حوار مع المفكر اللبناني كريم مروة

راشد مصطفي بخيت
2007 / 7 / 18 - 11:25     

• بِخصُوص عدد من المحاور التي طرحتها في ندوة قاعة الشارقة وعبر، كتاباتكم الأخرى في عدد من المجلات ، عن إشكالات الأحزاب الشيوعية ،خصوصاً العربية منها ، ألا تعتقد معي أن جزءًا أساسياً من هذه المشكلات ، هو أن هذه الأحزاب نفسها ولدت في بيئة متخلفة نسبياً عن مفهوم الحزب نفسه ، بمعنى أن التطور التاريخي لهذه البلدان لا يتسع لاستيعاب هذا المفهوم نفسه ؟
• هذا ما ذكرته في محاضرتي بقاعة الشارقة ، فقد قلت أن الأحزاب الشيوعية ورثت فكرها وبرنامجها ولهدافها من ثلاثة مصادر :- فكر النهضة العربية ، الرواد الأوائل من حملة الفكر الاشتراكي في نهايات القرن التاسع عشر ، ثم ثورة أكتوبر وأفكارها ولينين والماركسية. ولكن هذا الفكر الذي اعتنقته، منذ بداية نشوئها استمر على مدى عقدين أو ثلاثة من الزمان العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات. هكذا تكونت الأحزاب الشيوعية في مناخ ومجتمعات متخلفة وفي فكر سائد أيضاً تسوده الأفكار الماضوية القومية والدينية على حد سواء . والوعي أيضاً كان متخلفاً، والمستوى الاقتصادي والاجتماعي أيضاً كذلك. إذن فكرها المتقدم خلق منذ البداية حالة لا اسميها صداماً ، ولكنها حالة كانت تتطلب جهداً استثنائياً للتوفيق بين هذا الفكر المتقدم وهذا المستوى المتخلف للمجتمعات والوعي ، ولذلك واجهتها صعوبة منذ البداية. ثم واجهتها الصعوبة الثانية ، وهي تدخل الأممية في شؤونها الداخلية وكثيراً ما فُرِض على هذه الأحزاب أن ترتبط ارتباطاً عضوياً بالأممية ، وبمركزها السوفيتي وصولاً إلى حد التماثل بين خططها وبرامجها السياسية ، وخطط وبرامج الاتحاد السوفيتي كدولة وليس كحزب ينشد التقدم الاقتصادي والاجتماعي على أساس الاشتراكية، ولذلك ارتبكت هذه الأحزاب فحققت إنجازات. ناضلت وقدمت تضحيات ، لعبت دوراً أساسياً في نضالنا من اجل الاستقلال والتقدم الاجتماعي والاقتصادي ، لكنها اضطهدت كثيراً أيضاً من قبل أنظمة الاستبداد ومن قبل البرجوازية . ففي البداية الحزب الشيوعي المصري قهره سعد زغلول زعيم الحركة الوطنية وكذلك في الفترة الناصرية الشيوعيون أيضاً اضطهدهم ووضعهم في السجون بطل قومي هو جمال عبد الناصر، إذن واجهتهم صعوبات كثيرة من داخلهم ومن خارجهم ، في داخل بلادهم وكذلك من داخل ومن خارج بلادهم . وكل ذلك أدى إلى أنهم برغم ما قدموه من جهود كبيرة في الفكر وفي السياسة وفي النضال ، كان دورهم يتراجع مع تراجع دور التجربة الاشتراكية ، وعندما انهارت التجربة الاشتراكية عملياً ضعفت إلى الحد الأقصى الأحزاب الشيوعية كافة باستثناء بعض الأحزاب التي تحاول أن تخرج من هذه الأزمة ، ومن ضمنها الحزب الشيوعي السوداني الذي ناضل كثيراً ويحاول الآن بعد خروجه إلى العلنية أن يستعيد دوراً كان يلعبه في السابق ومؤهلاً لان يلعبه في المرحلة المقبلة.
• من أين لك بهذا الافتراض التي يقول بان الحزب الشيوعي السوداني مؤهل لان يلعب هذا الدور ؟
• هذه الفرضية ، جاءتني أولاً من تاريخه ثم من سياساته الراهنة خلال الأزمة التي استمرت طويلاً ، ثم انفتاحه الآن في ما اقرأه من سياساته وهذا ما يبشر بخير. لكن الأمر ليس فقط بالثمن إنما المطلوب من الحزب أن يبذل جهداً استثنائياً ، وهذا يتطلب منه إعادة النظر في كثير من الأمور، في تنظيمه في خططه السياسية وفي أدوات نضاله وفي فكره وفي أمور عديدة ، والتحدي هنا بالذات ، هل سيستطيع هذا الحزب المؤهل أن يكون على مستوى ما يطلب منه وما يشير إليه تاريخه ؟ هل يستطيع فعلاً في الوقت القادم أن يلعب هذا الدور؟ هذا سؤال سيجيب عنه الحزب في المرحلة المقبلة من تاريخ السودان.
• بخلاف ما توقعاتك ، أنا اعتقد أن الحزب الشيوعي السوداني لم يتجاوز هذه الأسئلة التي طرحتها قبل قليل ، وتعتريه العديد من الإشكالات المتراكمة والمتضافرة في آن واحد ، ولا اظنه يستطيع أن يَبُتّ فيها بشيء وفق ظروفه الحالية ، وعلى المستوى الفكري ليس لديه منظرون سوى الأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتيره العام ، وعلى المستوى التنظيمي لم يستطع أيضاً أن يعقد مؤتمره الخامس إلى الآن ، مع توفر بعض الظروف المناسبة والموجودة حالياً ، وعلى المستوى العملي هنالك الكثير من الإشكالات الموجودة على مستوى المركز والأطراف على حد سواء ، لم يعالجها الحزب حتى الآن . أنا كذلك مثلك تماماًَ انشد هذا العلاج ولكن لا أجد له أي إشارة.
