ليس بالجيش وحده تقوم الدولة في لبنان


سامر سليمان
2007 / 9 / 1 - 11:12     

بعد طول تعارف عن بعد كان اللقاء الأول مع لبنان، ذلك البلد العزيز والقريب. لم أذهب بحثاً عن السياسة، ولكن السياسة هناك فارضة لنفسها حتى على الزاهد فيها. السياسة اللبنانية نشيطة بالمقارنة بالمصرية.. نشيطة لكن طائفية. كنت أنزل عند صديق يعمل في لبنان ويعيش في الأشرفية ببيروت، ذلك الحي الغني والماروني الذي كان يشهد تحزباً وتنافساً بين التيار العوني وتيار الكتائب في إطار انتخابات على كرسي برلمان دائرة المتن. كل من التيارين يدعي تمثيل مصالح المسيحيين. العونيون يرون أن "مصلحة المسيحيين" تكمن في التحالف مع الشيعة على قاعدة تآزر الأقليات. والكتائبيون – ذوي العائلات السياسية الغنية والقديمة – يرون "مصلحة المسيحيين" في تحالفهم مع اليمين السني المحافظ. المسيحيون إذن منقسمون على أنفسهم سياسياً، وهذا وإن دل على شيء فهو يدل على أنه ليس هناك "مصالح للمسيحيين" كافة. إذا أضفنا إلى ذلك أن بعض المسيحيين في لبنان يناصرون أو يعملون في أحزاب وتيارات غير مسيحية أو غير طائفية، مثل الأحزاب اليسارية والقومية أوحتى تيار المستقبل السني المحافظ، يصبح من العبث الكلام عن مصلحة واحدة للمسيحيين في لبنان يستطيع تيار أن يترجمها ويدافع عنها. الطائفية في لبنان – شأنها شأن أخواتها في كل البلاد – تقوم على أكذوبة أن الطائفة الدينية بكل مكوناتها لها مصالح واحدة يستطيع حزب سياسي أن يدافع عنها. هذه الأكذوبة لا تستطيع العيش إلا في جو من التعبئة والصراع بين الطوائف، يشد الأفراد إلى إعلاء انتماءاتهم الطائفية فوق أية انتماءات أخرى. لذلك يشهد لبنان اليوم استعار حالة التعبئة والصراع بين الأحزاب الطائفية.
الطائفية في لبنان قوية، ويمكن لعابر السبيل أن يراها بالعين المجردة. ولكن العين نفسها التي تتجول في شوارع العديد من المدن ليس بوسعها أن تتجاهل ألاف اللافتات التي تمجد الجيش وتنعته بكل ما هو عظيم من أول "الجيش عنوان عزة وكرامة لبنان" ووصولاً إلى أوصاف فريدة إذا أطلقت على قوات مسلحة مثل "الجيش هو ينبوع الحنان". هذه العاصفة من الاحتفاء بالجيش لا يمكن بحال من الأحوال تلخيصها في التعاطف معه في عملياته ضد جماعة فتح الإسلام الفلسطينية. العواطف الجياشة تجاه الجيش فيها بلا شك توقاً جارفاً لإعلاء شأن الدولة على الطوائف، فالجيش هو الذراع العسكرية للدولة. لقد عاني لبنان طويلاً من انهيار الدولة فيه وما استتبعه ذلك من حرب أهلية وفوضى وتنكيل بالمدنيين المسالمين. لذلك فتمجيد فكرة الدولة هناك أمراً مفهوماً. ولهذا تتحدث العديد من الحركات السياسية هناك عن الحاجة في تمتين الدولة، حتى ولو لم تكن هذه الحركات مستعدة لدفع ثمن ذلك.
