التعددية النقابية في تونس: قراءة في الوثائق التأسيسية ل-الجامعة العامة التونسية للشغل-


حزب العمال التونسي
2007 / 5 / 10 - 11:50     

مقدمــة

صدر في المدة الأخيرة، عن "الجامعة العامة التونسية للشغل"، المنظمة النقابية الجديدة "البيان التأسيسي" ووثيقة أخرى بعنوان "من أجل إعادة تأسيس الحركة النقابية التونسية: بعث منظمة نقابية جديدة".

وأعلن بالمناسبة تشكيلُ "لجنة اتصال من أجل إعلام النقابيين والشغالين والرأي العام ووسائل الإعلام وطنيا ودوليا" وهي تتكون من أربعة أعضاء يمثلون حسب البيان جيلين من النقابيين وهم : فاطمة الشريف (مناضلة نقابية من قطاع التعليم، شاعرة وروائية) وسعاد الكداشي (مناضلة نقابية من قطاع الفلاحة، مهندسة) ومحمد شقرون (مناضل نقابي من قطاع المعادن وكاتب عام سابق للاتحاد الجهوي للشغل بتونس). والحبيب قيزة (مناضل نقابي من قطاع الكيمياء وكاتب عام سابق للاتحاد الجهوي للشغل بقابس، منسق هذه اللجنة).

كما جاء في ذات البيان أنه تقرر عقد ندوة صحفية للإعلان عن تأسيس المنظمة الجديدة يوم الخميس غرة فيفري 2007 غير أنه لم يكتب لهذه الندوة الانعقاد في الأجل المحدد نزولا عند رغبة السلطة التي طلبت حسب ما يروج من أصحاب المشروع الاكتفاء بالنشاط والإعلام بطرق أخرى غير الندوة الصحفية. واختتم البيان بتأكيد عزم أصحاب المشروع "على تأسيس هذه المنظمة النقابية الجديدة رغم كل العراقيل والصعوبات وفي كنف المسؤولية واحترام القانون".

أما الوثيقة الثانية فقد تضمنت عرضا لأهم الأسباب التي حدت بالمجموعة المذكورة إلى الإقدام على هذه الخطوة واشتملت على محورين أساسيين هما:

- في إعادة تأسيس الحركة النقابية التونسية

+ تقييم تجربة الحركة النقابية الوطنية بتونس.

+ من أجل ديناميكية نقابية جديدة: التعددية النقابية

- ضرورة تأسيس منظمة نقابية جديدة

+ تجديد الرؤى والأهداف والبرنامج

+ تجديد القاعدة الاجتماعية

وبالاطلاع على فحوى هاتين الوثيقتين رأينا أن نتعمق في مضمون الأفكار والحجج والتبريرات المقدمة (خاصة في الوثيقة الثانية منها) لتــأسيس هذه المنظمة الجديدة ودواعي بعثها وأوجه تميّزها عن منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل.

I - التعددية النقابية

أثار نبأ بعث منظمة نقابية جديدة جدلا قديما/جديدا حول موضوع التعددية النقابية والوحدة النقابية. ورغم أنه لم يتجاوز حدود "النخبة النقابية" إن جاز القول أي الإطارات والناشطين النقابيين لأن المسألة لم تلق أي صدى على المستوى القاعدي، الجماهيري لا بالسلب ولا بالإيجاب، فإن ما يلاحظ من ردود الأفعال وخاصة الرافضة لفكرة التعدد يؤكد مرة أخرى سطحية المقاربات والأحكام التي تم إطلاقها على التجربة وغياب الجهد في التعمق والبحث وبالتالي غياب المجادلة العلمية والمبدئية.

ترسخ في تونس، على خلاف عديد البلدان الأخرى تقليد الوحدة التنظيمية للحركة النقابية. ومعروف أن كل محاولات التعدد النقابي التي ظهرت في الخمسينات على يد الزعيم النقابي الراحل الحبيب عاشور (1956) وفي السبعينات على يد مدير الحزب السابق محمد الصياح، وفي الثمانينات (الاتحاد الوطني) على يد عبد العزيز بوراوي المنشق عن الاتحاد العام وكذلك في التسعينات بزعامة عضو المكتب التنفيذي السابق للاتحاد العام محمد الطاهر الشايب (الكنفدرالية الديمقراطية للشغل) باءت بالفشل بقطع النظر عن منطلقات كل محاولة من تلك المحاولات أو أهدافها وبالتالي مشروعيتها لأنها اصطدمت بمنظمة نقابية قوية لها "شرعية تاريخيـة" وهو ما جعل الذهنية العمالية والنقابية لا تقبل بسهولة وجود منظمة موازية أو بديلة لها.