• الموضوع يتعلق بالأساس على ماذا ننتظر من الأحزاب ؟ هل ننتظر من الحزب أن يقود المجتمع ؟ أظن أن ذلك أمر غير واقعي ، والمسألة تتعلق بالدور الذي سيلعبه الحزب من جملة قوى سياسية أخرى في المجتمع السوداني ، القوة الاجتماعية والقوى السياسية . أنا أقول أن ما اطرحه من احتمال أن يلعب الحزب هذا الدور، يعود إلى إنني اعرف تاريخه الطويل الذي به أمجاد وبه أخطاء فادحة ، وقرأت بعض أدبياته ، وقرأت النقاشات التي يجريها الحزب في فترة في المناقشة العامة ، وهي نقاشات جريئة وتشير إلى أن هنالك رغبة في التخلص من كثير من الأخطاء والدخول في مهمات راهنة لم تكن موجودة في السابق ، ومراهنتي مبنية على هذه الرغبة الموجودة عند الحزب ، ومن جهة ثانية مراهنتي على أن الوضع في السودان يتطلب قوى جديدة ،الآن التحدي هو هل سيستطيع الحزب ذلك أم لا. وفي رأيي انه مؤهل لذلك ، وأنا لا أستطيع أن احكم سلفاً لكنني إذا قارنته بأحزاب أخرى أرى أن لديه أهلية أكثر منها.
• بخصوص الإشكالات النظرية والفلسفية في الفكر الماركسي ، ماذا ترى أنت من اطروحات تجديدية تناسب هذا الواقع ؟
• المسألة ليست وصفاً ، وليست استنتاجات في لحظة ، هنالك PROCESS هنالك عملية وهذه العملية مفترض أن يدخل فيها جمهور كبير من المعنيين بالاشتراكية وبمرجعيتها الماركسية . فالمرجعية الماركسية لم تعد كما كنا كشيوعيين في فترات سابقة نعتقدها ، كنا نعتقنها في كثير من الأحيان كمسلمة وكفكر ثابت . والحقيقة هي أن الماركسية ليست فكراً ثابتاً بل هي فكر تاريخي يعود إلى تاريخ معين ، والجهد النظري خلال العقود التي مرت كان اقل من ما هو مطلوب من الأحزاب الشيوعية ومن مفكري النظرية الماركسية أن يبذلوه . الآن الباب مفتوح على مصراعيه بعد الانهيار ولسبب الانهيار ، أمام الماركسيين كمفكرين وأمام الأحزاب الشيوعية وكوادرها النظرية أن تبذل الجهد الذي لم يبذل في السابق ، فإذا هي بذلت هذا الجهد وقدمت الجديد ، تستطيع أن تقوم بدورها وتعيد الاعتبار إلى ما هو ضروري إعادة الاعتبار له ، و تتخلى عن الكثير من المفاهيم التي ولي زمنها في الماركسية فمن الطبيعي أن تكون هنالك أفكار قد شاخت ، فالأفكار تشيخ مثلما يشيخ البشر، لأنها لها علاقة بتاريخ معين ، وعندما لا يحدث تجديداً لحياة هذه الأفكار تموت مثلما يموت الناس . النباتات تموت ثم تحيا من جديد ويحيا البشر بما يولدونه من بشر جديدين آخرين ، أما الأفكار ، فموتها ليس موتاً خالصاً إنما هو استخلاص أفكار جديدة من الأفكار القديمة بمعنى توليد فكر جديد وهذا يعود إلى البشر بالذات.
• ربما يعود هذا المفهوم بجذوره ، إلى مقولة التاريخية في الفكر الماركسي نفسه .
• بالضبط تاريخية الفكر الماركسي هي أمر طبيعي ولم يكن الكثير من الشيوعيين يقبلون ذلك ، وحتى الآن يوجد أناس يعتقدون أن ما قاله ماركس وما نطق به على امتداد حياته هو صالح لكل الأزمان ، وهذا ليس صحيح مطلقا ً.
