شبح اليوتوبيا يتجول في أعماقنا فلماذا نتجاهله.. ؟


خليل المياح
2007 / 8 / 19 - 10:38     

في بلد غني كالكويت يسمح بترجمة ونشر كتاب (نهاية اليوتوبيا ) لمؤلفه " راسل جاكوبي" لا يخلو ذلك من دلالة للنابهين من القراء . فكيف بنا نحن الظامئين إلى كل مرموزات العدالة, التي تعدنا بآفاق تلبي توقنا إلى ينابيع الحرية؟ تلك الآفاق التي تصنعها الأجيال ,وليس مجرد خيال لكاتب مثل توماس مور أو كهانة لسان سيمون !. وتواجهنا في باطنه،أي الكتاب، إشارة عن جيل من الفلاسفة والشعراء الماركسيين في المجر ,كجورج لوكاش وارنولد هاوزر, وقد تجمعوا في بودابست مع نهاية الحرب العالمية الأولى, يبحثون عن آفاق لثقافة جديدة..

عن( يوتوبيا) تصافح الحقائق كما تفعل الشمس يوميا! ويتهيأ لنا بأننا نقتفي آثارهم في أيامنا هذه.. فعبر منتدياتنا الفكرية حولنا حتى المقاهي إلى ساحات تتماحك عبر أجوائها الايدولوجيا فنرى السياسي منا صار يبحث عن مقتربات أدبية، والأديب بات يقارب بحوثا في سوسيولوجيا الطبقات واحترابها لتدير فيروسات الفاشية, وصار لزاما على الذاكرة الجمعية أن تحفر اركيولوجيا في أحداث تاريخنا الدامية. وبعد ليس غريبا أن نرى إلى الأميركان وهم يكنسون القمامة التي جمعوها هنا وهناك, وفعلهم الحالي الذي يمارسونه في بلدنا بالذات ومن غير مؤاربة، صارت العين الفاحصة تلتقطه بلا عناء. وحيث سبق ودعا كارل مانهايم إلى اقتراب علمي من الايديولوجيا والسياسة واعتبر أن كل المعرفة (موالية وخاصة، ليس لأنها قوة فائقة لامتلاك الحقيقة .مع أن الماركسيين قد قصروا الايدولوجيا على الأفكار التي يعارضونها ومفترضين أن أفكارهم ،هم فقط، هي الحقيقة) لكننا نلاحظ أن الجميع قد تزحزحوا عن الدعامة المعتقدية, بدءا بكارل مانهايم نفسه.. وهنا في عالمنا الثالث بدأت صيحات الحقيقة تنطلق من رجال الدين, مثل الأفغاني ومحمد عبده, إذ أصبحوا يتحدثون عن لاهوت التقدم والمزج الفكري والنظرة المركبة إلى الأمور تاركين وراءهم النظرة السلفية أحادية الجانب, فالإمام عبده هو الذي صرح بأنه رأى الإسلام في أوربا ولم ير المسلمين. وحيث أن العطالة الفكرية قد خيمت بسحبها على الجميع منذ سقوط الاتحاد السوفييتي, تنادى اليساريون والماركسيون والباحثون المفكرون بضرورة إحياء الأمل اليوتوبي العتيد الواعد بالعدالة الإنسانية وشاركهم الرأي المفكر جاك دريدا بنظريته التفكيكية, منطلقا من رؤية هاملت إلى الشبح وكون الأخير يمثل استعارة أو كناية عن الأمل في عودة العداله الغائبة!
ومن أرضنا العراقية حاول المفكر عصام الخفاجي بأمر، ما كان غيره ليجرأ حتى على التلميح إليه، لقد أبان في مجلة "جدل" أن لا احد يزعم بعد اليوم بأنه وحده يملك مفتاح الحقيقة. ولعل إسقاط مفهوم دكتاتورية البروليتاريا يحمل الدلالة السيميائية والتأويلية بأن الناس ما عادت تستسيغ لفظة مشؤومة توحي بالهيمنة والقهر بأي شكل من الأشكال.وإذا كان المثقفون في أوربا قد واجهتهم رؤيا يوحنا المعمدان, بعد مخاضات الدم التي افرزتها الحرب الكونية الأولى والثانية, فقد وجدنا الأديب والمفكر سارتر يصرح " انك لا تستطيع أن تتفاهم مع الشيوعيين ولكنك لا تستطيع ان تفعل شيئا بدونهم". وهذا المماحكة الجدلية تستطيع أن تقتفي أثرها لدى اليوناني (لزبيا). وتبقى ديرتنا العراقية لا تستطيع أن تختزل الفعل المبدع لـ "جواد سليم" كألوان وحركة أجساد نابضة بالقوة ومعبرة عن وجدان وهواجس رجل خلاق مفصول عن الإنسان السياسي. كان يتوقع فعلا سينبثق من الناس صبيحة 14 تموز الكبير. وحيث أننا نروم أشكلة القيم، بمعنى نزع البداهة عنها ونقدها من اجل التجاوز، كما يطرحه المفكر محمد اركون, بات حرياً بنا ألا نتكلم عن العام والمطلق وكأن لا وجود للخاص في حياتنا، كعرب أو عراقيين، لأننا مسلمون وعرب، وبالتالي لا ضرورة لما اصطلح عليه بـ: الايدولوجيا. ان نفي الايديولوجيا هو بحد ذاته مغزى ايديولوجي لا يمكننا إنكاره! وراح بعض النشطاء اللغويين يقولون: علينا أن نستعمل مفرده (فكرياء) بديلا للايديولوجيا. كل ذلك وغيره يجري عندنا خوفا من الاستلاب اللغوي الذي يمارسه علينا الغرب عبر مستشرقيه وبتوسط العولمة العابرة للقوميات. إننا نريد من الناس جميعا أن يقتربوا من بؤرة الضوء الابستيمولوجي الحديثة ليمسكوا بحقيقة الحداثة التي هي جوهر زماننا التاريخي. وخلافا لذلك سيتعمق ضياعنا الفلسفي والحضاري.. أما "بيلاطس" عصرنا الجديد فلن يستطيع أن يغسل يديه من دم المسيح ثانية.