لكن بصرف النظر عن الملابسات التاريخية الموضوعية التي أدت إلى ميلاد هذه المبادرات يجدر بنا اليوم ونحن حيال محاولة جديدة أن نعمق النقاش حول التعددية النقابية والنظر إليها من زاوية ما إذا كان مقبولا من حيث المبدأ أن تعيش الطبقة العاملة تعددية نقابية أي وجود أكثر من منظمة تلهج باسمها وتدعي تمثيلها لنتناول بعد ذلك ظروف نشأة النقابة الجديدة المعلنة أخيرا ومنطلقاتها وأهدافها.

1 – الوحدة النقابية هي المبدأ ولكن بأي شروط؟

يبقى المبدأ دوما في وحدة جماهير العمال إذ من غير المستساغ أن تتشتت طبقة العمال في مواجهة عدوها الطبقي، طبقة أصحاب رأس المال الذين يعيشون على ما تنتجه سواعدهم، ويستأثرون بثمـرة مجهودهم سواء كان ذلك في البلدان الرأسمالية المتقدمة أو الأقل تقدما والمتخلفة. إن طبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج والمسيطرة على جهاز الدولة بجميع مؤسساته تتمتع بكل مقومات التفوق وتجمع بين أيديها كل وسائل الاستغلال (رأس المال) والقمع (الإدارة والبوليس والجيش ووسائل الدعاية والتخدير الذهني والمعنوي). فهي بذلك تتمتع برجحان موازين القوى لصالحها لاستدامة موقعها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وإيديولوجيا. وحيال ذلك لا تملك طبقة العمال غير قوة عملها ووحدتها ووعيها بوضعها كطبقة مستغلة ومقهورة وبضرورة الدفاع موحدة وحدة كاملة عن مصالحها وتوفير الشروط الطبقية لضمان تحقيق مطامحها وصون مصالحها. وتشكل النقابات واحدة من أدوات نضالها من أجل هذا الغرض. وبطبيعة الحال يستوجب نضالها الموحد وحدة منظماتها النقابية حتى يكون لنضالها فعالية وجدوى. وهو ما يعني أن تكون هذه الوحدة مبنية على أساس نضالي واع لا يقبل التناحر الفئوي والتشتت. بهذا المعنى تكون الوحدة ضرورية ومبدئية وكل من يحاول شقها إنما يريد بعث الفرقة والشقاق داخل الصف الطبقي للعمال.

أما أن تكون الوحدة تحت مظلة منظمة مبنية على خط وفاقي مع البرجوازية وعميل لها ويهدف إلى ضمان مصالحها في استدامة الاستغلال والقمع والاستئثار بخيرات ثمرة عملية الإنتاج العام فهي وحدة مغشوشة. إن وحدة من هذا القبيل هي وحدة معادية للعمال ومطلوب مقاومتها والعمل على تغييرها تغييرا جذريا. غير أن هذه المقاومة لا تؤدي بالضرورة وفي كل الأحوال إلى النجاح. فالبرجوازية لا يهدأ لها بال ولا تتوقف أبدا عن تخريب صفوف العمال من الداخل بعد أن أجبرت على القبول بتنظّمهم ولا ترك فرصة تمرّ دون أن تشتري ذمم القيادات النقابية فتغدق عليهم الامتيازات المادية والمعنوية لتفصلهم عن زملائهم وتربطهم بعجلة نظامها وتحولهم إلى خدم لمصالحها من داخل صفوف العمال. أما الذين لا يقبلون بهذه الخيانة الطبقية ويصمدون في وجه عمليات الشراء فتسلط عليهم كل أشكال التعسف والإقصاء لتتخلص منهم. وتعتمد في ذلك كل الأساليب من الطرد من العمل ومن الهياكل النقابية، إلى السجن وحتى الاغتيال.

وإذا فشلت في مساعيها ومحاولاتها فإنها تعمل جاهدة من أجل خلق فراغ جماهيري حولهم وتأليب العمال عليهم بواسطة حملات الكذب والتشويه. وتستعين بطبيعة الحال في مثل هذه الأعمال بالعناصر العمالية التي حولتها بواسطة الإفساد إلى أرستقراطية عمالية موالية.

