فحولة الدولة وانوثة المجتمع


سامر سليمان
2007 / 8 / 31 - 10:15     

"هاجموا عبد الناصر كما تريدون، لكنه كان راجل." هذا نموذج مما قيل في ذكرى يوليو هذا العام. " 55 عاماً على الثورة.. من الفحولة إلى العجز الجنسي.".. نموذج ثاني. و "الدولة حدث لها ارتخاء تحت حكم السادات ومبارك." نموذج ثالث. هذه نماذج بسبب عفويتها وصراحتها واستعارتها للمفردات الجنسية تساعدنا على كشف رواية خاطئة – لكن منتشرة – لقصة ترهل وضعف الدولة المصرية. سنتخذ من هذا النماذج مدخلاً لفكرة المقال التي مفادها أنه لا يمكن الحديث عن ترهل وضعف للدولة في مصر بدون ذكر للفريسة الكبيرة التي ابتلعتها الدولة في عهد نظام يوليو ولم تستطع هضمها أبداً.. هذه الفريسة هي المجتمع المدني

فلنمشي مع الرواية ونقول أن الدولة (الرجل) انحدرت من الفحولة في الخمسينيات، إلى العجز الذي بدأ في السبعينيات ووصل الآن إلى القمة. السؤال هو لماذا هذا الانحدار؟ الإجابة المطروحة في الرواية السائدة هي أن الدولة لم يتول عليها رجل صالح بعد غياب الرجل المؤسس.. ناصر. وأن رجالاً آخرين (أي دولاً أخرى استعمارية) استطاعوا إخصاء هذه الدولة. حسناً.. إذا كانت الدولة في هذا التشبيه هي الرجل، فمن تكون المرأة؟ المرأة هنا هي المجتمع.. هي الشعب.. هي مصر، التي تظهر كثيراً في الفن باعتبارها امرأة. وهذا التشبيه جعل من المجتمع عنصر ثانوي في تفسير ما حدث في مصر، كما أن المرأة لا تذكر في الروايات الرسمية إلا باعتبارها خاضعة للرجل.
الحق أنه لا يمكن قراءة تاريخ الدولة المصرية بدون وضع هذه الدولة داخل المجتمع التي تقوم عليه وتدخل في علاقات معه. الدولة ليس لها وجود خارج المجتمع، سواء لأنها تبرر وجودها نفسه بخدمة هذا المجتمع أو أطراف فيه، أو لأنه لا تقوم لها قائمة إلا بفضل الموارد المادية والبشرية التي تستقطعها من نفس المجتمع. فكيف لنا أن نقرأ التاريخ الحديث للدولة المصرية بدون الخوض في المجتمع؟ الحقيقة أن المجتمع مفهوم واسع جداً صعب الإمساك به. فلنتحدث عن جانب من المجتمع.. عن المجتمع المدني، عن التنظيمات والتجمعات التي يقرر الناس تكوينها بشكل طوعي وحر لكي ينظموا بها أمور حياتهم، ويدافعوا بها عن مصالحهم، عن النقابات التي ينتظم فيها أبناء العاملين في المهن، عن جمعيات الأحياء التي يقيمها الناس للارتقاء بظروف حياتهم اليومية، الخ.
لقد أفاضت الدراسات الاجتماعية والسياسية في بيان أن الدولة في عهد نظام يوليو قد ابتلعت المجتمع المدني المصري الذي كان ينبض بالحياة من قبل. من المؤكد أن ابتلاع الدولة للمجتمع المدني قد أدى إلى خنقه. هذه هو الوصف العلمي السائد لتأثير دولة يوليو على المجتمع المدني. وهذه أحد إسهامات الاتجاه اللبرالي في العلوم الاجتماعية. فهذا الاتجاه ينظر للدولة بريبة، ويرى أن الدولة هي نقيض المجتمع المدني، إذا تمددت الدولة كان ذلك على حساب المجتمع المدني، وإذا قوي المجتمع المدني ضعفت الدولة. لذلك تم اختصار مشكلة مصر في أن لديها مجتمع ضعيف ودولة قوية. لم يكن الآسف لخنق الدولة للمجتمع المدني من نصيب التيار اللبرالي فقط. فبعض جماعات اليسار نظرت بأسف أيضا لخنق المجتمع المدني. صحيح أن الأطراف الأساسية فيه كانت تعبر عن الطبقات المالكة، وصحيح أن الطبقات العاملة لم يكن لها نفس حقوق التنظيم في المجتمع المدني، إلا أن اليسار كان يعمل في المجتمع المدني هذا، ويراهن على أن الطريق مفتوح أمام نضال الطبقات العاملة.. فالديمقراطية تكون أولاً للطبقات المالكة، ولا تحصل عليها الطبقات العاملة إلى بشق الأنفس وبصراع طويل تسيل فيه بعض الدماء وتتكسر فيه الكثير من العظام.
