تاريخ الحركة النقابية المغربية: اتحاد نقابات الكونفدرالية العامة للشغل CGT بالمغرب (1919-1955)

البير عياش
2024 / 2 / 15 - 18:15     


من دراسة مختصرة قدم بها البير عياش قاموس الأعلام النقابية


الملامح الأولى: تجمعات وجمعيات مهنية. ظهور فروع اشتراكية. تكوين اتحاد نقابات المغرب، فرع الكونفدرالية العامة للشغل [1](22 يونيو 1930)

وُلدت الحركة العمالية في منطقة النفوذ الفرنسي بالمغرب من جراء الاستعمار. فقد استوردت غداة الحرب العالمية الأولى من طرف عمال وموظفين فرنسيين تواقين إلى الدفاع عن شروط عملهم وحياتهم. لكن كان ممنوعا عليهم تكوين منظمات نقابية أو سياسية. بيد أنه جرى الترخيص لـ«تعاضديات» و«تجمعات» و«جمعيات مهنية». هكذا ظهرت «تعاضدية عمال البريد» (1916) وتجمعات مهنية أخرى، وبوجه خاص الجمعية العامة للموظفين (1919)، وهي نواة لما سيصبح الفيدرالية المغربية للموظفين والتعاضدية الابتدائية (1922) وهي تجمع لمعلمين كفاحيين، عاد بعضهم من الحرب، عاقدين العزم على السير قدما.

وكان رحيل المارشال ليوطي ([2])، أول مقيم عام لفرنسا بالمغرب، الذي كان مناهضا لكل شكل من الحياة السياسية والاجتماعية شبيه بما يمارس في المتروبول، وكذا قدوم المقيم ستيغ الذي كان راديكاليا وماسونيا ([3]) (أكتوبر 1925)، عنصرين شجعا تطور التنظيم المهني وتكاثر جمعيات الموظفين والمستخدمين وحتى العمال في مدن عديدة. ولم يتردد بعضها في اعتماد اسم «نقابة» والانضمام إلى نقابات أو فيدراليات (جامعات) الكونفدرالية العامة للشغل CGT بفرنسا. ذلك كان شأن المعلمين (1926) وعمال البريد (1927) والجمعية العامة للموظفين، وهي منظمات كانت تحظى بتسامح الإقامة العامة التي كانت في حاجة إلى موظفيها. وسمحت بقدوم ليون جوهو كاتب س ج ت، الذي ترأس في 2 مارس 1930 تأسيس الاتحاد المحلي لنقابات الدار البيضاء، مما أتاح توسعا أكبر للتنظيم النقابي وتكوين الاتحاد المغربي للمنظمات النقابية المتحدة المشهور أكثر باسم اتحاد النقابات بالمغرب CGT وذلك يوم 22 يونيو من نفس السنة بالدار البيضاء. ويمكن اعتبار هذا المؤتمر عقد تأسيس المنظمة النقابية التي جرَّت، بنجاح متفاوت، كتلة متعاظمة من العمال الفرنسيين ثم المغاربة وصولا الى ضربة الإقامة العامة يوم 8 دجنبر 1952 التي قضت بحلها.

بدءا من 1925، وبموازاة هذا التطور في تنظيم المهن وبارتباط به، تم السماح ببعض الممارسات السياسية الفرنسية، لا سيما إنشاء فروع لأحزاب فرنسية باستثناء الحزب الشيوعي والنقابات الوحدوية (CGTU). كان ذلك شأن الحزب الاشتراكي الفرنسي (الفرع الفرنسي للأممية العمالية SFIO) والحزب الراديكالي الاشتراكي في سنوات 1925-1926. وقد تجمع أعضاؤها، وأغلبهم موظفون ومستخدمون، في فروع وفيدراليات وكانوا يوجدون بالنقابات، بل أيضا داخل المحافل الماسونية النشيطة في المدن التي بها أنوية أوربية قوية. وكان «الخارجون عن القانون» من نقابيين وحدويين وشيوعيين وتروتسكيين وفوضويين يعتبرون أنفسهم اشتراكيين ويذهبون الى فروع الأممية الاشتراكية sfio والنقابات ليطبعوها براديكالية أكثر.

