ما بعد الهوية ، جدل الثقافات ضمن حركة التاريخ (1)

راشد مصطفي بخيت
2007 / 8 / 14 - 11:33     

سؤال الهوية السودانية ، أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه سؤال مزمن . حيث ترافق الإهتمام به مع مختلف حقب تاريخ السودان الحديث . إلا أنه أستطال بشكل أكثر سفوراً في الفترات التاريخية الأكثر اقترابأ من راهننا المعاصر . وقد توزعت الدراسات السودانية بمختلف مشاربها في سعيٍ حثيث ، للإقتراب من بؤرة نفاذ المشكل بمنهجيات مختلفة . فمنهم من رجح كفة العوامل الطبقية كمداخل أكثر حصافةً في الإجابة علي تعقيدات الدرس الهويوي . ومنهم من راح يبحث عن جذور ، الصراع في بنية التركيب الثقافي للمجتمع مرجحاً بذلك كفة الدراسة الثقافية لسبر أغوار المشكل بكون أنها نتيجةً لسيطرة ثقافة أحادية علي مقاليد الحكم في السودان منذ فترات تطول . وكذا سار بعض الباحثين لمحاولة الإجابة عن السؤال بواسطة المنهج المقارن . بحيث يعمدون وفق هذا المنهج إلي دراسة بنية وتركيب مجتمعات متشابهة في الخصائص والتاريخ مع مشكلات مجتمعنا السوداني . وبرزت كذلك تيارات أخري تعلي من شأن عوامل البيئة والجفاف الذي تعانيه بعض مجتمعاتنا السودانية في الأطراف .
ويلاحظ المتتبع لمسار هذه الدراسات بكل تنوع إتجاهات الدرس والتقصي ، حقيقةً تلازم تصوره عن المشكل في كون أن كل هذه التوجهات سابقة الذكر، حوت جزءاً من مسببات المشكل بجلاء ، حسب ما تسمح به أدوات المنهج الذي يستخدمه لهذه المهمة . ويلاحظ في ذات الوقت ، أن كل هذه التوجهات أيضاً تشمل بداخلها قدراً من المعقولية والترابط المنطقي في بناء فروض الدراسة وإثباتها في الوقت نفسه . ذلك لأن المشكل وعبر تطوره التاريخي ، تعرض لجملة من التطورات المختلفة التي غيرت وجهة الكيفية التي إنبني عليها في أول الأمر . ففي البدء ، ربما علا صوت التفاوتات الطبقية كواحدة من مسببات المشكل في أطوار نموها الأولي . فقد كانت معظم المجتمعات التي تعاني من نظرة الإحتقار الثقافي والتراتبية العرقية في أول الأمر ، مجتمعات تشترك في خصائص التخلف الإقتصادي المريع عن بقية أطراف القطر الأُخري . فبرزت في تلك الفتره مفاهيم " التطور اللا متكافئ " و " مشكلات الوطن في ظروف التخلف " كما عبر عن ذلك الشهيد جوزيف قرنق . باعتبارها مكمن الحلل لهذه المشكلات واعتبار أن المشكل في أساسه يعود إلي هذه الظروف سابقة الذكر . لكن سرعات ما تفتقت أذهان الدارسين لهذه المعضلة عن حقائق أُخري تشير لمحاً أو عن تفصيل مدروس إلي حقيقة أن هذه التفاوتات الطبقية في تركيب المجتمع ، ليست المدخل الأكثر نجاعة لاستيعاب الدرس في كله المركب . فقد تظهر مثل هذه التراتبات العرقية والثقافية ، حتي بين أبناء الطبقة الواحدة كما أشارت إلي ذلك ( فاطمة بابكر محمود ) في كتابها الموسوم ب ( المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة ) ، أو كما توسع ( كمال الجزولي ) في ذات الصدد عندما عبرفي كتابه الموسوم ( الآخر ، بعض إفادة مستعرب مسلم عن أزمة الوحدة المتنوعة في السودان ) عن جزء من تجليات المشكل قائلاً " " أن العامل الإقتصادي ، رأسمالياً كان أم إشتراكياً ، ليس جدير وحده ، يقيناً بالتكفل بحل مشاكل القوميات ، ولن الأُسوة في ما وفرته خبرة الإتحاد السوفيتي سابقاً ومشكلتي الباسك في أسبانيا والبريتان في فرنسا ، ووقائع تململ الكوبيك في كندا وصراعات الجيش الجمهوري الايرلندي مع الحكومة البريطاتية ، علي سبيل المثال " . وبرزت دراسات " المركز والهامش " التي تعبر عن حقائق المشكل في بعده الثقافي البحت متجاهلةً أدوار العوامل الإقتصادية والبيئية والتاريخية في الوقت نفسه . رغماً عن أن هذا الخطأ ، قد وقعت في فخاخه من قبل ، دراسات ومناهج العامل الإقتصادي نفسها ، بحيث ركزت سبل بحثها في التقليل من دور العوامل الثقافية والإهتمام بشكل يطغي علي ماعداه ، بالعوامل الإقتصادية البحتة .