ومعلوم أن مثل هذه المساعي بقدر ما تنجح أحيانا في تدجين المنظمات النقابية والسيطرة عليها، توفر أحيانا أخرى مادة ثمينة للعناصر النزيهة المناضلة والمبدئية لكسب ثقة العمال واستجلابهم إلى جانبهم حتى تصبح المنظمات النقابية منقسمة على نفسها في تيارين اثنين، واحد مهادن وتابع للبرجوازية والرجعية تقوده العناصر الانتهازية المبيوعة وآخر مناضل ومبدئي. وحين يستنفد الصراع بين هذين التيارين كلّ مراحله وأطواره تضطر المنظمات النقابية إلى الانقسام والتصدع وتظهر تبعا لذلك منظمات متعددة بحسب تناقض واختلاف التيارات الفكرية والسياسية والنقابية التي يشقها.

2 – متى يكون "الانشقاق" مشروعا؟

إن شق الوحدة النقابية المؤسسة على خط التهادن والتدجين يلقى مشروعية في السعي إلى إنقاذ هذه المنظمات من تخريب البرجوازية وفي الانتظام خارج هذا المنطق المعادي لمصالح العمـــال. ولا تكتفي العناصر النقابية النزيهة بالانشقاق، بل هي تواصل عملها من أجل توسيع قاعدتها العمالية وتوحيد العمال من جديد حولها وعزل القادة/أعوان البورجوازية وخدمها.

وبهذا المعنى يصبح الانشقاق منطقيا ومقبولا وهو بمثابة إجراء دفاعي يقدم عليه العمال للذود عن مصالحهم.

أما أشكال التعدد الأخرى التي تنشأ على أسس أخرى غير التي كنا بصدد تحليلها، كالتي تدفع إليها البرجوازية أو تلك التي تلجأ إليها شقوق من الارستقراطية العمالية فهي عمليات مرفوضة وليست في صالح الحركة النقابية والطبقة العاملة. إن البرجوازية المتربصة بالنضال العمالي الطبقي غالبا ما تلجأ هي الأخرى حينما لا تنجح في الهيمنة على المنظمات النقابية وحينما تيأس من إبقائها تحت سيطرتها إلى تحريض العناصر الموالية لها في هذه المنظمات على الانشقاق وتقسيم صفوف العمال وبعث منظمات صفراء مستعدة للسير في ركابها وخدمة مصالح رأس المال. وتؤكد تجربة العديد من المنظمات والحركات النقابية أن فصائل من الارستقراطية العمالية المتبرجزة لا تتوانى عن الدعوة إلى الانشقاق عن منظماتها الأصلية خاصة عندما تكون هذه المنظمات منقادة بخط نضالي متحيز للعمال ومطامحهم الطبقية فينشئون منظمات صفراء خاصة بهم. وغني عن القول إن مثل هذه الانشقاقات وهذه التجارب من التعددية النقابية منافية لمصلحة الحركة النقابية ومضرة بوحدة النضال ولا يمكن بالتالي من حيث المبدأ تزكيتها أو النظر إليها كتجارب إيجابية في تاريخ الحركة النقابية العمالية.

وكما سبق أن قلنا فإن المبدأ هو دوما الدفاع عن وحدة حركة نضال العمال لا في تشرذمها وتفتيت صفوفها إلا إذا كانت هذه الوحدة لاستدامة سيطرة رأس المال على المنظمات النقابية وتدجينها، ففي هذه الحالة فقط ينظر إلى الانشقاق وتكوين منظمة نقابية أخرى كعمل إيجابي وثوري أحيانا الهدف منه جرّ العمال خارج إطار المنظمات المتخاذلة وإلحاقهم بالمنظمة الجديدة ذات الخط النضالي والمبدئي إلى أن تتوفر ظروف إعــادة توحيد الحركة وتحيّن ساعة بعث منظمة موحدة لكن على أساس خط النضال المبدئي المستقل عن اختيارات البرجوازية فإن حالة التعدد الوحيدة التي يمكن القبول بها هي تلك التي تهدف إلى تحرير الطبقة العاملة وحركتها النقابية أو حتى جزء منها من ربقة هيمنة مفاهيم ومصالح رأس المال وتنقية المنظمة النقابية من العناصر الانتهازية المبيوعة للعدو الطبقي.

