نظام 23 يوليو.. حي يرزق


سامر سليمان
2007 / 8 / 2 - 11:21     

تحل ذكرى 23 يوليو في هذه الأيام. فكل التمنيات بعام سعيد لمن استفاد من نظام 23 يوليو، إلا هؤلاء الذين استفادوا على حساب الشعب، ولا أراكم الله مكروهاً أخر يا من خسرتم من هذا النظام، إلا هؤلاء الذين خسروا امتيازات لمن تكن من حقهم. هذه بعض الملحوظات التي أستذكر فيها بعض مما تعلمته وفهمته عن يوليو.

أولاً: ثورة 23 يوليو ليست ثورة، لأن الثورة تتضمن بالضرورة مشاركة واسعة من الناس في عملية إسقاط النظام القائم. نعم.. قد ينتهي الأمر بأن تحصد أقلية منظمة السلطة وتحتكرها بعد إقصاء الناس الذين شاركوا، كما حدث في ثورة 1979 بإيران. لكن الفيصل هنا هو لحظة إسقاط النظام.. هل شارك فيها ناس غير منظمين، أم قامت بها مجموعة منظمة بمفردها؟ الثورة لا يمكن أن تُطلق على تحرك يستولي فيه جيش ما على السلطة، حتى لو حاز هذا التحرك على قبول الناس كلهم. والثورة ليست كلمة جميلة نضفيها على التحركات التي نحبها، ونمنعها عن تلك التي نكرهها. يمكن لمن استفاد من 23 يوليو أو لمن يؤيدها أن يعود للمصطلح الذي أطلقه صانعو هذا الحدث عليه في بدايته وهو "الحركة المباركة". إن إطلاق لفظ ثورة على ما حدث في هذا اليوم يضع أنصار التغيير في مصر اليوم أمام مأزق.. إذا دعونا الناس اليوم للثورة على الظلم والاضطهاد الذي يتعرضون له، وفي نفس الوقت قلنا لهم أن 23 يوليو كانت ثورة، لا يصح هنا أن نلومهم على حالة الانتظار والسلبية التي نتهمهم بها. إذا كانت 23 يوليو ثورة، فمشاركتنا الوحيدة في الثورة القادمة التي يدعون إليها ستكون الانتظار لكي تقوم مجموعة منظمة بحركة "مباركة". هل نريد تكرار التاريخ؟ في ليلة 23 يوليو كان الناس نيام عندما تحرك قطاع في الجيش وأزاح النظام القديم. وعلى ذلك فإن استدعاء ذكريات هذا اليوم لشحذ همم الناس كي يغيروا واقعهم المزري، هي محاولة مستحيلة، لأن أقصى ما قدمت 23 يوليو هو المستبد العادل. من يريد الثورة سيكون عليه النظر إلى ثورة الاستقلال في 1919. عفواً هي ثورة قادها باشوات وبعضهم متفرنجين، ولكنها أخر ثورة في تاريخ مصر. لسنا في رفاهية إهمال دروسها.

