انهيار الاستراتيجية الأمريكية في العراق وصراع الأفكار

معقل زهور عدي
2007 / 8 / 28 - 10:23     

اذا كان من المبكر اليوم الحديث عن هزيمة أمريكية تامة في العراق ، فمن غير المبكر – ربما – الحديث عن هزيمة الاستراتيجية الأمريكية للمحافظين الجدد في العراق والمنطقة العربية ، وفي حين تغرق مراكز البحوث الأمريكية في البحث عن بدائل للاستراتيجية المنهارة ، أشعر ان من المناسب التفكير في تداعيات هذا السقوط على صعيد صراع الأفكار في المنطقة العربية .

في هذا السياق ترافق صعود الاستراتيجية الأمريكية البالغ ذروته لحظة احتلال بغداد ببزوغ فكرة ديمقراطية المكونات باعتبارها حلقة وسيطة بين الديمقراطية الغربية والاستبداد العربي ، وتم تقديم ديمقراطية المكونات بأسماء وعناوين شتى ، وانجزت فيها الأبحاث باسم الديمقراطية التوافقية على سبيل المثال ، لقد كان أول شيء فعله الاحتلال الأمريكي بعد تدمير الدولة العراقية هو ارساء مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية الذي يشكل جوهر فكرة ديمقراطية المكونات .

للحظة من اللحظات بدا وكأن ذلك المبدأ قدر لابد منه ، تماما مثل قدر خضوع العراق والمنطقة العربية الى حقبة جديدة من الهيمنة الأمريكية المباشرة ، يمكن لنا اليوم القول بشيء من الثقة ان ذلك القدر قد تغير ، فبفضل المقاومة العراقية التي لايريد كثيرون الاعتراف بقوتها وتأثيرها البالغين تم تحطيم القدر الأمريكي القادم ، وأصبحنا نرى بجلاء كيف تتراجع الأفكار التي جاءت مع الغزو الأمريكي للعراق ، فاياد علاوي القادم على الدبابات الأمريكية يقول اليوم بوضوح مابعده وضوح ان الخلل في النظام السياسي العراقي الحالي يرجع أساسا لفكرة المحاصصة الطائفية ، وان لامخرج للعراق بغير مراجعة الأساس الذي يقوم عليه ذلك النظام واستبداله بنظام ديمقراطي وطني ، وحين يكون اياد علاوي ذاته هو من يقول بذلك فذلك يعني الكثير على صعيد صراع الأفكار .

في سورية تأثر بعض المثقفين من العرب والأكراد بمقولة ( ديمقراطية المكونات ) ، وللأسف فقد مر وقت أصبح ينظر فيه البعض الى التجربة العراقية التعيسة كمثال يحتذى ، وربما يتمنى بعض هؤلاء اليوم لو ينسى الناس كتاباتهم ، لكن المؤسف أن البعض الآخر مازال يردد فكرة ديمقراطية المكونات كمن فقد الاحساس بالزمن وفهم المتغيرات .

منذ البداية وقفت ضد فكرة ديمقراطية المكونات على طول الخط ، وحاولت أن أبين خطأها وخطرها على مستقبل سورية السياسي ، كما حاولت فضح كل الأقنعة التي التي تختفي وراءها تلك الفكرة ، لكن الفضل الحقيقي في سقوط تلك الفكرة يعود في الحقيقة لسقوط الاستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة بفضل المقاومة .

تبين تجربة لبنان – وليس العراق فقط – عقم الديمقراطية الطائفية ، وفداحة القيود التي تكبل بها المجتمع مانعة قواه الحية من التقدم ، ومستعيدة كل فترة لدورات من العنف والتعصب لاتنتهي .

لقد كانت كارثة بالفعل أن يقتنع بعض المثقفين العرب والأكراد بذلك النموذج السياسي الرجعي ، وأن يبذلوا ما في وسعهم لتسويقه تحت دعوى الديمقراطية والخلاص من الاستبداد ، لكن ذلك التبني لديمقراطية المكونات لم يكن بريئا بقدر ما كان محاولة للتكيف مع متطلبات الاستراتيجية الأمريكية للهيمنة على المنطقة العربية .

يذكر الجميع كيف خرج اعلان دمشق بفكرة المكونات ، وكيف نالت تلك الفكرة الكثير من النقد ، وكيف اضطر الاعلان للتراجع عنها في توضيحاته الشهيرة ، لكن الغريب أن البعض ضمن الاعلان مازال متمسكا بها بغض النظر عما آلت اليه في العراق حيث أوضحت التجربة الواقعية مدى فساد تلك الفكرة ومساهمتها في ادخال البلاد في فوضى لانهاية لها .

العملية الديمقراطية الوطنية لايمكن تأسيسها سوى على الأحزاب السياسية ذات البرامج الاجتماعية والسياسية الواضحة والبعيدة كل البعد عن أية مؤثرات عنصرية او طائفية ، فالمواطنة وحدها هي المرجعية المفترضة لممارسة الديمقراطية ، ومثل تلك العملية الديمقراطية ليست بدعة من البدع ولا أمرا معجزا فقد مارسها الشعب السوري بنجاح لفترة طويلة من الزمن خلال الخمسينات من القرن الماضي . لقد حاول الذين بشروا بديمقراطية المكونات جر الشعب السوري نحو الوراء ونحو وصفة مضمونة للفوضى والانقسام .

في صراع الأفكار يمكن القول ان فكرة ديمقراطية المكونات قد سقطت اليوم مع سقوط الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة العربية ، لكن بين سقوط الفكرة وتقدم نقيضها تقع مسافة لابد أن تملأها الشعوب وقواها الحية بالنضال والألم .