رهانات اليسار اليوم


حزب العمل الوطني الديمقراطي
2007 / 8 / 25 - 09:15     

ليست معرفة ما إﺫا كان في وسع الفكر الإنساني أن يصل إلى حقيقة موضوعية مسألة نظرية بل مسألة عملية وينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة - أي واقع الفكر و قوته وقوامه - من خلال الممارسة.
إن مناقشة واقع الفكر أو لا واقعية الفكر بمعزل على الممارسة ليست سوى مناقشة مدرسوية.
ماركس "أطروحات حول فيورباخ"



"اليسار" مجلة نظرية فكرية تسعى إلى طرح قضايا للمساءلة والبحث والحوار دون الإدعاء أنها تمتلك الحلول النهائية والحقيقة المطلقة. و هي تسعى إلى بذل مجهود فكري نقدي بتقديم مقاربات متنوعة ومختلفة حول أهم اهتمامات الفكر الإنساني اليساري التقدمي عامة و الفكر اليساري التقدمي العربي خاصة.

الواقع السياسي و حرية التفكير:

إن الأنظمة السياسية في الوطن العربي لم تجد حلا لأزمتها المتفاقمة إلا عبر السيطرة على الأذهان و على الألسن في نفس الوقت و لم تدرك بعد قول سبينوزا "لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسن لما وجدت أية حكومة نفسها في خطر و لما كانت أي سلطة في حاجة إلى استعمال العنف" و هذا يعني أن السلطة السياسية يسهل عليها السيطرة على الألسن – حق التعبير – و لكن يستحيل عليها السيطرة على التفكير و ذلك لأن الإنسان لا يمكن أن يتنازل عن حقه الطبيعي كله و لا عن قدرته عن التفكير في كل الظروف فضلا عن ذلك لن تستطيع السلطة منع البشر "من أن يكتشفوا يوما أمرا تشهد له أيسر التجارب وهو أن كل واحد منا يفضل طريقته الخاصة في التفكير عن كل ما سواها و أن الأفكار يلحقها من التباين ما يلحق الأذواق". إذا فالسلطة السياسية التي تمنع الإنسان حقه في التعبير أو حقه في التفكير هي سلطة سياسية ظالمة و إن نقدية كانط برهنت على التلازم بين حرية التفكير و حرية التعبير باعتبار التفكير يشترط التواصل مع الآخر، لذلك فإن السلطة التي تمنع الإنسان من حرية التواصل هي التي تمنعه من حرية التفكير. لذلك تسعى "اليسار" إلى تحقيق هذا التواصل بين قوى اليسار عبر تأسيس حوار حول أهم الإشكاليات الموضوعية و الذاتية.

الإشكاليات النظرية و الثقافية:

إن النظرية كذلك، تصبح قوة مادية "حينما تتغلغل في الجماهير" (ماركس. نقد فلسفة الحق لهيڤل).

ولكن أي نظرية يقصد ماركس؟ هل نظرية 1844؟ أم النظرية التي تعلن أن الإنسان هو الماهية العليا للإنسان؟

إن النظرية باعتبارها فلسفة لذلك يطرح ماركس هذه المسألة ضمن علاقة بروليتاريا فلسفي و ليس علاقة بروليتاريا فلاسفة لأنه يعتبر أنه بقدر ما تجد الفلسفة في البروليتاريا أسلحتها المادية بقدر ما تجد البروليتاريا في الفلسفة أسلحتها الفكرية، فرأس التحرر هو الفلسفة و قلبها هو البروليتاريا.

فالماركسية هي فلسفة الممارسة و لكن ماركس لا يعني أية فلسفة و أية ممارسة، فهو لا يريد أن يحقق الفلسفة بأي شكل من أشكال الممارسة و لا يعني بذلك ممارسة الفيلسوف بالمعنى المألوف أين يجب أن يعود الفيلسوف إلى الكهف أو يجب أن يهتم بالشؤون العامة و لكن الممارسة المطلوبة من الفلسفة في منظور ماركس هي ارتقاء البروليتاريا إلى الممارسة الثورية. لذلك هناك إشكالية مضاعفة يعيشها اليسار وهي :

أوّلا كيف يقاوم اليسار الذي يحمل مشروعا فكريا تقدميا إنسانيا سيطرة الفكر البرجوازي الرجعي العالمي و هو عاجز عن تحويل النظرية إلى قوة مادية و تحقيق الوحدة بين الفكرة و الجماهير.

