ضرورة التأسيس لنقد ماركسي ّ طبقي لتحليل طيف اليسار التقليدي


حميد كشكولي
2007 / 8 / 17 - 09:57     

يؤسس اليسار الشيوعي الطبقي لنهجه النضالي عبر تجاربه و ممارسته النقد لتقاليد اليسار التقليدي، و نماذجه المهزومة، المحلية والقومية، وحتى" الأممية ". وإن نقد اليسار القومي و الشيوعية التقليدية له جذوره الراسخة في أفكار ماركس وأشكال الممارسة عنده و القادة الاشتراكيين في العالم.
اليوم نهض المارد اليساري الطبقي في العراق لكي يرد على اليسار البرجوازي وطيف الشيوعية الوطنية و تجاربها الصفراء الذابلة ب"لا" كبيرة، ويضعها أمام مرآة حقيقتها.
هذا اليسار الشيوعي الطبقي المستند على نضال الطبقة العاملة و الكادحين ينهض من قلب النضال الطبقي الأكثر جدية ، وجسارة ، ومن التحليل الطبقي الماركسي للمجتمع، بدون أية مجاملة أو مداهنة للقوى البرجوازية القومية والوطنية والشوفينية والرجعية. إنه يستجيب لضرورة واقعية و موضوعية في المجتمع الإنساني، بما فيه المجتمع العراقي.
نهوض اليسار الشيوعي اليوم لا يعني الاستهانة بتجارب الأجيال السابقة لليسار الوطني، فتطلعاتهم الإنسانية و المنية والتقدمية في فترات معينة جديرة بالاحترام، و تعلم الدروس الغنية والعبر المفيدة. لكن الحركة اليسارية الراهنة التي يلمس المرء بوادرها في المجتمع العراقي ليست نابعة من تقاليد الأجيال السابقة، ولن تكون امتدادا واستمرارا لها ، ولن تتراكم فوق ركامها . فالأجيال اليسارية الوطنية السابقة لم تضع ضمن أهدافها، ولم يبد ُ في آفاقها الفكرية والمعرفية هدف تحرير الطبقة العاملة من العمل المأجور، وبناء الاشتراكية العمالية. و كانت تلك نقطة ضعف قاتلة لليسار التقليدي ، والنقص الذي يعاني منه ، و يصيبه بمختلف العيوب ، من قبيل والشوفينية ، ودعم القوى و الأنظمة الوطنية الدكتاتورية المعادية للامبريالية كأجنبي ومستعمر وغريب ومعادي للثقافة القومية والوطنية "الأصيلة" ، لا كأعلى مراحل الرأسمالية المستغلة .
وإن استندنا إلى مفاهيم الكلاسيكيين القدامى وماركس نفسه ومقولته في " إن تاريخ أي مجتمع حتى اليوم ، لم يكن سوى تاريخ صراع طبقي"، وعليه فأن من يعتبر نفسه يسارا و اشتراكيا، يعلم حقا ، أنه يجب تحليل المجتمع على أسس طبقية، وأن يكون نضاله نضالا طبقيا، وأن يؤمن بالأممية ، وأن ليس للعمال وطن ، و عليه أن يعمل وفق هذه الرؤية على تغيير المجتمع لصالح الطبقة العاملة، ولمصالح الكادحين الطبقية.
لكن ما يؤسف له أن المجتمع العراقي لم يشهد حركة يسارية ، تكون قضيتها تحرر الطبقة العاملة من العمل المأجور، و تهدف إلى التغيير الجذري للعلاقات السائدة بكل أشكالها، وتقوم على أساس نقد جدي للتقاليد البالية و النزعات القومية النرجسية العنصرية، والظواهر التي تروج لها الرأسمالية، و تضلل الجماهير المحرومة بها. إن هاجس اليسار التقليدي ، وفي مقدمته الحزب الشيوعي العراقي ومشتقاته البروتستانت ، كان يتمحور حول الحقوق القومية ، والكفاح الوطني ضد" المستعمرين الأجانب" وصيانة الثقافة الوطنية والقومية " الأصيلة" بوجه الغزو الثقافي الإمبريالي ،مع شي من الإصلاحات الاقتصادية في إطار العلاقات البرجوازية ، ودعم البرجوازية الوطنية لمواجهة البرجوازية الخارجية، وكذلك تجريد الكفاح ضد الدكتاتورية من الأهداف الطبقية ، وجعلها قضايا سطحية سياسية من قبيل هذا الحاكم أفضل من ذاك ، و هذا أظلم من الآخر، و ذاك الشيخ " خوش رجال ساعدنا و طلّع كم واحد من السجن" ... وهذا اليسار التقليدي جعل من المعارضة قضية شخصية مع للدكتاتور و " عقد نفسية" كما صرح بذلك أبو المبادئ الوطنية الراحل زكي خيري. وفي الواقع لقد لعب اليسار التقليدي دور مستشارين مخلصين، وأحيانا ناقدين نقدا بناء للرأسمالية الوطنية، لهذا تراهم يتأسفون على دعمهم لزيد من دون عبيد من و التجار البرجوازية لأنه " كان أكثر وطنية، و كان يساعد الشيوعيين، و كان يعذبهم تعذيبا أخف..."
هذا اليسار التقليدي لم يمثل تمثيلا واقعيا الأهداف الطبقة العاملة وتطلعات المحرومين، ولم تقتصر هذه الصفات على طيف اليسار التقليدي العراقي وحده، بل اتسمت بها الأحزاب الشيوعية التقليدية واليسار القومي في ما يسمى بالعالم الثالث، و كان ستالين والكومنترن قد فرضاها عليها.

