من أجل الديمقراطية العمالية


إرنست ماندل
2018 / 9 / 2 - 19:45     

إن الأحداث المؤسفة التي شهدتها جامعة بروكسيل الحرة ، بمناسبة قدوم روجي غارودي، تدعونا الى أن ندقق مرة أخرى أسباب تمسكنا بمبادئ الديمقراطية العمالية. كانت الديمقراطية العمالية، على الدوام، مبدأ أساسيا للحركة العمالية. وكانت التقاليد الاشتراكية والشيوعية متمسكة بها بصلابة، في عهد ماركس وانجلز كما في عهد لينين وتروتسكي. ولم يزعزع تلك التقاليد غير صعود الدكتاتورية الستالينية بالاتحاد السوفييتي. كما ساهم الانتصار المؤقت للفاشية بأوربا الغربية والوسطى في تلك الزعزعة. لكن جذور هذا المس بالديمقراطية العمالية أعمق وأقدم. إنها مرتبطة بظواهر تبقرط كبريات المنظمات العمالية.

--------------------------------------------------------------------------------

البيروقراطية ضد الديمقراطية العمالية

كان أول من نسف مبادئ الديمقراطية العمالية البيروقراطيون الاشتراكيون-الديمقراطيون والنقابيون، الذين بدؤوا بتطويل المدد الفاصلة بين الاجتماعات العامة لاعضائهم، ثم بالتلاعب بها او الغائها كليا في غالب الأحيان. كما شرعوا في الحد من حرية النقاش والنقد داخل منظماتهم او الغائها. ولم يترددوا في دعوة الشرطة ( بما فيها الشرطة السرية) لمحاربة الأقليات الثورية. وقد أعطت الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية المثال المشؤوم منذ الحرب العالمية الاولى، وجرى الاقتداء بذلك المثال في كل مكان في السنوات اللاحقة.

وبهذا الصدد، لم تقم البيروقراطية السوفييتية اولا، ثم بيروقراطية الاحزاب الشيوعية الستالينية (او النقابات ذات القيادة الستالينية)، سوى بالاقتداء بذلك المثال، مع تضخيمه أكثر فأكثر:

إلغاء حرية النقاش وحرية تكوين الاتجاهات، إحلال الافتراءات والشتائم عوضا عن الحجج والنقاش مع خصوم الاتجاه، استعمال كثيف للعنف المادي لجعل الخصوم " خارج القدرة على الايذاء". لقد تعرض كل الحرس البلشفي القديم الذي قاد ثورة اكتوبر، وأغلبية أعضاء اللجنة المركزية التي كان بها لينين، للإبادة على هذا النحو من طر ف ستالين خلال سنوات " التصفية الكبرى" المظلمة (1935-1938).

ان الجيل الفتي من المناضلين الثوريين المعادين للامبريالية والمعادين للرأسمالية، الذي ينهض حاليا الى الوعي الثوري، يعيد على نحو تلقائي الوصل مع التقاليد الديمقراطية العمالية. لقد أمكنت ملاحظة ذلك بفرنسا، في مايو – يونيو، عندما جرت حماية حق جميع الاتجاهات في الكلام بحرص شديد في تجمعات الطلاب والطلاب- العمال الثوريين. لكنها ليست واعية دوما بكل الأسباب المبدئية والفعالية الداعية إلى تلك الديمقراطية العمالية.

هذا ما قد يجعله يتأثر بديماغوجية من أصل ستاليني، منتشرة حاليا في بعض العصب الموالية للصين، والتي تجنح الى الدفع إلى اعتقاد أن الديمقراطية العمالية قد تكون مناقضة " لمصالح الثورة". لذا لا غنى عن اعادة تأكيد تلك الاسباب بقوة .