ثانيا إذا كانت إجراءات اليسار هي إجراءات التغيير و التحرر و الحرية و البديل الاشتراكي، فما هي الآليات و الإجراءات و الأشكال النضالية الراهنة التي بموجبها يحول النظرية إلى قوة مادية.

فالنظرية في منظور غرامشي تصبح قوة مادية ليس حينما تكون وعيا بالذات مُطلقة الرغبة التي تدفع إلى الفعل، و لكن خاصة كوسيلة تنظيم متكيفة مع الواقع موضوعيا بمعنى ممارسة عقلانية و ناجعة منذ انطلاقتها. هذه الممارسة المُغيرة في نفس الوقت لذاتها و موضوعها و التي تصبح مادة لوعي بالذات جديد نظري منظم لدرجة جديدة للممارسة... إلخ

الإشكاليات السياسية :

إن فشل اليسار في تحقيق أهدافه السياسية الراهنة التي يعيشها و المجسدة في التفكك و التراجع و التراكم المؤدي إلى الاستقالة و الانهيار. و إن عدم قدرة اليسار على تحويل النظرية إلى سياسة فاعلة يُفقدها القوة المادية الضرورية لتغيير الواقع. إن عدم تحقيق و حدة جدلية بين ما هو استراتيجي و ما هو تكتيكي في البرنامج السياسي يؤدي بها إلى التهميش و الارتباك و العزلة و التشتت و العمل النخبوي. ففصل اليسار بين ما هو نظري و ما هو عملي و بين ما هو إيديولوجي و ما هو سياسي و بين النهج الوطني و المضمون الديمقراطي وبين الماركسية و القومية لذلك رسم حدود هذه القضايا و تحديد شروط إمكان تحقيقها هي أهم الإشكاليات السياسية المطروحة على اليسار اليوم.

الإشكاليات التنظيمية :

إذا كانت وحدة الوعي لدى الطبقة العاملة هي التي تسمح بممارسة مستقلة وهي في نفس الوقت وسيلة التحرر و هدفه في المنظور الماركسي من يكون المنظم لهذا الوعي؟

فالطبقة المستغلة عاجزة عن تحقيق ذلك بحكم كونها سجينة وعي مقترب فمشكل التنظيم هو في الواقع مشكل سياسي بامتياز لأنه يشمل في نفس الوقت العلاقة بين الطبقات و عملية التنظيم الداخلي لطبقة ما. و يمكن الاستفادة من تجربة غرامشي النظرية في هذا الموضوع بقوله "الوعي الذاتي النقدي يعني تاريخيا و سياسيا خلق لنخبة من المثقفين فالجماهير الإنسانية لا يمكن أن تتميز، و لا يمكن أن تصبح مستقلة بنفسها دون أن تنتظم (بالمعنى الواسع)، و لا يمكن أن يوجد تنظيم دون مثقفين، بمعنى دون منظمين و دون قياديين، دون أن يتميز عينيا المظهر النظري للوحدة – نظرية و تطبيقا – في فئة من الناس المختصين في الإعداد الفكري و الفلسفي".

إن فشل اليسار التاريخي و الراهن في القدرة على تنظيم الجماهير، و في بناء تنظيم ديمقراطي يجسد الديمقراطية الداخلية لأحزاب اليسار و يضمن حق الاختلاف و التداول على المهام هي واقعة لا يمكن إنكارها فالتجربة الرائدة للبلاشفة و الأحزاب الشيوعية في العالم التي أنتجت عبادة الشخص، و طمس الاختلاف و تصفية الكوادر الحزبية و إنتاج بيروقراطية داخل الحزب و تجسيد وحدة زائفة للوعي و عدم تطوير فكرة المركزية الديمقراطية مما حول الحزب إلى جهاز بيروقراطي و أكّد عجزه عن تحويل النظرية إلى قوة مادية.

إن فشل قوى اليسار العربي عامة و اليسار في تونس خاصة ليس إلا امتدادا للتجربة التنظيمية للحركة الشيوعية العالمية. إن هذه الأسباب كافية لمراجعة مسألة التنظيم اليساري و تأسيس حوار حول إشكالياته.

1/سيطرة الفكر الرجعي البرجوازي العالمي و رهانات اليسار النظرية و الثقافية

ففي ظل هيمنة تكاد تكون مطلقة للرجعية الفكرية العالمية والعربية وعودة الفكر الظلامي،يحتاج اليسار إلى مراجعة قراءاته لمواجهة "أصنام العقل" إﺫ أن هذا التخلف الفكري المسيطر على الواقع العربي يذكرنا بقول ماركس أن الميت يحكم الحي.

