ما بعد الهوية ، جدل الثقافات ضمن حركة التاريخ (2)

راشد مصطفي بخيت
2007 / 8 / 15 - 12:02     

تحدثنا في مقالنا السابق ، عن الإتجاهات العامة لمشكلة الهوية السودانية كما تجلت في مختلف حقول الدراسات السودانية . ووصلنا في خاتمة المقال إلي أن حركة التاريخ المنفصلة في سياقها الطبيعي ، فرضت علي هذه الثقافات هامشاً من التداخل والتماذج الذي أوجدته تضافر عوامل متعددة من مثل عوامل التبادل الإقتصادي وحركة الهجرة والتنقل والنزوح الدائم لمجوع غفير منها . وعوامل الجوار في بعض الأحيان ، وربما عوامل التصاهر العرقي في أحايين قليلة ، رغماً عن عوامل الفرقة والإحتراب التي عاشتها سنيناً طويلة . فولَّد هذا التداخل بدوره أشكالاً ثقافية جديدة ، خرجت بمباحث مشكلة الهوية السودانية من إطارها الضيق : إفريقية / عروبية / آفرو عروبية / إلي شكل أكثر تعقيداً ، إنتفت بموجبه إمكانية النظر إلي المجموعات الثقافية والإثتية في السودان من منظور ( النقاء الكامل ) سواء كان ذلك علي مستوي العرق أو الثقافة أو الدين . وربما أدي عامل بروز هذا النمط الجديد من تداخل الثقافات ، في كنف السيرورة المتصلة لحركة التاريخ والمجتمع ، أثناء ممارسات الحياة اليومية بطول زمان ، إلي عدم ملاحظة هذه التداخلات الجديدة في شكلها الواضح الملامح . هذا مع خلو ساحة الدراسات السودانية من مثل هذه الدراسات الهامة بشكل أكثر عمقاً من ما بدت عليه في شكل إشارات عامة عند عدد من الباحثين السودانيين من أمثال ( عون الشريف قاسم ) في كتابه ( العامية في السودان ) و( محمد أبو القاسم حاج حمد ) في الجزء الأول من سفره الموسوم ب( السودان البعد التاريخي وآفاق المستقبل ، جدلية التركيب ) وكتاب الأب ( جيوفاني فانتيني ) في كتابه ( المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث ) الذي إستفاد منه (كمال الجزولي ) في كتابه الموسوم ب( الآخر ) وأضاف إلي ملاحظاته تلك ملاحظات أخري جديدة في ذات السياق . وأيضاً دراسة ( سليمان يحي ) السديدة حول ( الملامح الأفريقية في الثقافة السودانية ) والتي استفاد منها هو الآخر في بعض ملاحظات ( نعوم شقير ) الواردة في كتابه ( جغرافية وتاريخ السودان ) ومصادر أخري . وطورأيضاً بعض صفحاتها ليزيد عليها ملاحظات أخري جديدة في هذا الخصوص .