وقد انشغل اليسار التقليدي العراقي ب" الدفاع " عن حقوق القوميات والطوائف، و المشكلة الوطنية.
إن تلفيق الاشتراكية بالإيديولوجيات البرجوازية و البدوية من قبيل القومية و الدينية ولاهوت التحرير و الخ.. عكر الوجه الناصع الحقيقي الإنساني للاشتراكية . وكذلك طبقات وشرائح اجتماعية أخرى شوهت الخصال الثورية للطبقة العاملة ، فأصبحت لا تحبذ تغييرا جذريا للعلاقات الإقطورأسمالية السائدة .

إن الاتحاد السوفييتي, رغم كثرة النقد الموجه لهذه التجربة، لو قام أي ّ محلل منصف و مدرك لمبادئ الاشتراكية الماركسية لما عده اشتراكيا، بل رأسمالية دولة..و قد أثبتت التجربة السوفييتية أن الرأسمالية الوطنية المتمركزة و رأسمالية الدولة فشلت أمام الرأسمالية العالمية والسوق الحرة المطلقة العنان.

إن نظرة متمعنة في الساحة الفكرية والسياسية العراقية تبين أنه ليس ثمة جيل جديد يساري.. بل أن هناك بوادر لحركة يسارية جديدة تختلف كليا عن اليسار التقليدي . وإنه لا بد من الاستفادة من دروس الأجيال السابقة من اليسار، وتحليلها بالنقد الجذري البناء وفق رؤية ماركسية و طبقية عمالية ، للوصول إلى خلق أرضية صلبة للحركة اليسارية الطبقية في هذا العصر و لإيجاد عالم أفضل.
إن نقد الحركة اليسارية العمالية يختلف عن نقد عناصر الطيف اليساري التقليدي والوطني البائس، والذي يكاد أن لا يخرج عن انتقادات شخصية لهذا القائد وذاك ، وأدائهم أو التشهير الهستيري بهم ومواقفهم من مسائل عابرة ، أو تحالف مع ذاك الوطني بدون غيره . أو تأسف أشخاص كانوا رموزا الرأسمالية الدولتية في فترة الحرب الباردة ، وبدون تلق و إدراك صحيحين لأفكار الكلاسيكية الاشتراكية. لهذا تراهم اليوم بعدما كانوا محسوبين على اليسار القح ، تحولوا على غفلة حتى من أنفسهم إلى عرابين للبرالية الجديدة ، و ويعتبرون تاتشر و بوش وبلير أنبياء التحرير و الحرية .
نقد اليسار الشيوعي العمالي للظروف السائدة على عكس اليسار التقليدي البرجوازي ، يستمد الروح من أفكار ماركس و الشيوعية الطبقية العمالية، ولهذا لا يقوم بانتقاد الاشتراكية الحقيقية خجلا من الديمقراطية اللبرالية، و لا يثني على البرجوازية و" انجازاتها وإنسانيتها" .
إن محاولات فصل الإشتراكية عن الديمقراطية ، و عزل المطالب الاشتراكية عن المطالب الديمقراطية ناجمة عن سوء استيعاب الماركسية و الشيوعية. إن الحياة تؤكد أن لا تناقض بين الاشتراكية والحرية . كما بينت أن الاشتراكية الديمقراطية وصلت إلى طريق مسدود , وفاحت ريحة فسادها .
إن الاشتراكية تضمن أقصى حدود الحرية للإنسان الذي ستحرره من عبودية العمل المأجور، و تجعله يساهم في خلق العالم المزدهر السعيد بكل حرية وبإرادته الحرة. إن الاشتراكية تثمّن الإنسان وتقدره لإنسانيته ،لا لقوميته و طائفته أو لغته أو مذهبه أو لثروته، أو رموز أمته التاريخيين وعنترياتهم ، و الذين تحولوا إلى لا شيء.
ومن الخطأ إلحاق لازمة" الديمقراطية" بالاشتراكية بحجة الدفاع عن الاشتراكية و سدّ " نقص فيها" إذ أن هذا هو ما تريده الرأسمالية لتظهر الاشتراكية وكأنها مناقضة للحرية ، وبالتالي ينبغي دمقطرتها وأنستها. و يعتبر الرأسماليون ومعهم طيف اليسار التقليدي دكتاتورية ستالين حقيقة اشتراكية ، بينما المعروف هو أن الاشتراكية تلبي مستلزمات الإنسان المادية والروحية، وتحقق أهدافه الديمقراطية بأسمى أشكالها أي الديمقراطية المجالسية" السوفييتية" .