وإن مدح ماركس للطبقة البرجوازية في "البيان الشيوعي" باعتبارها طبقة تقدمية لا يعني أن البرجوازية العالمية في ظل مرحلة امبريالية العولمة لا تتحول إلى طبقة رجعية. وتأكيد منظري إيديولوجيا الرأسمالية على نهاية التاريخ و نهاية الصراع الطبقي ونهاية الايدولوجيا وموت الشيوعية ونهاية الماركسية ونفي العقل والدعوة إلى حلول لا عقلانية عدمية ليس إلا مظهرا من مظاهر هذه الرجعية.

بل نشطت الدعوة إلى التراجع عن حقوق الشعوب و حقوق الإنسان التي نظر لها وأسسها فلاسفة النهضة وفلاسفة التنوير في المرحلة التي كانت فيها الطبقة البرجوازية صاعدة تقدمية. فالأجوبة التي تعطيها الرجعية اليوم عن معضلات صراع الطبقات في محتواها وشكلها وطريقتها بل أسلوبها نفسه، ليست إلا أجوبة لا عقلانية وهذا ما عبر عنه "جورج لوكا تش بقوله: "إن اللاعقلانية ظاهرة دولية للطور الامبريالي" فهناك حقيقة واحدة لا تخضع للشك في منظور الرجعية العالمية هي مبدأ المردودية وكل الحقائق الأخرى هي أوهام.

وتسعى البرجوازية العالمية اليوم إلى تطويع الإنسان وتحويله إلى إنسان مستهلك ومتشيئ لتسلب منه كل إرادة على المقاومة و الرفض والنقد والاحتجاج بل تسعى هذه الطبقة بكل الوسائل إلى تحويل كل القيم الإنسانية الكونية إلى سلعة لتحل قيمة التبادل محل كل القيم و قد أوضح ماركس ذلك حينما اعتبر أن النظام الرأسمالي يجعل من قيمة المال قيمة القيم.

ففي ظل سيطرة منطق السوق وهيمنة منطق الربح الأقصى تسعى الطبقات المستغلة إلى استبعاد الطبقة العاملة العالمية والفئات الشعبية من الصراع الطبقي عبر فرض ثقافة الاستهلاك والفكر الرجعي و إيديولوجيا الاستغلال والاغتراب. فالامبريالية في ظل العولمة تمارس هيمنة اقتصادية وسياسية وعسكرية و ثقافية وهي تؤسس لثقافة الاستهلاك والامتثال والانهزام و اللاعقلانية واللاأدرية والقدرية والعدمية. لذلك يستعمل منظرو البرجوازية العالمية أو السفسطائيون المعاصرون كل الأسلحة المعرفية من استدلالات وحجج ومغالطات لإقناع الطبقة العاملة العالمية والشعوب المضطهدة بأنه محكوم عليهم بالفقر والجهل والبطالة واللامساواة و اللاّ عدالة والاستعمار المباشر وغير المباشر والاستيطان الصهيوني. وكأن هناك ضريبة يجب أن يدفعها العمال و الشعوب الضعيفة من أجل تحقيق الربح الأقصى والمحافظة على توازن الرأسمال العالمي تتمثل في التنازل عن حقوقهم المدنية والثقافية والاجتماعية والسياسية بحيث لا يتمتعون إلا بحق الموت.

إلا أن مقاومة الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة للعولمة الليبرالية التي تجسدت في الملتقيات الشعبية الدولية المتعددة للحركات المناهضة للعولمة والحملات الجماهيرية ضد المشاريع السياسية للمنظمة الدولية للتجارة وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي تمثل بداية وعي جماهيري عالمي بخطورة العولمة يجسد شكلا جديدا من النضال من أجل عولمة بديلة.

إن وعي اليسار بخطورة هذا الفكر الرجعي المتخلف و سيطرته المتصاعدة يدفعه إلى مقاومة فكرية ونظرية وسياسية لهذه السيطرة الرجعية الظلامية وذلك بالسعي إلى تجاوز التحجر الفكري و الجمود العقائدي والقراءات الدغمائية عبر إنتاج ثقافة فكرية نقدية تقدمية تتميز بالحداثة يحكمها في ذلك مبدأ أساسي هو أن سلاح النقد لا يمكن أن يعوض نقد السلاح.

