افي ذكرى وفاته الخامسة والثمانين /الطاهر الحداد ذلك الثوري المنسي -2020/12/07


الطايع الهراغي
2020 / 12 / 6 - 20:31     

" لا يسرد التّاريخ إلاّ ما تبقّى من الماضي محفوظا في الذّاكرة " -- عبد الله العروي--// مجمل تاريخ المغرب –

قال عنه معاصره ونصيره في محنته أحمد الدّرعي :" أقوى شخصيّة أنتجتها البلاد التّونسيّة بعد الحرب العالميّة الأولى وأكبر ضحيّة فقدتها البلاد منذ أجيال " . وقال عنه الأديب المصريّ طه حسين " لقد سبق هذا الفتى زمنه بقرنين " . 36 سنة ( 1899// 1935) ذلك هو نصيبه من الحياة . ومع ذلك فقد طبع الحدّاد الحياة السّياسيّة والفكريّة والنّقابيّة بشكل ملفت ومذهل. يشهد على ذلك ما تمثّله آثاره من أهميّة كمصدر أساسيّ في المجالين الفكريّ والنقابيّ لكلّ من له هوس بالبحث والتّنقيب ، بل يمكن الجزم بأنّ التّجربة النّقابيّة الأولى 1924 كان سيلفّها النّسيان لو لم يخلّدها الحدّاد في كتابه" العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النّقابيّة " الذي يعدّ بحقّ بيانا تأسيسيّا يكشف وعيا مركّبا بأهمّيّة التّأريخ للمنعرجات المفصليّة .
زيتونيّ التّكوين ، أحاديّ اللّسان ، متحرّر الفكر، متمثّل لطبيعة العصر كما يكشفه رأيه في تحرّر المرأة بشكل جزميّ : " إنّها ذاهبة في تيّارالتّطوّر الحديث بقوّة لا تملك هي ولا نحن لها ردّا " . مفارقة عجيبة حيّرت الباحثين ( زينب بن سعيد الشارني / مصطفى كريم .... ) لافقط بحكم البيئة المحا فظة التي تكوّن فيها بل أساسا للجرأ ة التي تميّز بها ، أوّلا في الانتصار للمرأة بشكل صادم ومربك للعقليّة السّائدة كما تعكسها الرّدود على كتابه " امرأتنا في الشّريعة والمجتمع " من قبل مشايخ الزيتونة أحدها كتاب " الحداد على امرأة الحدّاد " للشّيخ محمد الصّالح بن مراد ، وثانيها كتاب " سيف الحقّ على من لا يرى الحقّ " للشّيخ عمر البرّي المدني. ردود عناوينها فقط تكشف خطورة ما أقدم عليه الحدّاد من مغامرة ومخاطرة ، وثانيا في ما حفل به كتاب " العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النقابية " من تمثّل للفكر اللّيبراليّ التّحرّريّ والفكرالاشتراكيّ والاجتماعيّ وإعلاء لقيمة العمل . أليس الكتاب الجيّد هو بالتّعريف ذلك الذي تمليه الحقبة على كاتبه ؟؟.