• بالنسبة لبعض الاطروحات التجديدية الموجودة مسبقاً ، والتي أُنْتِجت أوربيا منذ فترات بعيدة ، والتي لم تتداولها الأحزاب الشيوعية إلا آخراً وبقدر قليل ، مثل اطروحات جورج لوكا تش لإعادة كتابة المادية التاريخية أو اطروحات لوي التوسير في تقسيمه لحياة ماركس إلى فترات مختلفة نظرياً ، وكذلك اطروحات المدرسة الفرانكفونية والمفكر البريطاني «تيري ابجلتون» والكثير من الاطروحات الأخرى ، التي كانت اقرب إلى الذهن العربي أو العالمثالثي ، والتي لم تجد لها أي صدى في واقعنا . لماذا تعزى هذا الأمر ؟
• اعزوه إلى أمرين :- الأول ، هو أن هذه الأحزاب ارتبطت كثيراً، وليس جميعها ، بالمركز السوفيتي . فظلت تعمم ما يأتيها من المركز السوفيتي . والأحزاب التي انتفضت على هذه العلاقة التنظيمية ، مثل الحزب اللبناني والحزب السوداني تحديداً هما الحزبان اللذان انتفضا وفرضا على الاتحاد السوفيتي نمطاً معيناً من العلاقة ، غير النمط السائد ، فحاولا أن يجددا لكن بشكل عام ظلت الصعوبات الداخلية والخارجية تلاحقهم فالضغط السوفيتي من جهة ، وضغط الواقع السياسي الداخلي من جهة أخرى أي الاضطهاد والسجون والاعتقالات والإعدامات كانت تحول دون المزيد من الاجتهاد . الأمر الثاني هو أن هذه الاجتهادات التي جاءت من أوربا فرضها مستوى معين من الثقافة ومن الواقع الاقتصادي والاجتماعي ومن الحرية التي كانت تتمتع بها هذه الأحزاب، بمعنى مجموعة ظروف موجودة في أوربا ، كانت تتيح لهؤلاء الذين ذكرت أسماؤهم وآخرون ، أن يبدعوا ، والمسألة ليست مسألة أن تأخذ ما قاله الآخرون ، فالمهم أن نبدع في بلداننا وهذا الإبداع له شروط ايضاً ، لم تتوفر لا ذاتياً ولا موضوعياً ، وهنا الحاجة دائمة إلى إعادة قراءة تاريخنا لنرى ما هي الأسباب التي جعلتنا نتخلف عن هذا الاجتهاد ، وهنا تكون القضية ليست قضية أن تنتقد ذاتياً ، لأن النقد الذاتي وظيفته استخلاص الاستنتاجات الضرورية للذهاب إلى المستقبل.
• من وجهة نظري ، أن سبباً أساسيا ًمن أسباب هذا الاقعاد أو التخلف النظري يعود وفي جزء كبير منه إلى السياسات التنظيمية التي تتبعها هذه الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان ، مثل إتباعها مبدأ المركزية الديمقراطية داخل هذه الأحزاب . فنتائج السلوك التنظيمي وعلم الإدارة الحديث ، تخبرنا بان هذا النوع من الهيكلة يضمر في داخله وضمنياً ، عدم قدرة المرؤوسين على اتخاذ القرار أو يعلمهم هذه الصفة ، ما رأيك بهذا الكلام ؟
• الشيوعيون اللبنانيون خرجوا منذ وقت مبكر على المركزية الديمقراطية واعتبروا أن الديمقراطية هي الأساس لتطور أحزابنا وتطور بلداننا ، لكن المسألة ليست فقط مسألة إدارية ، ايضاً لها علاقة بمستوى وعي البشر فوعي البشر لا يهبط من السماء بليل ، وإنما هو نتيجة تتأثر بالواقع الاجتماعي والاقتصادي ببلداننا ، لن تستطيع أن تفرض ، أو تتصور ، أو تطلب إنتاج وعي متقدم في بلدان واقعها الاقتصادي والاجتماعي متخلف لكن ومع ذلك اعتقد أن بقاء أحزابنا بشكل عام ، أثيرةً لهذا النمط من التنظيم «المركزية الديمقراطية» لا شك كما قلت أنت ، هو السبب الأساسي في السماح لحرية الأفراد في أن يبدعوا . لا يستطيع أن يبدع من ليس حراً ، والحرية لها تعبيرات ، فمثال على عدم وجود الحرية هو أن المركزية الديمقراطية تفرض على الفرد العضو في الحزب أن يتبنى رأياً غير موافق عليه لأنه يخضع لهيئات عليا ، أو لان الأكثرية هي التي فرضته بحكم المركزية الديمقراطية ، وعندما يتحرر الفرد من هذا النمط من العلاقة ، يستطيع أن يكون مختلفاً داخل الوحدة متنوعاً . عندما تكون الأحزاب الشيوعية موجودة في حياة سرية لا تستطيع أن تمارس حريتها وتفرض عليها هذه السرية وهذا القمع والقهر أنماط من الانكفاء على الذات ، والدفاع عنها أمام الخصم الخارجي وهذه جميعها أسباب داخلية وخارجية وذاتية وموضوعية عطلت إمكانية الإبداع داخل هذه الأحزاب ، والآن هذه الشروط تتغير ليس فقط في العالم وإنما جزئياً في بلداننا ايضاً ، ولذلك التحدي الآن هو كيف تستفيد أحزابنا هذه ومفكرينا من هذه الظروف العالمية والمحلية لكي يمارسوا دوراً لم يستطيعوا أن يمارسوه في السابق، وعدم ممارستهم لهذا الدور الآن ، يجعلهم مهمشين فإذا كانوا يريدون أن يكونوا غير ذلك فعليهم أن يبدعوا باستخلاص أفكار جديدة ، والإقرار سلفاً بان الشيوعي الفرد والشيوعي كحزب ليس هو المالك الوحيد للحقيقة . فالحقيقة موجودة في كل الأمكنة ، وان كانت بمستويات مختلفة فالبعض لديهم حصة اكبر والبعض ينقصون بدرجة اقل ، ولكن الحقيقة موجودة عندنا جميعاً.