مبدأ أساسي للحركة العمالية

تناضل الحركة العمالية من أجل تحرر العمال. لكن ذلك التحرر يستلزم إلغاء كل ما يتعرض له العمال من أشكال استغلال واضطهاد. إن رفضا للديمقراطية العمالية يعني ببساطة الرغبة في تأبيد استحالة إسماع جماهير عمالية اليوم لارائها الخاصة. ينطلق النقد الماركسي للديمقراطية البرجوازية من فكرة أنها شكلية لا غير، لأن العمال تعوزهم وسائل مادية لممارسة الحريات التي تمنحها شكليا الدساتير البرجوازية لكافة المواطنين. حرية التعبير شلكية لا غير لأن إمكان جمع مئات ملايين الفرنكات الضرورية لاصدار جريدة يومية ليس بوسع غير الرأسماليين ووكلائهم.

لكن الخلاصة المستنتجة من هذا النقد للديمقراطية البرجوازية هي طبعا وجوب إتاحة الوسائل التي تتيح استفادة العمال كافة من وسائل نشر الافكار تلك ( المطابع، قاعات الاجتماع، الراديو والتفزيون، الملصقات، الخ)، وعلى العكس اذا اسُتخلص أن لحزب يعلن نفسه " حزبا قائدا للبرولتاريا" دون غيره، او لعصبة صغيرة تعلن نفسها " ثورية صافية"- الحق في الكلام، وفي الصحافة ونشر أفكارها، بإقصاء كل الاتجاهات الاخرى داخل الطبقة العاملة، ثمة خطر مفاقمة الاضطهاد السياسي الذي يتعرض له العمال، بدل الغائه.

غالبا ما يرد الستالينيون: ان تحرر العمال هو الغاء النظام الرأسمالي. نحن نتفق مع القول إن الغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وإلغاء الاقتصاد القائم على الربح، والغاء الدولة البرجوازية، كلها شروط لا غنى عنها لتحرر العمال. لكن قول " الشروط التي لا غنى عنها" لا يعني انها" شروط كافية " .

هذا لأنه فور إلغاء النظام الرأسمالي، يطرح السؤال: من سيقوم بإدارة المصانع، والاقتصاد، و البلديات، والدولة، والمدارس، والجامعات؟ إذا كان حق إدارة الاقتصاد والمجتمع محتكرا من طرف حزب وحيد، و إذا فرض هذا الاخير بالارهاب احتكارا لممارسة السلطة، وإذا لم يسمح لجماهير العمال بالتعبير عن آرائها، وانتقاداتها، وانشغالاتها، ومطالبها، وإذا أبعدها عن تلك الادارة- انذاك من المحتم قيام هوة متزايدة العمق بين تلك البيروقرالطية كلية القدرة وجماهير العمال. وعندها ليس تحرر العمال غير خديعة. وبدون ديمقراطية عمالية حقيقية، في جميع المجالات، بما فيها حرية التنظيم والصحافة، يستحيل تسيير ذاتي عمالي للاقتصاد والمجتمع وتحرر حقيقي للعمال.

ما من وحدة عمل عمالية دون ديمقراطية عمالية

وتتعزز هذه الدواعي المبدئية بدواعي الفعالية. إن الطبقة العاملة، مثل باقي طبقات المجتمع، ليست متجانسة. إن لها مصالح طبقية مشتركة، آنية وتاريخية على السواء. لكن وحدة المصالح تلك متشابكة مع اختلاف مصالح، له اصول متباينة: وجود مصالح آنية خاصة (حسب المهن، والمجموعات، والمناطق، والحرف، الخ) ، ووجود مستويات وعي متفاوتة. لم تع بعد فئات عمالية عديدة مصالحها التاريخية. و تأثرت فئات أخرى بإيديولوجيات برجوازية وبرجوازية صغيرة. و ما تزال أخرى منحنية تحت ثقل هزائم الماضي وإخفاقاته، وتحت ثقل التشكيكية أو حتى التدهور الناتج عن المجتمع الرأسمالي ، الخ.

