وما الحياة: صراع البقاء في دارفور وأخواتها - 1


مجدي الجزولي
2007 / 7 / 18 - 11:27     

اكتفى معظم المراقبين، طوال الصراع الدائر في دارفور ومنذ اشتعاله، بخطة العرق منهجاً لتقصي وتحليل أسباب اندلاع الحرب وكيفية وضع نهاية لها بما يخدم رغبات الأقوياء من المتصارعين. وافق هذا المنهج رغبة السلطة الحاكمة في تصوير أهل دارفور طالبي الحقوق كمحض (غَرَّابة) حاقدين - طامعين في تقويض سلطة (أولاد البحر)، وبذلك سوقت نفسها كحامي حمى مقاتل يريد نصرة قومه الأقربين ضد مهدد بربري. كما وافق هذا التصور أطرافاً في الحركات المسلحة وجدت في (العرق) سلعة مواتية لكسب الدعم الدولي وفي التجييش المحلي. بالطبع، تزعمت عدة أطراف دولية، رسمية وشعبية، حملة (النصرة الإثنية) هذه، بعضها بدافع نبيل في إنقاذ الضحايا، وبعضها بغرض لا يخلو من شبهة الأنثربولوجيا الاستعمارية.
لا شك، رغم الجمل التقريرية السابقة، أن عنصرية فاسدة تسم حرب دافور، وأن (التجريدة) الحكومية ضد (زرقة) دارفور حققت جل شروط (الإبادة الجماعية) أو جميعها، كما تفصلها التشريعات الدولية، وأن بغضاً متبادلاً بين متساكني الإقليم (زرقة) و(عرب) شكل عنصراً دافعاً للاقتتال بين الطرفين. لكن لا يسعفنا هذا التحليل (العرقي) لشرح السلام في دارفور ما قبل الحرب، كما لا يسعفنا عند تقصي الدرب الواصل إلى السلام ما بعد الحرب. كما أن إدراكاً للعقلانية النسبية التي يتصف بها البشر، ومعرفة بصراعات مماثلة كالحرب الرواندية، وفهماً لمحركات التاريخ المتشابكة، جميعها تحول دون الركون إلى (المنتهى العرقي) في تفسير الصراعات البشرية. هذا إلا إذا كان اختيارنا أن نقبل بفقه الاستعمار القائل بمفارقة مصير شعوب افريقيا لسنن الكون كونها (متوحشة) و(بدائية) لا يصح بصددها ما يصح على غيرها من أقدار الحداثة والاجتماع، أي نزاعات الطبقات والفئات الاجتماعية في محتوى الاقتصاد السياسي للرأسمالية. وهو قول، على تعليلاته الأنثربولوجية، يتسق كل الاتساق وعنصرية ذات جذر إمبريالي، كما إنه يعفي مروجيه (الاستعماريين) من طرح الأسئلة الأصعب: تلك التي تتصل بجرم الرأسمالية تاريخاً وحاضراً في تشكيل الخريطة السياسية في البلدان الافريقية بخاصة ما يتعلق منها بأزمة (التنمية) واستحالة عدالتها وفق شروط الانتخاب الرأسمالي وعلاقات إنتاجه، إلى جانب إهدار وتخريب الموارد المصاحب لنمط الإنتاج الرأسمالي، وبالطبع، التحالف اللازم لتحقيق أهداف (الاستثمار) بين رأسمالية المركز الإمبريالي والطبقات الرأسمالية الوكيلة في بلدان الهامش الاقتصادي الكوني. وجميعها قضايا حاضرة في واقعنا السياسي لا بد من الوعي بها ومقارعتها إذا كان هدف (البناء الوطني) ما زال هو مقصود سعينا، وإذا أردنا الإفلات من المصير الذي رسمه سيسل رودز – الإمبريالي البريطاني الأشهر – لبلدان افريقيا زمان التهافت الاستعماري على القارة بزعمه أن ليس ثمة شعوب في افريقيا وإنما (أقليات) فقط!! في وجه من الوجوه يعكس القبول المؤمن بخطة (العرق) في دارفور استكانة لحكم الاستعمار الساري على