• حسناً حتى في مفهوم الديمقراطية نفسه هنالك العديد من الإشكالات التي تواجهها كوسيلة تنظيمية لممارسة حياة الحزب بالداخل ، ولذلك أي أشكال الديمقراطية تراها أكثر مناسبة من غيرها لإدارة مثل هذه الأحزاب ؟
• أقول لك بصراحة أن الديمقراطية وممارستها عند الأفراد وكذلك عند الشعوب تتطلب امتلاك الثقافة الديمقراطية أولاً ، والوعي بضرورتها . وعندما تفتقد هذه الثقافة تصبح ممارسة الديمقراطية خطيرة جداً لأنها تنتج نقيضها تماما ً. ولذلك لابد من التدرج بممارسة الديمقراطية ، وبكلام آخر ينبغي لنا أن نثقف أعضاء الحزب وجمهوره وأصدقاءه بممارسة الديمقراطية في شكلها السليم كي لا تصبح هذه الممارسة مغلوطة وتنتج كذلك نتائج مغلوطة ، فالمهم هو أن نبدأ آنياً في هذه العملية، فكل ما تأخرنا في تثقيف أحزابنا وشعوبنا بهذه الديمقراطية ، نتخلف أكثر ونتأخر أكثر وسأعطيك أمثلة لذلك . جرت انتخابات في الجزائر في فترة معينة ، سبقها عصر كامل من الاستبداد ومن حكم الفرد ، فعطلت إمكانية الناس في أن تعرف كيف تختار، فجاء الإسلاميون ، فاتصلوا بالجيش للتدخل ، لكي يمنع الإسلاميين من الاستيلاء على السلطة واستمر الصراع عشر سنوات راح ضحيته مئات من البشر. مورست ديمقراطية واكتسح الإسلاميون الساحة ، مارسوا ديمقراطية وبدأوا يقمعون منذ اللحظة التي بدأوا فيها ممارسة حقهم في الاختيار.
• أفهم من حديثك هذا أن الديمقراطية في رأيك يمكن أن تتعطل بموجب فوز الإسلاميين بالانتخابات في دولة ما ؟
• الذي حدث في الجزائر أربك الجميع ، ننادى بالديمقراطية ، وعندما تأتي الديمقراطية بنتائج لا تعجبنا نرفضها ! هذا إرباك ، فلو حكم الإسلاميون لكانوا قد دمروا الجزائر تدميراً فظيعاً جداً وسيحدث لها مثلما حدث لأفغانستان . الآخرون يقولون أن ما حصل من منع الإسلاميين من الحكم بفعل اختيار الشعب لهم ، أدى إلى قتل العشرات أو الألوف ، ماذا كان ينبغي أن نعمل ؟ هل نمنعهم أم نسمح لهم ؟ هذا جدال يجري والحسم فيه صعب جداً. فلذلك ونحن نسعى لممارسة ديمقراطية ، يجب أن نثقف شعبنا بان الديمقراطية ليست كلمة . الديمقراطية أو الحرية بشكل عام وبالتعريف ، هي حرية وقانون ، وبدون قانون تصبح الحرية مجرد فوضى وفي المجتمعات المتخلفة لا يوجد قانون بمفهوم القانون بل يوجد استبداد وتعسف فكيف تحل المشكلة ؟ إذن لابد من البدء بتثقيف الناس بما هي الديمقراطية ، ما هي الحرية وكيف يمارس الإنسان الحر حريته ، هل يمارس حريته لكي يتأخر؟ كيف ؟ فمثلاً ممارسة الشعب الجزائري لحريته في اختيار ممثليه مارسها لكي ينتج سلبية ، لكي ينتج تخلف . فالإسلاميون في فترة الانتخابات كانوا يطاردون النساء غير المحجبات ويضربونهم بالاسيد . ومع ذلك الناس انتخبت الإسلاميين . فلو كانوا وصلوا للسلطة لكانوا لم يكتفوا بالاسيد فحسب بل لمارسوا تكفيراً وقطع رقاب ايضاً ، لذلك قلت لك أن الموضوع صعب جداً وكل ما تأخرنا بتثقيف شعبنا بالديمقراطية كل ما دفعنا ثمناً باهظاً للممارسة الخاطئة لها، أي لترك الحرية تمارس في شكل فوضوي . لذلك نحن يجب أن نقر منذ البداية بان الديمقراطية قيمة بزاتها قيمة أساسية ينبغي أن لا نتخلى عنها ، الحرية حق أساسي للبشر وبدون ممارسة هذه الحرية يصبحون آلات. فالإنسان إنسان بحريته ، وهذا ما قاله ماركس. إذن المسألة في كيف نصون هذه الحرية من العبثية وبالتالي هنالك ضرورة لبذل ذلك الجهد الاستثنائي في تثقيف الناس بالديمقراطية وبممارسة الديمقراطية بشكل سليم . وهنا تلعب النخب السياسية والثقافية دورها بشكل خاص ، النخب المتمثلة أو الموجودة في قيادات الأحزاب. ولذلك ، وهنا بالذات تبرز أهمية أن يكون الحزب الشيوعي حزباً ديمقراطياً بكل معنى الكلمة ، لأنه إن كان كذلك بذاته ، يستطيع أن يمارس دوره في النضال لجعل المجتمع والدولة ايضاً يمارسان الديمقراطية.