أزمات اجتماعية وسياسية (1934-1936): المغاربة يضربون

لكن أدى ازدهار وتنوع الأنشطة الحديثة، وهي أنشطة من نوع رأسمالي، إنتاجا وتبادلا وتسييرا، في مغرب عتيق الاقتصاد، إلى ارتفاع، عن طريق الهجرة، لعدد الأجانب والفرنسيين المستخدمين في الخدمات العمومية: البريد وورشات الطيران والحرب والبحرية وسكك الحديد والطاقة الكهربائية أو في القطاعات الخاصة: التجارة والصناعة والمناجم والبناء والأشغال العمومية وضيعات المعمرين كتقنيين وأعوان ريازة وعمال مؤهلين. وكانت اليد العاملة متوافرة بسعر رخيص في أبواب المدن وأسواقها التي زودتها، بالخصوص بدءا من 1929، بأفواج القرويين الذين أصابهم الإملاق أو الإفلاس من جراء مصادرة أراضيهم الأكثر غنى وثقل الاقتطاعات وتقلب المحاصيل وانهيار أسعار الحبوب (1932-1937) والتي تتغذى أيضا من حرفيين حضريين أصابهم الإفلاس من جراء تقلص السوق القروية ومنافسة المنتجات اليابانية والإيطالية التي تصل بأسعار تغرق السوق. هذه اليد العاملة المغربية المأجورة، التي كانت مؤلفة من بضعة آلاف سنة 1919، اقتربت على ما يبدو من 150 الى 180 ألف بين 1936-و1939. كان السكان الأوروبيون المأجورون في إحصاء1936 يقدرون بـ 50 ألف منهم 12 ألف موظف ومساعد و5 آلاف من أعوان المصالح ذات الامتياز و21 ألف عامل منهم 6500 عاطل.

في اتحاد النقابات هذا، الذي كان فرعا لـ س ج ت في وسط مستعمر في بلد خاضع للسيطرة، طرح المشكل على الفور: كيف يجب معاملة العمال المغاربة؟ وعلى الفور جاء الجواب في مؤتمره الثاني عام 1931: دور النقابات هو تجميع عمال مهنة ما كيفما كانت أصولهم ومعتقداتهم. وجرت المطالبة بالحق النقابي للجميع لأنه لم يكن لدى أي منهم. كان ذلك أمنية واهمة فالاتحاد والنقابات في سبات.

وعام 1934 استيقظ الجميع بفعل ما أقدم عليه اليمين في فرنسا وتفاقم الركود الاقتصادي وتأكيد الوطنيين المغاربة المجتمعين في إطار كتلة العمل الوطني على المطالب الوطنية، علما أنهم، إن كانوا لا مبالين، فقد كانوا يجدون راحتهم أكثر وسط عوام المدن العتيقة في فاس والرباط وسلا أكثر مما لدى عمال المصانع أو الأوراش أو المناجم. وسعى مناضلو الاتحاد إلى تنظيم المغاربة في النقابات. واتخذت المطالب طابعا حادا. وفازت الجبهة الشعبية في انتخابات أبريل –ماي1936 بفرنسا. واندلعت إضرابات بالمغرب مثل فرنسا والجزائر المجاورة (11 يونيو –16 يوليوز1936). ورغم كونها محدودة الاتساع مقارنة بالأخريات، فإنها مع ذلك جرت بضع آلاف العمال، منهم أغلبية من المغاربة الذين انخرطوا إلى جانب رفاقهم الأوربيين وأحيانا لوحدهم. كانت تلك هي الإضرابات الكبرى الأولى التي شهدها المغرب، وقد طبعت أيضا نهوض التضامن الطبقي فيما كان آنذاك شكلا أوليا للبروليتاريا.