2/التحولات العالمية ورهانات اليسار السياسية

كما يطمح اليسار إلى المساهمة في تطوير الوعي التقدمي والقطع مع الفكر الرجعي و الظلامي. فالتحولات العالمية في نهاية القرن العشرين بدءا بسقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة وأحداث 11 سبتمبر أدت إلى ظهور القطب الواحد الذي يقود العالم و هذا يعنى السيطرة المطلقة للإمبراطورية الأمريكية بقيادة أكثر السياسات رجعية في العالم. إن النظام العالمي الجديد لإمبريالية العولمة والهيمنة السياسية والاقتصادية الفكرية والثقافية التي تفرضها على الشعوب وعلى الطبقة العاملة العالمية عبر مشاريع سياسية مختلفة لا يحكمها إلا منطق السوق والربح الأقصى.

إن الإقرار بهذه التحولات العالمية يفرض على اليسار إعادة النظر في طريقة إدراكه لهذا الواقع العالمي من أجل فهم الأبعاد الحقيقية والمميزات والتأثيرات الفعلية للعولمة والبحث عن أشكال نضالية جديدة لمقاومتها.

ما هو دور أحزاب اليسار تجاه العولمة الرأسمالية؟ إن التحرر من أخطاء الماضي السياسية و التنظيمية و التخلص من فكرة الأحزاب الضيقة الكلاسيكية و من فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة و من فكرة الزعامة الفردية هي الشروط الضرورية الأولى لمواجهة عنف العولمة وتأسيس أحزاب جماهيرية قادرة على تغيير الواقع و في ﺫلك تجسيد لمقولة ماركس "يا عمال العالم اتحدوا"

3/أزمة الواقع العربي و مهمة اليسار

إن أزمة الواقع العربي ترتبط أشد الارتباط بالواقع السياسي والاقتصادي العالمي. ففي ظل عصر امبريالية العولمة، تعيش البلدان في الوطن العربي أزمات متلازمة ومتفاقمة.

الأزمة الأولى:

هي أزمة سياسية تجسد طبيعة النظام السياسي الذي أصبح مرتهنا وخاضعا لشروط الامبريالية الأمريكية إضافة إلى استجابته الكاملة لشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة الدولية أضف إلى ذالك التراجع الكبير في الأهداف السياسية الكبرى وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي والتوافق في هذا الجانب مع السياسة الأمريكية الإسرائيلية حفاظا على المصالح الطبقية للشرائح البيروقراطية والكمبرادورية الحاكمة في البلدان العربية إذ أن هناك تحالفا بين البرجوازية البيروقراطية و البرجوازية الكمبرادورية والفئات البرجوازية المزيفة في كل البلاد العربية وهذا يعني أن هناك أنظمة عربية ذات توجهات مناهضة للمصالح الوطنية والقومية.

الأزمة الثانية:

هي أزمة مجتمعية تجسد التخلف الناجم عن التبعية واستمرارها ثم انتقالها من أشكال التبعية الاقتصادية إلى تبعية ثقافية وسياسية ونفسية، إنها أزمة تعطيل مسار النقلة الديمقراطية البانية لمجتمع مدني على أرضية وطنية مستقلة. فالوضع الاجتماعي والاقتصادي يولد علاقات اجتماعية متخلفة تتجسد في عودة سيطرة العلاقات القبلية والعشائرية و الجهوية في العديد من البلدان العربية ويبرز هذا التخلف في الجوانب الأصولية والدينية المتزمتة وهي أصولية رجعية غير مستنيرة تسعى إلى إعادة مجتمعاتنا إلى أشكال موغلة في الزمن القديم.

الأزمة الثالثة:

وهي خطيرة تتمثل في الأزمة الاقتصادية التي دفعت بالأوضاع العربية إلى حالة الارتهان الكامل للمصالح المشتركة بين الشرائح الطبقية الحاكمة في البلدان العربية والتحالف الكمبرادوري الواسع مع القوى الرأسمالية الامبريالية في الكثير من الجوانب التجارية والمالية، فالودائع العربية في البنوك الغربية تبلغ 900 مليار دولار في حين تعيش المجتمعات العربية الفقر و البطالة والتهميش.

إن هناك فجوة بين قلة تملك ثروات هائلة لدى البنوك الغربية وأغلبية ساحقة من الجماهير تعيش البطالة و الفقر.