3 - الشروط الموضوعية والذاتية لنجاح "الانشقاق"

لكن نجاح هذا المسعى يبقى لا محالة مرهونا بجملة من الشروط الموضوعية والذاتية التي تمر بها الحركة النقابية كي لا تكون عملية الانشقاق عملية متسرعة ومغامرية وفوقية لا تعكس في شيء مصلحة تقدم الحركة ولا وعي الجماهير العمالية التي لا تجني من ذلك سوى مزيد مـــن الخيبة والإحباط.

فلكي تؤدي أي عملية انشقاق أو بعث منظمة جديدة إلى نتائج إيجابية لا بد أن تتوفر لها الشروط الموضوعية والذاتية اللازمة. ونعني بالشروط الموضوعية أن تكون المنظمة الأم المراد الانشقاق عنها تحولت بالفعل وبصورة واضحة إلى منظمة رجعية، للتعاون الطبقي ولتمرير مشاريع رأس المال ودولته، وتخلت بصورة مكشوفة عن كل مطالب قواعدها ونضالاتها وأصبحت معرقلا لها وللحركة الجماهيرية. أما الشروط الذاتية فنعني بها أن يوجد حد أدنى من الوعي الجماهيري الواسع نسبيا بواقع المنظمة وبخيانة قادتها واصطفافهم المكشوف مع العدو الطبقي وأن يصبح هذا الوعي متجسما في الاستعداد العملي لرفض هذا الواقع وبالتالي الاستعداد الجماهيري (المقصود جزء هام من الجماهير العمالية والنقابية) للانسلاخ عن تلك المنظمة ورفض سلطة قادتها.

إن وعي "الطلائع النقابية" فقط بهذا الواقع لا ينفع في شيء بل ولا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة إيجابية. وبطبيعة الحال فإن أي دعوة إلى الانشقاق بصورة فوقية من قبل "أقلية واعية" دون أن يكون جزء هام من العمال المنضوين تحت تلك المنظمة مستعدا تلقائيا للانسلاخ هي عملية فوقية معزولة وفاشلة مسبقا ولا تؤدي إلا إلى عزلة تلك الأقلية عن جماهيرها. لذلك فإن نجاح أي عملية انشقاق سيظل محكوما بدقة اللحظة التاريخية الواجب اختيارها وبمدى نضــج الظروف الموضوعية والذاتية وقتها، لذلك نعتقد أن على النقابيين في تونس النظر إلى مسألة التعدية النقابية من هذه الزاوية والحكم على أي تجربة نقابية جديدة وفق القواعد التي ذكرناها، وإلا فإن الأحكام ستظل سطحية وخالية من العمق اللازم. فلنأت الآن إلى المبادرة المعلنة.

II - منظمة نقابية جديدة: دواعي بعثها وأهدافها

جاء في مقدمة الوثيقة الأساسية "من أجل إعادة تأسيس الحركة النقابية التونسية" أن أصحاب هذا المشروع أخذوا في "الاعتبار التحولات العميقة والشاملة الحاصلة في بلادنا إضافة إلى عجز المنظمة النقابية عن مواكبتها بصفة خلاقة منذ عقدين.." وهم يعتبرون أن مبادرتهم "تتنزل في إطار التقاليد الأصيلة لتنظيمات الحركة النقابية الوطنية في مختلف أطوارها نتيجة عجز المنظمات النقابات الفرنسية.." مشيريـن إلى أنهم يتباينون "عن تلك المحاولات التي كانت تبرز بين الفينة والأخرى بعد "الاستقلال" كلما ظهرت أزمة بين المنظمة النقابية والسلطة القائمة.." فمبادرتهم "تهدف إلى إصلاح الحركة النقابية وتجديد رؤاها وطرق عملها وإعادة تأسيسها استنادا إلى تعددية فعلية وتعايش مثمر لمصلحة الطبقة الشغيلة والمجتمع والوطن...".

فكما هو مبين من مقدمة الوثيقة المذكورة جاءت هذه المبادرة على حد قولهم نتيجة عجز الاتحاد وبهدف "إصلاح الحركة النقابية".

