المذكرة الوزارية رقم 20×039: شوط إضافي لتطبيق الخطة الاستراتيجية 2015- 2030 بقلم شادية الشريف


المناضل-ة
2020 / 9 / 1 - 00:24     

أصدرت وزارة التربية الوطنية مذكرة 20×039 بتاريخ 28 غشت 2020 بشأن تنظيم الموسم الدراسي لسنة 2020- 2021 في ظل جائحة كوفيد، ويبدو أنها جواب على جملة الاعتراضات الشكلية التي أبدتها القيادات النقابية وجمعيات أولياء التلاميذ- ات ضد المقرر الوزاري الصادر بتاريخ 5 غشت، وفي نفس الوقت استغلال فرصة الاستجابة لتلك الاعتراضات الشكلية لمزيد من تنفيذ هجمات مقررة سلفا [القانون الإطار 51.17، مشروع النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين].
سبق وتناولنا بالنقد مذكرات سابقة تضمنت نفس الخطوط العريضة لهذا الهجوم على التعليم والتوظيف العموميين، ويمكن للقارئ-ة أن يرجع إلى مقالاتنا بموقع الحوار المتمدن: [http://m.ahewar.org/index.asp?i=628].
خرافة الدول التي "تحترم مواطنيها"
غالبا ما يجري انتقاد سياسة الدولة بمواجهتها مع سياسات دول أخرى تُنعت بـ"التي تحترم نفسها" أو "تحترم مواطنيها". هكذا جرى تقاسم مقال للإعلامية الناقدة فاطمة الإفريقي يقول مقتطف منه: "في بلدان الكرامة والحقوق، الأطفال متشابهون، لهم نفس الابتسامات، نفس العيون المشرقة، يدرسون في نفس الأقسام بنفس الأقلام والكراسات ويركبون نفس الحافلات الآمنة... لا فرق بين غني وفقير ولا بدوي وحضري، في نفس المدارس يلقنهم الوطن دروس الأدب والحساب والحياة والأخلاق وقيم المواطنة بنفس اللغة وبنفس المناهج التربوية". ["من هم وليدات المغرب الحقيقيون؟ لمن يشبهون؟"، 28 غشت 2020].
لكن أين توجد "بلدان الكرامة والحقوق" هذه؟ الأكيد أنها ليست على خارطة كوكب الأرض، فمجمل السياسية النيوليبرالية المؤطِّرة للهجوم على حق التعليم العمومي جرى تقريرها في هذه البلدان بالضبط [الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي]، وحين وصف عالم الاجتماع التربوي بيار بورديو المدرسة كآلية "لإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية"، فكان يتحدث عن المدرسة في تلك البلدان بالضبط.
يقوم الهجوم النيوليبرالي على إلغاء القطاع العام، ومنح الحرية الكاملة للشركات، والحد الكبير من الإنفاق الاجتماعي، وهي محاور من جملة أخرى تضمنتها وثيقة صدرت سنة 1989 بعنوان "إجماع واشنطن" وتبنتها مؤسسات الرأسمال العالمي [صندوق وبنك دولي] وفُرض تطبيقها على الدول المسماة "فاشلة التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية وكيفية تنويع اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية"، لكنها سياسات طُبقت بداية في المراكز الإمبريالية.
نموذج الولايات المتحدة الأمريكية: استغلال ظرفية الكوارث لتنفيذ الهجمات
استطاعت العقيدة النيوليبرالية التي وضعها أُسُسَها ميلتون فريدمان أن تفرض نفسها على السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة، وعبرها على العالم. وتقوم فكرة فريدمان على استغلال صدمة الكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية والسياسية لفرض هجمات لم يكن من المستطاع تطبيقها في الأحوال العادية.
وقد طُبِّقَت نظريته هذه حين ضرب إعصار مدمر نيو أورلينز، وقال في هذا الصدد: "بات معظم مدارس نيو أورلينز [بعد الفيضان] حطاما... هذه مأساة. لكنها أيضا فرصة تتيح لنا إجراء إصلاحات جذرية في التعليم"، وهي الفكرة التي دعمتها إدارة جورج بوش آنذاك وجرى "تحويل مدارس نيو أولينز إلى "مدارس حكومية مستقلة" (مدارس ميثاقية)، أي إلى مؤسسات تمولها عامة الشعب، وتديرها هيئات خاصة وفق القواعد والأسس التي تراها مناسبة". ["عقيدة الصدمة، صعود رأسمالية الكوارث"، نعومي كلاين، ترجمة نادين خوري، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة 2011، ص 13 و14].