إغلاق النقابات بوجه المغاربة: ظهير 26 يونيو 1938

ماذا كانت نتائج الإضراب؟ إنها بداية تشريع اجتماعي لفائدة الجميع في بلد لم يكن يتوفر عليه. وإعلان الحق النقابي للأوروبيين (دجنبر 1936) وليس للمغاربة، ومع ذلك قرر المناضلون الفرنسيون تنظيم المغاربة نقابيا. وعام 1938 كان اتحاد النقابات المتحدة بالمغرب CGT – تلك كانت تسميته منذ ذاك – يضم 20 ألف عضو منهم 5 آلاف مغربي. وبما أن سنتا 1937-1938 شهدتا إضرابات كثيرة، خاصة في الدار البيضاء والمناجم، فقد هددت الإقامة العامة بمعاقبة الأوروبيين والمغاربة الذين لا يلتزمون بالمنع (ظهير 26 يونيو 1938). وفي باريس تشتتت الجبهة الشعبية وبعدها كانت الحرب ونظام فيشي مما جعل كل حياة نقابية تزول عمليا.

بعد1942: الحركة النقابية والمسألة الوطنية

إعادة تكوين اتحاد النقابات: 13 يونيو 1943

بضعة أشهر بعد إنزال الحلفاء يوم8 نوفمبر 1942 جرت إعادة تكوين اتحاد النقابات يوم 13 يونيو 1943. وفي الأشهر اللاحقة تشكلت مجددا الأحزاب التي تمده بمناضليه: الحزب الشيوعي الذي يعتبر نفسه مغربيا ويريد أن يكون كذلك (الندوة الوطنية في نوفمبر 1943)، وببطء وبقدر أكبر من المصاعب تشكل الفرع الفرنسي للأممية العمالية sfio (دجنبر 1943 ويناير 1944) كان الاتحاد الذي عاد إلى الظهور منظمة مناضلين فرنسيين. وكانت انشغالاته الأولى هي سحق «الوحش الهتلري» وتحرير «الوطن الام»، وفي هذا المنظور توحيد العمال وتلبية مطالبهم وتكثيف الإنتاج. هكذا جرت العودة إلى الشعارات القديمة وأعيد تأكيدها: أجر مساو لعمل مساو والحق النقابي للجميع. وكان على مسؤوليه أن يتخطوا المقاومة العنيدة واليومية لكل من أرباب العمل والإقامة العامة، التي بقي مشروعها دوما هو احتواء العمال المغاربة في الشبكة القديمة للجماعات الحرفية المهنية، وعزلهم عن رفاقهم الفرنسيين وحمايتهم بذلك من العدوى النقابية. لهذه الغاية تأسس بالدار البيضاء في نهاية 1943 المكتب المغربي للشغلBMT.

غلبة الشيوعيين: رغبتهم في إضفاء الطابع المغربي على النقابات

هذا خاصة وأن الظروف أدت إلى تجدد مسيري الاتحاد. فمكان اشتراكيي ما قبل 1940 حل تدريجيا على رأس الفيدراليات الكبرى والهيئات القيادية مناضلون أكثر جذرية، أعضاء من س ج ت راسخو القناعات وشيوعيون قليلو الميل إلى التنازل. ورغم أشكال المنع ومناورات التخويف والتهديدات وتدخلات البوليس، جرى استقطاب العمال المغاربة إلى النقابات وفرض حضورهم في الاجتماعات النقابية، والتجمعات، والمظاهرات، والوفود. هذا لدرجة أن عدد أعضاء الاتحاد، الذي كان في 31 دجنبر 1943 يصل 400 13 منخرط، كلهم تقريبا فرنسيون أو أوروبيون، ارتفع إلى 45 ألف في نهاية 1945، 30 ألف منهم مغاربة. وتجلى بسرعة أن هذه الكتلة المتنامية ستجد في ذاتها القوى اللازمة للتنظيم والنضال. حفز مناضلون فرنسيون، شيوعيون في الغالب، العمال المغاربة على أن يأخذوا بأيديهم زمام الدفاع عن مصالحهم، وخلق فروع نقابية في المقاولات واختيار مسؤوليهم ووضع مطالبهم وتقديمها والتحرك دون انتظار توجيهات الأجهزة الفوقية. في مارس 1947 كان عدد المنخرطين 70 ألفا منهم ثلثين مغاربة. وتزايد عدد هؤلاء في كل القيادات النقابية. وشكلوا نصف اللجنة التنفيذية ونصف مكتب الاتحاد العام الذي كان على رأسه منذ 1946 كاتبان عامان، مغربي والآخر فرنسي. إنه إضفاء الطابع المغربي على التنظيم الفرنسي الذي سيفضي، في حساب الشيوعيين، إلى خلق اتحاد نقابي وطني.