والحال أن إطاحة النظام الرأسمالي متعذرة ما لم يتعبأ مجموع العمال في النضال ضده. ولا يمكن الحصول على وحدة النضال هذه إلا إذا أمكن التعبير عن اختلاف المصالح الخاصة ومستويات الوعي، وأمكن تحييدها، شيئا فشيئا بالنقاش والاقناع. أما إنكار ذلك الاختلاف، وقمعه بعنف، فلن يفضي سوى الى تحطيم وحدة النضال والقاء مجموعات متتالية من العمال الى السلبية وحتى الى موقف عدائي.

إن كل من جرب حركة إضراب قد لاحظ بالتجربة أن الاضراب الأكثر نجاحا هو الذي جرى إعداده وخوضه بواسطة تجمعات عامة عديدة للعمال المنظمين نقابيا، ثم كل العمال المعنيين، حيث أمكن تطوير كل دوافع الإضراب، وحيث أمكن التعبير عن كل الآراء،وحيث تم دحض كل حجج العدو الطبقي. إن إضرابا ُيطلق دون هكذا ديمقراطية مهدد أكثر بمخاطر ألا ينفذه عمال عديدون سوى على مضض، أو حتى لا ينفذونه.

وما يصح بصدد إضراب معزول، أصح في حالة إضراب عام أو ثورة. لقد تميزت كل الحركات الثورية العمالية الكبرى – من الثورة الروسية الى الحركة الثورية في مايو-يونيو بفرنسا، مرورا بالثورة الألمانية والثورة الاسبانية وغيرها- بانفجارات حقيقية للديمقراطية العمالية. كانت اتجاهات عمالية عديدة متعايشة تعبر بحرية بالكلام وبالصحافة وتناقش أمام الطبقة برمتها.

وتعبر كلمة سوفييت –مجلس مندوبي العمال- عن وحدة المتناقضات تلك: وحدة العمال في إطار تنوع اتجاهاتهم. كان ثمة في مؤتمر السوفييتات الروسية الثاني، الذي استلم السلطة، خلال ثورة اوكتوبر، زهاء اثني عشر اتجاه وحزب منظم. و كل محاولة لقمع هذه الديمقراطية العمالية- قامت بها الاشتراكية-الديمقراطية بالمانيا والستالينيون باسبانيا- كانت علامة ، وحتى تعبيرا عن التراجع وهزيمة الثورة.

ما من توجه سياسي صائب دون ديمقراطية عمالية

لا يعرقل غياب الديمقراطية العمالية وحدة نضال العمال وحسب، بل يعرقل أيضا بلورة توجه سياسي صائب. صحيح أن بيد الحركة العمالية سلاحا نظريا نفيسا لإيجاد الطريق في تعرجات الصراعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي غالبا ما تكون بالغة التعقيد، أي الماركسية الثورية. لكن هذا مشروط باستعمال هذه الأداة بكيفية صائبة. وهذا الاستعمال ليس احتكارا لأحد. لا شك أن ماركس ولينين كانا شخصين عبقريين. لكن الحياة والتاريخ يطرحان بلا توقف مشاكل جديدة، لايمكن ببساطة حلها بواسطة نصوص مقدسة. إن ستالين، الذي اعتبره قبل وفاته العديد من الشيوعيين الصادقين "معصوما عن الخطأ"، ارتكب في الواقع أخطاء عديدة دون الحديث عن جرائمه التي أدى بعضها- المتعلق بالسياسة الزراعية- الى عواقب وخيمة طيلة ثلاثة عقود على الشعب السوفييتي. وماو تستونغ، الذي يعتبره سدج آخرون "معصوما عن الخطأ"، وافق على سياسة ايديت، قائد الحزب الشيوعي الاندونيسي، حتى عشية الانقلاب العسكري، وهذه السياسة مسؤولة جزئيا بالأقل عن موت خمس مائة ألف شيوعي وعامل اندونيسي.

أما خرافة كون اللجنة المركزية لحزب ما "على حق دوما"، أو أن أغلبية تلك اللجنة " على حق دوما"، فحتى ماو رفضها في المقرر الشهير للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني حول الثورة الثقافية في ابريل 1967.