تقوم الدولة المغربية باقتفاء آثار سياسات أساتذتها في "الدول التي تحترم مواطنيها"، وتستغل بدورها ظرفية الوباء الذي صار جائحة من أجل تسريع هجوم كانت قد وضعت له أجل 2030 [الرؤية الاستراتيجية]، وهذا هو مضمون المذكرة الوزارية الأخيرة.
فخ الاعتراضات الشكلية
المفاهيم السائدة هي مفاهيم الطبقة السائدة، وقد استطاع الهجوم النيوليبرالي أن يرسخ مفاهيمه في أذهان الشغيلة وقيادات تنظيمات نضالها. وأصبح الاعتراض ضد الهجوم يجري على أرضية هذا الهجوم ذاته وباستعمال مفاهيمه، في التحليل الأخير تجري المطالبة بتلطيفه، إن لم يكن التقدم بمقترحات لتنفيذه بأقل كلفة اجتماعية أو تدبير نتائجه العملية [التعيينات، تدبير الفائض والخصاص] فتتحول هكذا قيادات تنظيمات نضال الشغيلة إلى ما يشبه ملحقات بمصلحة "تدبير الموارد البشرية":
أ. غياب المقاربة التشاركية
تركزت اعتراضات بعض القيادات النقابية وبيانات جمعيات أولياء التلاميذ- ات على رفض "انفراد الوزارة بتدبير الدخول المدرسي دون إشراك الفرقاء الاجتماعيين"، وهو ما أجابت عنه الوزارة في المذكرة الأخيرة: "اعتماد مقاربة تشاركية موسعة في اتخاذ القرار بشأن اعتماد وتطبيق النمط التربوي الذي يتناسب وكل مجال جغرافي"، "ترسيخا للمقاربة التشاركية مع الأسر"...
إن "تنظيم الدخول المدرسي" بالنسبة للوزارة عمل حكومي برجوازي، وهذا الأخير يقوم في كل الدول على احترام الإطار العام للسياسة التعليمية الخاضعة للاختيارات النيوليبرالية، لذلك فإن أي إشراكٍ يهدد بِلَجْمِ هذه الخيارات سيكون مرفوضا. والإشراك الوحيد المقبول من الدولة هو في تنفيذ الهجمات [التقشف وتحميل الأسر جزءً من كلفة التمويل] كما ورد في المذكرة: "تعبئة شركاء المؤسسة وعموم الآباء والأولياء قصد المساهمة في توفير الموارد الإضافية للتغلب على متطلبات تطبيق الشروط الوقائية والاحترازية سواء تعلق الأمر بتوفير مواد النظافة والتعقيم أو المساهمة في تيسير تنقل المتعلمات والمتعلمين المستفيدين من النقل المدرسي وتوفير شروط السلامة".
إن المطالبة بـ"الإشراك في اتخاذ القرار" ينتهي بالاتفاق مع الدولة على الجوهري في الهجوم والتقدم بملاحظات شكلية كل غايتها هو تلطيف ذلك الهجوم وتفادي رد الفعل الجماعي ضده. وإن التشارك المطلوب هو التعاون النضالي والكفاح المشترك بين أدوات نضال الشغيلة والأسر [نقابات وتنسيقيات وجمعيات أولياء التلاميذ- ات...] ضد هذا الطور النوعي من الهجوم.
بـ. ربط "التعليم عن بعد" بتوفير التجهيزات
جل الاعتراضات الموجهة ضد "التعليم عن بعد" لا تتعدى انتقاد تطبيقه دون توفير الوسائل اللازمة والتكوين التربوي الملائم، ما يُعد قبولا مشروطا لأخطر آليةِ تدميِر المدرسة العمومية وتفكيك علاقات الشغل القارة، كونها تختفي وراء ستار التكنولوجيا.
هذا الاعتراض ملائم تماما لمسعى الدولة، لأنها تصور تجويد هجومها على أنه استجابة لاعتراضات "الفرقاء الاجتماعيين" ومطالبهم، وهو ما ورد في المرفق رقم (1): "يتم تكليف فريق على المستوى المركزي لوضع مساقات للتكوين عن بعد تهدف إلى تدريب المدرسين في مجال التكنولوجيا واستعمال الموارد الرقمية وإدارة الفصول الافتراضية وتمكينهم من الكفايات المهنية الخاصة باستعمال هذه المنصات". [الإطار الوطني المرجعي للنمط التربوي القائم على التناوب بين "التعليم الذاتي" و"التعلم عن بعد"، يوليوز 2020].