افريقيا، أي أنها لا تحوي شعوباً ولا طبقات وإنما قبائل وأعراق متصارعة. وهو تقرير مهما استحسنه البعض من باب (التحليل) لا يفي تاريخ افريقيا حقه، خاصة أن الحديث من هذا التاريخ يتطابق وتاريخ الامتداد الرأسمالي في القارة بنار الاستعمار وسيفه، أي أن صراعاته هي بالضرورة صراعات حول مكاسب الحداثة وبأدواتها وليست (داحس) أو (غبراء) في سبيل الاصطفاف العرقي ليس إلا، وأن العرق في هذا المحتوى تابع للاقتصاد السياسي وليس قائد له. ذات المنطق قائم حال بحثنا في تاريخ الرأسمالية الأوروبية حيث شكلت العنصرية آيديولوجية (تمكين) مواتية للطبقات القائدة في كل من ألمانيا وإيطاليا، وكان لها نفوذ راسخ في الخطاب السياسي لغالب البرجوازيات الأوروبية، حتى انتصار الحلفاء على الفاشية في الحرب العالمية الثانية. بل إن (وصلة) عنصرية ما زالت تصاحب خطاب أحزاب (اليمين) في أوروبا كلما أرادت تجييش الدعم الشعبي لصد الهجرة من الجوار الأوروبي (الأقل نمواً) أو من بلدان العالم الثالث. في جميع هذه الحالات لا ينتهي التحليل برصد اختلاف (العنصر) وإنما يقفز إلى دوافع الانتباهة العرقية من جهة الاقتصاد السياسي. فما خطب افريقيا، إذن، لا يسري عليها من (الحداثة) سوى السلاح!
بالمقابل، تراكمت في الفترة الأخيرة أدبيات توثق لأصل صراع دارفور في محنة (التحديث) وسكة (التنمية الرأسمالية) ونالت حيزاً أكبر في الاعتبار السياسي، سوى أنها جعلت عنوان ذلك (التدهور البيئي) و(الاحتباس الحراري)، حتى أن كبريات الصحف الأوروبية أزاحت عبارة (الزرقة والعرب) كعنوان جانبي لأخبار حرب دارفور واستبدلتها بعبارة (أولى الحروب البيئية). مناط استدلال هذا الانقلاب في النظر إلى مسألة دارفور قائم في شاغل التحولات الحادثة والمتوقعة جراء الارتفاع في درجة حرارة الكوكب وما يتبعه من تغييرات مناخية أثرت وتؤثر على إنتاج الغذاء وسبل كسب العيش وشروط البقاء البشري في أقاليم الأرض المختلفة. من ذلك ما نقلته جريدة (الإندبندنت) البريطانية في تقرير لها بعنوان (التغيير المناخي: الحروب على الموارد ستشعل العالم ناراً) بلسان آخيم ستاينر، المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة البيئي (UNEP)، والذي حذر من تصاعد النزاعات على مستوى العالم نتيجة للتغييرات المناخية قائلاً: "إن تغييرات كبرى مثل ارتفاع مستوى المحيط الهندي وزحف صحراء الساحل الافريقي ستؤدي إلى اشتعال حروب جديدة. فالناس يتخطون الحدود الفاصلة بين مناطق سكناهم ونفوذهم الموروثة بدافع تغير المناخ، ما يقود إلى النزاعات بينهم. والمجتمعات ليست على استعداد لمجابهة سرعة ومدى هذه التغييرات وتبعاتها"، ليضيف في مقطع تال أن "العالم قد شهد في الحقيقة أولى الحروب الناجمة عن التغيير المناخي حيث ساهمت تغييرات مناخية مهولة في تشكيل خلفية الصراع الدائر في إقليم دارفور السوداني، والذي أسقط 200 ألف قتيل وشرد ما يربو على 2.5 مليون شخص. إن ما نراه في دارفور هو في الواقع ظاهرة تغير بيئي تلقي بثقلها على المجتمعات المحلية" (الإندبندنت، 21/06/07م).