لكن إن لم تكن الحقيقة والحكمة حكرا على أحد، ولا على أي مجموعة، فلا غنى عن الحوار لتحديد توجه سياسي صائب. إن رفض النقاش بأي مبرر كان( ومبرر أن المنتمي لاتجاه آخر عنصر"مضاد للثورة"، أو حتى " عدو طبقي"، مبرر قديم قدم البيروقراطية)، واستبداله بالشتائم والعنف المادي، يعني الحكم بالبقاء في سجن أفكار خاطئة، وتحاليل ناقصة ذات عواقب ُمضعفة وحتى كارثية.

الماركسية مرشد عمل كما ُيقال غالبا. هذا صحيح. لكن الماركسية تتميز عن الاشتراكية الطوباوية بادعائها التحليل العلمي. لا تستهدف الماركسية عملا من أي نوع كان. إنها تستهدف عملا كفيلا بالتأثير على الواقع التاريخي، ومغير له في اتجاه معين، اتجاه الثورة الاشتراكية، وتحرر العمال والبشرية برمتها.

إنه من صدام الأفكار والاتجاهات تنبجس الحقيقة لإرشاد الممارسة. إن ممارسة تستوحي فكرا "مونوليتيا"، كتبيا وصبيانيا، غير خاضع لنقد حر لا ينجبه سوى مناخ ديمقراطية عمالية، عمل حكم على ذاته بالفشل الأكيد: خيبة أمل الأفراد وفقدهم للعزيمة، إن تعلق الأمر بمجموعات صغيرة، وهزائم للطبقة إن تعلق الأمر بنقابات أو أحزاب أكبر، هزائم غالبا ما تؤدي الى كم ضخم من الإهانات والحرمان وأشكال البؤس، وحتى من الموتى، بالنسبة للجماهير العمالية. غالبا ما يجري في الأوساط الستالينية، والستالينية الجديدة، الاعتراض على الحجج التي أتينا على ذكرها لصالح مبادئ الديمقراطية العمالية وممارستها بأن هذه غير قابلة للتطبيق على "أعداء الاشتراكية" داخل الحركة العمالية. وتتبنى على نحو غريب بعض المجموعات التي تعتبر نفسها من أقصى اليسار ومعادية للبيروقراطية استدلالا شبيها لتبرير صخب أو عنف جسدي بدلا عن نقاشات مع خصوم من اتجاه آخر.

و يصيح هؤلاء و آخرون:" لا نقاش مع التحريفيين، والقوى الرأسمالية وممثلي العدو". يحاول البعض عمليا استبدال النقاش بالقمع،وحتى بالقتل واستعمال المدرعات ضد العمال (محاكمات موسكو والتدخل في هنغاريا وفي شيكوسلوفاكيا)، ويكتفي آخرون، بتواضع أكثر، بمنع غارودي من تناول الكلمة، بلا شك الى حين حلول اليوم الذي يحلمون به حيث سيستعملون وسائل أشد " فعالية" مقتدين بالنموذج الستاليني.

لا ديمقراطية للـ "تحريفيين"

يدل التبرير الثوري لهذه الممارسات غير المقبولة على ثلاث ضروب من الخلط. أولها: ليست حرية التعبير" امتيازا" بيد الماركسيين والثوريين يعطونه أو يمنعونه عن "التحرفيين". انه حق يطالبون به هم أنفسهم.

الأعمى وحده لا يرى ان "التحريفيين" ، الاشتراكيين-الديمقراطيين او الخروتشوفيين، هم من يوجد في أغلب الحالات في مواقع القوة داخل النقابات وغيرها من منظمات العمال. والماركسيون والثوريون هم الأقلية، وهم من يطالب بحرية النقاش ( الذي غالبا ما تُرفض لهم).

أليس جليا أن حرمان " التحريفيين"، في حالات انتقالهم إلى موقع أقلية، من الكلام إضعاف في الآن ذاته للمعركة من أجل تسييد الديمقراطية العمالية حيثما تظل البيروقراطية سيدة اللعبة.