• لكن ومن وجهة نظري أن جزءاً أساسيا من هذا القصور الذي نتحدث عنه هو أن حتى الحزب الشيوعي - وأنا أتحدث هنا عن الحزب الشيوعي السوداني - يعجز عن الارتقاء بالمستوى الفكري لعضويته فقط ، فتجد ووفقاً لذلك أن الإنسان السوداني الذي يلتحق بعضوية هذا الحزب يظل كما هو أو كما أنتجته هذه البيئة بمفاهيمه العرقية وما عداها من طرق تفكير تظهر فيما بعد أثناء ممارسته للعمل السياسي عبر طريقة تفكيره وفي تعامله مع المرأة وكثير من القضايا الأخرى . هل تعتقد أن هذا القصور يمكن أن يُمَكِّن الحزب من أداء دوره التثقيفي الأوسع أمام الجمهور؟
• لا تدخلني في أشياء حول الحزب الشيوعي السوداني أنا لا اعرف . لذلك أنا أقول لك إنني أتكلم بشكل عام عن الأحزاب الشيوعية وانه قد يكون لديها قصور، أو لا يوجد هذا القصور . وأنا لقول لك أن المهمات الراهنة أمام الأحزاب الشيوعية هي هذه ، فمن يمارس هذه المهمات ينجح ، ومن لا يمارسها يهمش . فإذا كان الحزب ليس له مفهوم عن الديمقراطية ولا يريد أن يكون كذلك كيف يثقف بها غيره ؟ ينبغي أن يكون ديمقراطياً أولا لكي يثقف جماهيره وإلا ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، ينبغي أن يمتلك هذا الشيء لكي يعطيه ، وأنا أتكلم ليس عن حزب* حسناً ، إذا عدنا قليلاً إلى قضايا وإشكالات النظرية الماركسية نفسها ، سنجد أن جزءاً من إشكالاتها ، أنها في كثير من الأحيان وقعت ضمن فخ ما يسمى بالمركزية الأوربية ، أي أنها تنظر إلى بلداننا في الشرق والعالم الثالث ، بشيء من الاستعلاء الأوربي الطابع ، وهذا ما أكده ماركس نفسه مثلاً ، عندما برر استعمار بريطانيا للهند بأنه سينقلها إلى مصاف المجتمعات الحديثة ، وهذه هي النزعة التي دخل عبرها ادوارد سعيد لنقد الماركسية . هل تعتقد أن هذه الإشكالية موجودة في أصول الفكر الماركسي ؟
• أنا برأيي أن هنالك الشيء ونقيضه في الماركسية ، وعلى سبيل المثال عندما نظَّر ماركس في المادية التاريخية إلى تسلسل التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية ، ووضع للتاريخ بداية وكذلك نهاية ، فعل ذلك استناداً إلى معرفته بأوربا ، وثلاثة أرباع العالم كان لا يعرفه . وأنا لست متفقاً مع ادوارد سعيد بقوله أن كلام ماركس هو كلام استشراقي فليس صحيحاً أن ماركس مستشرقاً بل انه كان يحاول أن ينتج فكراً كونياً ، لكن قدرته هذه محكومة بمعرفته وبالواقع الذي يعرفه . حاول أن يقرأ بلدان الشرق ولكن لم تتوفر له شروط ذلك ، فقرأ قليلاً عن الإسلام وأثره وتحدث عن الثورة المحمدية في ظروفها الأولى و، المهم هو أن ماركس حاول أن ينتج نظرية حول حركة التاريخ ، وهذا الجانب هو جانب مهم كثيراً ونقيضه هو انه لم يستطع التعميم فحاول أن يعمم ثم استدرك عندما قال بان هنالك أساليب إنتاج في بلدان أخرى لا نعرفها مثل حديثه عن نمط الإنتاج الآسيوي ، الذي هو إشكالية كبيرة نفسه ، فلا يمكن أن يكون هنالك أسلوب إنتاج صفته جهوية / جغرافية . هو بذلك أشار أو قدم فكرة للباحثين لكي يدرسوا ظروف هذه البلدان وليدركوا كيف يمكن أن يستنجوا منها عبر قراءاتهم لتاريخها ، ذلك التسلسل التاريخي الخاص بها ، إذن هو أوربي بمعنى ما ، في نظريته في أفكاره ، ولكنه كان مفتوحاً أيضا على البلدان الأخرى التي لا يعرفها ، ولم يَدّع انه يعرفها بل بالعكس ، أنا أرى انه دعي الآخرين لكي يفكروا مثلما فكرهو . وحديثه عن أن فكره ليس عقيدة جامدة مهم كثيرا في هذا المعنى ، حتى لا تؤخذ أفكاره على أساس أنها نصوص مقدسة ، وهذا واحد من أشكال الاختلاف ولا أريد أن أقول ، التناقض عنده وفي فكره. أما الشيء الآخر الذي برأيي انه طرحه وفيه جزء من هذه الإشكالات هو حديثه عن حرية الفرد وحديثه عن ديكتاتورية البرولتاريا ، فمجرد الحديث عن ديكتاتورية البرولتاريا في رأيي ، انه خطأ لأنه أيضا مرة أخرى أعطى للتاريخ نهاية بالقول إن التاريخ يبدأ بالمشاعية وينتهي بالشيوعية ، والشيوعية محكومة بطبقة واحدة هي التي ستحققها وبما أنها هي التي تمثل مصالح المجتمع فإذن هي مالكة للحقيقة ويجب أن تمارس بحكم أكثريتها ديكتاتوريتها على الأقلية ، هذا برأيي تناقض أساسي بين فكره الذي يدعو إلى الحرية وبين ممارسته بفكره نقيض ذلك.