تأرجحت المشكلة في تجلٍ مختلف لها علي مبدأ ثنائيات متقابلة يختزل تعقيداتها الكثيرة في التحيز لأحد أطراف الصراع المشتعلة أواره في السودان . فنادي البعض بإفريقية الثقافة السودانية ، وتمسك البعض الآخر بافتراض عروبتها . ثم برز اتجاه ثالث يبحث في دعاوي الهجنة بين كلا الطرفين فيما سمي بدعاوي ( الغابة والصحراء ) ضمن إحترابات تلك الثنائيات المتباعدة . وكشف نقاد مباحث الهوية من أمثال ( عبد الله علي إبراهيم ) و ( عبد الله بولا ) و( حسن موسي ) ، عن خطل وتحيز الإفتراضات التي قامت عليها هذه الدعوة . رغماً عن أننا نري إمكانية قراءة منتوج ( الغابة والصحراء ) من منظور آخر . وتزايد الإهتمام بالمشكل في تاريخنا المعاصر، بكون أن حقائق الإحتراب الدامية أمامنا ، كثفت بفعل تحولات المشكل التاريخية من دور الصراعات العرقية الطابع بحيث أصبحت الهوية سبباً مباشرأ للصراع في راهن تاريخنا بعد أن كانت في أول الأمر لا تعدو أن تكون أكثر من تجلٍ له . وهي إشارة سبقنا إليها ( محمد سليمان ) في كتابه ( السودان ، حروب الموارد والهوية ) . وتسرب الإهتمام من بعد إلي حيز الدراسات السودانية المختلفة بعد أن مكث حيناً من الدهر في حيز الإهتمام الأدبي ، وصيغت بذلك العديد من المفاهيم المختلفة بقصد إحتواء وتوصيف المشكل في نطاق الإهتمام بدراسة الثقافات السودانية ودراسة المجموعات الإثنية المكوِّنة لها دراسة تنبئ عن مآلات التحولات العنيفة التي شهدتها براحاتها الوريفة . وتشكَّل بموجب هذه الدراسات شبه إجماع عام بين عدد غير قليل من الكتاب علي مصطلح ( الوحدة في إطار التعدد / التنوع ) في السودان . ورهن معظم الداعين إلي هذا الإتجاه ، حل المشكل ، بضرورة الإعتراف الكامل بواقع التعدد الإثني ل( مجتمعات ) السودان المختلفة ، وما يستتبع ذلك من إجراءات وقوانين مدنية ودستورية للحد من حدة التغوُّل والإستقطاب الذي تعانية المجموعات الثقافية السودانية من قبل ثقافات ( المستعربة ) السودانيين . لم يغفل هذا الإتجاه بدوره النظر إلي الثقافات السودانية في عنفوان حركة التاريخ وما يصنعه من تحولات في بُني الثقافات . لكن ، ورغماً عن أن مهمة دراسة وتحليل الثقافات السودانية تجئ علي نحوٍ بالغ الصعوبة والتعقيد ، بحيث أنها تحتاج إلي أكثر من المجهود الفردي الكتاب والمثقفين . توصلت بعض هذه المجهودات إلي نتائج مذهلة في رصد حركة التأثير والتأثر التي تخللت مسيرة وتاريخ التداخل بين هذه الثقافات ، أدت إلي الكشف عن حقائق جديدة من التمازج والتداخلات الثقافية ، ولَّدت نمطاً جديداً من الثقافة وأثرت في ذات الوقت علي بنية الثقافات المنفصلة .