إذن وعلي خلفية كل هذه المجهودات المقدرة ، رأينا أن يكون عنواننا ( ما بعد الهوية ) مدخلاً متسعاً لتقصي آثار هذه التداخلات الثقافية سابقة الذكر كبداية نود من خلالها الخلوص إلي بعض الإفتراضات الجديدة بخصوص موضوع الهوية السودانية ضمن حركة التاريخ ومآلات ومستقبل الواقع السوداني في تركيبه الثقافي المتعدد . فقد أصبح الإهتمام برصد هذه التداخلات الثقافية سابقة الذكر ، يشكل ضمن ما يشكل ، أرضيةً خصبة للتعرف علي منتوج هذا التداخل الجديد والكيفية التي يؤثر بها علي وعي ووجدان الفرد الذي ينتمي إليه باعتبار أن الثقافات السودانية أو الثقافة بوجه عام تؤثر أيما تأثير علي طرق تفكير الفرد الجماعة التي تنتمي إليها ، بل ربما تذهب أكثر من ذلك ، حتي تصبح في نهاية الأمر الإطار الذي يفكر بواستطته الفرد المنتمي إلي بنيتها العميقة . والتفكير بواسطة ثقافةٍ ما ، كما يقول بذلك ( محمد عابد الجابري ) " معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية ،من محددات هذه الثقافة ومكوناتها ، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الإجتماعي " واللغة والدين والتداخلات التي تفرضها حركة التاريخ . الشئ الذي ينعكس بدوره علي أسلوب تفكير هذه الجماعات أو يحدد في نهاية الأمر كيفيات النظرإلي الحياة بواسطة مقولات هذه الثقافة للفرد الذي يقع تحت تأثيرها المباشر . ولنا في ذلك أُسوةُُ حسنة في ما وفرته خبرة الدراسات اللغوية السودانية من خلو بعض اللغات السودانية من مفاهيم محددة وتوفرها في ماعداها . بحيث يمكن القول أنه وطالما أن ( اللغة ) ، هي الوسيط الكامل الذي يستخدمه الإنسان للتعبير ، عن أفكاره والعالم المحيط به ، فلا مفر إذن من الإعتراف بدور مماثل وربما أكبر للثقافات السودانية التي تظل اللغة في نهاية الأمر واحدة فقط ، من جملة عناصرها المختلفة المكونة لها من جملة عناصر أُخري مثل عنصر الدين والبيئة والإقتصاد وعناصر أُخري متعددة ليس هنا محل الإهتمام بها .
أسهابنا في هذا الخصوص ، نعده أمراً لا مفر منه ، لأجل إتضاح الرؤية الكاملة لما تحمله مفرداتنا من إعترافات ضمنية بضرورة الإهتمام علي وجه الدقة بمسألة الثقافات هذه ليس بحسبانها ( شعاراً سياسياً ) فحسب ، إنما لأهمية الوعي بدورها الفاعل أيضاً ضمن حركة التاريخ مثلها في ذلك مثل حركة الإقتصاد أو ( البنية التحتية ) بل ربما تتعداها في بعض الأحيان .
وتحضرني في هذه اللحظة بالتحديد إشارة سديدة الرأي كان قد أشار بها ( مهدي عامل ) في كتابه ( في التناقض ، في نمط الإنتاج الكولنيالي ) مفادها أن المراكسة بشكل عام ، رغماً عن أنهم يتعاملون مع مكونات الفكر والثقافة علي إعتبار أنها جزءاً من تركيبة ( البنية الفوقية ) للمجتمع ، وبالتالي يقل دورها العام الفاعل في حركة التاريخ لأنها بالضرورة ( تابعةً هي الأخري ) إلي ما هو أكثر تأثيراً منها وهو الإقتصاد . إلا أنهم يعترفون في ذات الوقت ، بالدور العظيم الذي لعبه ( الفكر ) الإشتراكي في تغيير مسار التاريخ ؟! . رغماً عن أن خصوصية واقعنا المتعدد في السودان ربما نبهت في وقتٍ باكر بأهمية الخروج من نفق هذه التعممات المخلة ، والإهتمام بدراسة ما يبدو عليه حال الظاهرة وهي تمثُلُ أمامنا في حركة الواقع والمجتمع الأكثر حيوية .
ولكل هذه المقدمات سابقة الذكر ، وجب علينا إيلاء الثقافة قدراً من اكبر الإهتمام ، يُمَكِّن علي أقل تقدير من فهم تأثيرها الفعال في كل مناحي الحياة المختلفة . ولذلك أيضاً برزت ضرورة دراسة الثقافات السودانية المتعددة ، دراسةً متأنية ، ضمن حركة التاريخ ، لمعرفة مدي التداخل الذي خَلَّفتهُ هذه الحركة في بنيتها العامة ، وضروروة رعاية مولودها الجديد الذي خرج من تناسل عناصرها العديدة ، مع ثقافات أُخري ، كانت نتيجتها المعاصرة في وقتنا الراهن بروز هذا المولود الثقافي الجديد .