غالبا ما قام قادة الحزب الشيوعي الفرنسي، خلال أيام مايو، بمنع الطلاب وممثلي المجموعات الثورية من النقاش في التجمعات العمالية، واستعملوا أحيانا العنف الجسدي. ورد الماركسيون بحدة وحاولوا، على نحو لا يخلو من نجاح، إقناع العمال أن تلك الممارسات مناقضة لمصالح الطبقة العاملة. لكن أذا أقدموا بدورهم على تطبيق الممارسات ذاتها، فيفقد استدلالهم كل قيمة. و سيحكم عليهم العمال بما هم منافقين.

والحال أن الحديث عن " التحريفيين" مع تناسي تفصيل صغير، أي كونهم مازالوا يحظون بثقة نسبية وحظوة قيادية لدى أغلبية العمال المنظمين – مثلما أكدت أحداث فرنسا مرة أخرى- إنما هو بجلاء انخداع وشل للذات مسبقا في النضال لانتزاع تلك الجماهير من تأثيرهم الضار.

يستحيل النجاح في هذه المهمة، التي تعتبر من أصعب ما يواجه الماركسيين بأوربا الغربية، دون رفع مستوى وعي العمال وفهمهم السياسي. و يتطلب هذا نقاشات، ومواجهات إيديولوجية أكثر فأكثر إقناعا. إن التشهير والشتائم واللكمات لا تقنع العامل الذي لا يزال مجندا في الاشتراكية-الديمقراطية، ولا العامل الذي يتبع الحزب الشيوعي الخروتشوفي لأنه يعتقد أن هذا لا يزال، رغم كل شيء، شيوعيا. ولن ُتقنع إلا المقتنعين أي أقلية ضئيلة. أخيرا يجب التدقيق جيدا أن اعتبار "التحريفيين" الاشتراكيين الديمقراطيين أو الخروتشوفيين رأسماليين أو " وكلاء الرأسمال" ناتج عن خلط عقائدي خطير .

التحريفيون ليسوا رأسماليين

طبعا، تعمل البيروقراطيات العمالية موضوعيا لمصلحة الرأسمال، لا سيما بالتحكم في الانفجارات الثورية الدورية لعالم الشغل وتوجيهها نحو حلول إصلاحية، وتخنق بذلك إمكانات إطاحة النظام الراسمالي. كما تعمل في الاتجاه عينه بالتأثير على العمال، يوما بيوم، في اتجاه التعاون الطبقي، وبنسف وعيهم الطبقي بأفكار قادمة من العالم البرجوازي.

لكن وظيفة تلك البيروقراطيات، ودورها الموضوعي، لا ينحصران في ذلك. إنها بمواصلة نشاطاتها الإصلاحية الروتينية، تعمل كذلك ضد المصالح اليومية للرأسمالية. فما تحصل عليه من زيادات في الأجور ومن تشريعات اجتماعية – مقابل وعود إبقاء المطالب في الحدود التي لا تهدد أسس النظام- تقلص شيئا ما أرباح الرأسماليين. إن المنظمة النقابية التي تقودها البيروقراطيات تضغط على العلاقات اليومية بين أرباب العمل والعمال بالقوة الجماعية لعالم الشغل- وبفعل ذلك تحل تلك النزاعات في اتجاه مغاير تماما لما كان في القرن الماضي لما كانت القوة النقابية محدودة أو منعدمة.

عندما يكون الاقتصاد الرأسمالي مزدهرا، تمثل تلك التنازلات ثمنا تكون البرجوازية على استعداد لدفعه مقابل "السلم الاجتماعي". لكن عندما يهتز الاقتصاد الرأسمالي، تصبح تلك التنازلات بسرعة غير مقبولة من البرجوازية. وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الرأسمال الكبير أن يلغي كليا المنظمات العمالية، حتى أكثرها اعتدالا وأكثرها اصلاحية. إن وجود النقابة ذاته يصبح غير متطابق مع بقاء النظام.