وجرت نضالات مطلبية كبرى. ظلت مواضيعها الرئيسة «أجر مساو لعمل مساو والحق النقابي للجميع ورفع المكافآت» حيث عبأت في 1947، لا سيما في مارس وأبريل – ماي 1948، آلاف العمال من كل المهن ومن كل الأصول. وفي 8 مارس 1948 اضطرت الإقامة العامة إلى قبول بروتوكول اتفاق قضى برفع الأجور بنسبة 50 %، وانتقل الحد الأدنى للأجر بالدار البيضاء من 23 فرنك إلى 34.60 فرنك والاعتراف بمبدأ الحق «النقابي». تم توقيع البروتوكول من طرف كل من ممثل المقيم العام والكاتب العام المغربي للاتحاد، وهو الذي رفضت السلطات الاعتراف به حتى تلك اللحظة. لكن مع ذلك لم تهدأ الأمور كلها. فقد تواصل نمو إضرابات قاسية في المناجم وعند عمال الدولة، ثم في الفصل الأخير من 1948 هزت تلك الإضرابات، عبر موجات متلاحقة، مهنا عديدة. انطلاقا من هذا حدث تطور مزدوج للإقامة العامة وأرباب العمل لاحتواء الحركة النقابية ثم إضعافها في انتظار تحطيمها، ومن جهة أخرى ترخيص وطنيي حزب الاستقلال لمناضليهم بالانضمام إلى الاتحاد بعد أن كانوا منعوا ذلك من قبل.

حزب الاستقلال والمشاكل العمالية (1945-1950)

اعتبر الشيوعيون أنفسهم جزءا من الطبقة العاملة، ولذلك ارتأوا من البداية أن يوجدوا أينما كان العمال. وكان تشجيعهم لإضفاء الطابع المغربي على المنخرطين والأطر في الاتحاد يندرج في نفس الطريقة التي نهجوها في حزبهم.

وعلى العكس كان الأصل البرجوازي لقادة حزب الاستقلال، الذين كان لهم تأثير هام في الأوساط التقليدية بالمدن، وكذا تكوين أغلبهم ونخبويتهم التي تبعدهم عن «الجماهير» قد أدى بهم إلى إهمال المشاكل العمالية. كانت انشغالاتهم منصرفة الى الأمور السياسية الكبيرة. وكانوا يأملون، من خلال عملهم في الساحة الدولية، نيل الاعتراف بحق المغرب في الاستقلال. وأن يحصلوا في انتظار ذلك على الحريات الآنية، ومنها الحرية النقابية، مما سيتيح لهم خلق نقابتهم الخاصة دون أن يعرضوا أنفسهم للشبهة مع الشيوعيين في منظمة يعتبرونها أجنبية.

لكن الجاذبية التي مارستها نقابات الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب (هكذا أصبح اسمه منذ 1 دجنبر 1946) والنتائج المحصلة، وعمل بعض المناضلين الاستقلاليين الذين انخرطوا دون اعتبار تعليمات الامتناع التي تلقوها، كلها عوامل دفعت قسما من قيادة حزب الاستقلال، أي الجناح اليساري، إلى تغيير الموقف والترخيص بالانضمام إلى النقابات. وجرى إقناع الأكثر رفضا عام 1950.

