الفئات الوسطى


حسن مدن
2007 / 5 / 1 - 13:04     

الفئات الوسطى‮ (١)
نظمت جمعية الاقتصاديين البحرينية الأسبوع الماضي‮ ‬ندوة حول الطبقة الوسطى،‮ ‬حاضر فيها كل من الدكتور عبد الله الصادق والدكتور باقر النجار‮. ‬الأول قدم رؤية اقتصادية للأمر،‮ ‬فيما تناوله الثاني‮ ‬من وجهة نظر سوسيولوجية‮.‬ الندوة المذكورة تأتي‮ ‬في‮ ‬وقتها المناسب،‮ ‬بل لعلها تدعونا للقول إن الموضوع ما زال‮ ‬يتطلب معالجات أوسع،‮ ‬ربما تأتي‮ ‬في‮ ‬ندوة أو حلقة بحث أوسع وبعدة محاور لمقاربة موضوع حيوي‮ ‬وإشكالي‮ ‬مثل هذا،‮ ‬كما ذهب إلى ذلك،‮ ‬محقا،‮ ‬الدكتور النجار،‮ ‬وتزداد إشكالية الموضوع مع التطورات المستمرة في‮ ‬الحراك الاجتماعي‮ - ‬السياسي‮ ‬محليا وعربيا وحتى على المستوى العالمي،‮ ‬حيث‮ ‬يظل وضع الفئات الوسطى ودورها محور نقاشات نظرية ومنهجية وميدانية مستمرة،‮ ‬حيث‮ ‬يعزو الكثير من الباحثين العديد من أوجه الأزمة في‮ ‬عالمنا العربي‮ ‬إلى تهميش مكانة هذه الفئات،‮ ‬لا بل وسحقها‮.‬ وقرأت مرة دراسة ميدانية استطلاعية عن الراغبين في‮ ‬الهجرة من الشباب العرب،‮ ‬تؤكد على أن‮ ‬غالبية هؤلاء هم من الأطباء والمهندسين وسواهم من حملة الشهادات الذين ضاقت بهم السبل في‮ ‬بلدانهم،‮ ‬فاختاروا طريق الهجرة إلى الخارج بحثا عن تحسين ظروف الحياة‮. ‬إحداهن وهي‮ ‬طبيبة راحت تترحم على الزمن الذي‮ ‬كانت فيه مهنة الطب مصدرا للوجاهة والراتب الجيد،‮ ‬أما اليوم فان راتبها،‮ ‬كما تؤكد،‮ ‬لا‮ ‬يفي‮ ‬حتى بالمتطلبات البديهية للمعيشة‮.‬ كانت الفئات الوسطى شاغلة الناس في‮ ‬الأدب والسينما،‮ ‬فالبطل الروائي‮ ‬في‮ ‬أعمال نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس في‮ ‬مصر مثلا،‮ ‬أو في‮ ‬أعمال‮ ‬غائب طعمة فرمان في‮ ‬العراق وسواهم هو عادة من أبناء هذه الفئات،‮ ‬حيث‮ ‬يكون محور الأحداث في‮ ‬هذه الروايات التي‮ ‬تدور‮ ‬غالبا في‮ ‬أجواء المدينة العربية،‮ ‬المشرقية منها تحديدا‮.‬ وبعض الدراسات النقدية توجهت لمعالجة ظاهرة البطل في‮ ‬الرواية العربية مركزة على انتسابه الاجتماعي‮ ‬هذا،‮ ‬وما‮ ‬يستتبعه من خصائص سيكولوجية وفكرية،‮ ‬تميز سلوك المنتمين لهذه الفئات تحديدا‮.‬ في‮ ‬السينما العربية كان البطل النموذجي‮ ‬هو الطبيب القادم من المدينة للعمل في‮ ‬المناطق الريفية في‮ ‬بداية حياته العملية،‮ ‬أو‮ »‬الباش مهندس‮« ‬الذي‮ ‬يقع في‮ ‬حب ابنة مديره،‮ ‬أو المحامي‮ ‬الناجح الذي‮ ‬ببراعته ولباقته ودهائه‮ ‬يخلص المتهم من عقوبة محققة،‮ ‬لكن البطل السينمائي،‮ ‬بعد منتصف السبعينات الماضية،‮ ‬في‮ ‬حقبة الانفتاح وما تلاها أصبح المضارب أو‮ » ‬الفهلوي‮« ‬شبه الأمي‮ ‬الذي‮ ‬ترك المدرسة مبكرا،‮ ‬أو المحاسب الناجح الذي‮ ‬سيرفع إلى مدير الأعمال،‮ ‬وأصبح عائد المهندس أو الطبيب موضوعا للسخرية بالقياس لما‮ ‬يتقاضاه‮ »‬الفهلوي‮« ‬من عملات ورشى وما‮ ‬يجنيه من السرقات والصفقات‮ ‬غير المشروعة‮.‬ وأصبح التدرج الوظيفي‮ ‬الاعتيادي‮ ‬للمهندس أو الأستاذ الجامعي‮ »‬مشي‮ ‬سلحفاة‮« ‬بالنسبة للصعود السريع لأعلى السلم الاجتماعي‮ ‬للفئة الجديدة‮. ‬وفي‮ ‬بعض روايات نجيب محفوظ وحنا مينه في‮ ‬الثمانينات وصف بليغ‮ ‬لأوجه سلوك هذه الفئة الهجينة التي‮ ‬لم‮ ‬يغط بذخها الفاحش سلوكها الموروث من ماضيها القريب‮ ‬يوم كانت لا تملك شيئا أو تمثل أمرا ذا بال‮. ‬