ولكن الرهان على الجيش اللبناني للفصل بين الطوائف، إذا لم يكتمل برهان أوسع على الدولة، وبتطورات تلحق بالدولة نفسها تجعلها قادرة على الإحلال محل أمراء الطوائف سيكون رهاناً خاسراً. فلنتذكر أن الجيش اللبناني لم يتدخل لكبح الحرب الأهلية التي اندلعت في 1975، وأن الحجة التي ساقتها قيادات هذه المؤسسة كانت أنه لو تدخل الجيش في النزاع الطائفي المسلح سينقسم على نفسه وينفرط عقده. أي أن قدرة الجيش على لعب دور في تحجيم الصراع الطائفي يتوقف على درجة هذا الصراع. فلو زاد عن حد معين، كفت قدرة الجيش عن السيطرة عليه. الجيش يضطلع الآن بالكثير من وظائف الشرطة في لبنان، فهو يقف على الطرقات، ويطلع على بطاقات الهوية، ويحرس بعض المباني، وينزل بكثافة عندما تكون هناك تجمعات سياسية. ولكن الجيش في أي بلد لا يلعب دور الشرطة إلا في لحظات استثنائية يجب أن يعود بعدها للثكنات والا فقد هيبته وأصابه ما يصيب جهاز الشرطة. الرهان على الجيش لا يمكن أن يغفل أن الجيش اللبناني نفسه قائم على صيغة طائفية، وهو بهذا المعنى مبني على أرضية هشة. والرهان نفسه ليس بامكانه إغفال أن الجيش لا يحتكر حمل السلاح في البلد، وهو ليس الطرف الأساسي المعني بالدفاع عن الأراضي اللبنانية ضد الغزو الخارجي. فالحركة الوطنية والفلسطينية هي التي لعبت هذه الدور في السبعينات والثمانينيات، وحزب الله لعب هذا الدور منذ التسعينيات وحتى الآن. بانسحاب إسرائيل من الجنوب عام 2000 وبخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 خلت الساحة من أطراف كانت تنازع الدولة والجيش اللبناني. ولكن الساحة زاخرة بقوى سياسية تحمل السلاح على رأسها حزب الله، وهي لن تسلمه أبداً إلا في إطار تغيير سياسي داخلي شامل، وفي إطار ضغوط شعبية دافعة لكي تصبح الدولة اللبنانية دولة بتعريف ماكس فيبر لها، أي المؤسسة التي تحتكر حمل السلاح بشكل شرعي.
الرهان على مؤسسات الدفاع والأمن في الدولة لحفظ تماسك لبنان لا يكتمل إلا بالرهان على مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية. فالناس ينتظرون من الدولة أكثر من الأمن. لحسن الحظ الرهان على الدولة في لبنان يأتي في وقت بدأت فيه شوكة اللبرالية الجديدة في الانكسار على المستوى العالمي بعد أن مارست هيمنة طوال الثمانينات والتسيعينيات واستطاعت أن تهمش فكرة تدخل الدولة في الاقتصاد. لقد انطلقت في السنوات القليلة الماضية هجمة مضادة قامت بها تيارات يسارية ما زالت ترى للدولة أدواراً تلعبها لتقدم ورفاهية الشعوب، خاصة الطبقات العاملة والفقيرة. وكانت أهم حصيلة على الأرض لهذه الهجمة المضادة هو التقدم الذي حققته قوى اليسار في انتخابات أمريكا اللاتينية خلال السنوات الماضية. لكننا هنا في المنطقة لازلنا بعيدين عما يحدث هناك. لم يستطع اليسار العربي حتى الآن تقديم تعريفاً جديداً لدور الدولة الاقتصادي والاجتماعي يتجاوز التجارب التي تم تطبيقها في الخمسينيات والستينيات. ناهيك عن أن حالة اليسار بلبنان ومصر ومختلف البلدان العربية لا تسر. ولكن من يراهن على الدولة في لبنان ليس في رفاهية عدم الرهان على اليسار ذلك التيار الذي يعلي من شأن فكرة التضامن الاجتماعي من خلال الدولة. فالرهان على الدولة من خلال جيشها فقط أو وظيفتها الأمنية فقط لا يكفي. الدولة اللبنانية - إذا كان لها أن تحفظ تماسك هذا المجتمع – مدعوة لكي تمارس دوراً أكثر بكثير من وقوفها على الطرقات لكي تتفحص بطاقات الهوية ولكي تفصل بين الأطراف الطائفية المتصارعة. بدون إعلاء شأن دولة الرفاهية والعدالة الاجتماعية، لن تستطيع فكرة الدولة أن ترسخ أقدامها في لبنان.