ويشير نفس الملحق إلى أن من مهام الإدارة التربوية: "إحصاء المتعلمات والمتعلمين الذين لا يتوفرون على وسائل الاتصال الالكترونية اللازمة للتعلم عن بعد، وإخبار المديريات الإقليمية ومختلف الجهات المعنية بالمعطيات"، وتحدثت المذكرة عن "التمييز الإيجابي للوسط التربوي ولفائدة شريحة الأطفال الأكثر هشاشة وتأثرا بتداعيات الوضع"، ومن هذه الآليات حفز المبادرات الإحسانية الخاصة والعمومية بتزويد "الأكثر هشاشة" بهذه الوسائل. كما حرصت المذكرة على: "مراعاة للوضعية الخاصة وللإكراهات الشخصية للعديد من الأمهات والآباء، واستحضارا لإمكانية عدم توفر مجموعة من الأسر على الوسائل الكافية للولوج إلى خدمة التعليم عن بعد، تم فسح المجال أمام الأسر من أجل التعبير عن رغبتها في استفادة بناتها وأبنائها من نمط التعليم الحضوري".
إن رفض "آلية التعليم عن بعد" رفض مبدئي لأن هذه الصيغة من التعليم مدمرة للتعليم العمومي وقائم على منطق السوق ومفاهيمه، ويجب رفضه حتى لو وفرت الدولة صبيبا دائما وتجهيزات بشكل مجاني. وهو رفض نلاحظه في الدول الأوروبية حيث تتوفر هذه الشروط، حيث ورد في "نداء بوساشيل" وقعته مجموعة من المُدرسين- ات الفرنسيين- ات بتاريخ 12 أبريل 2020: "ما نريده أيضا هو أن نُدَرِّس، وليس أن ننفذ التعليمات. التعليم الرقمي ليس "ثورة بيداغوجية" ولكنه نهاية التعليم. المواد التي تكونه، تجد نفسها مفككة إلى مجموعات مهمات قابلة للتنفيذ، ويعاد تجميعها اصطناعيا في قدرات عامة. لتسمى "حجر أساس الكفايات". في هذا الإطار، يمكن اختزال درس أو تمرين في بروتوكول أجوف، يمكن فعلا تقاسمه على الأنترنيت، بما أنه لا يستلزم أية معرفة دقيقة ولا تفكير بيداغوجي شخصي ليتم إنتاجه. درس تم بناءه بهذه الطريقة لا يسمح بتعلم طريقة التفكير وإنما كيفية التصرف بالطريقة المنتظرة". [أنظر- ي نص النداء على الرابط: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=672813].
لن تستقيم محاكمة سياسة الدولة في التعليم بالتركيز على شكلياتها، بل باستحضار إطارها العام القائم على خيارات نيوليبرالية قائمة التقشف ونزع الضبط والتقنين عن منظومات الخدمات العمومية والتوظيف العمومي، وهو ما نفتقده حاليا لدى الشغيلة ولدى قيادات تنظيماتها.
الإطار العام للمذكرة الوزارية
تقف المذكرة الوزارية الأخيرة على أرضية العقيدة النيوليبرالية المؤطرة لكل هجمات الدولة على الخدمات الاجتماعية والتوظيف العمومي: إلغاء القطاع العام [الخوصصة]، ومنح الحرية الكاملة للشركات [حفز القطاع الخاص]، والحد الكبير من الإنفاق الاجتماعي [التقشف].
تنضح المذكرة بفقرات تشير إلى الالتزام الصارم بسياسة التقشف التي تسعى إلى تحميل الأسر جزءً مهما من تمويل تعليم أبنائها وبناتها، وفي نفس الوقت التحكم في كتلة الأجور برفض التوظيف وتحميل شغيلة التعليم مهاما مضاعفة وأخرى ليست من اختصاصها.