**الحركة النّقابيّة وفعل التّاسيس
التّأريخ لحيثيّات تشكّل أوّل تجربة نقابيّة تونسيّة لحما ودما لايقلّ خطورة وقيمة عن فعل التّاسيس ذاته إذ لا معنى لأيّة تجربة ما لم تتحوّل إلى إرث نظريّ وعمليّ .تدوين التّجربة هو تأسيس لعمليّة مراكمة وحفظ للتّجربة من التّلف .هي أيضا كشف عن شخصيّة الحدّاد كمفكّر ومصلح في بحثه عن رصد بداية تشكّل الوعي بأهميّة التّنظّم النّقابيّ المستقلّ الذي سيؤطّر خصوصيّات الفعل النّقابيّ في تونس ويثبّتها . كتاب العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النّقابيّة يمثّل منعرجا يساوي أو يفوق كتاب " تونس الشّهيدة " للثّعالبي بشهادة أكثر من باحث أكاديميّ . فإذا كان كتاب" تونس الشّهيدة " المنسوب للثّعالبي- رغم أنّه مؤلّف جماعيّ - قد رسم انعطافة في تاريخ الفعل السّياسيّ في تونس بحكم طابعه السّجاليّ ومجاهرته بفضح السّياسة الاستعماريّة المتّبعة في الإيّالة وعبّر عن وعي النّخبة الدّستوريّة بما هو مطروح عليها من مهامّ ، فإنّ كتاب الحدّاد يكتسي ميزات عديدة، أوّلها مقدّمته العجيبة ، فالحدّاد لا يتقن غير العربيّة، ولم بإمكانه الاطّلاع مباشرة على وثائق أجنبيّة ، ومع ذلك فقد كشفت مقدّمته الطّويلة إلماما دقيقا بحيثيّات مراحل تشكّل الرّأسماليّة في أوروبا ومنعرجات تطوّرالحركة العمّالية في الغرب وكيفيّة انتصار الماركسيّة في روسيا القديمة . لقد رسم الحدّاد حوصلة أمينة لتاريخ الحركة العمّاليّة الأوروبيّة بتحليل مادّيّ للدّيناميكيّة التّاريخيّة تكشف بوضوح طبيعة تفكيره المتجاوز لعصره . المقدّمة أقرب إلى الوثيقة التّاسيسيّة ، مقادة بهدف يكشف وعيا بجدوى وضرورة التّنظم النّقابي للعمّال التّونسيّين بالانخراط في نقابة مستقلّة عن النّقابات الفرنسيّة نسجا على منوال التّجارب العمّالية العالميّة ، خاصيّتها المزج العضوىّ بين الاجتماعيّ والوطنيّ تمثّلا لخصوصيّات الفعل النّقابيّ في المستعمرات . ولعلّ طبيعة الإضرابات التي أطّرتها الجامعة (جامعة عموم العملة التّونسيّة ) والتي لم تشمل إلاّ الشّركات الأجنبيّة الاستعماريّة دليل واضح على استيعاب المؤسّسين لتلازم النّقابيّ والسّياسيّ ، الاجتماعيّ والوطنيّ . ولعلّ العجيب حقّا هو التّفطّن منذ البداية إلى أنّ قدر الجامعة أن تكون مستقلّة عن كلّ الأطراف السّياسيّة . ورغم أنّ أغلب المؤسّسين معروفون بانتماءاتهم فإنّ ذلك لم يحل دون تمييزهم بين قناعاتهم الحزبيّة ومسؤوليّاتهم النّقابيّة، وتحسب لهم جرأة التّباين مع أحزابهم ( بعضهم يتحمّل مسؤوليّات متقدّمة في الحزب على غرار الطاهر الحدّاد وأحمد توفيق المدني ) رفضا لما نعته الحداد ذاته ب" تأ لّب الأحزاب ضد الجامعة " (الحزب الإصلاحيّ / الحزب الحرّ/ المجلس الكبير بالحكومة التّونسيّة ) يوم تنصّلت منها وزكّت قرار السّلط الاستعماريّة بحلّها ومحاكمة أعضائها . الجزء الثّاني من الكتاب أقرب إلى اليوميّات فيه تسجيل دقيق لوتيرة تشكّل النّقابات وللمجهود الذي بذله المؤسّسون في الإقناع بضرورة الانسلاخ من وعن النّقابات الفرنسيّة.. تأسيس الجامعة ليس قرارا مسقطا ولا هو رغبة في تجسيد فكرة خطرت ببال نخبة ، إنّه تتويج طبيعيّ لجملة تحرّكات( اعتصابات ) خاضها العمّال التّونسيّون ، تحرّكات تكشف أمرين مفصليّين ، أوّلهما أنّ الحركة النّقابيّة نشأت منذ البدء صداميّة ، خاصيّة ستطبع كل مراحل الفعل النّقابيّ في تونس وتحكم إرثه وتمثّل له منعة . يكفي فقط التّاكيد على أنّ ما تلا من التّجارب النّقابيّة ليس إلاّ إحياء لتجربة الجامعة ووفاء لباعث البذرة النّقابيّة الشّهيد محمد علي الحامّي، وثانيهما أنّ بعث الجامعة كان نتاجا لتلاقح حماس العمّال والتزام نخبة مفكّرة ( أساسا ممدئ علي الحامّي والطاهر الحدّاد ) ، الأوّل يحوز على فضل التّاسيس والثّاني يحوز على ميزة التّأريخ . **القراءة الزّمنيّة لأحكام الشّريعة