هكذا تتأكد بجلاء الطبيعة الحقيقية للبيروقراطية الاصلاحية للحركة العمالية، التي ليست قوة رأسمالية بل قوة برجوازية صغيرة. ليست مكونة من مالكي رساميل، يشترون قوة العمل لتملك فائض القيمة،. اإها مكونة من موظفين برواتب (من المنظمات العمالية او من الدولة) يتأرجحون ويترددون بين معسكر الرأسمال ومعسكر العمل، مائلين حينا الى هذا وحينا الى ذاك، حسب مصالحهم الخاصة والضغوط الممارسة عليهم. و إنه من مصلحة العمال الطليعيين، بوجه هجمات العدو الطبقي، بذل المستحيل لإجبارهم على الالتحاق بمعسكرهم، وإلا ُيصاب الدفاع المشترك بضعف شديد.

التناقضات داخل الشعب والتناقضات بين الرأسمال والعمل

إن تجاهل هذه الحقائق الأولية يفضي إلى اسوأ الكوارث. وقد تعلمت الحركة العمالية ذلك على حسابها خلال صعود الفاشية. فقد اخترع "العبقري" ستالين خلال تلك الفترة نظرية "الاشتراكية الفاشية"، حيث لا فرق بنظره بين الاشتراكيين-الديمقراطيين "التحريفيين" والفاشيين. وأعلن حتى وجوب هزم الاشتراكية-الديمقراطية قبل القدرة على هزم النازيين.

و بينما كان العمال الاشتراكيون-الديمقراطيون والعمال الشيوعيون يتبادلون الضرب على الوجه بنشاط- كانت مسؤولية القادة الاصلاحيين والحالة هذه مساوية لمسؤولية القادة الستالينيين- وصل هيتلر الى السلطة، وذبح آلاف المناضلين العماليين، وحل كل المنظمات العمالية و سمح للاشتراكيين-الديمقراطيين وللشيوعيين بالتصالح مؤقتا وبما لا يخلو من مرارة ... في معسكرات الاعتقال. ألم يكن أفيد النضال المشترك ضد النازيين ومنعهم من الوصول الى السلطة، دون أي تنازل على صعيد الصراع الايديولوجي ضد التحريفية؟

وعلى نطاق أضيق وأقل مأساوية بشكل كبير جدا، يمكن للوضع بالجامعة، بين عشية وضحاها، أن يعيد إنتاج مأزق من النوع ذاته. تناضل كل الاتجاهات اليسارية من أجل انتزاع "حق العمل السياسي" داخل الجامعة، لكن من المحتمل جدا أن تقوم الإدارة، مستغلة ذريعة أحداث من قبيل التي أحاطت بقدوم غارودي، بمنع الندوات السياسية. ما العمل آنذاك غير النضال المشترك من أجل حد أدنى من الحرية السياسية داخل الجامعة؟ أليس من الأفضل أن ُتحترم منذ الآن قواعد الديمقراطية العمالية التي تطابق المصلحة المشتركة للحركة العمالية وللحركة الطلابية الاحتجاجية؟ كان ماو تسي تونغ، في رد عام 1957 بعد الكشف الرسمي عن جرائم ستالين بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي ( والذي وافق عليه انذاك)، قد أثار الانتباه إلى ضرورة التمييز بعناية بين كيفية تسوية الخلافات داخل الشعب- بالاقناع، والنقاش، والتجربة العملية- وكيفية حل الصراعات مع العدو الطبقي. لم يكن ذلك غير تأكيد ضمني لضرورة تسييد الديمقراطية العمالية "في صفوف الشعب".