أ. المزيد من تفكيك الطابع العمومي المركزي للتعليم والتوظيف
يُعتبر نزع الطابع المركزي التعليم والتوظيف العموميين أحد أوجه هجوم الرأسمال على هذين القطاعين، فلتسهيل الخيارات النيوليبرالية [الشراكة مع القطاع الخاص وتدخله في تحديد مناهج التعليم، الخوصصة، التخلي عن التمويل...] لابد بالنسبة لمؤسسات الرأسمالي العالمي من "القضاء على الطابع البيروقراطي" لمنظومة التعليم واستبدالها بمؤسسات دنيا تتمتع باستقلاليتها بينما تحتفظ الدولة بوظائف التوجيه والتخطيط. وهي توصية إحدى منظمات أرباب العمل الأوروبيين: "كتبت المائدة المستديرة للصناعيين الأوربيين منذ 1989 "تهيمن الاكراهات البيروقراطية على إدارة المدرسة... إن الممارسات الإدراية مفرطة التصلب على نحو يمنع مؤسسات التعليم من التكيف مع التغيرات الضرورية التي يفرضها التطور السريع للتكنولوجيا الحديثة وعمليات إعادة هيكلة الصناعة والقطاع الثالث"... "وعلى النحو ذاته تقول منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين: "يتعين على نظام التعليم أن يبذل قصاراه لتقليص مدة استجابته باستعمال صيغ أكثر ليونة من صيغ الوظيفة العمومية، لأجل إحداث- أو إغلاق- شعب تقنية أو مهنية، واستعمال مستخدمين أكفاء وامتلاك التجهيزات الضرورية". ["المحاور الثلاثة لتحويل المدرسة إلى سلعة"، نيكو هيرت، ماي 2001].
تتحدث المذكرة عن توزيع الأدوار بين مختلف الفاعلين والمتدخلين الأساسيين، مولية الإدارة المركزية مهام "الإشراف العام والتوجيه والمعيرة والدعم والتتبع والتقويم، وكذا وضع الآليات المؤسساتية والقانونية الملائمة"، بينما تتولى الهيئات الدنيا [أكاديميات، مديريات إقليمية، مؤسسات تعليمية] مهمة التنفيذ الفعلي لسياسات قائمة على التقشف.
هذا ليس جديدا فقد ورد في تقارير سابقة مهيئة لمراجعة شاملة للأنظمة الأساسية للوظيفة العمومية، وجرى انتقاد واسع للطابع المركزي للوظيفة العمومية، وانتُقِد دور الدولة المُوظِّفَة/ المُشَغِّلَة التي يجب أن تحل محلها "الدولة المُخَطِّطَة" (تقرير المجلس الأعلى للحسابات 2017) و"الإدارة العمومية التي يجب أن تظل مجرد أداة تنظيم" (مداخلة رئيس الحكومة بنكيران في المناظرة الوطنية لإصلاح الوظيفة العمومية 2013).
طالب تقرير البنك الدولي "المغرب في أفق 2040" الصادرة سنة 2017، بـ"إلغاء الطابع المركزي للدولة": "ينبغي أن يطلق المغرب بحزم عملية الجهوية الموسعة النسقية وإلغاء الطابع المركزي عبر النقل الحقيقي والتدريجي لسلطات صنع القرار، والموارد والإمكانيات المطابقة للمستويات الترابية المناسبة... وتعزيز الوظيفة العمومية المحلية فرصة فريدة لإعادة النظر في وضعية الوظيفة العمومية لتتناسب مع متطلبات الممارسات الفضلى في مجالات التدبير الحديث والحكامة الجيدة".
وهو ما تنفذه المذكرة الوزارية عند الحديث عن "إعمال الجهوية والمقاربة المجالية في اختيار وتنزيل النمط التربوي الملائم، من خلال تخويل السلطات التربوية الجهوية والإقليمية والمحلية الصلاحيات الكاملة لذلك...".
وتعتبر "استقلالية المدرسة" وسيلة تفكيك المنظومة الموحدة للتعليم العمومي، حيث تتكفل "المؤسسات المدرسية المستقلة" بتنفيذ السياسة التعليمية القائمة على التقشف. تشير المذكرة إلى "الآليات التي سيمكن استثمارها في تفعيل الدور الجوهري والحاسم للمؤسسة التعليمية في تأمين الحق في التعلم"... أي أن تأمين هذا الحق مطروح على المؤسسة وقدرتها على استقطاب التمويل والشركاء.