في هذا السياق أصدر برنامج الأمم المتحدة البيئي في يونيو الماضي تقريراً ضافياً ترافقه الصور في 374 صفحة يفصل في شأن العلاقة بين البيئة والصراع في السودان بعنوان (السودان: تقييم بيئي ما بعد الصراع). وهو نتيجة جهد مشترك وبحوث ميدانية قام بها عدد من الخبراء الدوليين والوطنيين في الفترة من يناير إلى أغسطس 2006م شملت ولايات الشمالية والبحر الأحمر وكردفان والخرطوم، وولايات دارفور الثلاث، وولايات البحيرات وشمال وغرب بحر الغزال وأعالي النيل والاستوائية. أثبت التقرير في تصديره أن قضايا البيئة تشكل عاملاً أساسياً من عوامل النزاع في البلاد، بالذات ما يتعلق بالموارد: البترول، المياه، الأراضي، والأخشاب، كما أن المواجهات بخصوص أراضي الرعي والأراضي الزراعية تشهد بشكل بارز على العلاقة الوثيقة بين الصراعات المسلحة وندرة الموارد. لأهمية ما جاء في التقرير أورد في التالي بعضاً مختصراً من محتوياته:
(1) انتقل الفاصل بين الصحراء وشبه الصحراء مسافة 50 إلى 200 كيلومتر جنوباً مقارنة مع أولى قياسات هطول الأمطار والغطاء العشبي في الثلاثينات من القرن الماضي، كما يتوقع أن يستمر زحف هذا الفاصل جنوباً ما يهدد الأراضي الزراعية الواقعة في مجال شبه الصحراء، التي تشكل بدورها 25% من أراضي السودان الزراعية.
(2) بحسب هذه التقديرات يتوقع هبوط انتاج الغذاء بمقدار 20%، كما أن لهذا التغيير المناخي أثراً هداماً متعاظماً على مجتمعات السودان الرعوية، خاصة في كردفان ودارفور، ما يشكل عاملاً لتفاقم الصراعات.
(3) الزراعة، وهي أكبر قطاع اقتصادي في السودان، تشغل موقع المركز في مشاكل السودان البيئية، بخاصة ما يتصل منها بتدهور الأراضي، وتآكل مجرى النيل، وسوء إدارة المبيدات في المشاريع الزراعية الكبيرة، وتلوث المياه. أشد التدمير البيئي ناجم عن الزراعة المطرية الآلية غير المرشدة والتي تغطي مساحة 6.5 مليون هكتار، وذلك نسبة لقطع الغابات، وإهدار الحياة البرية، وتدهور الأراضي الشديد.
(4) إن النمو العظيم في أعداد الماشية، من 28.6 مليون رأس في 1961م إلى 134.6 مليون رأس في 2004م، أدى إلى تدهور واسع في المراعي.
(5) إن علاقات الأرض غير الملائمة تشكل قاعدة لعديد من المشاكل البيئية، وحاجزاً أمام الاستغلال المستدام للأراضي، حيث يفتقد المزارعون للمحفزات التي تشجعهم على الاستثمار في الموارد الطبيعية وحمايتها.
(6) يتراوح معدل فقدان الغطاء الغابي في السودان ما بين 0.84% في العام (على المستوى القومي) إلى 1.87% في العام (بحسب التقديرات في المناطق التي خضعت للدراسة)، وذلك بسبب الحوجة إلى الطاقة (الفحم النباتي) والزراعة. فقدت البلاد في الفترة من 1990م إلى 2005م 11.6% من غطاءها الغابي، أي ما يعادل تقريباً 8 ملايين و835 ألف هكتار من الغابات. على مستوى الأقاليم، فقدت مناطق شمال ووسط وشرق السودان ثلثي غطاءها الغابي في الفترة من 1972م إلى 2001م. أما درافور فقد فقدت في الفترة من 1973م إلى 2006م ثلث غاباتها، وفقد الجنوب 40% من غاباته منذ الاستقلال في 1956م.