لكن لا معنى لهذا التمييز إلا إذا استند على مقاييس موضوعية: العدو هو الرأسمالية (وبالبلدان الأقل تصنيعا، المالك العقاري)، والشعب هو جماهير المنتجين، وجماهير الأجراء – ذوي الرواتب ( وبالبلدان شبة المستعمرة جماهير الفلاحين الفقراء). اذا استبدلت هذه المقاييس الموضوعية بمقاييس ذاتية (:" يصبح رأسماليا ومضادا للثورة كل من لا يتفق مع أي من انعطافاتي التكتيكية، ولو كان طيلة عشرين سنة رئيس جمهورية الصين الشعبية ونائب رئيس الحزب الشيوعي الصيني!")، كان السقوط في التعسف التام. عندها ينتهي التمييز بين " التناقضات في صفوف الشعب" و "الصراعات مع العدو الطبقي"، وتُعامل الأولى أكثر فأكثر حسب نموذج الثانية.

تستحيل طبعا إقامة فصل مطلق وكامل بين الاثنين. و قد توجد حالات قصوى. نحن أنصار النقاشات الصريحة داخل تجمعات المضربين. و لا نرى وجوب الاكتفاء بمناقشة لطيفة مع كاسري الإضراب. إن المطلوب، في كل من هذه الحالات القصوى، تمييز أفعال( وحتى جرائم) عن آراء واتجاهات ايديولوجية. تجب البرهنة على الأولى والحكم عليها باعتماد مقاييس مصالح العمال ( أو، بعد إطاحة الرأسمالية، مقاييس الشرعية الاشتراكية) موضوعة بجلاء وقابلة للتحقق منها لتفادي التعسف. والثانية غير قابلة للخلط مع الأولى ألا بخنق الديمقراطية العمالية، وإضعاف وعي العمال وتعبئتهم، وشل تدريجي لقدرتهم الذاتية على التوجيه السياسي الصائب.

مسألة ميزان قوى او مسالة مبادئ ؟

يعلن البعض بشكل حاسم: هذا كله مسألة ميزان قوى! عندما يكون البيروقراطيون الأقوى يضطهدوننا، فلماذا لا نضطهدهم بدورنا عندما نكون الأقوى؟ هذا موقف كلبي وساذج في الآن ذاته. وعندما تطبق مجموعات تدعي أنها "ذات ميول لاسلطوية"، و" معادية للتنظيم" قواعد من هذا القبيل تجانب المنطق على نحو نادر. إذ يستحيل نيل أدنى ثقة، والحصول على أدنى مصداقية لدى الجماهير العريضة، إذا جرى الدوس على المبادئ.

المسألة بسيطة في آخر المطاف. كل من له ثقة في أفكاره وفي الجماهير، وكل مقتنع بصواب رأيه، لا يخشى النقاش مع أي كان. إننا نتقوى بالدفاع عن أفكارنا ضد أي كان، وتوعية ولو قسم من المستمعين ( وحده جمهور مستمع مكون حصرا من اناس تشكل المصالح الاجتماعية والمادية عقبة امام الفهم قد لا ُيزعزع، وحتى هذا !).

إن منع غارودي من الكلام ليس سوى منحه انتصارا سهلا. وإنزال شر هزيمة به في نقاش، والبرهنة على تهافت استدلاله والدور الضار لحزبه في أحداث مايو- يونيو، إنزال هزيمة نكراء به.

وعلى الصعيد النفسي، ُيعبر رفض النقاش واللجوء الى الشتائم أو إلى " الحجج الضاربة" نقصا في الثقة بالذات، وخجلا وعقدة نقص ( أو ذنب) مرضية.

لكن عندما يجري التعبير عن هذه الظواهر النفسية الفردية بشكل جماعي داخل مجموعات أو اتجاهات، يلتقي حكم عالم الاجتماع مع حكم عالم النفس، يتعلق الأمر دوما باتجاهات يتملكها الخوف من الجماهير، ولا ثقة لها في الجماهير، وتريد الحلول مكان الجماهير، وتريد منع العمال من التحرر ذاتيا، وتسعى الى مزايا مجموعات ذات امتيازات. وبما هي كذلك تجب محاربتها لأنها مضرة بنضال المستَغَلين التحرري.

ارنست ماندل

جريدة اليسار البلجيكية LA Gaucheعدد 43-44 ، 16 و23 نوفمبر 1968 موقع org.ernestmandel.www

تعريب جريدة المناضل-ة