ليس هذا بجديد مرتبط بضرورة التكيف مع الوضعية الوبائية، بل تصريفا لمخطط قديم ورد المادة (149) من الميثاق الوطني للتربية والتكوين التي منحت "للثانويات صفة "مصلحة للدولة تُسَيَّرُ بطريقة مستقلة" (نظام SEGMA)"، نفس الشيء بالنسبة للمادة (150) التي منحت للجامعات "استقلالا ماليا فعليا"، وتتكون ماليتها من "مشاريع البحث المتعددة التخصص التي تمكن من جلب موارد إضافية" بينما تقتصر مساهمة الدولة على "ميزانية تُحدَّد حسب معايير واضحة وعلنية".
طبعا، تستغل الدولة ظرفية الوضعية الوبائية لتسريع هذا التفكيك بالحديث عن سيناريوهات تُترَك صلاحية تقريرها للمؤسسات الدنيا: "تعتبر المؤسسة التعليمية، بإدارتها التربوية ومجالسها المختلفة وأطرها التربوية والإدارية، حجر الزاوية في إنجاح عملية التنزيل الفعلي للأنماط التربوية التي سيتم إعدادها".
وهذه الاستقلالية آلية رئيسية لتعديل علاقات الشغل القائمة داخل الوظيفة العمومية واستبدالها بـ"التدبير الحديث للموارد البشرية" المُستقدَمة من القطاع الخاص، وهو ما فصلت فيه المذكرة مُخفية هجومها وراء حجة أن الأمر ناتج عن: "الطبيعة الاستثنائية للموسم الدراسي الجديد الذي سيتم تدبيره وفق أنماط تربوية مستجدة وغير مألوفة، وخاصة النمط التربوي بالتناوب، فإن المؤسسات التعليمية مطالبة بالقيام بتحول تدبيري ملائم، وبتجديد صيغ وأساليب تسييرها الإداري والتربوي، وتشجيع الابتكار البيداغوجي، وتحقيق التحول الرقمي المطلوب، واقتراح الحلول الميدانية التي تراعي خصوصيات المؤسسة التعليمية ومحيطها، من أجل الاستجابة الملائمة لمتطلبات التكيف السريع والأجرأة الناجعة لمختلف الأنماط التربوية، بما يتطلبه الأمر من فعالية وجودة تربوية وبيداغوجية تحقيقا للأهداف التربوية المتوخاة، وللكفايات المستهدفة".
تصر الدولة على ما تسميه "إضفاء المرونة على تدبير الموارد البشرية" باستعمال "الرقمنة" وهي آلية لتشديد الرقابة على أداء الشغيلة من أجل تكثيف استغلالها وربط أجورها وترقيتها بمردود عملها، وتُعتبر بوابة "مسار" إحدى هذه الآليات الرقمية لتحقيق ذلك الهدف: "استعمال منظومة "مسار" بالنظر لما تتيحه هذه المنظومة المعلوماتية من إمكانات لتحسين الحكامة المدرسية، وتيسير التدبير الإداري والتربوي والمادي والمالي للمؤسسات التعليمية، واعتبارا لأهميتها في توفير المؤشرات التربوية ولوحة القيادة على كافة مستويات اتخاذ القرار محليا وإقليميا وجهويا ووطنيا".
هل نحن ضد "الجهوية" بشكل مبدئي؟ إننا أنصار أقصى تسيير ذاتي يقوم به المنتجون- ات الحقيقيون- ات الأحرار [طبقة عاملة وصغار المنتجين- ات]، أنصار تقرير الخيارات الاقتصادية والاجتماعية من طرف من هم أسفل وتجري مركزتها من طرف هيئة يختارها هؤلاء بكل حرية. نحن مع حق الشغيلة والأسر والتلاميذ- ات والطلاب- ات في اختيار نموذج التعليم الملائم، دون تدخل إكراهات الموازنة والتقشف الليبراليين. ولكننا ضد "جهوية" في إطار سياسة نيوليبرالية تجعل المؤسسات الجهوية والإقليمية أدوات لخدمة خيارات التقشف والخوصصة.
بـ. التقشف
تضمن الميثاق الوطني للتربية والتكوين "تنويع مصادر التمويل" هي صيغة مخففة لتخلي الدولة عن تمويل التعليم العمومي وفتح الباب لجعله "خدمة قائمة على استرداد التكاليف" كما أوصى البنك الدولي، واقتصار الدولة على "توفير الفرص حسب الإمكانات المتاحة".