• ألا تعتقد معي أن جزءاً من المفاهيم التي ترتبط بهذه الإشكالات والتي استوردناها نحن من المجتمع الأوربي ، هو مفهوم الطبقة نفسه والذي تعرض عندنا لكثير من الاختزالات والابتزالات النظرية ، فانا برأيي ، يجب أن يخضع هذا المفهوم نفسه إلى معالجة فكرية وفق معطيات واقعنا الما قبل رأسمالي ، بخلاف ما يقوله حتى المفهوم الماركسي للطبقة ما رأيك بهذا ؟
• أنا رأيي أن واحدة من إشكالات الفكر الماركسي ، انه حدد تطور التاريخ أيضا استناداً إلى تجربة أوربا وحدها ، لان هنالك صراعاً طبقياً ، فالطبقات تتكون ولها صفات حسب المراحل التاريخية . وانتهى للقول بان الطبقة العاملة هي المستقبل ورغم أن ماركس ترك المجال مفتوحاً للتفكير بعده ألا انه لم يكن واضحاً عندما أصر على أن العوامل المادية هي التي تحكم حركة التاريخ كأساس ، وقال أن هنالك عوامل روحية . لكن العوامل المادية حصرها في الصراع الطبقي وعندما تحدث عن ديكتاتورية البروليتاريا ، اعتقد أنها ستظل كما يفهمها هو ، وأنا رأيي انه معه حق في ذلك ، فلا يمكننا أن نطالب ماركس للتنبوء إلى مائة عام مستقبلاً ، كيف تصبح الطبقة العاملة ؟ وكيف تحدث التكنولوجيا ذلك الاستغناء عنها ؟ لذلك أنا برأيي أن الحسم بموضوع الصراع على أساس انه بين طبقات واضحة ومحددة به إشكالية كبيرة جداً ، فنحن اليوم انتقلنا إلى وضع يوجد به صراع بالتأكيد ويوجد به تناقض بالتأكيد ويوجد كذلك صراع بين طبقات وفئات اجتماعية ولكن هذه الطبقات والفئات الاجتماعية اختلفت عن ما كانت عليه ، والصراع بينها اختلف أيضاً ، لذلك لا يمكن أن نظل نتحدث عن نوع معين من الصراع ونوع محدد من الطبقات التي تصطرع فيما بينها ، هذه إشكالية كبيرة جداً، ما دمنا نقول نحن بان فكرنا تاريخي ، علينا أن ندرك نحن اليوم ما هو الوضع ؟ ما هي الطبقات القائمة حالياً وما هي أشكال الصراع القائمة فيما بينها وكيف تتجلى هذه الصراعات ؟ وهذه عملية ينبغي أن يقوم بها المعاصرون ويجب أن تكون مطروحة أمام المعنيين الشيوعيين بالدرجة الأولى ولكن ليس فقط الشيوعيون وحدهم ، لان الذي لا يقر بالصراع الطبقي عليه أن يخبرنا بماذا يقر؟ هنالك تناقضان في المجتمع وهنالك فئات اجتماعية مختلفة وهنالك على صعيد المجتمع أناس يملكون وآخرون لا يملكون . كيف نفسر هذا التناقض؟ تظهر لدينا إمكانية أن نحدد بأي الاتجاهات تتطور بلداننا. وإذا كنا ندافع عن فريق معين ، وإذا كان دفاعنا عن هذا الفريق يعني انه سيحدد مستقبل العالم ، نضع كل جهدنا معه وعبر قراءتنا لواقع بلداننا نكتشف جميع العناصر التي استناداً إليها نستنتج أفكارنا ومهماتنا وآليات نضالنا ، فالقضية الأساسية بالنسبة لنا هي كيف نذهب إلى المستقبل وان لا نبقى في ماضينا أو حاضرنا فقط . هذه هي المسألة الأساسية وهذه كلها عناصر ينبغي البحث عنها ، ولا يجري البحث عنها إلا عبر قراءة حقيقية للواقع ، والقراءة دائماً تحتاج إلى فكر، وهذا الفكر متحرك وليس فكراً ثابتاً فهو يعطينا مجموعة من المفاهيم التي ينتجها القادرون على إنتاج المفاهيم وهذه المفاهيم والمقولات هي التي تجعلنا نستنتج ونحدد مهمات ، ومن ثم نناضل في سبيل تجميع القوى .
• إذن من وجهة نظرك أن الفكر يلعب دوراً في التاريخ ؟
• دائماً دائماً للفكر دور .
• على عكس ما قالت به النظرية الماركسية التي لم تعط الفكر أولوية في تغيير الواقع لأنه حسب تعريفها ، ليس جزءاً من مكونات البنية التحتية للمجتمع .
• لا لا بالعكس ، الماركسية لم تقل ذلك ، بل على العكس فقد وصل لينبن إلى حد القول بأنه لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية ، وأنا في رأيي انه بالغ بذلك لأنه عندما يقول ذلك يؤكد ثبات الفكر الماركسي المقترن بالطبقة العاملة ، والطبقة العاملة هي التي تنتج الثورة والثورة لكي تحقق المجتمع الاشتراكي ، بمعنى منظومة من الأفكار. وأنا برأيي أن هذه المنظومة بهذا الشكل الثابت شيئاً خاطئاً . أما عن الفكر، فبدونه لا توجد سياسة . لا تستطيع أن تنتج سياسة دون فكر، فالفكر دائماً ينبغي أن يكون موجوداً ويقوم به القادرون على أداء هذا الدور وهو في حركية دائمة وجدل دائم ، فنحن عندما نقول أن الفكر الماركسي تاريخي ينبغي علينا أن ندرك أن فكرنا اليوم أيضا هو فكر تاريخي
• لكن لماذا اختلفت معي في أن النظرية الماركسية الآن ، كما صاغها ماركس وانجلز، لم تعط الفكر دوراً مرموقاً يمكن أن يؤثر في تغيير التاريخ !
• لا لا أنا أقول لك أن الماركسية قالت بضرورة أن يكون الفكر متحركاً وليس ثابتاً. لكن الفكر لا غنى عنه ، فهو دائماً ابن تاريخه وابن لحظته التاريخية ، يتغير التاريخ وتتغير الأحداث ويتغير معها الفكر، لان الفكر هو لصيق بالواقع . فهو الذي يعطيك نوعاً معيناً من طرق التفكير . لكن الفكر وبشكل عام ضرورة لابد من وجودها لإنتاج تحليلات ومهمات والى آخره م.