الفئات الوسطى‮ (٢)‬

في‮ ‬قسم كبير من الخطاب السياسي‮ ‬والفكري‮ ‬العربي‮ ‬كانت الفئات الوسطى عرضة للهجاء‮ ‬،‮ ‬فهي‮ ‬غالبا ما تقدم كما لو كانت قرينة التذبذب الاجتماعي‮ ‬والفكري‮ ‬،‮ ‬وفقدان أي‮ ‬مشروع مجتمعي‮ ‬واضح‮ . ‬ولم‮ ‬ينظر إليها سوى كرديف معضد لمشروع آخر‮ . ‬رغم أن هذه الفئات كانت حاملة لمشروع التحديث في‮ ‬فتراته المختلفة‮ ‬،‮ ‬ومن صفوف هذه الفئات ظهر مثقفون وأدباء ورجال الفكر وقادة الرأي‮ ‬العام‮ ‬،‮ ‬وكانت هذه الفئات ضمانة التطور الطبيعي‮ ‬الأقرب إلى الاتساق في‮ ‬نمو المجتمعات،‮ ‬وهي‮ ‬ملاحظة أشار إليها الدكتور باقر النجار في‮ ‬مداخلته في‮ ‬ندوة جمعية الاقتصاديين‮ ‬،‮ ‬وكان علينا أن ننتظر الخراب الكبير الذي‮ ‬حل بهذه الفئات جراء التحولات الاجتماعية الحادة والتدخلات الخارجية موجهة الهدف‮ ‬،‮ ‬لنشهد بمرارة خلو الساحة من أي‮ ‬برنامج مجتمعي‮ ‬متنور موجه نحو المستقبل لا نحو الماضي‮ .‬ ‮ ‬كان المرحوم الدكتور إسماعيل صبري‮ ‬عبد الله في‮ ‬دراسة مهمة له عن مفهوم التنمية المستقلة نشرت في‮ ‬أواخر الثمانينات قد لاحظ إن عدد أفراد الفئات الوسطى في‮ ‬معظم البلدان النامية وبينها بلداننا العربية هو في‮ ‬تزايد مع اتساع قاعدة التعليم وإمكانات الكسب المشروع وغير المشروع‮.‬ ‮ ‬إن صح هذا القول‮ ‬،‮ ‬وهو أمر بحاجة إلى دراسة وتمحيص ميداني‮ ‬لاختبار مدى دقته‮ ‬،‮ ‬فانه تجب ملاحظة أن هذا التزايد العددي‮ ‬يقابله تناقص في‮ ‬النوع‮ ‬،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يفسر‮ ‬غلبة الميول المحافظة والسلفية على فكر وسلوك شرائح كثيرة من المنتسبين لها‮ ‬،‮ ‬وتبدو باعثة على الاهتمام حقيقة إن كثيرا من الناشطين الإسلاميين الشباب‮ ‬يأتون من الكليات العلمية مثل كليات الطب والهندسة وأقسام المعلوماتية والكمبيوتر،‮ ‬في‮ ‬ما‮ ‬يتناقص حضور هؤلاء في‮ ‬كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية‮.‬ ‮ ‬كما أن عدد سكان المدن العربية اليوم بسبب التوسع الأفقي‮ ‬والعمودي‮ ‬لهذه المدن وارتفاع معدلات النزوح من الأرياف والبوادي‮ ‬إليها هو أضعاف ما كانت عليه قبل عقود‮ ‬،‮ ‬وتبدو هذه الزيادة ذات مردود عكسي‮ ‬في‮ ‬الكثير من الأوجه‮ ‬،‮ ‬لأن المدينة العربية اعجز من أن تمتص أو تحتوي‮ ‬الوافدين إليها وتلبي‮ ‬حاجاتهم وخدماتهم‮ ‬،‮ ‬لأن الأمر ناجم عن زيادة عشوائية‮ ‬غير مخطط لها‮ ‬،‮ ‬فتكون النتيجة‮ » ‬ترييف المدينة‮ « ‬،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يقضي‮ ‬فيه منطق التنمية الرشيدة‮» ‬تحضير الريف‮«. ‬ ‮ ‬إن النازحين الجدد للمدينة‮ ‬،‮ ‬رغم انقضاء فترات طويلة على معيشتهم‮ ‬يبقون كما هم‮ ‬،‮ ‬سلوكا ونفسية‮ ‬،‮ ‬ومع مرور الوقت فإنهم‮ ‬يطبعون المدينة بسلوكهم وعاداتهم‮ ‬،‮ ‬ولأنهم‮ ‬يشكلون الأكثرية قياسا إلى سكان المدينة الأصليين‮ ‬،‮ ‬فالحاصل أن هؤلاء الأخيرين‮ ‬يصبحون هم الغرباء في‮ ‬المدينة‮ . ‬تكفي‮ ‬الإشارة هنا إلى أن سكان مدينة مثل القاهرة لم‮ ‬يزيدوا في‮ ‬أوائل القرن الماضي‮ ‬عن نصف مليون نسمة‮ ‬،‮ ‬فباتوا اليوم‮ ‬يعدون بعشرات الملايين‮.‬ ‮ ‬إن قسما كبيرا من المهمشين في‮ ‬المدن الذين‮ ‬يشعرون بغربتهم عنها‮ ‬يتحولون إلى مستودع بشري‮ ‬ناقم على الأوضاع‮ ‬،‮ ‬ومن هذا المستودع‮ ‬يتشكل وقود الحركات المتطرفة‮ ‬،‮ ‬خاصة حين تغيب البدائل العقلانية أو تغيب قسرا ويصبح الخيار المتاح واحدا‮.