التكفير في العقل الإسلامي ، وجه آخر للصراع السياسي ومعضلات قبول الآخر

راشد مصطفي بخيت
2007 / 8 / 19 - 10:44     

مهمتنا في هذا المقال ، تتجاوز مهمة التأريخ الوقائعي ، لسلسلة من الأحداث ، في سياقها التاريخي ، من حيث علاقتها بواقع محدد له خصوصيته التاريخية ومسبباته الإجتماعية ، إذ أننا سنتعامل مع منظومة فكرية لها منطقها الخاص المتسم بظاهرة الإستمرارية التاريخية عبر العصور، وهي منظومة دفاعات العقل الإسلامي الأصولي المتمثلة في التكفير وظواهره التي كثر تكرارها من سحيق الأزمنة ، وإلي راهننا المعاصر .
فالذاكرة التراثية الإسلامية ، مكتظة بأحداث وظواهر التكفير ، علي مر أزمنتها المختلفة ، وبما أنها ، أي هذه الذاكرة ، تشكل في ذات الوقت ، أكبر المصادر المعرفية للعقل الإسلامي ، فإن إستمرارها وفق هذا القياس ، يضطرنا أن نعود صوب منابعها الأولي في دائرة التاريخ والتراث الإسلاميين ، وذلك من باب تكشف الصور والإرتباطات التي تجلت بها عبر ركام التاريخ ، ليس من باب النقد التجريمي عديم الأثر ، إنما محاولةً في الإسهام الدؤوب لكشف منابعها الأولي وفضح ما إتسمت به من إرتباطات شائهة ، في ميلها الحثيث لدوائر السلطة والسلطان أينما كانت ، وكيفما إتفق .
وتأصيل هذه الظاهرة في بنية التراث الإسلامي ، يوجب ضمن موجبات عدة ، ضرورة النظر إليها في منشأها التاريخي والكشف عن سافر هذه العلاقات المكونة لها ، بكون أنها ليست نبتاً شيطانياً أوقعه في طريقنا ، سؤ طالعنا السياسي فحسب ، إنما هي جزء من الممارسة الأصولية للتدين النفعي تطال فيما تطال كل المنتمين لهكذا تفكير، وربما تتفلت رويداً لتنفث سمها الزعاف حتي من بين صفوف المعتدلين أنفسهم . وفيما يلي نقوم بإستعراض جزءاً من هذه المادة التاريخية المتصلة ، علي سبيل النمذجة لا الحصر ، دون أدني إهتمام بتسلسلها التاريخي الذي وقعت به ، فنحن نسعي وفق هذه الدراسة التي نعتزم القيام بها ، النظر إلي هذه الظاهرة ، كبنية مكتملة العناصر لها محدداتها الخاصة ، ولها في نفس الوقت تجلياتها الأكثر خصصوصية .
يورد المفكر العربي ( محمد أركون ) في كتابه ( تأريخية الفكر العربي الإسلامي ) بعض الحقائق متحدثاً فيها بلسان الإمام الغزالي عن ظاهرة التكفير المذهبي التي تسللت إلي صفوف سائر الجماعات الإسلامية فيما بينها ، وهو يقول في ذلك " أعلم أن الذي ذكرناه مع ظهوره تحته غور ، بل تحته كل الغور . لأن كل فرقةٍ تُكفِّر مخالفتها في الرأي ، وتنسبه إلي تكذيب الرسول ، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعماً أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالي ، وفي الإستواء علي العرش ، والأشعري يكفره بالمثل ، زاعماً أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ( ليس كمثله شئ ) والأشعري يكفر المعتزلي زاعماً أنه كذب جواز الرؤية لله تعالي في إثبات القدرة والعلم والصفات له ، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعماً أن إثبات الصفات ، تكفيرٌ للقدماء وتكذيبٌ للرسول في التوحيد " . فكل فرقةٍ وفق هذا الحديث تكفر مخالفتها في الرأي وتنسب من بعد ، تكفيرها لسبب تكذيبها الرسول في بعض أحاديثه ، وفي ذلك بيان واضح لمطلقية الرأي والإعتقاد وأحقية التحدث إنابةً عن النبي ، مع حصر الصواب لجهة الفرقة التي تتدعي ذلك وخطأ ما تراه سواها من فِرَق ، والأزمة هنا جلية المنشأ التكوين ، ففي كل الحالات السابقة ، يغيب عن بال هذه الفرق ( المتكافرة ) حقيقة أن خلافهم الأساس يرجع في نهايه الأمر، لاختلاف طرق تفسير الحديث النبوي ، مع إدعاء مقدس بتمام الصحة في حالة الإنتساب لأياً من هذه الفرق في قرائتها ، وتخطئة قراءة الأُخري التي لا يجب أن تكون لها الحق في قراءة الحديث حسب معطياتها من آليات القراءة والتأويل . وهي طريقةٌ في النظر ، شديدة التمكن من عقل الجماعات الإسلامية الأصولية بحب أنها تطعن دوماً في كفاءة غيرها ، في ما يتصل بمعرفة أصول الدين والتدين ، وكيفيات قراة النص الديني وتفسيره ، ويعود في نهاية الأمر إلي خواص التحجر واللا تاريخية التي تشكل طرق تفكير هذه الجماعات ونظرتها إلي العالم ، بحيث يظل تصورها عن العالم ومشكلاته الراهنة ، ثاوياً في عمق التاريخ ولا يجب البحث عن إجابةٍ له إلا من الماضي البعيد فيما تمثل التعبير عنه بواحدة من مشكلات هذا القياس نفسه ، الذي يقوم بالأصل علي مبدأ قياس خاطئ مفاده ( قياس الشاهد علي الغائب ) وبهذا يكون الشاهد شاهداً فقط ، علي عدم وجوده ككيان فاعل ومن ثم لا يحق له البحث عن أي إجابات لمشكلاته الراهنة ، إلا في جُبّ هذا التاريخ المكتمل إلي يوم البعث ! .
هذا عن التكفير المذهبي فحسب ، وهنالك نماذج عديدة لتكفير فردي ، وصل في الكثير من الأحيان درجة القتل بأبشع الطرق ، تنكيلاً بصاحبه وعظة لمن لا يعتبر ! فالحلاج مثلاً أُهدر دمه وحُوكم من قبل الوزير ( أبا حامد ) ، فجُلد ألف سوط ثم قُطِّعت يديه وقدميه ، ثم حُرق بالنار ، وبعد موته حاول الوزير أن يتنصل عن تبعات إعدامه ، ويلقي بهذه التبعة علي عاتق الجميع فجمع الشهود والفقهاء الذين وافقو علي إعدامه وأوعز إليهم أن يجتمعو حول المكان الذي صلب فيه الحلاج ويصيح الجميع : " نَعَم أُقْتُله فَفِي قَتْلُه صلاح الجميع "! .
يلي الحلاج ( يحي شهاب الدين السهروردي ) (المقتول ) صاحب الفلسفة ( الإشراقية ) ، ولَقَب المقتول لحق اسمه تاريخياً بعد مصرعه علي يد سلطة الحكم الأيوبي في حلب سنة 587 هجرية ، إستجابةً لفتوي فقهاء حلب السنيين بكفره بعد مناقشة بينه وبينهم في مجلس السلطان الملا الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي . ونتوقف قليلاً عند ما أثارته ردود الفعل المضطربة تجاه نظرية ( أبو بكر الرازي ) لدي معاصريه عن عصره أمثال ( البيروني ) والشاعر الرحالة الفارسي ( ناصر خسرو ) في كتابه ( زاد المسافرين ) و( عبد الله بن أحمد بن محمود البُلخي ) رئيس معتزلة بغداد والعالم الطبيعي الشهير ( الحسن بن الهيثم ) و( بن حزمٍ الظاهري الأندلسي ) فنلحظ في مناقشات جميع هؤلاء المؤلفين ، وصفهم أبا بكر الرازي ب( المُلْحِد ) ويسود الإنفعال مناقشات البعض الآخر . ثم يأتي دور ( الجعد بن درهم ) الذي تتهمه السلطة الأموية بالكفر نتيجة معارضته السياسية لها ، فأصدر الخليفة هشام بن عبد الملك أوامره لواليه علي الكوفة ( خالد بن عبد الله القسري ) بالتخلص من ضحيته فأنتظر هذا إلي حين صلاة العيد ، وبعد فروغه من الخطبة قال للمصلين : " إنصرفو تقبل الله منكم ، فإني مُضحٍ بالجعد بن درهم ، فنزل من النبر وضبح أًضحيته " ! .