إن هذه الأزمات الثلاث تؤكد انسداد الأفق السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقتضي إصلاحات سياسية جذرية تنقذ الوطن العربي من التهميش والتخلف.

فالوعي بهذه الأزمة في الوطن العربي يفترض الإقرار بأن التلازم بين الديمقراطية والثورة أصبح مسألة بديهية، الديمقراطية من أجل الثورة والثورة من أجل الديمقراطية فلا يوجد برنامج سياسي آخر حول الصراع الطبقي المناهض للامبريالية.

كما أن الوعي بهذه الأزمة يدفع اليسار العربي إلى النضال من أجل إنجاز مهام مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي وذلك باعتبار اختيار المقاومة وهو اختيار مشروع وضرورة وجود أفقه إقامة أنظمة سياسية وطنية ديمقراطية. وضرورة امتلاك رؤية وبرنامج سياسي يجسد العلاقة الجدلية بين القومية و الماركسية ويستند إلى الماركسية باعتبارها الفكر الأكثر قدرة على تحليل آليات وقوانين الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وباعتبارها منهجا للبحث ونظرية للتغيير.

فاليسار العربي بحاجة إلى تأسيس "كتلة تاريخية" تجمع التيارات السياسية الوطنية والديمقراطية والتقدمية في الوطن العربي عامة وفي المجتمع التونسي خاصة وتوحد اليسار والقوميين والديمقراطيين عموما لمقاومة العولمة الليبرالية المتوحشة ومناهضة الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية والتصدي لمشاريع الاستبداد السياسي و مشاريع الاستبداد البديلة و على رأسها الاستبداد بإسم الدين فلا يمكن لأي تيار سياسي يساري أن يقوم وحده بعملية التغيير. وتؤكد التحولات العالمية وأزمة البلدان العربية حقيقة رئيسية هي ضرورة وحدة اليسار عالميا ووحدة اليسار العربي ووحدة اليسار في تونس.

4/إعادة تأسيس اليسار

إن مجلة "اليسار" بقدر ما هي منفتحة على جميع القراءات النظرية اليسارية المختلفة لأنها تعتبر شرط الحوار داخل اليسار هو الإقرار بالاختلاف فإنها لا تتسامح مع القراءات التي تؤكد على أبدية الرأسمالية و توهم بعدمية النضال و المقاومة ضد نظام العولمة المتوحش.

فالانفتاح على قراءات فكرية سياسية لمفكرين مثل سمير أمين و جورج لابيكا وبورديو وباديو وغيرهم من المبدعين اليساريين وكذلك الانفتاح على كل المساهمات النظرية لكل التجارب الثورية في العالم هو شرط معرفي ضروري بل هو شرط إجرائي توليدي لإعادة تأسيس اليسار في مختلف قراءاته السياسية للواقع في مختلف مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومراجعة نزاع التأويلات المتعددة للماركسية ورهاناتها الفكرية الراهنة من أجل إعادة بناء اليسار سواء على مستوى الأسئلة التي يطرحها أو على مستوى الأجوبة التي يتوصل إليها. ومن أجل تصحيح المقاربات اليسارية وتوسيعها وإكمالها والسعي إلى إدراك أخطاءها التاريخية.

إن مجلة اليسار لا تسعى فقط إلى طرح أسئلة الضعفاء والمستغلين حول الإشكاليات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في عالم اليوم بل تسعى كذلك إلى تقديم أجوبة لهؤلاء الضعفاء حتى إن كانت أجوبة لا ترتقي إلى مستوى "اليقين المطلق" و لعل قول ماركس "لا تطرح الإنسانية على نفسها من الأسئلة إلا ما هي قادرة على حله" يؤكد على مشروعية ضرورة طرح اليسار لأسئلة حول الإشكاليات التي تطرحها التحولات الرأسمالية العالمية بل ومشروعية البحث عن أجوبة البديل الاشتراكي.

و "اليسار" تؤسس للحداثة باعتبار الحداثة مشروعا لم يكتمل بعد كما يقول هابر ماس، و عدم اكتماله حاضر بكثافة في واقعنا العربي بحكم عوامل إعاقة التحول الديمقراطي و المدني و نوازع الارتداد المتصاعدة.

"اليسار" تقف موقفا نقديا من الفكر الخرافي والفكر الظلامي و العقل الأداتي بل تقف موقفا ثوريا من كل الاعتقادات الوهمية سواء كانت اعتقادات المقدس أو اعتقادات العقل.