إن مفهوم "تكافؤ الفرص" الذي تسلل إلى بيانات تنظيمات الشغيلة [نقابات وتنسيقيات] مفهوم ليبرالي صادر يعني أن وظيفة الدولة تقتصر على توفير فرص التعليم أمام الجميع، مع استهداف الفئات الأكثر هشاشة ببرامج إحسانية [مليون محفظة، برنامج "تيسير"]، ومن لم يستطع اللحاق بمدرسة النجاح ومجتمع المعرفة فهو العاجز عن استغلال الفرص التي وفرتها الدولة بـ"ما أتيحَ لها من وسائل".
وترهن سياسة التقشف حقَّ التعليم بإمكانيات كل مؤسسة على حدة: "لكي تتأتى إمكانية التنزيل السليم لهذا النمط التربوي، تم وضع هذا الإطار المرجعي الذي يهدف إلى وضع تصور واضح لهذا النوع من التدريس، ولكيفية تنزيله، أخذا بعين الاعتبار إمكانيات كل مؤسسة تربوية من حيث بنياتها المادية والبشرية وقدرتها الاستيعابية والتجهيزات المتواجد بها، وخصوصيات المنطقة التي تنتمي إليها". [المرفق رقم 1].
1- المساهمة في التمويل
تحدثت المذكرة عن عدة أوجه لمساهمة آخرين من غير الدولة في تمويل التعليم العمومي:
+ "تسخير جمعيات دعم مدرسة النجاح ومواردها، بشكل استثنائي، من أجل المساهمة في توفير مستلزمات تفعيل الأنماط التربوية المعتمدة، وتطبيق البروتوكول الصحي".
+ "تعبئة شركاء المؤسسة وعموم الآباء والأولياء قصد المساهمة في توفير الموارد الإضافية للتغلب على متطلبات تطبيق الشروط الوقائية والاحترازية سواء تعلق الأمر بتوفير مواد النظافة والتعقيم أو المساهمة في تيسير تنقل المتعلمات والمتعلمين المستفيدين من النقل المدرسي وتوفير شروط السلامة".
وهذا ليس جديدا بل تطبيق لمحتوى المادة (149) من الميثاق الوطني للتربية والتكوين، التي تحدثت عن مهام مجلس التدبير وضمنها: "اقترح الحلول الملائمة للصيانة ولرفع مستوى المدرسة وإشعاعها داخل محيطها".
2- خفض كتلة الأجور بتقليص التوظيف
بدل توظيف الأطر الإدارية والمكلفة بمهام التعقيم تحدث الملحق رقم (4) عن مساهمة الأطر الإدارية والتربوية في لقاءات بداية الدخول المدرسي: "استقبال التلاميذ ومصاحبتهم وعمليات تعقيم الحجرات بعد كل لقاء"، كما تشير المذكرة إلى أن من أدوار هيئة التدريس "التطبيق السلمي للبروتوكول الصحي" بدل توظيف أطر خاصة بذلك. وينضاف هذا إلى ما ورد في المقرر الوزاري من تحميل هيئة التدريس مهام إدارية مثل الإعداد التقني والإداري للدخول المدرسي.
"أنماط تعليم متعددة" لخدمة سياسة التقشف
ورد في ديباجة المذكرة أن الدخول المدرسي يأتي "ظل استمرار تداعيات جائحة كوفيد 19، والتي باتت... واقعا ينبغي التعايش معه". ويُقصد بالتعايش هنا الاستمرار في نفس السياسة النيوليبرالية لما قبل الجائحة [التقشف، ضرب المجانية..] وكأن شيئا لم يقع.
إن "التعايش" الذي تتحدث عنه الدولة يعني سكوتا عن التفاوت في فرص البقاء في وجه الوباء وتداعياته، فالبرجوازيون يملكون وسائل تدريس أطفالهم في شروط توفر أقصى وقاية وسلامة، بينما يُحكم على أبناء الشغيلة والكادحين- ات شروط مدمرة للقدرة على التحصيل العلمي [التعليم بالتناوب، التعليم عن بعد] أو ظروف مهددة بانتشار الوباء: "التعليم الحضوري لمن له رغبة في ذلك".
بدل توسيع البنيات المدرسية وتوظيف اللازم من الأطر الإدارية، تدعو المذكرة الوزارية إلى "تدبير الدخول المدرسي" بالمتوفر منها، أي تكثيف استغلال الأطر وتوزيع التلاميذ زمنيا حسب البنيات المتوفرة وهو ما قصدته المذكرة بقول: "وهو ما يستوجب تكييف آليات تنظيم الدخول المدرسي، وتدبير محطات الموسم الدراسي".
