حال النسابة: ما بين الحكومة السودانية والغرب


مجدي الجزولي
2007 / 6 / 29 - 11:45     

اعتلى السيد رئيس الجمهورية المنابر في كل من (جياد) وود مدني مدافعاً عن بقاء حكومته في وجه العقوبات الدولية، وعن سياسة حكومته في شأن (الاستثمار)، وعن سلطانها على الأراضي. وجه السيد الرئيس حديثه إلى (الغرب) قائلاً أن حكومته لن تسقطها المظاهرات والمسيرات وأن العقوبات الدولية ضد الحكومة السودانية قد أثمرت عدداً من الايجابيات منها العلاقة الوطيدة مع الصين. بالإضافة إلى ذلك أعلن السيد الرئيس أن اتفاقية أبوجا لم تنل رضى (الغرب) و(الولايات المتحدة الأميركية) لخلوها من الإشارة إلى (القوات الدولية). ثم اتهم جهات دولية بمحاولة تعطيل التنمية في البلاد بعد أن تأكد لها أن السودان سيصبح عما قريب مركزاً اقتصادياً لدول شرق ووسط افريقيا (الشرق الأوسط، 21/06/07م).
بما أن السيد الرئيس قد اختار (الغرب) للمواجهة فلنا أن نسأل أي (غرب) هذا، هل هو ذاته الذي جهدت شركاته في استغلال البترول السوداني في حلف استثماري مع الحكومة السودانية، على سبيل المثال لندين السويدية، تاليسمان الكندية، أو. إم. في. النمساوية، كليفدن السويسرية، ماراثون الأميركية، فحاصرتها قوى اجتماعية مؤتلفة داخل (الغرب) حتى أرغمتها على مغادرة السودان ثم نكدت عليها بالملاحقة القضائية، أم هو (الغرب) الذي قامت شركاته بتحديث قطاع الكهرباء (ايه. بي. بي. الألمانية) وقطاع الاتصالات كثيف العائد (سيمنز الألمانية)، أو ربما هو (الغرب) صاحب التكنولوجيا الشريك في سد مروي (لاماير الألمانية). ربما المقصود (الغرب) ممثلاً في الإدارة الأميركية، ذات التي أرغمت فصيل مساعد الرئيس مني أركو مناوي على التوقيع في أبوجا بـ(البوت والنبوت). وذات التي طفحت أخبار تعاونها الاستخباري الوطيد مع الحكومة السودانية في الصحافة الدولية. أقرب مثال ما كان من أمر مؤتمر لجنة أجهزة الأمن والمخابرات الافريقية الأخير في الخرطوم، وهي لجنة تعمل تحت مظلة الاتحاد الافريقي جمعت في مؤتمرها هذا ممثلي 46 جهاز استخبارات افريقي، كما ضمت بحسب تقارير صحفية ممثلين لجميع أجهزة المخابرات (الغربية) المعتبرة بما في ذلك وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي. آي. ايه) والمخابرات البريطانية، والهدف تمتين شبكة الأمن الافريقية ضد اختراق (القاعدة). بالطبع لا تنفك الولايات المتحدة تذرف الدمع السخين على أشقياء دارفور، لكن (حساب) الإمبريالية (أولاد)، وليس لمثل دارفور أن تفسد اجتماع حلفاء في (شان) الأمن القومي الأميركي. جدير بالذكر أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) كانت قد قذفت بخمسين مليون دولار إضافية في حساب قيادتها الافريقية (US Africa Command) العام الماضي، والباعث انتقال مركز الاهتمام الأميركي إلى المغرب وأقاليم جنوب الصحراء على خلفية الهجمات الإرهابية الأخيرة في الدار البيضاء والجزائر وشمال نيجيريا، هذا بجانب عقدة الصومال العصية (بزنس داي الصادرة في جوهانسبرغ، 22/06/07م). عليه، فإن الولايات المتحدة تغيظ الحكومة السودانية جهراً بينما تمدحها سراً على تعاون ضروري بل حيوي بدونه لن تدرك سيطرة على الرمال المتحركة التي تشكل خريطة المنطقة الجيوسياسية. على كل، الله أعلم بالسرائر!
في ذات الفترة انشغلت صحف أوروبية بحل لغز يقول أن وكالة الاستخبارات الأميركية تقوم بتجنيد مواطنين سودانيين متحدثين بالعربية لدسهم في التنظيمات الإرهابية المنتشرة على نطاق الشرق الأوسط ، خاصة في العراق، هذا مع العلم أن الولايات المتحدة تفرض حصاراً مشدداً على السودان، بينما وصفت تقارير أميركية الحكومة السودانية بأنها "شريك قوي في الحرب على الإرهاب". تعليقاً على هذا الخبر قال غوردون جوندرو، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، أنه يستبعد جز القناة الاستخبارية بين السودان وحكومته بل توقع أن تستمر جهود الحكومة السودانية في محاربة (الإرهاب) فذلك من مصلحتها كما هو من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية (الغارديان البريطانية، 11/06/07م). (إيه الهنا ده)، ذكرني هذا التعليق حكاية أسعد باجترارها في باب وطأة الاستعمار. غادر ابن (تربال) سوداني قريته للدراسة الجامعية في غرب أوروبا، بعد عدة سنوات جاء الخبر يحمله (التلغراف) أن الابن قد تزوج بفتاة من تلك النواحي. استلم (التلغراف) أحد (رفاقة) الأب في السوق، فما كان منه إلا أن حمله مبشراً إلى مجلس صاحبه: (والله وناسبت الدول يا أبو علي)! تسربت بعض شواهد هذا التعاون إلى تقرير أصدرته عدة منظمات حقوقية من بينها (العفو الدولية) و(هيومان رايتس ووتش) هذا العام بعنوان: "بره المحضر": مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية عن حالات الاختفاء القسري في "الحرب على الإرهاب". جاء في التقرير أنه تم توقيف مواطن ليبي يحمل إسم (أنس الليبي) في الخرطوم أول العام 2002م، بعد دورة من المفاوضات بين استخبارات البلدين تم ترحيل المذكور إلى مصر ومنها ربما إلى بلد ثالث، هذا وقد أحجمت الجهات المختصة في الولايات المتحدة عن التصريح بمحله أو مصيره، وما زال يشغل مرتبة متقدمة في قائمة مكتب التحقيقات الفدرالي (الاف. بي. آي) المعنونة (أشد الإرهابيين) على أساس اتهامه بالضلوع في تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998م وكذلك تفجيرات نيروبي في أكتوبر 2001م.