في نظرنا انقسم الاستقلاليون إلى اتجاهين: ثمة المنظرون الذين جاءوا بأمر من القيادة السياسية، التي اعتبرت أن المهام الفورية والأساسية هي إبعاد الشيوعيين المغاربة واستلام السلطة داخل الاتحاد العام للنقابات وتنظيم البروليتاريا لجعلها سلاحا في المعركة من أجل الاستقلال. كانوا يقولون «النضال الوطني يسحق النضال الطبقي». ثم كان ثمة الممارسون. بعضهم، ممن مروا عبر الشيوعية، التحق بالحركة النقابية بشكل طبيعي مع رفاقه في العمل للدفاع عن مصالحه وكرامته. وباتفاق مع مناضلين آخرين، مغاربة أو غيرهم، انخرطوا في إضرابات كبيرة ومعارك ضارية، دون أن ينسوا أبدا ربط المطالب الاقتصادية الآنية بمطالب الحريات التي يستحيل بدونها النضال، وابتداء من 1950 ربطوها بمطلب الاستقلال. وبذلك التحقوا بطريقة واشتغال رفاقهم في س ج ت الذين اعتبروا أن المهم هو تنظيم العمال والنضال ضد الاستغلال الرأسمالي والاستعماري.

نحو مركزية نقابية وطنية: المؤتمر السادس للاتحاد العام (11-12 نوفمبر 1950)

في مرحلة اشتد فيها قمع الأحزاب الوطنية، وشتت النقابات في المراكز المنجمية، وقلص التجمعات التي اعتبرت شديدة الهيجان (مكناس والرباط وسلا واسفي والدار البيضاء) ساعد انضمام حزب الاستقلال، بالمدن على الأقل، على الحفاظ على النقابات العمالية. هكذا في النسيج وصناعة التعدين والمواد الكيماوية ومانيفاكتورات شركة التبغ والأنشطة المينائية مع الشيالة وبحارة الصيد، صعد مناضلون من حزب الاستقلال الى قيادتها، وجرى انتخابهم مع عمال آخرين، شيوعيين وغيرهم، إلى مكاتب فيدراليات هامة والى مكتب الاتحاد العام مما عزز طابعه المغربي.

كان مؤتمر الدار البيضاء في 11 و12 نوفمبر 1950 تعبيرا عن إرادة أغلبية العمال المنظمين بالاتحاد العام في تحويل منظمتهم الى مركزية نقابية مغربية، سواء بواسطة الظهير الذي يمنح الحق النقابي للمغاربة أو بدونه. كان اكثر من ثلثي الأعضاء المنتخبين الى اللجنة التنفيذية والى مكتب الاتحاد مغاربة. وكان الهدف المرسوم للجميع هو تكثيف الاستقطاب وتسريع تنظيم نقابات مغربية جديدة. وبعد إنجاز هذه المهمة، عقد مؤتمر تأسيس المركزية الجديدة. كما أوضح المؤتمر في مقرره استحالة أي تحسين دائم للوضع النقابي دون إلغاء عقد الحماية. وقد رحبت س ج ت الفرنسية والفدرالية العالمية للنقابات بقرارات مؤتمر نوفمبر. وانطلاقا من هذه اللحظة، تصرف الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب كمنظمة مستقلة رغم بقائه نظريا في س ج ت.