وإن ما يتعامى عليه الكثيرون هو أن من استطاع و يستطيع ممارسة القمع والاضطهاد في المجتمع البشري هو السلطات التي تمثل الطبقات السائدة والمستغلة، و ليس اليسار و الشيوعيين و الاشتراكيين.
إنه تملق سفيه من طيف اليسار الوطني للبرجوازية تصوره وجود النقص في الاشتراكية و إيجاب تطعيمها بعناصر لبرالية ، أو الترويج " لأنسنتها" ، و الدعوة إلى التعددية الاشتراكية ، والتآزر مع البرجوازية لإيجاد ما يسمى ب" الاشتراكية بوجه إنساني" .
ونرى على العكس أن اللبرالية و تجربتها في الحداثة انتابها نقص كبير، فسدوا هذا النقص بعناصر اشتراكية.
فإن ّ اشتراكية نابعة من فكر ماركس تضمن أسمى نوع من حرية التعبير للإنسان، وليست ثمة حدود لهذه الحرية سوى محاولات تخريب العالم السعيد، وأن معيار هذه الحرية هو الرأي العام المرفه والسعيد.

ليست الاشتراكية بايديولوجية لكي يتم تأويلها بأشكال مختلفة، فإنها نتاج العمل و الكفاح الحر والواعي للناس في عملية تاريخية خلاقة، وبالتالي أن معيار تقييم الحركة الاشتراكية هو الممارسة والتطبيق. وإنه على هذا الأساس يمكن تقييم أي شخص أو قوة في المجتمع إن كان اشتراكيا أم لا. فهذا التقييم ليس أمرا فرديا، بل هو نتاج جماعي يتولد من رحم الحركة التقدمية للمجتمع، ولهذا لا يمكن تأويل الاشتراكية بعزل النظرية عن تطبيقاتها.

و ثمة مقولات شوهت الفكر الاشتراكي و الماركسي لا بد من فضحها و إثبات تضادها مع الاشتراكية... مثل مواءمة الاشتراكية بالقومية والطائفية و التراث ، أو الدفاع عن قسم من البرجوازية باسم الشيوعية ، ومساومة القوى الرجعية على حقوق المرأة والطفل والشباب ، و تبني التقاليد البالية والمتخلفة تحت يافطات " الدفاع عن تقاليد شعبنا وتراثه المجيد"، ومواجهة الغزو الثقافي ، وسواها من الخزعبلات.
أرى أن سبيل الخروج من الأدبيات البرجوازية هو الطلاق النهائي من هذه التقاليد البالية التي سادت لسنوات طويلة باسم اليسار والشيوعية ، ونقلت اليسار التقليدي إلى مواقع يمينية معادية للطبقة العاملة ، و لا تزال للأسف بين آونة وأخرى تطفو ترسباتها على السطح و تعكر الرؤية أمام الشباب اليساري .
2007-08-15