من الذي تقدم يبدو أن (سمن) الإنقاذ و(عسل) البيت الأبيض قد التقيا، على الأقل فيما يخص (الحرب على الإرهاب)، ولا ضرر ولا ضرار! أما عصاة العقوبات الدولية فشأن آخر يتعلق جانب منه بمواتاة (انتخابية) تفرض على الإدارة الأميركية أن تستجيب لنداءات داخلية ودولية بما يحفظ ماء الوجه، كونها (بوليس) الأرض والسماء، ولا يجب أن تمر عليها (إبادة جماعية) أخرى بعد رواندا دون أن (تكشكر)، والحق أنها قد مرت وانتهت، ولم تفعل بشأنها الولايات المتحدة شيئاً ملموساً سوى استصدارها صكوك (أبوجا) والتباكي على شاشات التلفزيون من منابر البيت الأبيض. هذا مما يستقيم وسنن الولايات المتحدة قديمها وجديدها، لا نستغربه، فليس من مصلحة القطب الأوحد أن يقطع وريداً قبل نضوبه، وإن قطع أفسد.
جانب آخر من خطاب الولايات المتحدة (مزدوج اللسان) يعرض للمراقب في سياق موقفها من (المحكمة الجنائية الدولية) حيث تبنت الإدارة الأميركية الرأي القائل بأن خطة المحكمة الدولية تغلب عليها سمات (المركزية الأوروبية)، وأنها لا تناسب الصراعات الافريقية (قبلية) الطابع، بل الأسلم الركون إلى آليات (الجودية) الافريقية بدليل أن تدخل المحكمة الجنائية في مسألة جيش الرب الأوغندي حال دون التوصل إلى حل تفاوضي بدا لوهلة قاب قوسين أو أدنى. ثمة شبهة أنثربولوجيا استعمارية في زعم كهذا، إذ لم يأت ذكره حين تعلق الأمر بالصراع العرقي، (قبلي) الطابع أيضاً، في البوسنة والهرسك. لكن، بطبيعة الحال، افريقيا مستثنى الاستثناءات، فصراعاتها وإن صرخ اقتصادها السياسي بضنك البيئة وعوز الموارد واستبداد الطبقات الحاكمة وتعطنت بكأس (الحداثة)، كما هو الوضع في دارفور، لا تعدو أن تكون جنون قبائل (متوحشة)، جماعات لا أفراد، ومن ثم لا محل لها في تصاريف القانون (المتمدن). إنما مردها، ولو استفحلت بلعلعة الرصاص وأزيز الطائرات الحربية، إلى مجالس حكماء القرى بإشراف (مفتش المركز) بين (الدية) و(العفو)! هذا رغم أن صراع دارفور قد تجاوز حدود الحرب الأهلية إلى مرحلة الصراع الاقليمي مكتمل الأركان، إن لم يكن الدولي، حيث جمع (نسابة) عدة، بدءاً بليبيا وتشاد وأرتريا، إلى جانب الصين وفرنسا، واصطاد في عكره الأميركيون وأهل الاتحاد الأوروبي، وطوح به الاتحاد الافريقي من قمة إلى أخرى، وطاف به مجلس الأمن الدولي عبر القارات، وعين له كل صاحب علم وزينة ممثل أو مبعوث، والآن تحرس مشاهده القوات (الهجين).
تعودنا من (الإنقاذ) إعلانها المتكرر (العداء والبغضاء) مع (الغرب) منذ أيام (المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي)، كل ذلك كان ما قبل 11 سبتمبر. كانت حجة النظام حينها أنه يمثل ترساً إسلامياً ضد الخطر الأميركي الصهيوني. اليوم وقد سادت المودة الاستخبارية بين شركاء (الإرهاب)، أو الحرب عليه سيان، يصعب جداً قبول ذات الحجة مرة أخرى، إلا أن كانت يمين النظام لا تدري ما تفعل شماله. فلينظر أهل الحكم إذن أي أعداء كسبوا، ليس القادمين من وراء الحدود، إنما المطالبين بحقهم في الحياة وفي الوطن، هؤلاء راسخة نخلاتهم في هذه الأرض، و(الزارعهم غير الله الل يجي يقلعهم).
24 يونيو 2007م