وقام نقابيون فرنسيون بالمغرب، أغلبهم موظفون ومعادون أصلا لنقابة س ج ت (كانوا اشتراكيين) بجعل هذه القرارات، التي اعتبروها سياسية، ذريعة لمحاولة جر منظماتهم لتستقل أو تنضم الى منظمات منافسة، لاسيما نقابة القوة العمالية Force ouvriere. وفي دجنبر 1947، بعد الانشقاق الذي مزق الحركة العمالية الفرنسية، قام مسؤولون سابقون بمركز الفوسفاط بخريبكة بدعوة النقابيين الفرنسيين إلى عقد تجمعات عامة وتحويل منظماتهم في س ج ت إلى منظمات تابعة للقوة العمالية، وكان لهذا النداء صدى ضعيف. وفي التجمعات التي أمكن القيام بها صوت العمال المغاربة في خريبكة وجرادة مثلا بكثافة لصالح البقاء في اتحاد س ج ت (ابريل1948). وطعن مسؤولو القوة العمالية في صلاحية عمليات التصويت تلك «المغاربة لا حق لهم في التصويت»، ولم يحصد المحتجون أي نجاح أكثر من هذا سنة 1951، لكن النقاشات كانت حادة جدا. وإن كانت الفيدرالية المغربية لنقابات الموظفين قد قررت عدم الانفصال عن الاتحاد العام، فإنها فقدت ربع منخرطيها الذين أربكهم مطلب الاستقلال. اعتبر اشتراكيو المغرب، كباقي اغلب السكان المعمرين، أن الشعب المغربي لم يبلغ بعد من النضج ما يتيح تسيير شؤونه بنفسه.

كانت شدة الحياة العمالية في بداية سنوات الخمسين انعكاسا لاندفاع نمو الأنشطة الاستعمارية التي يتيح مؤشران إثنان، من ضمن آخرين، قياسه:

مجموع الرساميل العمومية والخاصة المستثمرة بين 1946 و1953: 600 مليار أي 40% من 1500 مليار المحصلة منذ 1919.
كمية الطاقة المستهلكة: ما يعادل 700 ألف طن من الفحم عام 1945 و2.1 مليون طن عام 1953 أي ثلاثة أضعاف. وعلاوة على التحولات في المجال والتحولات الاقتصادية والإنسانية، نتج عن ذلك تزايد هام في كتلة الأجراء المستخدمين في قطاعات النشاط العصرية: 100 ألف أوروبي ومنهم 33 ألف في القطاعات العمومية والمصالح ذات الامتياز وأكثر من 450 ألف مغربي منهم 180 ألف في الصناعة والمناجم والنقل. ويجب النظر إلى هذه المجموعة الأخيرة باعتبارها النواة الواعية للبروليتاريا المغربية، يتركز ثلثها أي زهاء 60 ألف في الدار البيضاء.
القمع: أحداث الدار البيضاء يومي 7 و8 ديسمبر 1952 وحل الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب والحزب الشيوعي وحزب الاستقلال

فاق تكاثر النقابات وعدد النضالات المطلبية وتصلبها ما يطيقه أرباب العمل والسلطات التي حرصت على عرقلة سير عمل المنظمات النقابية ثم تدميرها.

كانت إضرابات 1948 القوية قد أكدت كفاحية ووعي طبقة البروليتاريا المغربية. وقد أبان كل من مؤتمر نوفمبر 1952، والنضالات التي جمعت سنتي 1951 و1952 المطالب الاقتصادية والسياسية، ومظاهرات 7 و8 ديسمبر 1952، المندلعة احتجاجا على أنظمة الاضطهاد الاستعماري وتضامنا مع الطبقة العاملة التونسية المجروحة باغتيال قائدها فرحات حشاد، أبان عن نهوض وعيها الوطني كشكل متبلور ومتبصر للشعور القومي المبهم الذي كان يخترق سكان المغرب. وتمثلت النتائج المباشرة لأحداث ديسمبر 1952 في اعتقال المناضلين النقابيين والسياسيين المغاربة واعتقال ثم طرد 40 مناضلا فرنسيا وحل الاتحاد العام للنقابات وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي المغربي. وبعزم قامت الطبقة العاملة المغربية، وقد ُمنعت أحزابها السياسية وُدمرت منظماتها النقابية وأُعتقل أو ُطرد قادتها، بالانخراط إلى جانب شعب المدن والقرى في النضال لأجل الاستقلال واضطلعت بدور حاسم في المقاومة الحضرية سنوات 1953-1955.

1953-1955: قمع ومقاومة. ميلاد الاتحاد المغربي للشغل.