• ربما كان مهدي عامل شهيد حزبكم واحداً من الذين أسهموا في هذا المجال وأدلوا بدلوهم فيه خصوصاً في كتابه الأساسي " في التناقض " الذي يتحدث فيه عن دور الفكر الاشتراكي في تغيير التاريخ .
• نعم ولكن مهدي عامل نفسه أصبح تاريخاً ، فلقد انتهى فكره كله ، وحتى في حينه كان موضع جدل . أنا مثلاًَ كنت اختلف معه كثيراً في آرائه واستنتاجاته . وواحدة من أفكاره الأساسية التي ناقشته فيها ، هي أن حركة التحرر الوطني التي تقودها الطبقة العاملة هي الحركة التي ستقود إلى الثورة الاشتراكية . كنت اختلف معه بذلك وناقشته فيه كثيراً . لكن أهمية مهدي عامل انه كان مفكراً حراً، قرأ واستنتج واستخلص وأبدع فكراً معيناً . وأنا اعتقد انه لو كان حياً وشهد سقوط التجربة الاشتراكية فانه حتماً سيغير أفكاره ، لان فكره أيضا كان للحظة تاريخية معينة.
• ما رأيك في اطروحات الأستاذ محمد إبراهيم نقد الفكرية، وخصوصاً في مداخلته الحوارية لنزعات مروة ؟ أنا أري فيها أنها كانت نبوءة سباقة في كشف أوجه القصور التي تجعل من المنهج الماركسي غير قادراً على التعامل مع البنية الأسطورية . أو فلنقل غير الطبقية للمجتمع العربي القديم .
• أنا أميل إلى ما قاله نقد في نقده لحسين مروة وقد ناقشته في ذلك ، وأنا أكثر ميلاً إلى ما قاله ، لكنني لا اذكر بالضبط ما قاله لأنني قرأته منذ فترات بعيدة لكنني سأعود إلى قراءته مرة أخرى . وأنا برأيي أن نقد يتمتع بفكر نير وثقافة واسعة ، فانا اعرفه منذ خمسين عاماً وهو مبدع . لذلك كنت دائماً أتمنى لو لم يكن في موقع قيادي فلكان قد أبدع فكراً متقدماً جداً ، ولكان قد تحرر من ارتباطه ومن انضباطيته ومن دوره القيادي مثلما أنا حالياً متحرر .
• ربما اتفق معك في أن الأستاذ محمد إبراهيم نقد ، لو تفرغ للنشاط الفكري لكان أفضل لنا نحن ، خصوصاً وان الحزب الشيوعي السوداني ليس به منظرون فكربون حالياً سوى الأستاذ نفسه. وهذه في حد ذاتها واحدة من إشكالاته الراهنة ، لان مصادر المعرفة ، تقل بالنسبة للعضوية كلما قلت الكتابات الفكرية في الأمور المختلفة ما رأيك بذلك ؟
• من الصعب الدخول في حديث من هذا النوع أخشى لو قلت بعض أفكاري أن تثير الكثير من اللغط ، فانا عندي رأي في مفهوم الحزب ، وهو مختلف بالكامل عن ما هو سائد حتى الآن ، ورأيي أن فكرة الحزب الجماهيري هي فكرة خاطئة ، لأنك عندما تنظم عدداً كبيراً جداً من الناس تضع الحزب أمام مشكلة عدم تساوي بين كفاءات عالية وكفاءات دنيا ، وتفرض على الجميع أن يساهموا في صياغة خطوط للحزب . وإذا مارست الديمقراطية والحرية وتركت الناس يقدمون أفكارهم واقتراحاتهم أو آراءهم في كيف ينبغي أن يكون خط الحزب، وجاءت أكثرية بمستويات دنيا فحتماً ستتغلب على الأقلية التي تكون في مستويات أعلى وتفرض على الحزب سياسة ليست هي السياسة التي ينبغي أن تتبع ، لذلك أنا أميل أكثر إلى الأحزاب التي تضم في صفوفها كوادر ذات مستويات متقدمة ، وتطرح على المجتمع بشكل عام أفكاراً وسياسات وخططاً وآراء بشتى القضايا ، وتذهب إلى الجماهير في الفترات الانتخابية وتقدم برامجها على هذا الأساس ، وتكتسب تدريجياً جمهوراً من الناخبين أكثر من جمهور الأعضاء ودليلي على ذلك هو ما مارسته الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بحيث لم تجتهد لكي يكون لديها عدد كبير من الأعضاء ، ولكن جماهيرها تتجاوز أضعاف أضعاف عدد منسوبيها ، فالحزب الاشتراكي الفرنسي لم تصل عضويته إلى مائة ألف ، لكنه كان يحرز عشرة ملايين صوت والحزب الشيوعي الفرنسي كان حوالي المليون ، وكان يحرز مليون ونصف المليون من الأصوات ، لذلك أقول أنا أن المهم هو كيف تذهب أنت إلى الجماهير وتثقفها بصورة دائمة بمواقفك وآرائك وتنزل إليهم وتجري لقاءات مكثفة معهم وتناقشهم . لكن ليس ضرورياً أن تطلب منهم الانضمام إلى الحزب ويتحكمون بمستويات متخلفة في اتخاذ القرار . وأنا اطرح هذه الفكرة منذ العام 1970م ، عندما كنا نحضر للمؤتمر الثالث لحزبنا وطرحتها بندوات ومحاضرات ومناقشات وصولاً إلى اقتراح انه