1 – الإطار العام لميلاد المشروع:

لا يختلف اثنان في أن الوضع السياسي العام الآن في تونس يتسم بالانغلاق والقمع والمنهج السائد هو المنهج الأمني في التعامل مع كل مظاهر الحياة العامة بما في ذلك الحياة النقابية التي تعاني شأنها شأن كل جوانب الحياة الأخرى من المنع والمراقبة والتضييق فحق الاجتماع في مواقع العمل مازال مصادرا بمقتضى المنشور عدد 40، وأصبح حق الإضراب التضامني منذ تنقيح مجلة الشغل في منتصف التسعينات ممنوعا وحق الإضراب محاصرا تحت ضغوط الدولة والأعراف بتواطئ من البيروقراطية النقابية التي تساهم في الالتفاف عليه بطرق شتى حتى عندما تضطر إلى الاعتراف به تحت الضغط. ويتعرض المسؤولون النقابيـون لضغوط شتى في ممارسة مسؤولياتهم ونشاطاتهم لتأطير قواعدهم ومنخرطيهم وكثيرا ما يتم طردهم حالما يؤسسون نقابة جديدة خاصة في القطاع الخاص ومؤسسات العمل الهش. وقد جلبت الخيارات الليبرالية الجديدة المتبعة منذ حوالي 20 سنة مزيدا من المصاعب الموضوعية الجديدة الناجمة عن تحرير الاقتصاد وخوصصة المؤسسات والتراجع في المكاسب الاجتماعية وتحرير تشريعات الشغل بذريعة "تسهيل تنافسية مؤسسة الإنتاج" و"الضغط على الكلفة". ففي ظل هذا الإطار الاقتصادي الجديد تفاقمت الضغوط على النشاط النقابي والنقابيين وشهدت الحريات النقابية تراجعا كبيرا، وباتت بعض المكاسب كحق الإضراب والتفاوض الجماعي وهياكل وإجراءات الحوار الاجتماعي مجرد آليات شكلية ديكورية لتمرير سياسة السلم الاجتماعية التي تستفيد منها الدولة والأعراف في الأساس.

في هذا الإطار بالذات برزت مبادرة بعث منظمة نقابية جديدة تدعي "تجاوز" عجز المنظمة النقابية التقليدية الاتحاد العام التونسي للشغل عن "مواكبة الأوضاع السائدة" وتروم إصلاح واقع الحركة النقابية التونسية. إن تسامح السلطة التي لم تقبل بحق منظمات المجتمع المدني في النشاط خارج مراقبتها وسيطرتها مثلما هو الشأن بالنسبة للرابطة وجمعية القضاة ونقابة الصحافيين وجمعية "راد أتاك" و"الجمعية التونسية لمقاومة التعذيب" وغيرها يطرح أكثر من سؤال حول مدى حياد السلطة بل ويجعلنا نشتم رائحة مؤامرة تستهدف الاتحاد العام التونسي للشغل وحبك خيوط خطة خفية لمزيد التضييق عليه وجره إلى مزيد من التدجين والتبعية.

ويتأكد ذلك أكثر إذا ما أخذنا مأخذ الجد الأخبار التي تناقلتها الساحة النقابية حول اعتزام السلطة تمكين المنظمة الجديدة من مقر للعمل ومن جزء من المنحة التي تصرفها وزارة الشؤون الاجتماعية للاتحاد علاوة على استقبال وزير التعليم لما يسمى بالنقابات المستقلة وتلويح السلطة بالتعامل مع النقابات الأكثر تمثيلا عملا بأحكام مجلة الشغل.