لهذا تؤسس "اليسار" لنظرية نقدية تواصلية بل تطمح إلى أن تكون النظرية الاجتماعية التي توحد بطريقة جدلية بين العقل و الثورة و بين القومية والأممية وبين الريف والمدينة و بين ما هو خاص وما هو كوني.

إن مجلة اليسار تسعى إلى إعادة تأسيس اليسار بل تطمح إلى أن تكون يسار اليسار، وذلك بمراجعة نقدية لسياسة اليسار الدغمائية في الوطن العربي من أجل تحديد الأسباب الحقيقية لفشل اليسار العربي و للأزمة الفعلية التي يعيشها والسعي إلى تقديم قراءة نقدية توحد جدليا بين ما هو إيديولوجي وما هو سياسي وبين ما هو استراتيجي و ما هو تكتيكي بالبحث عن الأشكال النضالية الجديدة التي بموجبها تتحول الفكرة إلى قوة مادية فلا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية تقودها.

يقول ماركس في كتابه "نقد فلسفة الحق" لهيغل:

"إن النظرية كذلك تصبح قوة مادية حينما تتغلغل في الجماهير". وتسعى اليسار كذلك إلى تحقيق وحدة جدلية بين ما هو وطني و ما هو ديمقراطي وبين النضال الطبقي والنضال الوطني وبين نقد السياسة وسياسة النقد وبين معارضة السياسة وسياسة المعارضة فليس من الضروري أن نؤكد على أهمية إنتاج دراسات ومقاربات نقدية لليسار لمواجهة هذه الردة التي يعيشها الفكر اليساري في الوطن العربي.

ويمكن الاستفادة من تجربة اليسار في أمريكا اللاتينية التي نجحت في تحقيق مكاسب اجتماعية سياسية لفائدة شعوبها ولفائدة الطبقات العاملة والفئات الكادحة عامة.

وعلى العكس فإن اليسار العربي يعيش حالة انتكاسة و تقهقر في تأثيره و مواقعه الإيديولوجية والسياسية.

فهل يكفي القول بأن الامبريالية و الصهيونية والأنظمة السياسية الرجعية وفرت كل الشروط لظهور الإسلام السياسي الأصولي في الوطن العربي من أجل مواجهة اليسار العربي خلال الحرب الباردة للقبول بهزيمة اليسار الفلسطيني وانتصار حماس في فلسطين؟ و هل هذا مبرر كاف لإضفاء مشروعية على فشل اليسار العربي.

إن مجلة "اليسار" مفتوحة لكل المساهمات النظرية للأحزاب والتيارات اليسارية و الشخصيات التقدمية التي تؤسس للوعي السياسي الوطني الديمقراطي والتقدمي.

إن اليسار العربي لم يحقق نتائج سياسية في مستوى تاريخه النضالي لذلك يجب مراجعة قراءة مختلف تجاربه النضالية من أجل تحديد أسباب فشله السياسي وعدم قدرته على انجاز أهدافه السياسية و مهامه التاريخية ورهاناته الوطنية والديمقراطية.

ويريد حزب العمل أن يجعل من مجلة اليسار منبرا لكل قوى اليسار و أداة فعالة لتأسيس هذا الحوار حول أهم الإشكاليات النظرية و السياسية و التنظيمية من أجل أن تصبح النظرية قوة مادية و تمرّ البروليتاريا إلى الممارسة الثورية و تنجز مهام حركة التحرر الوطني و يتحقق البديل الاشتراكي و عيا منه بأن البشر لا يولدون مواطنين و إنما يتربون على المواطنة.

المراجع :

1- سبينوزا : رسالة في الاهوت و السياسة

2- غازي الصوراني : مقال حول فشل اليسار - 18/06/2006

3- د. جورج حبش : مقال أزمة اليسار العربي...إلى أين – 11/05/2006

4- إنجلز : فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية – ترجمة محمد العريبي – دار التقدم للنشر و التوزيع تونس

5- Kant : Qu’est ce que s’orienter dans la pensée ?

Ed- Vrin 1959 P86-87

6- Gramsci: Œuvre choisies

Edition Française 1959

7- Hegel et Marx

La politique et le réel. Centre de recherche et de Documentation sur Hegel et Marx

Publication de la Faculté des Lettres et Sciences Humaines de Poitiers 1969 – 1970



إعداد : م. ز

تونس في 29 أفريل 2007