ويجئ دور ( معاوية ) الذي يفتتح أول خطبةٍ له بالمدينة بعد ولايته بالمقولة الشهيرة " إني والله ما وليتها بمحبةٍ منكم ، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة " ، ثم يأتي ما فعله ( بحجرٍ بن عدي ) وجماعته الذين أصرو علي لعنه بالمساجد رداً علي لعن الأمويين لعلي بن أبي طالب والذين تطورت معارضتهم إلي صدام مباشر مع ( زياد ) عامل معاوية علي الكوفة فأشهد عليهم سبعون رجلاً ، شهدو أن ( حجراً بن عدي ) " خلع الطاعة وفارق الجماعة " ثم بعث بهم ( زياد ) إلي ( معاوية ) فأعدم منهم سبعةً .
ثم يأتينا دور الإمام الغزالي ( المعتدل ) ، الذي وضع كتاباً عنوانه ( تهافت الفلاسفة ) رد فيه علي آراء الفلاسفة المسلمين ، معتبرأ آراءهم إلحادية وخارجة عن الدين . فقد حصر الإمام الغزالي آراء الفلاسفة في عشرين مسألة ، بدَّعهم في سبعة عشر منها وكفرهم في الثلاث . والملاحظ أن ظاهرة التكفير هذه عادةً ما تكون وثيقة الصلة بالمعارضة السياسية في أغلب الأحيان للنظام الحاكم ، ثم تكون في حيناً آخر مرتبطةً بمسائل الفكر والتفكر في أمر الدين والدنيا ، رغماً عن أن الدين الإسلامي ، يضع الحكمة والعلم والتفلسف في مقدمات مطالبه الأساسية بالنسبة لجمهور المسلمين ( الحكمة ضالة المؤمن / أطلبو العلم ولو في الصين / للمجتهد أجران .......إلخ ) وأن المُكفِّرون في جُل الأحوال لايجرؤون علي المجاهرة بأقوالهم للغير وهم في غمرة السلطة والسلطان ولايشهرونها إلي مع إشتداد أوقات الخصومة السياسية دعماً لمواقف السلطان نفسه ثم ينقلبون عليه بعد أن تذهب عنه سلطته .
والشاهد علي ماذهبنا إليه من حديث ، غزيرٌ بالنسبة لما راكمته خبرتنا في السودان مع هذا المرض العضال ، التي بدأت منذ زمن بعيدٍ من تاريخنا ، يعود لأيام الثورة المهدية ، حين أصدر العلماء منشوراً يكفِّر قائد الثورة بعد أن ثار علي الإستعمار التركي ، ووصفهم المهدي بأنهم ( علماء سوء ) ، ثم كُفِّر بعض أمراء المهدية الذين عارضو حكم الخليفة عبد الله التعايشي ، ثم عادو وكفرو الشيخ الجليل ( علي ود عبد الكريم ) وغيره من " فقرا الخلاوي " بطلب من الإدارة البريطانية حيث تخوفت من قدرته علي تهييج الجماهير ضدها في ذاك الوقت . ودار سجالٌ شديد مع بدايات النشاط المسرحي في السودان وقضي بعض الفقهاء بتكفير من يمارسه بينما قضي البعض بأن ( ناقل الكفر، ليس بكافر ) . وتم طرد الحزب الشيوعي من البرلمان أيضاً بعد حادثة معهد المعلمين العالي بإستغلال دعاوي الكفر والإلحاد أيضاً رغماً عن وضوح الدافع السياسي لذاك الحادث . بالإضافة إلي تكفير جماهير الأنصار حزب الأمة في العام 1970 . وفي 25 ديسمبر 1984 أصدر الأخوان الجمهوريون منشورهم ( هذا أو الطوفان ) الذي أصدر علي إثره حكماً بإعدام المفكر الإسلامي ( محمود محمد طه ) بإعتباره خارجاً عن الملة ، وأعطت من معه فترة شهر للعدول عن آراؤهم وإعلان توبتهم ، خفضت بواسطة النميري إلي ثلاث أيام فحسب . وقبل شهور قلائل من ذلك التاريخ في يوم 14 مايو 1984 ، تم إعتقال عدد من البعثيين في وكر طباعة سري بالفتيحاب ثم قدمو للمحاكمة بعد إضافة مواد جديدة قائمة علي تهمة الردة الدينية ولكن أُصدرت ضدهم أحكاماً مخففة في 22 فبراير 1985 . ثم ينفتح الباب علي مصراعيه بعد كل هذه الحوادث ليسهل من بعد ذلك إطلاق نعت ( الكافر ) علي العديد من الناس ، كما حدث مع تكفير بعض الهيئات لأفراد ضمن نخبة الرموز الفكرية والثقافية في المجتمع السوداني من أمثال ( غازي سليمان ) و ( كمال الجزولي ) و ( الحاج وراق ) وشيخ عبد الله ( أزرق طيبة ) وخلافهم ، ورصد مبلغ خمسة مليون جنيه مقابل الرأس الواحد ! وتتجدد سنوياً في هذا السياق فتوي تكفير الجبهة الديمقراطية بجامعة الخرطوم حين إقتراب موعد الإنتخابات ، من قبل طلاب أنصار السنة المحمدية ، ويُحرَّم التصويت لصالح قائمة التحالف الطلابي ويتكرر بناءً علي ذلك فوزها لأربع مراتٍ علي التوالي ! إضافةً إلي تكفير ( مجمع الفقه الإسلامي ) أخيراً لبعض فتاوي حسن عبد الله الترابي وإعتباه خارجاً عن الملة مع مطالبة رئيس الدولة بمحاكمته أُسوةً بما فعله النميري ب ( محمود محمد طه ) ؟! وفي ذات السياق ، تذهب كتابات ( الطيب مصطفي ) الأخيرة ، في رده علي عثمان ميرغني بخصوص ما كتبه عن الشاعر الوطني (محجوب شريف ) وإعلانه صراحة ً ضمن مقاله هذا ، بأنه يري في الشيوعية والمنتمين إلي صفوفها ، مجرد خارجين عن ملة الإسلام لا غير ! .
لا تعدم المجتمعات العربية الراهنة هي الأُخري العديد من النماذج المشابهة في تكفير العديد من مثقفيها ويتكرر الموقف باستمرار دون أي توقف ، فقد حوكم الدكتور ( صادق جلال العظم ) إثر إصدار كتابه ( نقد الفكر الديني ) ، وكُفر قبله الأديب ( طه حسين ) أيضاً في كتابه ( في الشعر الجاهلي ) وأُغتيل المفكر (حسين مروة ) وفصل بين ( نصر حامد أبو زيد ) وزوجته بذات الإدعاء ، وهدد بالقتل ، ( سيد محمود القمني ) وكفرت ( نوال السعداوي ) ولم تنته القائمة بعد .
إذن نخلص من كل ما تقدم ذكره ، إلي موقفين متماثلين في الرؤية ومختلفين ومختلفين من حيث الإسم ، صاحبا مسيرة وظواهر التكفير عبر كل العصور ، يتركز الأول علي وضوح الترابط الكلي بين التكفير كظاهرة متصلة الوشائج بإختلاف الرأي أو المعارضة السياسية للنظام الحاكم بحيث تشهر الأنظمة المستبدة في كل الأحوال سلاح التكفير في وجه خصومها السياسيين ، أملاً في التخلص من ما يسببونه لها من إزعاج وفضح لممارساتها السياسية ، بينما يتركز الثاني علي وضوح أحادية النظر في التعامل مع كل متطلبات العقل والتفكر وإحتكار مطلقية التحدث باسم الدين لجهة واحدة لا تقبل بمدأ التعدد حتي في طرق وأنماط التدين والمذهبية ، ويستتبع ذلك وقوف العقل الأسلامي بعيداً عن أنشطة الفكر والتفكر كما ذهبنا للقول سابقاً ، ومعاداة كل من يسهم بأفكاره في هذا الإتجاه . ولا يمكن الفكاك من هذين المأزقين ، إلا في تحويل النظرة إلي التراث – المصدر المعرفي الأكبر للجماعات الإسلامية – من حيزها اللاهوتي الأكثر قداسةً إلي سوح الحيز التاريخي الذي يري في الماضي صيرورةً موضوعية ينبغي خضوعها لمناهج التحليل والنقد ، بمعني تحويل هذه الإطلاقية في النظر إلي الماضي لنسبيةً تخضع دوماً لمبدأ المساءلة ويغدو بناءً علي ذلك الماضي ، مجرد حالة تاريخية يعتريها الفشل والنجاح وليس من منظور القياس الفقهي المتحجر : ( ليس بالإمكان أحسن مما كان ) . الذي تتبعه الجماهات الإسلامية في الكثير من الأحيان .