إن كل هذه المؤشرات تؤكد أن نية السلطة تتجه نحو إثارة الانقسامات داخل الحركة النقابية وتشجيعها للعب عليها والاستفادة منها حتى على سبيل الضغط على الاتحاد العام ومزيد تركيع قيادته أكثر. وللإشارة فإن ذلك لا يعني أن السلطة قد يئست من البيروقراطية النقابية ومن الاتحاد العام نتيجة معارضته لها كما لا يعني البتة أنها مقدمة على مواجهة جدية أو تصعيد اجتماعي خطير بقيادة الفريق الماسك بالمنظمة الآن. لقد شكّل الاتحاد ومازال السند الاجتماعي للديكتاتورية الحاكمة وهو المسؤول عن حالة "السلم الاجتماعية" التي خولت لها تمرير جميع مشاريعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. غير أن السلطة التي لا تقبل بأبسط درجات الاحتجاج أو الممانعة ما انفكت تعمل على ابتزاز الاتحاد العام ناهيك وأن هيئته الإدارية الوطنية عبرت في السنوات الأخيرة عن مواقف تعكس حالة من التململ ولم يكن بوسع القيادة منعها أو التحكم فيها ومن هذه المواقف تصويت الهيئة الإدارية ضد تزكية إعادة ترشيح بن علي في مهزلة 2004 الانتخابية، ورفض أغلبيتهـا المشاركة في مجلس المستشارين وعدم مجاراة السلطة في قانون التأمين على المرض علاوة على الحركية التي شهدتها الهياكل الوسطى وبعض الاتحادات الجهوية التي صعدت إليها قيادات ممثلة، والتصدي خلال المؤتمر الأخير لبعض مناورات البيروقراطية النقابية الرامية إلى التراجع في مبدأ الدورتين بالنسبة إلى عضوية المكتب التنفيذي. لذلك فإن السلطة وعلى سبيل استباق التطورات القادمة والمفاجآت غير السارة تشجع من وراء الستار كل ما من شأنه أن يكبح جماح الاتحاد.

إن مبادرة بعث منظمة نقابية جديدة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة، بصرف النظر عن حسن نوايا أصحابها وعن مدى استقلالية مشروعهم أو ارتباطه بدوائر السلطة، لا يمكن أن يخدم إلا مصلحة السلطة والأعراف ونزعة تشتيت الحركة النقابية وتقسيم العمال وبث البلبلة في صفوفهم.

2 – قراءة في فحوى المشروع:

يلاحظ المطلع على النص الكامل للوثيقة الأساسية "من أجل إعادة تأسيس الحركة النقابية التونسية" أن أصحاب المشروع ركزوا رؤيتهم، تقييما واستنتاجا، على فكرة تجاوز "عجز المنظمة النقابية" أي الاتحاد العام التونسي للشغل لذلك جاء التقييم الذي تضمن بسطة مكثفة عن تاريخ الاتحاد منذ انبعاثه حتى مؤتمر المنستير الأخير موجها من أجل إبراز "حالة التعطل" و"انسداد الأفق" لتبرير ضرورة "إيجاد أشكال جديدة ومتنوعة داخل هياكل الاتحاد وخارجه ضمن مسار يشكل مرحلة متميزة في تاريخ الحركة النقابية التونسية: ألا وهي لحظة إعادة التأسيس".

ما من شك أن الاتحاد يعيش حالة تعطل حقيقية تأكدت أكثر إثر مؤتمر المنستير الأخير حتى أن إصلاحه من الداخل أصبح كما جاء في الوثيقة "عبارة عن عملية مستحيلة". ولكن السؤال المطروح هو هل أن الإصلاح المنشود لا يمكن أن يتم إلا بـ"حركية نقابية خارجه"؟ وهل الظروف متوفرة الآن لذلك؟

للإجابة عن هذا السؤال لا بد من القول أولا إن جوانب "تعطل الاتحاد" كثيرة ومتنوعة ولا تتعلق فقط "بطرق تسييره وهيكلته وتركيبته الحالية..." إنما تتعلق أيضا باختياراته أي بمجمل الخط النقابي الذي سار عليه ومازال، خط التعاون الطبقي وخدمة مصالح رأس المال المحلي والأجنبي والدولة الدكتاتورية الاستبدادية والتضحية بمصالح العمال مقابل فتات تتمعش منه القيادة البيروقراطية.

ولا يمكن في هذا الباب إدانة شريحة "الارستقراطية النقابية، هؤلاء العمال والأجراء الذين تحولوا بعد تجربة طويلة إلى مديرين وموظفين سامين في مؤسساتهم وفي مؤسسات غير مؤسساتهم بل يجب أولا وقبل كل شيء إدانة نظام الحكم الذي ارتشاهم وخرب المنظمة من الداخل ولم يتوان عن افتعال أزمات حادة في تاريخها وأجبر هؤلاء تحت الحديد والنار على التخلي عن قشرتهم وأصولهم العمالية وروح الاحتجاج والنضال التي قادتهم إلى هياكل المنظمة.

