي، قد عانت بالفعل من موت مضاعف سواء في شرق اوربا او غربها.

لكن راية الايكولوجيا وجدت من يحملها حيث تواصل في بريطانيا الالتزام بالمادية الديالكتيكية في تحليل التاريخ الطبيعي، وربما يرجع السبب في ذلك الى قوة تأثير ماركس الذي عاش هناك والى دارون. ومن بين فرسان الايكولوجيا في الماركسية البريطانية، ان صح القول، برزت شخصية الفيلسوف الشاب كريستوفر كاودويل (1907-1937) الذي سقط صريعا وهو يقاتل ضمن الفصائل الاممية ضد جيش فرانكو فوق احدى تلال اسبانيا. ورغم قصر عمره الا انه ترك لنا ثروة فلسفية واهمها كتابه الوراثة والارتقاء الذي منع هو الاخر من النشر بفعل تأثيرات ليسينكو على قيادة الحزب الشيوعي البريطاني آنذاك[10] ، ولم ير النور الا في عام 1986 . وقد انطوى الكتاب على محاولةمدهشة لتطوير ديالكتيك ايكولوجي، في حين قدم آخرون امثال هلدين، ليفي، هوغبن، نيدهام إضافات لا يستهان بها. وكانوا جميعا يعبرون عن احترامهم وتقديرهم لماركس ودارون، ويؤكدون على ان ابيقور هو منبع المفهوم المادي عن الطبيعة.

وفي الثلاثينات من القرن الماضي ايضا حدث الانقسام الكبير- الانحراف - في الفكر الايكولوجي في الطرف الاخر من العالم. فقد طور العالم الامريكي فردريك كليمنتز وآخرون مفهوم التعاقب الايكولوجي ( أي مراحل متعاقبة من تطور كوكب الارض – والجماعات البشرية- في منطقة معينة يتوج في " ذروة" او مرحلة ناضجة ترتبط بوجود انواع محددة من الكائنات المهيمنة). وتوسع ليصل الى مفهوم الكائن الارقى (السوبر) الذي يتوجب عليه التحكم في عملية التعاقب. وقد وجدت افكار كليمنتز اصداء لها – احزروا اين - في جنوب افريقيا.

فقد خرج علينا جان كرستيان سموت بمفهوم جديد سماه " القدسية الايكولوجية" ودون الدخول في تفاصيل هذا المفهوم حسبنا الاطلاع على سيرة حياة سموت هذا مثلما وردت في مؤلف بيدار آنكر الايكولوجيا الامبريالية: النظام البيئي في الامبراطورية البريطانية (هارفرد 2001) لنعرف ان " القدسية الايكولوجية" ليست سوى عنصرية ايكولوجية:
• جان كريستيان سموت هو نفسه الجنرال سموت حيث لقب بالجنرال بسبب دوره في حرب البور.
• من مؤسسي سياسة الفصل العنصري ونظام الابارتيد حيث كان مؤمنا بتفوق " عرقه الابيض الارستقراطي".
• هو من اعتقل المهاتما غاندي ونال بذلك شهرته العالمية.
• وزيرا للدفاع للاعوام 1910-1919.
• رئيسا للوزراء ووزيرا لشئون الاقوم الاصلية للاعوام 1919-1924.
• صاحب اليد الملطخة بالدماء حيث أمر بقتل المتظاهرين من اتحاد العمال الافارقة في ميناء اليزابث والمطالبين بالحريات السياسية وحرية التعبير فاستشهد 68 شخصا منهم. وهو المسؤول ايضا عن استخدام الطائرات لقصف احدى القبائل الافريقية بعد رفضها دفع الضرائب.
ومن ابرز من عارض الجنرال سموت وافكاره كان العالم البايولوجي الماركسي، البريطاني الاصل، لانسيلوت هوغبن، الاستاذ في جامعة كيب تاون آنذاك والذي لم يكتف بالمناظرات الفكرية مع سموت بل ساعد الثوار الافارقة في نضالهم ضد سياسة الابارتيد. وكذلك عالم الرياضيات الماركسي، والبريطاني الاصل ايضا، هايمان ليفي صاحب الهجوم اللاذع على " قدسية سموت" ضمن مؤلفه عالم العلم.

اخيرا ان ما اردت توضيحه، بقدر امكانيتي المتواضعة، من خلال عرض النبذة التاريخية عن الماركسية والايكولوجيا، هو التأكيد على ان ارتباط المادية بالديالكتيك في اي تحليل علمي سيوفر لنا طاقة عالية عند النظر الى الايكولوجيا والمجتمع، الى التاريخ الطبيعي والتاريخ الانساني. وان ما يجمع الشخصيات التاريخية ، الفكرية والعلمية، التي اخذناها كنماذج، هو الايمان بالمفهوم المادي عن الطبيعة والمفهوم المادي عن التاريخ، والتزامهم بديالكتيك العلاقة بين البشر والطبيعة،واتفاقهم على اعتبار الفيلسوف ابيقور هم منبع المفهوم المادي عن الطبيعة.

وللموضوع بقية....

[1] انظر جون فوستر، الاسس الكلاسيكية لعلم الاجتماع البيئي، المجلة الامريكية لعلم الاجتماع، ايلول 1999، وانظر هيلينا شيهان، الماركسية وفلسفة العلم، هيومانتيز برس انترناشونال 1985.
[2] انظر الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان الى الايكولوجيا الجذرية، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، في جزئين، 10-11/2006.
[3] الليسنكوية: نسبة الى عالم الزراعة الروسي تروفيم ليسينكو، وهو تيار يرفض تطبيق الديالكتيك على الطبيعة، ومن بين نتائج هذا الرفض انكاره لعلم الوراثة الجينية واصراره على مطواعية دورة حياة التربة، وقد الحقت تجاربه على اجبار النباتات على العيش في ظروف قاسية ضررا بالغا بالزراعة السوفيتية. كما انه رفض الكومبيوتر وادعى بانه علم كاذب اختلقته الامبريالية لتخدير الكادحين مما ادى الى تراجع العلوم في الاتحاد السوفياتي عشرات السنوات.
[4] انظر فلسفة وتأريخ علم الجينات، فرولوف، موسكو 1988، عرض عادل حبه، مجلة النهج، العدد 27، 1989.
[5] نمير العاني ، دور واهمية المناهج الفلسفية والعلموعامة في دراسة التطور كسيرورة كونية، مجلة النهج، العدد 28، 1989، ص 214، الهامش 1.
[6] فرولوف، عرض عادل حبه، مصدر سابق.
[7] المصدر السابق
[8] غريتسكي، غرامشي والعصر الراهن، ترجمة احمد برقاوي، مجلة النهج، العدد 19، 1988.
[9] لمعرفة المزيد عن هذه المدرسة انظر، كبداية، ابراهيم الحيدري، مدرسة فرانكفورت.. تأسيس نظرية نقدية للمجتمع، الشرق الاوسط، 24 آب 2000.
[10] هيلينا شيهان، الماركسية وفلسفة العلم، هيومانتيز برس انترناشونال، 1985.