(7) في السودان ما يفوق العشرين مشروعاً لبناء خزانات كبرى، إما قيد التنفيذ أو في مرحلة التخطيط، وهي تشكل أعظم تهديد بيئي للموارد المائية في البلاد. يتوقع أن يحقق خزان مروي إضافة مقدرة في مجال إنتاج الطاقة الكهرومائية، لكنه من الناحية الأخرى يقف مثالاً على المشاكل الاجتماعية والبيئية التي تصاحب مشاريع الخزانات الكبرى. رغم أن المشروع رافقته دراسة للآثار البيئية إلا أنها لم تحقق المعايير الدولية في هذا المجال، كما كانت تعوزها الشفافية، ولم تخضع لنقاش وتشاور في المجال العام. أما أبرز المشاكل البيئية المتعلقة بالخزان فتشمل فقدان الطمي اللازم لخصوبة أراضي الزراعة الفيضية، تراكم الطمي في الخزان، تآكل مجرى النهر بسبب اندفاع المياه العالي خلال فترات إطلاق المياه القصيرة.
(8) يعتمد 15% من سكان السودان في الحاضر على المعونات التي تقدمها المنظمات الدولية، من غذاء وخلافه، سيشكل انتقالهم إلى سبل معيشة مستقلة ومستدامة قضية بيئية معقدة. في الحقيقة، السودان واقع في قبضة دائرة شريرة مكوناتها الاعتماد على المعونات الغذائية، وتخلف الزراعة، وتدهور الأراضي الزراعية. إذا تم في الوقت الحالي تخفيض المعونات الغذائية بغرض تشجيع العودة إلى الزراعة ستكون النتيجة في بعض المناطق مزيد من فقدان الأمن الغذائي وتعاظم التدهور في الأراضي الزراعية، ما سيؤدي بالتالي إلى قابلية أكبر للفشل، ومن ثم تجدد النزوح.
لا يختص برنامج الأمم المتحدة البيئي بشرح العوامل المتداخلة وهذه الحقائق والاستنتاجات، وهذا بطبيعة المؤسسة، لذا فإن التقرير يغفل البيئة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التي أدت ببلادنا إلى هذا الدرك. لكن بداهة أولية في الاقتصاد السياسي تشير إلى أننا بصدد فشل تام لنموذج التطور الرأسمالي كما عرفه السودان، ليس الفشل بمعنى عدم النجاح في الوصول إلى الهدف فقط، لكن الفشل على طريقة (الأرض المحروقة)، أي الذي لا يبقي ولا يذر. فالقارئ للتقرير يدرك دون عون من (الحزب الشيوعي) أن المسألة أعظم من البيئة وتغييرات المناخ، وإنما تتعلق في جذرها الاقتصادي والسياسي بإدارة الدولة والطبقات الحاكمة للموارد استغلالاً وإهداراً، وأن استمرارنا في هذه (السكة) حتماً يؤدي بنا إلى هلاك لن تنقذنا بإزاءه جميع إتفاقيات العالم، وذلك حال معاصر لا ينتظرنا في المستقبل إنما نشهده في الحاضر. من ثم فإن أي تصور للإسعاف لا بد أن يقوم على أساس الاعتبار الكامل لقضايا العدالة الاجتماعية، والاستغلال والتوزيع الأمثل للموارد، ولا يمكن أن يستقيم دون تخطيط علمي منهجي يكامل بين طلب الريع الاقتصادي والكلفة الاجتماعية والبيئية. جميع ذلك غير ممكن إلا بتحول عميق في طبيعة السلطة السياسية وفي هيكل الدولة، من دولة ريعية تخدم مصالح رأسمالية متخلفة إلى دولة ديموقراطية تمثل شعبها وتخدم مصالح طبقاته المنتجة على أساس من المعرفة العلمية بإدارة التوازن بين الموارد الطبيعية والتطور الاجتماعي.
14 يوليو 2007م