وحددت المذكرة ثلاث أنماط من التعليم حسب تطور الوضعية الوبائية: "تعليم حضوري"، "تعليم بالتناوب بين تعليم حضوري وتعلم ذاتي"، "تعليم عن بعد".
وتظهر الصيغ المقترحة في المرفق رقم (1) أن الأمر يتعلق بتوزيع التلاميذ زمنيا حسب أفواج تتناوب على استعمال الحجرات، وهي طريقة لتفادي الحل الوحيد الكفيل بضمان تعليم جيد مع شروط التباعد الجسدي والقضاء على الاكتظاظ: بناء مؤسسات مدرسية جديدة وتوظيف كثيف لأطر جديدة.
تهتم الدولة بالأرقام فقط، ولا يهمها الارتباك الذي سيخلقه اعتماد صيغ متعددة يجري تداولها حسب تطور الوضعية الوبائية، حيث ورد في المذكرة: "فكلما تفاقمت الحالة الوبائية، يمكن لأية مؤسسة تعليمية، وفي أي فترة من فترات السنة، الانتقال من التعليم الحضوري إلى التعليم بالتناوب أو التعليم عن بعد، وكلما استقرت وتحسنت الوضعية الوبائية، يمكن الرجوع إلى التعليم الحضوري".
فكيف سيستقيم تعليم وتعلم تلاميذ- ات يغيرون نمط التعليم مرات متعددة وكيف نضمن "استمرارية بيداغوجية" في ظل الوضعية الوبائية غير مستقرة، لكن الدولة تفضل التضحية بالتعليم الجيد على مذبح سياسة التقشف ورفض التجهيز والتوظيف.
"التعليم عن بعد": حين يتحول الاستثناء إلى قاعدة
أكدت ديباجة المذكرة على "اعتبار نمط التعليم الحضوري بشكل أساسي، ونمط التعليم عن بعد بشكل استثنائي"، لكنها استدركت قائلة: "غير أنه في الظروف الوبائية الصعبة التي ترتبط بها مخاطر محدقة بالصحة العامة، تنقلب المعادلة ليصبح التعليم عن بعد هو الأساس".
وهي صيغة لاستغلال ظرفية الوباء والطوارئ الصحية من أجل فرض هجوم مقرر سلفا [منذ الميثاق الوطني انتهاء بالقانون الإطار]. وانصبت انتقادات شكلية حول هذه الآلية غافلة جوهرها الذي يريد تحويل المدرسة من مكان لتلقي المعرفة الإنسانية الشاملة إلى مشتل لتكوين يد عاملة قادرة على الاستجابة للمتطلبات المتقلبة للمقاولات، أي في التحليل الأخير: التضحية بالمعارف لصالح مهارات تقنية وكفايات مهنية" وهو ما ورد في الملحق رقم (2): "التعليم عن بعد ليس مجرد عملية نقل المعلومات والمعارف من المُدرس إلى المتعلم بوسائل تكنولوجية فحسب، بل هو تعليم ابتكار أنماط جديدة من التفاعل باستراتيجيات تتيح إمكانية توظيف التطبيقات التقنية بطرق مختلفة تلائم أنواع التعلم وإيقاعات المتعلم، الذكاءات المتعددة والفوارق الفردية". [الإطار الوطني المرجعي للنمط التربوي القائم على "التعليم عن بعد"، يوليوز 2020].
ستكثف آلية "التعليم عن بعد" استغلال هيئة التدريس من خلال تمطيط ساعات العمل وتداخل وقت العمل مع وقت الراحة [المنزلية]. ينص الملحق رقم (1) على مهام الأستاذ- ة وهي ممتدة زمنيا من "ما قبل الحصة" التي تشمل مهام التخطيط [تحضير الدعامات والوسائط، إعداد الوثائق والفيديوهات ووضعها على المنصة أو التطبيق] مرورا بالحصة انتهاء بـ"ما بعد الحصة" [تصحيح الإنجازات، تغذية راجعة بدعامات صوتية أو سمعية بصرية مدعمة بوثائق وتوضيحات].
قال الوزير أمزازي مطمئنا الشغيلة بأنها ستشتغل وفق الحصة الأسبوعية القانونية حسب كل سلك، لكنه يتفادى الإشارة إلى أن يوم عمل هيئة التدريس، حتى قبل اعتماد التعليم عن بعد، تمتد إلى خارج الزمن المدرسي.