لم يبق سنة 1953 غير الأحزاب والنقابات التي لم تكن تضع نظام الحماية موضع سؤال. كانت تلك، على الصعيد السياسي، حال فروع الفدرالية المغربية للحزب الاشتراكي (الفرع الفرنسي للأممية العمالية) وعلى الصعيد النقابي، حال الاتحاد العام ـ س ج ت – القوات العمالية (CGT-FO) بالمغرب والاتحاد المغربي للعمال المسيحيين (CFTC) وفيدرالية مستقلة لنقابات الموظفين. وسُمح لها باستقطاب مغاربة. وكان بضع مئات منهم في CFCT وربما أكثر من ذلك بقليل في القوات العمالية (شركة التبغ وشركة manutention marocaine).

وفي فبراير 1953 سُمح من جديد لفيدرالية س ج ت في قطاعات الموظفين وسكك الحديد والبريد والإنارة والقوات المحركة بإعادة تشكيل نفسها. ولم تتمكن من تنظيم عناصر مغربية نقابيا. لكنها، وقد تجمعت في كارتيل للخدمات العمومية، لم تكف رغم التهديدات عن النضال لرفع الأجور والمكافآت وعن المطالبة، عبر صحافتها او بإرسال مندوبين الى السلطات العمومية، بالحق النقابي للجميع وبإطلاق سراح أو عودة أو إعادة دمج كل المناضلين الذين سجنوا أو طردوا. كما طالبت بمفاوضات مع الممثلين الحقيقيين للشعب المغربي لإعادة السلم إلى البلد.

وفي نوفمبر 1954 تم إطلاق سراح المناضلين النقابيين والسياسيين، أعضاء حزب الاستقلال، المعتقلين خلال أحداث الدار البيضاء والمتهمين بالمس بـ«أمن الدولة الداخلي والخارجي»، وذلك بعد قرار قاضي التحقيق العسكري بالدار البيضاء بألا وجه لإقامة الدعوى. وقام مناضلو الاتحاد العام للنقابات المتحدة سابقا، بعد تأكدهم من مساندة الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة CISL، ومن خلالها مساندة الاتحادات النقابية الأمريكية الكبرى، بإصدار بيان يوم 5 يناير يدعو إلى إنشاء اتحاد نقابي مغربي منضو تحت لواء الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة. وجرى تأسيس بعض الأنوية النقابية الحضرية واجتمع مندوبوها، زهاء الخمسين، بالدار البيضاء بشكل سري يوم 20 مارس 1955 وشكلوا الاتحاد المغربي للشغل. واعتبر مناضلو س ج ت، ذوي الميول الشيوعية، أن الانضمام إلى اتحاد نقابي عالمي، سواء الفيدرالية النقابية العالمية FSM التي انتموا إليها دوما أو الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة CISL، أمر يتعين ان يقرره مؤتمر وطني بعد إعادة تكوين فعلي لنقابات القطاع الخاص طبقا لقرارات المؤتمر السادس للاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب في نوفمبر 1950. وشكلوا في أبريل 1955 لجنة تحضيرية «لإنشاء اتحاد نقابي وطني ديمقراطي». وباء ذلك بالفشل. وبعد الاعتراف باستقلال المغرب قررت كل منظمات الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب حل نفسها (ديسمبر 1955- يناير 1956) والتحق مناضلوها بالاتحاد المغربي للشغل.

الإحالات:

[1] CGT الكونفدرالية العامة للشغل: نقابة فرنسية تأسست عام 1895. سادت فيها الميول الثورية حتى الحرب العالمية الاولى. انشقت عنها س ج ت الوحدوية عام 1920، وأعيد توحيدها سنة 1936. يهيمن فيها الشيوعيون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

[2] المارشال ليوطي: (1854-1934) اشتغل اغلب مشواره في المستعمرات (الجزائر، الهند الصينية، مدغشقر). احتل مدينة وجدة عام 1907. تم تعيينه مقيما عاما للجمهورية الفرنسية بالمغرب. وكان وزيرا للحرب في 1916-1917. بعدها عاد الى المغرب.

[3] : الماسونية جمعية عالمية تقوم بأعمال الإسعاف المتبادل والبر والإحسان.