إذا كان لابد لنا أن يكون جمهورنا أكثر يجب أن تنتخب القيادات في اجتماع الخلية بحضور جمهور القرية أو المدينة أو الحي أو الجامعة أو المدرسة أو المعهد إلى آخره . يحضر الجمهور وتقدم قيادة الفرع برنامجها ويقدم المسئول برنامجه على أساس انه يريد أن يكون مسئولا أول وهذا هو برنامجه ، ويشارك في ذلك ليس فقط أعضاء الحزب ، بل كذلك الجمهور المعني ، أي أن يخرج الحزب بذلك من سريته وانغلاقه ليكون جزءاً من الجمهور. فأنت تناضل كحزب من اجل تغيير شروط بشر هم شعبك ، فلذلك اترك الشعب لكي يعتبرك قائداً ،أن يناقش انك مؤهل أم لا ، ولذلك يمكن أن يعطي رأيه فيك بأنك لا تستحق بان تكون في قيادته في هذا الفرع . هذا ما ذكرته وما ناقشته لكنه لم يقبل وقيل لي أن هذا يُميّع الحزب ولن يصير هنالك حزب لكن هذه وجهة نظري ، وقد لا تكون صحيحة لكنني اظنها نوعاً من الخروج من تلك القوقعة لكي يدخل الحزب في وسط الناس ويصير جزءاً منهم ، يتعلم منهم ويعلمهم ، وهنالك كلمة جميلة جداً للينين بهذا المعنى هي هذا التعليم والتعلم . وأنا كنت ميالاً لان يكون الحزب حزب كوادر وحزب زعماء حقيقيين يختارهم المجتمع لقيادة الحزب وليس فقط الأعضاء ويصيرون نواباً وأعضاء بلديات ورؤساء نقابات عمال وكذلك ويكونون جزء من المجتمع ليستطيعوا أن يحركوه. والحزب الذي يقول انه طليعة الجماهير لن يصبح كذلك إلا بهذه الطريقة . وعلى ذكر هذا الحديث يجب أن أخبرك إننا في العام 1972م فعلنا تلك التجربة فاشتركنا بندوات مع أحزاب أخرى مختلفين معها بل ومتناقضين . لأنها كانت تتكون من جميع الأحزاب يمينها ويسارها عقدنا ندوات مشتركة أمام الجماهير وأرسلنا كوادر أساسية مع كوادر أخرى لتعرض وجهة نظرها ، وكان النقاش جميلاً وكنا نقول بأننا نريد تغيير لبنان فكيف يصير هذا التغيير، هذه وجهة نظر الحزب الشيوعي اللبناني ، والآخرون يقولون هذه هي وجهة نظرنا ، والاحتكام في النهاية يكون للجماهير . وكانت تجربة جميلة جداً تحاول منع قيام الحرب الأهلية بلبنان وتفسح مجالاً أوسع للديمقراطية والحوار.
• ما هو الدافع الذي حركك للتفكير بهذا الاتجاه ؟ هل لاحظت مثلاً أن كثيراً من الأعضاء غير المؤهلين يصلون إلى قيادة الحزب ويُخِلُّون ببعض المهام بسبب نقص كفاءتهم أم ماذا ؟
• أنا وجهة نظري أن الأحزاب الشيوعية ، لابد أن تغير كل وسائلها ووجهة النظر هذه هي عامة . وهذه نتيجة استنتاجات شخصية منذ زمن بعيد ، حتى وأنا في قيادة الحزب كنت أناضل من اجلها ولكنها لم تُقْبَل والآن يمكنك ملاحظة وضع الحزب الشيوعي اللبناني دون كثير عناء.
• إذن في ختام هذا الحوار، ماذا لو قلت لك أن تدلي بمهام محددة يجب آن تقوم بها الأحزاب الشيوعية في الفترات الراهنة . ماذا تقول وفقاً لاولوياتك التي تراها مناسبة؟
• المهمة الأساسية بالمطلق ،هي العمل المشترك مع جميع القوى الرافضة للاستبداد لإنهاء ذلك الاستبداد في بلداننا . وبعد ذلك استبدال هذا الاستبداد ببناء دولة ديمقراطية حديثة ، هذه أول مهمة . والدولة الحديثة تحتاج إلى قوانين ، تشمل جميع مناحي الحياة من قانون انتخاب ديمقراطي إلى قوانين اقتصادية واجتماعية وما إلى ذلك. وإخراج بلداننا من حالة الفقر والتسيب والفساد الذي تعيش تحت وطأته . وهذه مهمة مشتركة وليست فقط للشيوعيين. وهنا قد تواجهنا مشكلة بان هنالك أحزاباً ليست مدركة لذلك ، فالأحزاب القومية مثلاً لا تزال لديها شعارات ماضوية ، والأحزاب الدينية لا زالت تطرح الشريعة ، فينبغي أن نناضل مع هذه الأحزاب لكي تتفق معنا على ضرورة العمل المشترك لإخراج بلداننا من هذه الحالة . وهذا التحول في بلداننا بهذا الاتجاه يجعلنا مؤهلين لان نلعب دوراً على الصعيد العالمي فنحن لسنا بجزيرة معزولة بل نحن جزء من كل ، هو العالم وهذا العالم يتحول ، لذلك علينا أن نشارك في تحوله ناحية الاتجاه الايجابي وليس السلبي والاتجاه الايجابي هو وحدة العالم وترابطه سلمياً ، والتقدم وحقوق الإنسان ومواجهة الرأسمال المتوحش .وأنا برأيي أن هذه المهمات بسيطة ، ويمكن أن تكون مشتركة أيضا ً .