لقد أفاضت الكتابات العلمية في الإجابة على سؤال كيف خنقت دولة يوليو المجتمع المدني. ولكنها لم تساهم كثيراُ في الإجابة على سؤال كيف أثر التصاق المجتمع المدني بالدولة على الدولة نفسها. الإجابة على هذا السؤال تأخرت كثيراً، غالباً لأن المدارس الأساسية التي اهتمت بتأثير المجتمع المدني على الدولة – الماركسية والماركسية الجديدة – لم تجد من يتحمس لها كثيراً لدى الباحثين الذين درسوا مصر، الأجانب منهم والمصريين. ولكن السؤال جدير فعلاً بعناء البحث. من المؤكد أن إلحاق منظمة هامة مثل اتحاد الصناعات المصرية بالدولة في الخمسينيات وإعطاء وزير الصناعة الحق في تعيين رئيس هذا الاتحاد قد أثر على وزارة الصناعة وعلى الدولة كما أثر على الرأسمالية الصناعية. فوزارة الصناعة والدولة لم تعد هنا منظمة (بكسر الظاء) للصناعة، بل أصبحت ممثلة للأطراف القوية برأسمالها أو بنفوذها في الصناعة، أكانوا رجال أعمال أم مدراء شركات القطاع العام. بالضبط كما أن وزارة القوى العاملة التي استحدثت في دولة يوليو ليست منظمة لعلاقات العمل بقدر ما هي ممثلة للأطراف القوية بنفوذها وعلاقاتها السياسية والأمنية في الطبقة العاملة.
الدولة التي أراد لها نظام يوليو أن تكون سيدة على تشكيلات المجتمع المدني انتهى بها الحال بأن أصحبت خادمة وسيدة في نفس الوقت.. خادمة للنظام وللمجموعات ذات الثروة والنفوذ في المجتمع المدني، وسيدة على الأفراد والجماعات التي تفتقد للثروة وللنفوذ. انهمكت إذن المجموعات القوية في مختلف قطاعات المجتمع في الصراع على الدولة. هذا ما أدى إلى ما يشبه انفجار الدولة إلى إقطاعيات تحظى باستقلال ذاتي ومسيطر عليها من قبل مجموعات وشلل مطلقة اليد في إقطاعياتها طالما هي تؤدى ما عليها من ضرائب" وإتاوات للمجموعة الحاكمة في مركز النظام السياسي. الدولة المصرية تشهد عملية خصخصة، جذورها تمتد إلى الخمسينيات. سياسات الخصخصة التي انطلقت عام 1990 – أيا كانت طريقتها وأيا كان منفذها وأيا كان المستفيد منها – هي مجرد اعتراف بالأمر الواقع وفي أحسن الأحوال هي محاولة من المجموعة الحاكمة لتنظيم لتقطيع أواصر الدولة، وهي بهذا المعنى ليست إجابة على مشاكل الدولة المصرية.. المشكلة في مصر ليست فقط مشكلة العام الذي تغول وسيطر على الخاص، ولكنها أيضاً مشكلة العام الذي ابتلع الخاص فدخل هذا الخاص في "جينات" العام فأصبح شبه عام. وهكذا نحن نتعايش الآن مع دولة شبه دولة. الأمر يتطلب برنامج علاج مكثف لكي يلفظ العام الخاص، ولكي تلفظ الدولة أطراف المجتمع المدني التي سيطرت عليها. فمن هو الطبيب المعالج الذي سيطارد الخاص داخل العام ويطهر الدولة من أصحاب النفوذ في المجتمع المدني الذي خصخصوها لحسابهم؟