إن طمس هذه الحقيقة في باب التقييم وإبراز مسؤولية البيروقراطية في اتباع "طرق عمل وتسيير" و"نمط هيكلة" لا يعكس إلا نصف الحقيقة وهو يركّز على النتيجة وينسى الأصل أو السبب. وهذه طريقة خبيثة للإفلات من الإصداع بالحقيقة في وجه السلطة ولكنها طريقة مفضوحة ولا يمكن أن تخفي نزعة "التمسح" على أعتابها استدرارا لرضاها. وبطبيعة الحال فإن ما انبنى على خطإ أو تزوير للحقائق في مستوى التقييم لا يؤدي إلا إلى خطأ وتزوير في مستوى الاستنتاجات.

لقد جاءت الفقرة المعنونة بـ"تجديد الـــرؤى والأهداف والبرامج" حافلة بالمفاهيم النقابية القديمة الجديدة، مفاهيم "مواكبة التحولات" و"المشاركة" في "تحسين المقدرة التنافسية لصنع المنتوج المتميز كرهان أساسي" و"إعطاء مكانة مركزية للتنظيم والابتكار والتكوين" و"المشاركة في التعامل مع جميع الفاعلين الاجتماعيين" و"الشراكة مع الدولة" و"القطع مع عقلية العداء والتخوين والتعتيم والتشويه" و"المزايدات والخطاب المزدوج" و"تجنب التشابك والتداخل" في صلاحيات وأدوار "هياكل الحوار" و"الابتعاد عن التناحر والمزايدات لتحقيق حوار اجتماعي مثمر وناجع ومسؤول على مستوى المؤسسة والقطاع وعلى المستوى الوطني"، إلخ.. إن كل هذه المفاهيم والتدبيجات اللغوية المنمقة والمدسوسة تكرس مفهوم التعاون الطبقي القديم/ الجديد الذي سار عليه الاتحاد ولا يزال حتى اليوم. فما الجديد يا ترى وأين يكمن "تجديد الرؤى والأهداف والبرامج"؟ على هذا الأساس فإن ما يطرح اليوم على النقابيين النزهاء، المدافعين حقا عن مصالح الشغالين، الديمقراطيين والتقدميين، ليس تكوين نقابة موازية بل مواصلة العمل في صلب الاتحاد العام وتطوير وعي قواعده وافتكاك مواقع صلبة وخلق موازين قوى لصالح الخط النقابي النضالي، وقتها ستتضح الرؤى: إما تغيير جوهري صلب الاتحاد وإما انشقاق مشروع عنه. وفي كل الحالات ستكون القواعد النقابية والعمالية هي العنصر الحاسم في ذلك، على أنه لا يمكن إغفال حقيقة أساسية وهي أن تطور الأوضاع داخل المركزية النقابية لن يكون معزولا عن تطور الأوضاع العامة في البلاد. وهو ما يقتضي بلورة استراتيجية وتكتيك نقابيين يأخذان بعين الاعتبار كل هذه الأوضاع.

إن إصلاح بل تثوير الحركة النقابية لا يتطلب اليوم إعادة صياغة نفس المفاهيم في قوالب جديدة تضفي عليها الدعاية الرأسمالية الليبرالية نوعا من "المنطق" والألق بقدر ما هي في حاجة إلى تجديد عميق وحقيقي للرؤى والأهداف تساعد العمال على الوعي بواقعهم كصناع الثروة مستغلين ومقموعين، كطبقة محددة في عملية الإنتاج عليها أن تعي بذاتهـــا وأن خلاصها من واقع الاستغلال والقمع لا يمكن أن يتم إلا حينما تعي بذاتها وتقتنع بالنضال من أجل ذاتها وتقود كل الكادحين وكل الفئات الشعبية ضد واقع التبعية والاستغلال الفاحش والفساد والاستبداد السياسي من أجل تحول وطني، ديمقراطي وشعبي، يرتقي بالشعب إلى دفة السلطة ويمكنه من ممارسة سيادته على ثروات البلاد وخيراتها وتوظيفها لتحقيق نهوضه على كافة المستويات.

إن العمال التونسيين ليسوا في حاجة إلى استبدال منظمة متعاونة مدجنة بأخرى لا تقل عنها تعاونا وتدجينا. وعليه فإن تقسيم الحركة النقابية وتفتيتها بين منظمات متشابهة في الرؤى، متطابقة في الأهداف لن يزيدها إلا تراجعا وتقهقرا ولن يكلف العمال غير مزيد الخسارة والتضحية.