ثانياً: النوم لم يكن فقط من نصيب الناس في 23 يوليو 1952، ولكنه كان أيضاً من نصيب نظام الحكم والنخبة الحاكمة. عندما استولى الجيش على السلطة في ذلك اليوم لم يجد تقريباً من يقاومه، حتى من داخل النخبة الحاكمة نفسها التي كانت تحتكر الثروة والسلطة. وهذا بالتحديد ما يجعل الصورة الرائعة التي يرسمها خصوم 23 يوليو لمصر قبل هذا الحدث هي محض صورة رومانسية لا تمت للواقع بصلة. ليس هكذا تسقط النظم الصالحة. فللنظر إلى صورة انقلاب بينوشيه في شيلي وانقلاب 23 يوليو في مصر: الناس في شيلي دافعت عن رئيسها المنتخب سيلفادور الليندي بأجسادها التي داست عليها الدبابات. لكن في مصر لم يطلق الانقلاب إلا عدة رصاصات. النظام شبه اللبرالي قبل 52 كان محل سخط ولا مبالاه الأغلبية الساحقة للمصريين. إن الممارسات الديكتاتورية الدنيئة – من كبت للحريات ومن اعتقال وتعذيب وإهدار لكرامة الإنسان – التي صاحبت نظام يوليو لا يجب أن تحجب عنا كبت الحريات الذي كان يعاني منه الشعب قبل 1952. صحيح أن الحريات العامة والخاصة كانت أفضل قبل يوليو، ويكفي هنا أن نذكر مثال واحد، وهو انتخاب الضباط للواء محمد نجيب رئيساً لنادي الضباط رغم أنف الملك. لكن هذه الحقيقة لا يجب أن تحجب أن النظام شبه البرالي كان يسيطر عليه نخبة من الباشوات، وكان نصف المصريين (النساء) مستبعدين من السياسة تماماً، رغم مشاركتهن الخلاقة في الاقتصاد والفكر والثقافة والفن، وكانت الأغلبية الساحقة للشعب من فلاحين وعمال وحرفيين وغيرهم خارج المعادلة السياسية، فلم يكونوا مدعويين لها إلا للتصويت للباشوات، وكان حق تكوين الأحزاب فقط لصالح النخبة، والدليل على ذلك أن سعد زغلول زعيم ثورة 1919 كان له "شرف" حظر أول حزب اشتراكي مصري.

ثالثاً: نحن لازلنا نعيش تحت نظام 23 يوليو. التحولات الهائلة التي جرت في نهر السياسة المصرية لا تحجب حقيقة أن انتقال رأس السلطة في نظام يوليو كان يتم بشكل سلمي وهاديء. لقد اختار ناصر السادات واصطفى السادات مبارك. لم يحدث انقلاب واحد في داخل هذا النظام أو عليه. تغير نظام 23 يوليو كثيراً وعميقاً بسبب التفاعلات داخل أجنحته وأفراده وبسبب التأثير عليه من المجتمع المصري ومن أطراف أجنبية. لكن يخطئ من يظن أن نظام يوليو قد ولى. نحن أمام نظام له تاريخ أكثر من نصف قرن. من يريد تغيير هذا النظام، ومن يريد التعامل معه أو حتى الالتحاق به عليه أن ينهل من هذا التاريخ.

رابعاً: نحن أمام نظام جاء من رحم دولة محمد على وورث هذه الدولة، بكل انجازاتها ونجاحاتها، وبكل إخفاقاتها وخطاياها. والوريث بلا شك يتأثر بما يرث. لقد ورث هذا النظام دولة شارك الأجانب والمتمصرون والمحتلون في بنائها وصياغتها، بكل ما يعنيه ذلك من تقنية حديثة مفيدة تعلمتها الدولة من جهة، ومن اغتراب متبادل بين الدولة والمجتمع، من جهة أخرى. ولأن الوريث لا يمكن أن يتمرد على إرثه إلا قليلاً، لذلك لم يتمرد نظام 23 يوليو على دولة محمد علي إلا قليلاً. والدليل على ذلك أن الكثير من المصطلحات التركية/الشركسية وأحيانا الافرنجية لا تزال تستخدم داخل الدولة. هذه الدولة مغتربة عن مجتمعها, ومجتمعها مغترب عنها. لن يقضى على هذا الاغتراب، إلا مشاركة قوى وجماعات من خارج الدولة في توجيه سياساتها. إن عملية تمصير الدولة التي بدأت في عهد محمد على - عندما أدخل المصريين في الجيش - لم تستكمل حتى الآن. فالتمصير لا يعني فقط إزاحة الأجانب من مواقع المسئولية، وإنما يعني – وهذا هو الأهم – القضاء على التراث الاستعماري المتعالي على الشعب الذي اتسمت به هذه الدولة.

كل عام وانتم بخير. قد يكون لنا حظ العام المقبل في استكمال هذه الملحوظات.

سامر سليمان