من أجل نموذج تعليم يخدم مصالح من هم أسفل
لا يمكن معارضة المذكرة الوزارية [وغيرها من مقررات الهجوم على التعليم والتوظيف العموميين] بالتركيز على تفاصيله. فقط وَضْعُهَا في السياق العام لسياسة الدولة النيوليبرالية يسمح ببلورة منظور طبقي مغاير لمنظور الرأسماليين ودولتهم ومؤسساتهم المالية الدولية.
إن تنظيم الدخل المدرسي الحالي ليس محض إجراءات تقنية وتدبيرية يمكن التوافق حولها بتفعيل "المقاربة التشاركية" كما تنادي به قيادات النقابات وجمعيات أولياء التلاميذ- ات. يتعلق الأمر بالنضال من أجل النموذج التعليمي الخادم لمصالح من هم- هن أسفل (تلاميذ- ات، طلبة وأسرهم- هن، شغيلة وعمومي مفقري- ات البلد)، بدل النموذج النيوليبرالي المعمول به منذ عقود والذي يجعل المدرسة والسياسة التعليمية موجهة لخدمة السوق ومتطلبات المقاولة والسياسات التقشفية المفروضة من مؤسسات الرأسمال العالمي.
يتعلق الأمر بإسقاط جذري للمنظور النيوليبرالي الذي رسخته الدولة منذ "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، والدفاع عن تعليم مجاني وعمومي وجيد. وفي سياق الوباء لا يجب التنازل لضغوط الدولة واستغلالها لظرفية الجائحة للتنازل عن ضمان تعليم حضوري يوفر أقصى شروط الوقاية والسلامة. وكل تنازل للصيغ الواردة في المذكرة الوزارية سيكون بصما بأصابعنا العشرة على سياسة التقشف الرهيبة.
وبدل تدبير الموسم الدراسي بما هو "متاح من البنيات والأطر" نقترح محاور للنضال المشترك بين كل المعنيين- ات بالتعليم والتوظيف العموميين:
* زيادة آنية واستثنائية في الميزانية المخصصة للتعليم العمومي، والنضال من أجل التراجع النهائي عن سياسة التقشف في القطاع وغيره من القطاعات الاجتماعية.
* توظيف كثيف واستثنائي للأطر الإدارية والتربوية الكافية واللازمة لضمان تعليم حضوري يضمن انعدام الاكتظاظ والتباعد الجسدي، وبإدماج المفروض عليهم- هن التعاقد في وظيفة عمومية قارة.
* توظيف كثيف لأطر المساعدة بالمؤسسات: المعيدون- ات (لضبط حركية التلاميذ في الساحات والمرافق، وتلبية الاحتياجات الادارية)، أطر الحراسة (تنظيم عمليات استقبال التلاميذ والدخول والخروج والتعقيم اليومي).
* إنشاء بنيات مدرسية جديدة واستغلال كافة البنايات والعقارات (العمومية والخاصة) من أجل تزفير بيئة سليمة تضمن التباعد الجسدي.
* تأمين الكشوفات المجانية للجميع وتجهيز المؤسسات المدرسية بوحدات صحية تتضمن أجهزة الكشف الآني عن أعراض المرض، وتوفير مجاني لوسائل الحماية (الكمامات) والوقاية (مواد تنظيف ومطهرات كحولية).
* خفض ساعات عمل العمال والعاملات ذوي الاطفال دون مساس بالأجر وتمكين العاملات من عطل مدفوعة الاجر لرعاية الاطفال ومتابعتهم في ظل الوباء.
ولقطع الطريق عن مبررات عجز الميزانية ينبغي الإشارة إلى أوجه التبذير الحقيقي والنفقات غير المنتجة حقيقة، لنناضل من أجل: فرض ضريبة تصاعدية على الأرباح والثروات المنقولة وغير المنقولة، استعادة الأموال المهربة، منع الشركات الأجنبية من نقل أرباحها إلى الخارج وفرض ضرائب عليها، الامتناع عن سداد الديون الخارجية، تقليص الأجور السمينة لكبار الموظفين إلغاء النفقات الطفيلية مثل وزارة التشريفات والأوسمة، وستوجَّه كل هذه المبالغ المحصلة نحو الاستثمار العمومي في قطاعات الصحة والتعليم والتوظيف العمومي القار.