أحدث كتاب " امرأتنا في الشّريعة والمجتمع "حال صدوره 1930 زوبعة اعتبرها بعض الباحثين صدمة يشهد عليها تأ لّب الوسط المحافظ على الكتاب وأساسا على صاحب الكتاب الذي أفرد فعلا إفراد البعير المعبّد وحكم عليه أن يعيش بقيّة حياته في عزلة . ما يميّزالكتاب ليس جرأة الحدّاد في مغالبة الفكر المحافظ واعتبار تحرّر المرأة يندرج في تيّار" التّطوّر الحديث بقوّة لا تملك هي ولا نحن له ردّا " وإنّما في طبيعة القراءة التي اعتمدها في تأويل أحكام الشّريعة وفي المقدّمات التّأسيسيّة التي اتّكأ عليها . الكتاب حفريّات في الأسس في ما يجوز اعتباره تثويرا للنصّ الدّينيّ . المقدّمة الكبرى التي بنى عليها الحدّاد قراءته هي التّفريق بين الجوهر" ما اتى به الإسلام وجاء من أجله وهو جوهره ومعناه " كعقيدة التّوحيد ومكارم الأخلاق والعدل والمساواة . فهذه خالدة خلوده باقية بقاءه ، وبين ما هو في عداد الأحوال العارضة للبشريّة ، أحوال متغيّرة بالضّرورة تحكمها ملابسات كمسائل العبيد والإماء وتعدّد الزّوجات وما شابه ." فما يقع لها من الأحكام إقرارا لها أو تعديلا فيها باقية مابقيت فإذا ذهبت ذهبت أحكامها معها ". الأعراض ليست من الإسلام في شيء " ما لا يمكن اعتباره حتى كجزء من الإسلام ". المقدّمة الصّغرى قوامها أنّ الإشكال ليس في الشّريعة وإنّما في تأو يل الأحكام . وتلك مسؤوليّة الفقهاء . فهم في انفصال عن الزّمن وفي طلاق مع الملابسات وفي قطيعة مع ما تقتضيه مصلحة المجتمع الحاضر ، " يجنحون إلى العمل بأقوال من تقدّمهم في العصر ولو بمئات السّنين .ويحكمون بأحكامهم مهما تباينت أحوال المجتمعات الإسلاميّة باختلاف العصور". المقدّمة الصّغرى الثّانية هي ربط الأحكام بالشّروط التّاريخيّة التي تمّ فيها إنتاجها وسياقاتها الظّرفيّة والزّمنيّة أسماها المفسّرون أسباب النّزول وسمّاها الحدّاد مبدأ التّدرّج. فالأحكام ليست مطلقة في الزّمن بل مشدودة إلى ظرفيّة زمنيّة وملابسات هي بالضّرورة انعكاس لحاجات حينيّة مرتبطة بما بمستوى النّضج الذي بلغه المجتمع . الأحكام إذن استجابة لإرهاصات مجتمعيّة ، وليست تفهّما لألفاظ النّصوص وما تحتمل من معنى بمعزل عن أوجه انطباق تلك الّنّصوص على حاجات العصر . النّصّ هو قراءتنا نحن له . مسألة أدركها الحدّاد وحسمها منذ الثّلث الأوّل من القرن العشرين . ولا زال البعض منّا بعد قرابة القرن " يسهر جرّاها ويختصم " . الفعل النّقابي مستقل أوّلا يكون. ذلك ما نحتته أوّل تجربة سنة 1924 . ومع ذلك لازالت الاستقلاليّة هاجسا وليست منجزا . النّخبة منحازة للهمّ المجتمعيّ ، مدركة لرسالتها ، واعية بهوّيتها ، متبرّمة بكلّ تبعيّة كافرة بكل تذيّل . ذلك ما كرّسه الحدّاد كتابة وممارسة ، ودفع في ذلك الضّريبة ، كلّ الضّريبة. ولازالت نخبنا ، بعد عشر سنوات من الثّورة ، مصابة ب " جائحة كورونا " الإضراب عن التّفكير .